المرأة من سوق الغزل
وحلَّ محلها الجواري والإماء، وكان ذلك سببًا في أن يخرج الشعراء عن دائرة العفة والطهر، أو قل عن دائرة الوقار والإجلال للمرأة إلى دائرة الإبحاية المسرفة والصراحة المكشوفة التي لا تعرف حياء ولا ما يشبه الحياء. وبذلك أصبحنا نفتقد في هذا العصر الشاعر العفيف؛ إلا ما كان من العباس بن الأحنف، وهو يعد شذوذًا على ذوق العصر وذوق إمائه وشعرائه.
ولعلنا لا ندعو الحق إذا قلنا أن بشارًا في البصرة ومطيع بن إياس في الكوفة هما اللذان دفعا الشعراء في هذ الاتجاه الإباحي المفرط في إباحيته، وعبثًا حَمل الوعاظ ورجال الدين في البصرة على بشار؛ فقد انتهى قليلًا واضطر إلى مغادرة بلده ثم عاد إليها مع الثورة العباسية، فأمعن في هذا الشعر الإباحي، حتى اضطر المهدي أن ينهاه عنه، وديوانه يزخر بأمثلته، كما تزخر به ترجمته في الأغاني من مثل قوله1:
لا خير في العيش إن دُمْنا كذا أبدًا ... لا نلتقي وسبيل الْمُلْتَقَى نَهَجُ2
قالوا حرامٌ تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في قُبْلَةٍ حَرَجُ
وقوله3:
فبتنا معًا لا يخلُصُ الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجبٌ وستُور
وله وراء ذلك مقطوعات وقصائد لا نستطيع أن نسوقها لما فيها من فحش داعر وفجر فاجر4، وكأنه كان من أهم من أتاحوا للغريزة النوعية أن تفصح عن نزواتها، وربما جاءه ذلك من فقده لبصره؛ فلم يكن يحس الحب إلا إحساسًا ماديًّا، عبر عنه تعبيرًا صريحًا في قوله5:
أتتني الشمس زائرةً ... ولم تك تبرح الفلكا
تقول وقد خلوتُ بها ... تحدَّث واكفني يدكا
مطيع بن إياس:
ربما كان مطيع بن إياس الكناني هو الذي بدأ السطر الأول في صفحة هذا الغزل المادي المكشوف بالكوفة، وهو مثل بشار من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية "وكان ظريفًا خليعًا حلو العشرة مليح النادرة ماجنًا متَّهمًا في دينه بالزندقة، ومولده ومنشؤه الكوفة، وكان أبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير وابن الأشعث؛ فأقام بالكوفة وتزوج بها؛ فولد له مطيع1" ونظن ظنًّا أن أمه فارسية؛ إذ نرى فيه نزعة شديدة إلى المجون والاستهتار الخلقي منذ مطالع حياته، وهو في ذلك يختلف عن بشار، فقد استهل حياته جادًّا يختلف إلى المتكلمين، أما مطيع فلم يعرف الجِدَّ يومًا. وهو يختلف عنه أيضًا في أنه من أوائل من تغزلوا بالغلمان، إذ كان لا يتحرج من أي مأثم:
وليس يُعْتِمُ إلا ... سكرانَ مع سكرانِ
أمر أن يُحْمَلَ له على البريد1، وظل ينادمه حتى توفِّي، فاتجه بشعره إلى الولاة. ويقال إنه رحل إلى السند يستميح واليها هشام بن عمرو2، وله شعر في وصف حيوانها3. ولما دعا لنفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر في الأيام الأخيرة من دولة بني أمية نادمه ولم يفارقه حتى قضى عليه الأمويون4، ولعل ذلك ما جعل الخليفة المنصور يعطف عليه، ويقربه منه؛ غير أنه نقل إليه أنه يُغْوي ابنه جعفرًا ويفسده، فحبسه، ثم أخلى سبيله، وأقامه المهدي على صدقات البصرة5، ولا نراه يقتله في الزنادقة الذين قتلهم، وظل يعيش في خلافة الرشيد؛ إذ توفي سنة 170 للهجرة.
وترجمته في الأغاني تصوِّر فُجْره، وكيف كان لا يفيق من مجون إلا إلى مجون، فهو غارق في اللذات وفي حب الجواري والإماء اللائي يراهن في دور النخاسة وخاصة دار "بربر"؛ غير آبه بشيء من التقاليد الاجتماعية التي تواضع عليه الناس في حياتهم المألوفة، ولا يترك جارية لصديق مثل حماد عجرد ويحيى بن زياد إلا ويفسدها عليه ودائمًا يجثو بين أيدي الجواري، يقدم إليهن حبه، وكان منهن من يتدللن؛ فلا يزال يستأنف معهن السعي والإلحاح حتى يقبلن عليه. وممن كان يكثر فيهن من الشعر مكنونة وريم وجوهر جارية بربر، ومن غزله في أولاهن، وكانت تُدلُّ عليه، فلا يكفّ عن تعلقه بها والتعرض لها6:
يا رَبِّ إنك تعلم ... أني بمكنون مُغْرَمْ
وأنني في هواها ... ألقى الهوان وأعظم
إن الملولَ إذا ما ... ملَّ الوصال تجرَّم7
أولا فمالِيَ أجفَى ... من غير ذنبٍ وأحْرَم
وكانت ريم جارية لبعض النخاسين ببغداد، وله فيها غزل كثير يصف فيه ما كانت تملؤه به من سرور وغبطة حين كان يشرب على غنائها مع رفاقه، كما يصف ولعه بها وهُيامه من مثل قوله1:
أمسى مطيعٌ كَلِفَا ... صَبًّا حزينًا دَنِفَا2
يا ريمُ فاشْفِي كبدا ... حَرَّى وقلبا شُغِفَا3
ونَوِّلِينِي قُبْلَةً ... واحدةً ثُمَّ كَفَى
وفي أخباره أنه كان يكثر من الاختلاف إلى "بربر" وجواريها، وكانت دارها مألفًا له ولأمثاله من شعراء الكوفة الماجنين، وكان يهوى من جواريها جوهر، ومما غُنِّي له فيها قوله4:
وخافي الله يا بربر ... لقد أفسدت ذا العسكر
إذا ما أقبلت جوهر ... يفوح المسك والعنبر
وجوهرُ درَّة الغوا ... ص من يملكها يحبر5
لها ثغر حكى الدُّرَّ ... وعينا رشأ أحور6
وبيعت جوهر وفارقت الكوفة فبكاها بكاء مرًّا.
والقطع الثلاث الأولي من وزن المجتث، وكأنه هو الذي أخذه عن الوليد بن يزيد وأشاعه بين شعراء العصر. وتشيع عنده الأوزان المجزوءة والخفيفة، وهو يتقدم بشارًا خطوة في هذا الاتجاه نحو تعميم الألحان اليسيرة والانفصال عن إطار الشعر القديم الذي يعني بضخامة الوزن وجزالة اللفظ؛ فألفاظه سهلة لينة تقترب من لغة الحديث العادي في كثير من صورها. وهو لا يقف بها عند مثل هذا القول الرقيق؛ إذ يعبر بها عن عبثه ومجونه. وتبعه شعراء الكوفة في هذا كله على نحو ما نجد عند والبة بن الحباب وخرِّيجه أبي نواس.
العباس بن الأحنف:
وكان يقابل هذا النوع من الشعر الغنائي المادي الصريح نوع آخر عَفٌّ مَثَّله العباس بن الأحنف، وهو عربي الأصل من بني حنيفة، ويشبه في العصر العباسي عمر بن أبي ربيعة في العصر الإسلامي؛ إذ خصص نفسه بغناء حبه منصرفًا عن قصائد المديح وما إليه، يقول عنه صاحب الأغاني: "كان شاعرًا غَزِلًا ظريفًا، لم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء، ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني، وكان قصده الغزل وشغله النسيب1". ويقول الجاحظ: "لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلامًا وخاطرًا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه؛ لأنه لا يهجو ولا يتكسب ولا يتصرف، ولا نعلم شاعرًا لزم فنًّا واحدًا لزومه فأحسن فيه وأكثر2".
وكأني بالجاحظ نسي عمر بن أبي ربيعة وأضرابه من شعراء العصر الإسلامي!. وكان العباس شخصية ظريفة حقًّا في العصر العباسي إذ قصر نفسه على الغزل؛ ولكن دون تبذل أو تصريح بعهر وفحش، وترجم له صاحب الأغاني ترجمة واسعة روى له فيها كثيرًا من مقطوعاته الجيدة كقوله3:
لا جزى الله دمع عيني خيرًا ... وجزى الله كل خيرٍ لساني
نمَّ دمعي فليس يكتم شيئًا ... ورأيت اللسان ذا كتمان
كنتُ مثلَ الكتاب أخفاه طَيٌّ ... فاستدلوا عليه بالعنوانِ
وقوله4:
قالت ظلوم سمية الظلم ... ما لي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت العليم بموضع السَّهم
وقوله5:
ألا تعجبون كما أعجب ... حبيب يسيئ ولا يعتب
وأبغي رضاه على سخطه ... فيأبى عليَّ ويستصعب
فيا ليت حَظِّي إذا ما أسأ ... ت أنك ترضى ولا تغضب
وقوله1:
إن قال لم يفعل وإن سِيل لم ... يبذل وإن عوتب لم يعتب
صبٌّ بعصياني ولو قال لي ... لا تشرب البارد لم أشرب
إليك أشكو رب ما حل بي ... من صد هذا المذنب المغضب
ويقول أيضًا2:
نام من أهدى لي الأرقا ... مستريحًا زادني قلقَا
لو يبيت الناس كلهم ... بسهادي بيض الحدقا
كان لي قلب أعيش به ... فاصطَلَى بالحب فاحترقا
أنا لم أرزق مودتكم ... إنما للعبد ما رُزِقَا
وكل هذه المقطوعات من الأصوات والأدوار التي كانت تغنى في العصر العباسي.
ومهما يكن فقد شاع هذا الشعر الغنائي بضربيه من الغزل المادي والعفيف، واستبق الشعراء فيه كل يحاول أن يأتي بالنادر الطريف. روى صاحب الأغاني"أنه اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشِّيص ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر؛ فأنشدهم أبو الشيص قوله:
وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخرٌ عنه ولا متقدَّمُ
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوّمُ
أشبهتِ أعدائي فصرت أحبُّهم ... إذا كان حظي منك حظي منهمُ
وأهنتني فأهنتُ نفسي صاغرًا ... ما مَنْ يهون عليك ممن يُكْرَمُ
فقال أبو نواس: أحسنت والله وجوَّدت. وفي رواية أخرى أنه قال: إني أرى نمطًا خُسْروانيًّا مذهبًا3" وما هذا النمط إلا ذلك الشعر الغنائي الذي أخذ الشعراء يستبقون في صناعته. وروى ابن رشيق: أن أبا العتاهية وأبا نواس والحسين بن الضحاك اجتمعوا يومًا فقال أبو نواس لينشد كل واحد قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسِّروا الأكفان من عاجل
ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شُغُلٍ شاغلِ
عيني على عُتْبَة مُنْهَلَّةٌ ... بدمعها المنسكبِ السائلِ
فسلَّم له أبو نواس والحسين بن الضحاك وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ وملاحظة هذا القصد وحسن هذه الإشارات فلا ننشد شيئًا1"
وعلى هذ النحو كان الشعراء يتنافسون في صناعة هذا النوع من الغزل الغنائي الذي نما تحت تأثير الغناء، واتسع نموه حتى اتخذه بعض الشعراء كالعباس بن الأحنف مذهبًا يقصرون عليه أنفسهم طوال حياتهم ولا ينصرفون إلى غيره من أنواع الشعر الرسمي التقليدي من مدح ونحوه؛ بل هم يعيشون في شعر الحياة الاجتماعية والنوادي الأدبية، وقد رقَّقوا أفكارهم، وهذَّبوا أساليبهم وأوزانهم، وحاولوا أن يبلغوا في ذلك كل مبلغ.
* كتاب: الفن ومذاهبه في الشعر العربي
شوقي ضيف
وحلَّ محلها الجواري والإماء، وكان ذلك سببًا في أن يخرج الشعراء عن دائرة العفة والطهر، أو قل عن دائرة الوقار والإجلال للمرأة إلى دائرة الإبحاية المسرفة والصراحة المكشوفة التي لا تعرف حياء ولا ما يشبه الحياء. وبذلك أصبحنا نفتقد في هذا العصر الشاعر العفيف؛ إلا ما كان من العباس بن الأحنف، وهو يعد شذوذًا على ذوق العصر وذوق إمائه وشعرائه.
ولعلنا لا ندعو الحق إذا قلنا أن بشارًا في البصرة ومطيع بن إياس في الكوفة هما اللذان دفعا الشعراء في هذ الاتجاه الإباحي المفرط في إباحيته، وعبثًا حَمل الوعاظ ورجال الدين في البصرة على بشار؛ فقد انتهى قليلًا واضطر إلى مغادرة بلده ثم عاد إليها مع الثورة العباسية، فأمعن في هذا الشعر الإباحي، حتى اضطر المهدي أن ينهاه عنه، وديوانه يزخر بأمثلته، كما تزخر به ترجمته في الأغاني من مثل قوله1:
لا خير في العيش إن دُمْنا كذا أبدًا ... لا نلتقي وسبيل الْمُلْتَقَى نَهَجُ2
قالوا حرامٌ تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في قُبْلَةٍ حَرَجُ
وقوله3:
فبتنا معًا لا يخلُصُ الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجبٌ وستُور
وله وراء ذلك مقطوعات وقصائد لا نستطيع أن نسوقها لما فيها من فحش داعر وفجر فاجر4، وكأنه كان من أهم من أتاحوا للغريزة النوعية أن تفصح عن نزواتها، وربما جاءه ذلك من فقده لبصره؛ فلم يكن يحس الحب إلا إحساسًا ماديًّا، عبر عنه تعبيرًا صريحًا في قوله5:
أتتني الشمس زائرةً ... ولم تك تبرح الفلكا
تقول وقد خلوتُ بها ... تحدَّث واكفني يدكا
مطيع بن إياس:
ربما كان مطيع بن إياس الكناني هو الذي بدأ السطر الأول في صفحة هذا الغزل المادي المكشوف بالكوفة، وهو مثل بشار من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية "وكان ظريفًا خليعًا حلو العشرة مليح النادرة ماجنًا متَّهمًا في دينه بالزندقة، ومولده ومنشؤه الكوفة، وكان أبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير وابن الأشعث؛ فأقام بالكوفة وتزوج بها؛ فولد له مطيع1" ونظن ظنًّا أن أمه فارسية؛ إذ نرى فيه نزعة شديدة إلى المجون والاستهتار الخلقي منذ مطالع حياته، وهو في ذلك يختلف عن بشار، فقد استهل حياته جادًّا يختلف إلى المتكلمين، أما مطيع فلم يعرف الجِدَّ يومًا. وهو يختلف عنه أيضًا في أنه من أوائل من تغزلوا بالغلمان، إذ كان لا يتحرج من أي مأثم:
وليس يُعْتِمُ إلا ... سكرانَ مع سكرانِ
أمر أن يُحْمَلَ له على البريد1، وظل ينادمه حتى توفِّي، فاتجه بشعره إلى الولاة. ويقال إنه رحل إلى السند يستميح واليها هشام بن عمرو2، وله شعر في وصف حيوانها3. ولما دعا لنفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر في الأيام الأخيرة من دولة بني أمية نادمه ولم يفارقه حتى قضى عليه الأمويون4، ولعل ذلك ما جعل الخليفة المنصور يعطف عليه، ويقربه منه؛ غير أنه نقل إليه أنه يُغْوي ابنه جعفرًا ويفسده، فحبسه، ثم أخلى سبيله، وأقامه المهدي على صدقات البصرة5، ولا نراه يقتله في الزنادقة الذين قتلهم، وظل يعيش في خلافة الرشيد؛ إذ توفي سنة 170 للهجرة.
وترجمته في الأغاني تصوِّر فُجْره، وكيف كان لا يفيق من مجون إلا إلى مجون، فهو غارق في اللذات وفي حب الجواري والإماء اللائي يراهن في دور النخاسة وخاصة دار "بربر"؛ غير آبه بشيء من التقاليد الاجتماعية التي تواضع عليه الناس في حياتهم المألوفة، ولا يترك جارية لصديق مثل حماد عجرد ويحيى بن زياد إلا ويفسدها عليه ودائمًا يجثو بين أيدي الجواري، يقدم إليهن حبه، وكان منهن من يتدللن؛ فلا يزال يستأنف معهن السعي والإلحاح حتى يقبلن عليه. وممن كان يكثر فيهن من الشعر مكنونة وريم وجوهر جارية بربر، ومن غزله في أولاهن، وكانت تُدلُّ عليه، فلا يكفّ عن تعلقه بها والتعرض لها6:
يا رَبِّ إنك تعلم ... أني بمكنون مُغْرَمْ
وأنني في هواها ... ألقى الهوان وأعظم
إن الملولَ إذا ما ... ملَّ الوصال تجرَّم7
أولا فمالِيَ أجفَى ... من غير ذنبٍ وأحْرَم
وكانت ريم جارية لبعض النخاسين ببغداد، وله فيها غزل كثير يصف فيه ما كانت تملؤه به من سرور وغبطة حين كان يشرب على غنائها مع رفاقه، كما يصف ولعه بها وهُيامه من مثل قوله1:
أمسى مطيعٌ كَلِفَا ... صَبًّا حزينًا دَنِفَا2
يا ريمُ فاشْفِي كبدا ... حَرَّى وقلبا شُغِفَا3
ونَوِّلِينِي قُبْلَةً ... واحدةً ثُمَّ كَفَى
وفي أخباره أنه كان يكثر من الاختلاف إلى "بربر" وجواريها، وكانت دارها مألفًا له ولأمثاله من شعراء الكوفة الماجنين، وكان يهوى من جواريها جوهر، ومما غُنِّي له فيها قوله4:
وخافي الله يا بربر ... لقد أفسدت ذا العسكر
إذا ما أقبلت جوهر ... يفوح المسك والعنبر
وجوهرُ درَّة الغوا ... ص من يملكها يحبر5
لها ثغر حكى الدُّرَّ ... وعينا رشأ أحور6
وبيعت جوهر وفارقت الكوفة فبكاها بكاء مرًّا.
والقطع الثلاث الأولي من وزن المجتث، وكأنه هو الذي أخذه عن الوليد بن يزيد وأشاعه بين شعراء العصر. وتشيع عنده الأوزان المجزوءة والخفيفة، وهو يتقدم بشارًا خطوة في هذا الاتجاه نحو تعميم الألحان اليسيرة والانفصال عن إطار الشعر القديم الذي يعني بضخامة الوزن وجزالة اللفظ؛ فألفاظه سهلة لينة تقترب من لغة الحديث العادي في كثير من صورها. وهو لا يقف بها عند مثل هذا القول الرقيق؛ إذ يعبر بها عن عبثه ومجونه. وتبعه شعراء الكوفة في هذا كله على نحو ما نجد عند والبة بن الحباب وخرِّيجه أبي نواس.
العباس بن الأحنف:
وكان يقابل هذا النوع من الشعر الغنائي المادي الصريح نوع آخر عَفٌّ مَثَّله العباس بن الأحنف، وهو عربي الأصل من بني حنيفة، ويشبه في العصر العباسي عمر بن أبي ربيعة في العصر الإسلامي؛ إذ خصص نفسه بغناء حبه منصرفًا عن قصائد المديح وما إليه، يقول عنه صاحب الأغاني: "كان شاعرًا غَزِلًا ظريفًا، لم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء، ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني، وكان قصده الغزل وشغله النسيب1". ويقول الجاحظ: "لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلامًا وخاطرًا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه؛ لأنه لا يهجو ولا يتكسب ولا يتصرف، ولا نعلم شاعرًا لزم فنًّا واحدًا لزومه فأحسن فيه وأكثر2".
وكأني بالجاحظ نسي عمر بن أبي ربيعة وأضرابه من شعراء العصر الإسلامي!. وكان العباس شخصية ظريفة حقًّا في العصر العباسي إذ قصر نفسه على الغزل؛ ولكن دون تبذل أو تصريح بعهر وفحش، وترجم له صاحب الأغاني ترجمة واسعة روى له فيها كثيرًا من مقطوعاته الجيدة كقوله3:
لا جزى الله دمع عيني خيرًا ... وجزى الله كل خيرٍ لساني
نمَّ دمعي فليس يكتم شيئًا ... ورأيت اللسان ذا كتمان
كنتُ مثلَ الكتاب أخفاه طَيٌّ ... فاستدلوا عليه بالعنوانِ
وقوله4:
قالت ظلوم سمية الظلم ... ما لي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت العليم بموضع السَّهم
وقوله5:
ألا تعجبون كما أعجب ... حبيب يسيئ ولا يعتب
وأبغي رضاه على سخطه ... فيأبى عليَّ ويستصعب
فيا ليت حَظِّي إذا ما أسأ ... ت أنك ترضى ولا تغضب
وقوله1:
إن قال لم يفعل وإن سِيل لم ... يبذل وإن عوتب لم يعتب
صبٌّ بعصياني ولو قال لي ... لا تشرب البارد لم أشرب
إليك أشكو رب ما حل بي ... من صد هذا المذنب المغضب
ويقول أيضًا2:
نام من أهدى لي الأرقا ... مستريحًا زادني قلقَا
لو يبيت الناس كلهم ... بسهادي بيض الحدقا
كان لي قلب أعيش به ... فاصطَلَى بالحب فاحترقا
أنا لم أرزق مودتكم ... إنما للعبد ما رُزِقَا
وكل هذه المقطوعات من الأصوات والأدوار التي كانت تغنى في العصر العباسي.
ومهما يكن فقد شاع هذا الشعر الغنائي بضربيه من الغزل المادي والعفيف، واستبق الشعراء فيه كل يحاول أن يأتي بالنادر الطريف. روى صاحب الأغاني"أنه اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشِّيص ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر؛ فأنشدهم أبو الشيص قوله:
وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخرٌ عنه ولا متقدَّمُ
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوّمُ
أشبهتِ أعدائي فصرت أحبُّهم ... إذا كان حظي منك حظي منهمُ
وأهنتني فأهنتُ نفسي صاغرًا ... ما مَنْ يهون عليك ممن يُكْرَمُ
فقال أبو نواس: أحسنت والله وجوَّدت. وفي رواية أخرى أنه قال: إني أرى نمطًا خُسْروانيًّا مذهبًا3" وما هذا النمط إلا ذلك الشعر الغنائي الذي أخذ الشعراء يستبقون في صناعته. وروى ابن رشيق: أن أبا العتاهية وأبا نواس والحسين بن الضحاك اجتمعوا يومًا فقال أبو نواس لينشد كل واحد قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسِّروا الأكفان من عاجل
ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شُغُلٍ شاغلِ
عيني على عُتْبَة مُنْهَلَّةٌ ... بدمعها المنسكبِ السائلِ
فسلَّم له أبو نواس والحسين بن الضحاك وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ وملاحظة هذا القصد وحسن هذه الإشارات فلا ننشد شيئًا1"
وعلى هذ النحو كان الشعراء يتنافسون في صناعة هذا النوع من الغزل الغنائي الذي نما تحت تأثير الغناء، واتسع نموه حتى اتخذه بعض الشعراء كالعباس بن الأحنف مذهبًا يقصرون عليه أنفسهم طوال حياتهم ولا ينصرفون إلى غيره من أنواع الشعر الرسمي التقليدي من مدح ونحوه؛ بل هم يعيشون في شعر الحياة الاجتماعية والنوادي الأدبية، وقد رقَّقوا أفكارهم، وهذَّبوا أساليبهم وأوزانهم، وحاولوا أن يبلغوا في ذلك كل مبلغ.
* كتاب: الفن ومذاهبه في الشعر العربي
شوقي ضيف