يكتب الشاعر الروسى الشهير يفجينى يفشنكو فى احدى قصائده «لسوف يذكر أحفادنا بمزيد من الخجل والمرارة، ذلك الزمن الغريب، الذى كان الشرف البسيط فيه، يسمى شجاعة». وبهذا المقياس (اليوفشنكى) يعد الكاتب الكبير عبد الفتاح الجمل، الشريف جدا فى جميع مواقفه، من أكثر مثقفى ومبدعى مصر شجاعة فى ستينيات القرن الماضي، وهو زمن كان رغم كل الإنجازات التى تحققت فيه على المستوى الاجتماعي، الزمن الأصعب لظهور كتاب ونقاد ومبدعين بحكم (ضيق ذات النشر)، ففى ذلك الزمن كان كل ما يصدر من صحف يومية فى نطاق التوزيع على مستوى مصر كلها، أربع صحف فقط لا غير، وهى «الأهرام» و «الأخبار» و «الجمهورية»، وصحيفة «المسار» المسائية، وجميعها تصدر عن مؤسسات صحفية تم تأميمها فى مطلع الستينيات وأطلق عليها «الصحف القومية» تعبيرا عن ملكية الدولة لها، وجميعها تابعة للتنظيم السياسى الواحد «الاتحاد الاشتراكى» بعد حل الأحزاب السياسية فى مصر عام 1954.
فى 18 فبراير من هذا العام تحل الذكرى الواحدة والعشرون على وفاة عبد الفتاح الجمل الأب الشرعى لجيل الستينيات فى الأدب وفنونه كما يطلق عليه للدور البالغ الأهمية ؟ فى مجال الثقافة المصرية فى القرن العشرين.
ففى ذلك الزمن وبإستثناء مجلة «المجلة» التى رأس تحريرها الكاتب الكبير يحيى حقي، وبعض المطبوعات الأخرى المحدودة الانتشار مثل مجلة «الشهر» التى أسسها ورأس تحريرها سعد الدين وهبه، لم تكن هناك منابر أخرى واسعة الانتشار لنشر كتابات الأدباء والمبدعين الشباب، وكان القسم الثقافى فى جريدة «الأهرام» تحت اشراف لويس عوض ونجيب محمود ويوسف أدريس..
فى ذلك الزمن، وفى ذات وقت اصدار ملحق الأهرام بكتابه المرموقين، ظهر عبدالفتاح الجمل مشرفا على الملحق الأدبى لجريدة المساء الذى كان يصدر فى أربع صفحات يوم الأربعاء من كل اسبوع بدءا من أواخر عام 1962، ولقد أحدث هذا الملحق ما يعد ثورة فى الصحافة الأدبية والفنية فى مصر تكاد تعادل بالنسبة لنا الثورة التى أحدثها معرض «التأثيريين» فى باريس الذى أقامه الفنانون الذين رفضت أعمالهم فى صالون باريس عام 1874، وهو (أى الصالون) المعرض السنوى الذى يتنافس فيه كبار الفنانين تحت رعاية الحكومة الفرنسية ويضع مواصفات بالغة التقليدية للوحات التى يوافق على عرضها.
كان ملحق المساء الأدبى تحت اشراف عبد الفتاح الجمل أشبه بهذا المعرض فى مواجهة صالون الأهرام الثقافى تحت اشراف د. لويس عوض، كان عبد الفتاح الجمل يدرك بحسه وذوقه الفنى العالي، وبآفاق مفتوحة على العالم فنا وثقافة وابداعا، أن هناك شيئا كامنا فى هذا الشعب كما لو كان منجما للماس عليه أن ينقب عنه، ولن يصله جاهزا على نظام (الدليفرى) المحافظ لذوى الياقات البيضاء فى مجال الثقافة، شيئا متشردا صعلوكا نزقا، يخترق الأطر الرسمية غير متهاون مع ما سبق ويمكن تميزه لا فى اختلافه عما سبقه فحسب، وإنما فى مواجهته على كل المستويات، كان رهانه على المستقبل وعلى رؤية مختلفة لمصر وللعالم على صفحات الملحق الأدبى لجريدة المساء وعلى صفحات الصفحة الأخيرة تحت اشراف الجمل ظهرت قصص محمد البساطى ومحمد حافظ رجب ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى ويوسف القعيد ومحمود الوردانى ومجيد طوبيا ومحمد المنسى قنديل وجار النبى الحلو وسعيد الكفراوى وجميل عطيه ومحمد روميش وأحمد البحيرى ويوسف أبو ريه، وأشعار العامية المصرية التى كانت شبه مطرودة من الصحافة القومية فظهرت أشعار عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد ومحمد سيف ونجيب شهاب الدين، وقصائد أمل دنقل وعزت عامر وفتحى فرغلى ومدحت قاسم، ومقالات ودراسات إبراهيم فتحى وصلاح عيسى وغالب هلسا وسامى خشبة وخليل كلفت وعبد الرحمن أبو عوف وفوزى سليمان وسامى السلامونى وخيرية الشبلاوى وكمال رمزى وسيد سعيد وماجدة واصف وأمير العمرى ومحمد عبد الفتاح ويسرى نصر الله وكاتب هذه السطور، وترجمات فتحى العشرى ومختار الجمال والدسوقى فهمي، والكثيرين غيرهم فى كل مجالات الأدب والفن والثقافة، أما الرسومات التى صاحبت الأعمال الأدبية المؤلف منها والمترجم، فلقد قام برسمها عدد من أهم الفنانين التشكيليين المصريين، نذكر منهم نبيل تاج ومحمد عثمان وآدم حنين وسعد عبد الوهاب والفلسطينى مصطفى الحلاج.. وإذا ما أهتم أحد الباحثين برصد الأسماء التى قدمها ملحق المساء وصفحة الأدب، لوجد فيها دليلا لمعظم الكتاب والأدباء والشعراء الذين عاثوا ويعيثون فى مصر كتابة لأكثر من نصف قرن من الزمان، وكانت مصفاة عبد الفتاح الجمل الدقيقة والصارمة هى بوابة المرور إلى عالم النشر، ولم يكن ذلك ليتأتى إلا يتجربته الحياتية العريضة، وعبر كتاباته الغزيرة التى لم يتم جمعها حتى الآن، والتى كانت يومية فى مرحلة من حياته، لم يضبط عبد الفتاح الجمل متلبسا بمدح أية سلطة أو صاحب سلطان أو رئيس للجمهورية من بين الرؤساء الثلاثة الذين عاصرهم (ناصر والسادات ومبارك)، وهو أيضا صاحب أغرب قرار بتعيين مدير تحرير لإحدى الصحف القومية إذ وضع شرطا لترقيته التى كان لابد منها لمنصب مدير تحرير، بأن يكون مديرا لتحرير الصفحات الداخلية فقط حتى لا يصبح مسئولا عن الكذب فى الصفحة الأولي.
كثيرا ما تسببت كتابات الجمل ومواقفه فى مشاكل تحمل وحده تبعاتها، ولكنه لم يتخل للحظة عن مبادئه وأفكاره وفى وقت ما كانت صفحته هى المنفذ الوحيد للنشر فى مصر لكاتبينا الكبيرين صلاح عيسى الذى نشر له فى حلقات دراسته الهامة عن الثورة العرابية، وإبراهيم فتحى الذى نشر دراسته المتميزة «العالم الروائى نجيب محفوظ»، وكان الإثنان ممنوعان من النشر بسبب مواقفهما السياسية المعارضة للنظام، ولم يكن المنع رسميا وإنما عرفيا، بمعنى أنه لا يوجد قرار رسمى وإنما توجد محاذير لمن يقدم على النشر لهما، وكنوع من التهديد للجمل فلقد استدعى ليلة رأس السنة إلى مبنى مباحث أمن الدولة بلاظوغلي، وأخبروه بأن أحد الضباط سيسأله عن شيء ما وينصرف بعدها مباشرة، وأجلسوه إلى مقعد فى مواجهة مكتب خال فى غرفة ضيقة بينما جلس اثنان من المخبرين إلى مقعدين خلفه على جانبى الغرفة وهما يراقبانه دون أن تنبس عنهما كلمة واحدة، وظل هكذا طوال الليل وحتى صباح اليوم التالى ثم أخلى سبيله. بعد أن خفت حدة غضبه، تساءل ضاحكا وساخرا كعادته دائما «لماذا ظلا يراقبان قفايا لليلة كاملة؟! هل يجدان فيه تعبيرا أفضل من وجهى أم هى سياسة الدولة فى المواجهة.. وجها لقفا وليس وجها لوجه؟!»، ولم يأبه لهذا الإنذار أو على الأصح تناساه واستمر فى النشر، وذات يوم حضر إلى مكتبه شخص بالغ الأناقة والتهذيب، وأخبره بأنهم يتابعون حالات الفساد فى الصحافة، وأخذ يخبره برأى الأمن فى القيادات الصحفية لدار التحرير التى تصدر من بين ما تصدره جريدة المساء، وأنهم (أى الأمن) لا يجدون شخصا أصلح منه لتولى مناصب قيادية فى الدار، وطلب منه أن يكتب تقريرا عن زملائه، وانزعج عبد الفتاح الجمل انزعاجا شديدا، واعتبر أن مجرد طلب ذلك منه اهانة بالغة، وسارع إلى مقابلة رئيس مجلس الإدارة وأخطره بما حدث فوجده مهتما بأن يعرف رأى الأمن فيه فأخبره برأيهم الجارح فى شخصه، وفوجيء عبد الفتاح الجمل برد رئيس مجلس الإدارة عليه: «وما له يا عبد الفتاح؟! مفيش مشكلة أنك؛ تتعاون معاهم»..، وإزاء هذا الموقف الذى اعتبره صادما من رئيس مجلس إدارة المؤسسة، توجه إلى كامل زهيرى نقيب الصحفيين وقتها شاكيا، فإبتسم كامل زهيرى معلقا على شكايته: «هناك الكثيرون من زملائك الذين يتمنون أن يظفروا بفرصة كهذه.. ولكن يبدو أن من طلبوا منك ذلك لم يعرفوا من هو الجمل»..
كان عبد الفتاح بالفعل جملا يحمل عنا أثقالنا، وكان يعلق على جدران منزله بين العديد من اللوحات لعدد من الفنانين المصريين، صورة فوتوغرافية لجمل يطل برأسه من خلف حائط قام بتصويرها بنفسه، وعرضها فى معرض للتصوير الفوتوغرافى أقامه فى مدينة أسيوط عام 1953 عندما كان يعمل بالتدريس، وقبل أن ينتقل للعمل بجرية «المساء» عام 1956، وكان يشير إلى الصورة ضاحكا وهو يقول: «صورة جدي»..
وعلى قلة الكتب التى نشرت لعبد الفتاح الجمل فى حياته، وهى رواية «الخوف» عام 1972، و«آمون وطواحين الصمت» وتنتمى إلى أدب الرحلات عام 1974، ورواية «وقائع عام الفيل كما يرويها الشيخ نصر الدين جحا» عام 1979، وترجمة «خرافات أيوب» (فى جزئين) عام 1987: و«حكايات شعبية من مصر» عام 1985، ورواية «محب» عام 1992، وجميعها أعمال متميزة فى الأدب العربى المعاصر، إلا أن انتاج عبد الفتاح الجمل الذى لم يتم تجميعه حتى الآن يمكن أن يصدر فى عدد من الكتب، فهناك كتاباته تحت عنوان «يوميات شعب»، وكتاباته تحت عنوان «مع الناس»، وكتاباته تحت عنوان «كلمة»، وجميعها منشورة بجريدة «المساء» فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضى، وهناك كذلك كتاباته تحت عنوان «سيما أونطة» بجريدة السينما والفنون عام 1977، وتتمتع جميعها بلغة ذات رونق خاص، وأحيانا ما يتصور البعض أن عبد الفتاح الجمل يستخدم اللغة العامية فى ثنايا كتاباته، وهو أمر لم يفعله قط، ولكن معرفته الدقيقة باللغة العربية كانت تجعله محيطا بأصول الكلمات وما تم هجره منها، ويرى فى ذلك انحطاطا أصاب المجتمعات العربية وكيف أصبحنا نعبر أو على الأصح نثرثر بالجملة بدلا من أن نعبر بالكلمة، وهو ما يعبر عنه فى المقدمة التى كتبها لترجمته البليغة «لخرافات أيوب».
ولعبد الفتاح الجمل أيضا كتاب لم يصدر، وهو «خرافات أيوب المصرى» الذى نشره على حلقات فى جريدة «الأهالى»، وقدمه إلى احدى دور النشر، إلا أن مستشارها د. عبد المحسن طه، كتب تقريرا بمقاييسه الأكاديمية التقليدية، يرفض فيه نشر هذا الكتاب، فى الوقت الذى اختار فيه الكاتب الكبير أحمد بهجت مقالات «خرافات أيوب المصرى» كأفضل ما كتب خلال عام نشرها فى منتصف الثمانينيات.
ومما يدعو للحسرة، أن هذه الأعمال جميعها ممنوعة من النشر، إذ سيطر أحد السلفيين على عقول ورثته وأدخل فى روعهم أن كتابات الجمل تنطوى على (كفر) بين وينبغى منع نشرها، وهكذا حال هؤلاء الورثة دون نشر ابداعات الجمل وكتاباته، ورفضوا نشر أعماله الكاملة رغم موافقة د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتابة وسعيه لذلك، وفشلت وساطة الكاتب الكبير محمد البساطى فى اقناع ورثته بالموافقة على النشر..
فى الذكرى العاشرة لوفاة عبد الفتاح الجمل عام 2004، كتبت فى جريدة «أخبار الأدب» مطالبا بأن يقوم كتاب وأدباء ومثقفى مصر بتحدى قرار ورثة عبد الفتاح الجمل بمنع نشر كتاباته، وأن يشاركوا جميعا بدفع مبالغ مالية، كل حسب قدرته، ولو حتى بجنيه واحد، لتمويل نشر الأعمال الكاملة لعبد الفتاح الجمل والمشاركة التضامنية فى مسئولية النشر، ولتقاضى أسرته جميع كتاب مصر ومثقفيها ومبدعيها: إن نشر أعمال عبد الفتاح الجمل بهذه الطريقة التى هو جدير بها حقا، لهى دفاع عن عقل مصر ووجدانها، أنه ليس مجرد نشر، ولكنه تحد لكل قوى الجهل والظلام والتخلف أنه نوع من ذلك الشرف البسيط الذى يعد فعلا شجاعا فى هذا الزمن الأكثر غرابة.. ومازلت أكرر الدعوة لذلك، والآن وقد حلت الذكرى الواحدة والعشرين لوفاة عبد الفتاح الجمل، أجدنى أكرر نفس العبارة التى ختمت بها مقالى فى الذكرى العاشرة لوفاته.. لكم تزداد يا أستاذى حياة يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، منذ أن فارقتنا.
د. محمد كامل القليوبي
فى 18 فبراير من هذا العام تحل الذكرى الواحدة والعشرون على وفاة عبد الفتاح الجمل الأب الشرعى لجيل الستينيات فى الأدب وفنونه كما يطلق عليه للدور البالغ الأهمية ؟ فى مجال الثقافة المصرية فى القرن العشرين.
ففى ذلك الزمن وبإستثناء مجلة «المجلة» التى رأس تحريرها الكاتب الكبير يحيى حقي، وبعض المطبوعات الأخرى المحدودة الانتشار مثل مجلة «الشهر» التى أسسها ورأس تحريرها سعد الدين وهبه، لم تكن هناك منابر أخرى واسعة الانتشار لنشر كتابات الأدباء والمبدعين الشباب، وكان القسم الثقافى فى جريدة «الأهرام» تحت اشراف لويس عوض ونجيب محمود ويوسف أدريس..
فى ذلك الزمن، وفى ذات وقت اصدار ملحق الأهرام بكتابه المرموقين، ظهر عبدالفتاح الجمل مشرفا على الملحق الأدبى لجريدة المساء الذى كان يصدر فى أربع صفحات يوم الأربعاء من كل اسبوع بدءا من أواخر عام 1962، ولقد أحدث هذا الملحق ما يعد ثورة فى الصحافة الأدبية والفنية فى مصر تكاد تعادل بالنسبة لنا الثورة التى أحدثها معرض «التأثيريين» فى باريس الذى أقامه الفنانون الذين رفضت أعمالهم فى صالون باريس عام 1874، وهو (أى الصالون) المعرض السنوى الذى يتنافس فيه كبار الفنانين تحت رعاية الحكومة الفرنسية ويضع مواصفات بالغة التقليدية للوحات التى يوافق على عرضها.
كان ملحق المساء الأدبى تحت اشراف عبد الفتاح الجمل أشبه بهذا المعرض فى مواجهة صالون الأهرام الثقافى تحت اشراف د. لويس عوض، كان عبد الفتاح الجمل يدرك بحسه وذوقه الفنى العالي، وبآفاق مفتوحة على العالم فنا وثقافة وابداعا، أن هناك شيئا كامنا فى هذا الشعب كما لو كان منجما للماس عليه أن ينقب عنه، ولن يصله جاهزا على نظام (الدليفرى) المحافظ لذوى الياقات البيضاء فى مجال الثقافة، شيئا متشردا صعلوكا نزقا، يخترق الأطر الرسمية غير متهاون مع ما سبق ويمكن تميزه لا فى اختلافه عما سبقه فحسب، وإنما فى مواجهته على كل المستويات، كان رهانه على المستقبل وعلى رؤية مختلفة لمصر وللعالم على صفحات الملحق الأدبى لجريدة المساء وعلى صفحات الصفحة الأخيرة تحت اشراف الجمل ظهرت قصص محمد البساطى ومحمد حافظ رجب ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى ويوسف القعيد ومحمود الوردانى ومجيد طوبيا ومحمد المنسى قنديل وجار النبى الحلو وسعيد الكفراوى وجميل عطيه ومحمد روميش وأحمد البحيرى ويوسف أبو ريه، وأشعار العامية المصرية التى كانت شبه مطرودة من الصحافة القومية فظهرت أشعار عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد ومحمد سيف ونجيب شهاب الدين، وقصائد أمل دنقل وعزت عامر وفتحى فرغلى ومدحت قاسم، ومقالات ودراسات إبراهيم فتحى وصلاح عيسى وغالب هلسا وسامى خشبة وخليل كلفت وعبد الرحمن أبو عوف وفوزى سليمان وسامى السلامونى وخيرية الشبلاوى وكمال رمزى وسيد سعيد وماجدة واصف وأمير العمرى ومحمد عبد الفتاح ويسرى نصر الله وكاتب هذه السطور، وترجمات فتحى العشرى ومختار الجمال والدسوقى فهمي، والكثيرين غيرهم فى كل مجالات الأدب والفن والثقافة، أما الرسومات التى صاحبت الأعمال الأدبية المؤلف منها والمترجم، فلقد قام برسمها عدد من أهم الفنانين التشكيليين المصريين، نذكر منهم نبيل تاج ومحمد عثمان وآدم حنين وسعد عبد الوهاب والفلسطينى مصطفى الحلاج.. وإذا ما أهتم أحد الباحثين برصد الأسماء التى قدمها ملحق المساء وصفحة الأدب، لوجد فيها دليلا لمعظم الكتاب والأدباء والشعراء الذين عاثوا ويعيثون فى مصر كتابة لأكثر من نصف قرن من الزمان، وكانت مصفاة عبد الفتاح الجمل الدقيقة والصارمة هى بوابة المرور إلى عالم النشر، ولم يكن ذلك ليتأتى إلا يتجربته الحياتية العريضة، وعبر كتاباته الغزيرة التى لم يتم جمعها حتى الآن، والتى كانت يومية فى مرحلة من حياته، لم يضبط عبد الفتاح الجمل متلبسا بمدح أية سلطة أو صاحب سلطان أو رئيس للجمهورية من بين الرؤساء الثلاثة الذين عاصرهم (ناصر والسادات ومبارك)، وهو أيضا صاحب أغرب قرار بتعيين مدير تحرير لإحدى الصحف القومية إذ وضع شرطا لترقيته التى كان لابد منها لمنصب مدير تحرير، بأن يكون مديرا لتحرير الصفحات الداخلية فقط حتى لا يصبح مسئولا عن الكذب فى الصفحة الأولي.
كثيرا ما تسببت كتابات الجمل ومواقفه فى مشاكل تحمل وحده تبعاتها، ولكنه لم يتخل للحظة عن مبادئه وأفكاره وفى وقت ما كانت صفحته هى المنفذ الوحيد للنشر فى مصر لكاتبينا الكبيرين صلاح عيسى الذى نشر له فى حلقات دراسته الهامة عن الثورة العرابية، وإبراهيم فتحى الذى نشر دراسته المتميزة «العالم الروائى نجيب محفوظ»، وكان الإثنان ممنوعان من النشر بسبب مواقفهما السياسية المعارضة للنظام، ولم يكن المنع رسميا وإنما عرفيا، بمعنى أنه لا يوجد قرار رسمى وإنما توجد محاذير لمن يقدم على النشر لهما، وكنوع من التهديد للجمل فلقد استدعى ليلة رأس السنة إلى مبنى مباحث أمن الدولة بلاظوغلي، وأخبروه بأن أحد الضباط سيسأله عن شيء ما وينصرف بعدها مباشرة، وأجلسوه إلى مقعد فى مواجهة مكتب خال فى غرفة ضيقة بينما جلس اثنان من المخبرين إلى مقعدين خلفه على جانبى الغرفة وهما يراقبانه دون أن تنبس عنهما كلمة واحدة، وظل هكذا طوال الليل وحتى صباح اليوم التالى ثم أخلى سبيله. بعد أن خفت حدة غضبه، تساءل ضاحكا وساخرا كعادته دائما «لماذا ظلا يراقبان قفايا لليلة كاملة؟! هل يجدان فيه تعبيرا أفضل من وجهى أم هى سياسة الدولة فى المواجهة.. وجها لقفا وليس وجها لوجه؟!»، ولم يأبه لهذا الإنذار أو على الأصح تناساه واستمر فى النشر، وذات يوم حضر إلى مكتبه شخص بالغ الأناقة والتهذيب، وأخبره بأنهم يتابعون حالات الفساد فى الصحافة، وأخذ يخبره برأى الأمن فى القيادات الصحفية لدار التحرير التى تصدر من بين ما تصدره جريدة المساء، وأنهم (أى الأمن) لا يجدون شخصا أصلح منه لتولى مناصب قيادية فى الدار، وطلب منه أن يكتب تقريرا عن زملائه، وانزعج عبد الفتاح الجمل انزعاجا شديدا، واعتبر أن مجرد طلب ذلك منه اهانة بالغة، وسارع إلى مقابلة رئيس مجلس الإدارة وأخطره بما حدث فوجده مهتما بأن يعرف رأى الأمن فيه فأخبره برأيهم الجارح فى شخصه، وفوجيء عبد الفتاح الجمل برد رئيس مجلس الإدارة عليه: «وما له يا عبد الفتاح؟! مفيش مشكلة أنك؛ تتعاون معاهم»..، وإزاء هذا الموقف الذى اعتبره صادما من رئيس مجلس إدارة المؤسسة، توجه إلى كامل زهيرى نقيب الصحفيين وقتها شاكيا، فإبتسم كامل زهيرى معلقا على شكايته: «هناك الكثيرون من زملائك الذين يتمنون أن يظفروا بفرصة كهذه.. ولكن يبدو أن من طلبوا منك ذلك لم يعرفوا من هو الجمل»..
كان عبد الفتاح بالفعل جملا يحمل عنا أثقالنا، وكان يعلق على جدران منزله بين العديد من اللوحات لعدد من الفنانين المصريين، صورة فوتوغرافية لجمل يطل برأسه من خلف حائط قام بتصويرها بنفسه، وعرضها فى معرض للتصوير الفوتوغرافى أقامه فى مدينة أسيوط عام 1953 عندما كان يعمل بالتدريس، وقبل أن ينتقل للعمل بجرية «المساء» عام 1956، وكان يشير إلى الصورة ضاحكا وهو يقول: «صورة جدي»..
وعلى قلة الكتب التى نشرت لعبد الفتاح الجمل فى حياته، وهى رواية «الخوف» عام 1972، و«آمون وطواحين الصمت» وتنتمى إلى أدب الرحلات عام 1974، ورواية «وقائع عام الفيل كما يرويها الشيخ نصر الدين جحا» عام 1979، وترجمة «خرافات أيوب» (فى جزئين) عام 1987: و«حكايات شعبية من مصر» عام 1985، ورواية «محب» عام 1992، وجميعها أعمال متميزة فى الأدب العربى المعاصر، إلا أن انتاج عبد الفتاح الجمل الذى لم يتم تجميعه حتى الآن يمكن أن يصدر فى عدد من الكتب، فهناك كتاباته تحت عنوان «يوميات شعب»، وكتاباته تحت عنوان «مع الناس»، وكتاباته تحت عنوان «كلمة»، وجميعها منشورة بجريدة «المساء» فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضى، وهناك كذلك كتاباته تحت عنوان «سيما أونطة» بجريدة السينما والفنون عام 1977، وتتمتع جميعها بلغة ذات رونق خاص، وأحيانا ما يتصور البعض أن عبد الفتاح الجمل يستخدم اللغة العامية فى ثنايا كتاباته، وهو أمر لم يفعله قط، ولكن معرفته الدقيقة باللغة العربية كانت تجعله محيطا بأصول الكلمات وما تم هجره منها، ويرى فى ذلك انحطاطا أصاب المجتمعات العربية وكيف أصبحنا نعبر أو على الأصح نثرثر بالجملة بدلا من أن نعبر بالكلمة، وهو ما يعبر عنه فى المقدمة التى كتبها لترجمته البليغة «لخرافات أيوب».
ولعبد الفتاح الجمل أيضا كتاب لم يصدر، وهو «خرافات أيوب المصرى» الذى نشره على حلقات فى جريدة «الأهالى»، وقدمه إلى احدى دور النشر، إلا أن مستشارها د. عبد المحسن طه، كتب تقريرا بمقاييسه الأكاديمية التقليدية، يرفض فيه نشر هذا الكتاب، فى الوقت الذى اختار فيه الكاتب الكبير أحمد بهجت مقالات «خرافات أيوب المصرى» كأفضل ما كتب خلال عام نشرها فى منتصف الثمانينيات.
ومما يدعو للحسرة، أن هذه الأعمال جميعها ممنوعة من النشر، إذ سيطر أحد السلفيين على عقول ورثته وأدخل فى روعهم أن كتابات الجمل تنطوى على (كفر) بين وينبغى منع نشرها، وهكذا حال هؤلاء الورثة دون نشر ابداعات الجمل وكتاباته، ورفضوا نشر أعماله الكاملة رغم موافقة د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتابة وسعيه لذلك، وفشلت وساطة الكاتب الكبير محمد البساطى فى اقناع ورثته بالموافقة على النشر..
فى الذكرى العاشرة لوفاة عبد الفتاح الجمل عام 2004، كتبت فى جريدة «أخبار الأدب» مطالبا بأن يقوم كتاب وأدباء ومثقفى مصر بتحدى قرار ورثة عبد الفتاح الجمل بمنع نشر كتاباته، وأن يشاركوا جميعا بدفع مبالغ مالية، كل حسب قدرته، ولو حتى بجنيه واحد، لتمويل نشر الأعمال الكاملة لعبد الفتاح الجمل والمشاركة التضامنية فى مسئولية النشر، ولتقاضى أسرته جميع كتاب مصر ومثقفيها ومبدعيها: إن نشر أعمال عبد الفتاح الجمل بهذه الطريقة التى هو جدير بها حقا، لهى دفاع عن عقل مصر ووجدانها، أنه ليس مجرد نشر، ولكنه تحد لكل قوى الجهل والظلام والتخلف أنه نوع من ذلك الشرف البسيط الذى يعد فعلا شجاعا فى هذا الزمن الأكثر غرابة.. ومازلت أكرر الدعوة لذلك، والآن وقد حلت الذكرى الواحدة والعشرين لوفاة عبد الفتاح الجمل، أجدنى أكرر نفس العبارة التى ختمت بها مقالى فى الذكرى العاشرة لوفاته.. لكم تزداد يا أستاذى حياة يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، منذ أن فارقتنا.
د. محمد كامل القليوبي