كمال عبدالحميد شجرة أحزان تشتعل أمامك وأنت منبهر بالأضواء والمسارات النارية التي تتلاقى في حروفه التي تفيض بالألم والخيبة، وهو شجرة كبيرة من الأوراق الندية والصفاء الغامر التي تحط عليها عصافير الكلام، شجرة متناقضة هادئة يسبح في ثنايا جذوعها بركان كلما حمل الناس رؤوسهم إلى الوسائد واطمئنوا بالغياب المؤقت
هز أرجاء الكون وأشعل نار الشعر أو النثر في ذاته الممزقة، صار كمال عبدالحميد نجماً كبيراً في عالم الصحافة، هجر القرية التي لونت حياته بالبهجة والمشاهد الناضرة في مساءات تشع بجمال الحكايات القديمة، والصباحات التي يغدو فيها الأهل والجيران على حرثهم، وأعمالهم اليسيرة، تعلق منذ صغره بالصحافة وكاد يفقد حياته في مرات كثيرة تحت عجلات القطارات التي لا تتوقف في القرى الصغيرة في صعيد مصر ليلتقط الجريدة من البائع في ثوان قاتلات للزمن «خذ وهات» وحين لا يتمكن من الحصول عليها يوماً يدوي الحزن في قلبه الصغير، صوّر مقتطفات من حياته في كتاب «لا يدخل الليل إلا وحيداً» الطفولة، المراهقة، ومطالع الشباب إلى اللحظة التي ودع فيها أباه والقرية لينتقل إلى طور آخر، ويأوي إلى ركن جديد حين سافر إلى الإمارات التي احتضنته بتحنان فرسم بحبر البراءة لوحة إبداعه الصحفي، وعلى الرغم من أنه كان يذهب في آخر الليل بعد أن يضع العناوين على غلاف مجلة «المرأة اليوم» - التي قفزت في وقت توليه مهام مدير تحرير إلى صدارة المجلات العربية حينذاك، وهو ممتلئ بالسعادة ظاناً أنه يعيش نشوة النجاح فإنه لم يكن يجيد لعبة الحروب النفسية فترك المكان باختياره المحض ورحل إلى وجهة صحفية أخرى ظل يعمل فيها كمنفى لا اختياري لمدة عام، قويت عزيمته واستعاد نفسه في محنة لا تصدق ليصعد نجمه من جديد مع مطبوعة أخرى
ظن أن الحياة عادت لتبتسم له لكن ربة الشعر تعرف جيداً أن العزف على وتر الحزن في داخله هي الطريقة الأنجح للحفاظ على إبداعه، فعاد بعد أن أغلقت هذه المطبوعة إلى قريته الأولى يجمع نادر الكلام في مخيلته الحاضرة في الزمان والمكان، رجع إلى مكانه الأثير الذي كان يتمنى أن يكون عيادته الروحية وشفاء قلبه المحزون، لكن هيههات للمسافر أن يعصي هواه ويستغفر من ذنوبه الصغيرة التي لا تزال فواحة بعطرها الندي الذي لا يحد، فعاد للإمارات مرة أخرى ليواصل رحلته مع الطموح والإنجاز
اللافت أنه في هذه المرحلة ترجمت له مختارات إلى الإنجليزية حصلت على الختم الذهبي لدار نشر ترافورد بأمريكا بعد مراجعتها من قبل محرري موقع مراجعات الكتب الشهير
حملت المختارات اسم: الخلود بقبلة على الرقبة ،«the us review of book »
IMMORALITY WITH A KISS ON THE NECK
وكتب مايكل رادون رؤيته للمختارات وأبرز ما جاء فيها على لسانه إن هذه المجموعة الشعرية تطلق نفسها باعتبارها خارج المألوف والعادي» وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً بقامته الإبداعية من محرر نشر أجنبي في الوقت الذي غاب فيه النقد العربي ولم يُلقِ الضوء على لوحاته النثرية المنحوتة التي اصطادتها طيور خياله في أثناء رحلته مع الأصدقاء الخونة والأصدقاء الطيبين، مع الحبيبات اللواتي أشعلن له الأصابع شمعاً، وبدلاً من أن يرى من خلالهن الضوء احترق بجمراتهن اللاهبة، فهو في ديوان عاطفة « قاسية تلوح بالعصا» يمرر هذه المقطوعة من رسالة بولس إلى أهل كورنثوس في المقدمة «لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت لكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا لكن لكي تعرفوا المحبة التي عندي»، والحقيقة إن هذه الكلمات تلخص شخصية كمال الإنسانية التي تنزع إلى الحزن الداخلي رغم أنه حين يلقاه المرء لا يشعر أبداً بأنه أمام إنسان يميل إلى الكآبة لكونه يعمد دائماً للفكاهة الحلوة واللفظ الأنيق، وفي حضرته نلحظ خفة الظل وأنه يمر كطيف بعد الالتقاء به، ودائماً يحدّث الناس بنظرات لا تستقر على شيء، إذ يذيغ بصره في كل الاتجاهات، لكن دائماً تفوح كتاباته برائحة الحزن وعاطفة المكلومين فهو شاعر اخترق حجاب النثر، واخترق حجاب الشعر حين أرهف السمع لسماء روحه المشغوفة بالجديد إذ حاك شعره بأسلوبه المميز دون أن نلمح روائح الشعراء السابقين عليه، أو الذين يعاصرهم ويقرأ لهم فهو يسبح في منطقة أخرى لها خصوصيتها وفرادتها في الشعر الحديث وما بعد الحداثة
يطارد دائماً قصيدة تحمل ملامحه في عالم غير مرئي يصطدم بالعدم ويسافر في اللامعقول، وإن كان شعره لا يمتح من بئر البهجة، ولا تكاد تجد فيه جملة على بساط الفرح، فهو في «عاطفة قاسية تلوح بالعصا» يسرد تفاصيل مدهشة عن صاحبته التي حاول أن يستحضر رائحتها في صلوات عميقة لكن بلا جدوى، والتي رمز إليها بحرف« الجيم» وهي التي أفضت له بكل هذا العذاب الفضي، وهذا الديوان يعبر عن شاعر يعرف كيف يوجه شباكه فيصطاد من بحر الشعر الكلام الثمين يقول كمال عبدالحميد في مقطوعات: الصدى والصوت
الصدى: "الجيم" تخرج مهجورة عقب الاحتباس، وإذ اختلطت بالكاف فليست بالفصيحة
الصوت: إشارة إلى فساد مقدر في اجتماع حرفي بحرفها
وهو يعاتب "الجيم" أيضاً فيقول: في البدء أقول أحبك وأنا أكره روحي المختبئة في الظل
كطفلة مذنبة، روحي التي ورطتني في الحب في قبضة الحرير والشوك
روحي الباكية بلا خجل أمام عاطفة قاسية تلوح بالعصا
إن كمال عبدالحميد، امتلك زمام التعبير برشاقة وقدرة على التعامل مع اللغة عبر تراكيب وصيّغ جميلة غير مألوفة، فهو ينزع إلى كل أنواع الخيال ليتشكل المعنى بحرفية تامة عبر تجربة عميقة تخمرت عجينتها في خلاياه الإبداعية سنوات طويلة حتى أصبح التمثيل الجمالي باللغة عنده في أرقى مستوى فهو يقول: أحبك وأنا أتابع المسرح الكوني بشغفٍ
ولا أتعاطف مع الأشرار كما تفعلين بعد كل فيلم عربي
الأشرار الذين يكرهون البطل والبطلة، يدبرون المكائد في منتصف القصة
ماذا أفعل الآن بكل هذا الشر حولنا، يلزمني أن أكره جيداً لأجسد مضمون العقدة الدرامية
لن يكون ملائماً لأمثالي أن يتحدثوا عن التسامح وهم محاصرون بالخذلان
يعوزني أن أكره بعمق أصحاب الأدوار الثانوية والرئيسية وأنتبه حين تتحرك
«pan left » الكاميرا لأن المخرج عادة ما يوصي بإظهار جهة القلب
ليعرف المشاهد كم تبقى من الوقت حتى أسقط خاسراً
«close up » في لقطة
سيكون وجهي ملء الشاشة
أنظر في عمق الكادر وأتمتم بكلمة واحدة
وسيخمن الناس آخر ما أقوله
ويعلنون النهايات المفتوحة
عبث ألا تعرفي أنك آخر ما أقوله
عبث أن تكوني بعيدة حين يصفق المخرج للمشهد الأخير
وتظل إسناداته المجازية ولفتاته التعبيرية تبين الحالة الشعرية التي تسكنه في اللحظات التي تفيض فيها النفس عند امتلائها، إننا أمام شاعر ابتعد كثيراً عن الأضواء ولم يهادن النقاد ويستثمر موقعه في عالم الصحافة ليطوع عصا النقد أو يستثير النقاد بالمقايضات المباحة عبر الأعمدة التي كان يملك توزيعها على من يشاء منهم. رفض كمال هذه الطريقة التي نجح فيها غيره، واختار أن تكون كلماته التي ينثرها بدفء من قارورة عطره الحزين على صفحات كتبه هي المرآة الحقيقية التي تعكس وجهه حتى إنه لم يروّج لذاته الشعرية عبر الصحف، وعهدناه يذهب إلى الندوات الشعرية التي يدعى إليها على استحياء ويغمض عينيه في حياء كلما امتدحه مثقف عارف بموهبته، كمال الذي يصف نفسه بأنه «رجل ضامر خليط اثنين أوله طاغ وثانيه غائب في هواه، هو هذا الجنوبي الذي تتلمذ على يد عبدالوهاب مطاوع عندما كان يعمل صحفياً في صحيفة الأهرام المصرية في تسعينيات القرن الماضي، وإن طائر الشعر الذي يسكنه غاص به في بحار الدهشة وصعد به إلى السماء فهو مبدع متجدد الخلايا، مغاير مخلص لإبداعه الشعري، لديه استراتيجية فكرية تطرحه شاعراً فذاً وناثراً قديراً وروائياً يمتلك براعة خفية في القص فأسلوبه في كتابة المقالات ينبئ عن أنه حكاء ماهر إذ ينتمي إلى عوالم مسكونة بالمغامرة بذرت في رحم شعريته أزهار الجمال، وعصرت في روحه نضرة الفن الممزوج بعطر الأشكال الفنية التي تبرز منجزاته الأدبية في صورة واسعة من الخيال والتصوير المبتكر، والتواصل الجمالي مع اللغة في حركة تطورها وحرارتها
يقول كمال في مقطع من ديوان «عاطفة قاسية تلوح بالعصا»: آه يا قدري
اكشف ما وراء الشجرة اليابسة
الشجرة التي اسمُها حياتي
قل كم تبقى من الموت
هل ثمة ما أخسره
وأنا منكس هكذا على الأرض
يا قدري أيها العبقري
كيف أرسلتني بضربة حظ واحدة
بين يدي حبيبتي
ويقول في مقطوعة شعرية أخرى تبلور أسلوبه المتدفق
اتركوني هنا في عزلتي
قريباً من الله والمطر
والطيور المتأرجحة
لأنني كرهت البيوت والجدران
كرهت ما تبقى من حنيني
ما تبقى من حوافر أصحابي على الرخام
إن ديوان «عاطفة قاسية تلوح بالعصا» ملحمة شعرية مسكونة بالخسائر والهزائم تظهر بجلاء أن كمال عبدالحميد من حزن كثير وأن نهر حبه لا يعود للوراء
أشرف جمعة
- منقول عن أصوات.كوم
هز أرجاء الكون وأشعل نار الشعر أو النثر في ذاته الممزقة، صار كمال عبدالحميد نجماً كبيراً في عالم الصحافة، هجر القرية التي لونت حياته بالبهجة والمشاهد الناضرة في مساءات تشع بجمال الحكايات القديمة، والصباحات التي يغدو فيها الأهل والجيران على حرثهم، وأعمالهم اليسيرة، تعلق منذ صغره بالصحافة وكاد يفقد حياته في مرات كثيرة تحت عجلات القطارات التي لا تتوقف في القرى الصغيرة في صعيد مصر ليلتقط الجريدة من البائع في ثوان قاتلات للزمن «خذ وهات» وحين لا يتمكن من الحصول عليها يوماً يدوي الحزن في قلبه الصغير، صوّر مقتطفات من حياته في كتاب «لا يدخل الليل إلا وحيداً» الطفولة، المراهقة، ومطالع الشباب إلى اللحظة التي ودع فيها أباه والقرية لينتقل إلى طور آخر، ويأوي إلى ركن جديد حين سافر إلى الإمارات التي احتضنته بتحنان فرسم بحبر البراءة لوحة إبداعه الصحفي، وعلى الرغم من أنه كان يذهب في آخر الليل بعد أن يضع العناوين على غلاف مجلة «المرأة اليوم» - التي قفزت في وقت توليه مهام مدير تحرير إلى صدارة المجلات العربية حينذاك، وهو ممتلئ بالسعادة ظاناً أنه يعيش نشوة النجاح فإنه لم يكن يجيد لعبة الحروب النفسية فترك المكان باختياره المحض ورحل إلى وجهة صحفية أخرى ظل يعمل فيها كمنفى لا اختياري لمدة عام، قويت عزيمته واستعاد نفسه في محنة لا تصدق ليصعد نجمه من جديد مع مطبوعة أخرى
ظن أن الحياة عادت لتبتسم له لكن ربة الشعر تعرف جيداً أن العزف على وتر الحزن في داخله هي الطريقة الأنجح للحفاظ على إبداعه، فعاد بعد أن أغلقت هذه المطبوعة إلى قريته الأولى يجمع نادر الكلام في مخيلته الحاضرة في الزمان والمكان، رجع إلى مكانه الأثير الذي كان يتمنى أن يكون عيادته الروحية وشفاء قلبه المحزون، لكن هيههات للمسافر أن يعصي هواه ويستغفر من ذنوبه الصغيرة التي لا تزال فواحة بعطرها الندي الذي لا يحد، فعاد للإمارات مرة أخرى ليواصل رحلته مع الطموح والإنجاز
اللافت أنه في هذه المرحلة ترجمت له مختارات إلى الإنجليزية حصلت على الختم الذهبي لدار نشر ترافورد بأمريكا بعد مراجعتها من قبل محرري موقع مراجعات الكتب الشهير
حملت المختارات اسم: الخلود بقبلة على الرقبة ،«the us review of book »
IMMORALITY WITH A KISS ON THE NECK
وكتب مايكل رادون رؤيته للمختارات وأبرز ما جاء فيها على لسانه إن هذه المجموعة الشعرية تطلق نفسها باعتبارها خارج المألوف والعادي» وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً بقامته الإبداعية من محرر نشر أجنبي في الوقت الذي غاب فيه النقد العربي ولم يُلقِ الضوء على لوحاته النثرية المنحوتة التي اصطادتها طيور خياله في أثناء رحلته مع الأصدقاء الخونة والأصدقاء الطيبين، مع الحبيبات اللواتي أشعلن له الأصابع شمعاً، وبدلاً من أن يرى من خلالهن الضوء احترق بجمراتهن اللاهبة، فهو في ديوان عاطفة « قاسية تلوح بالعصا» يمرر هذه المقطوعة من رسالة بولس إلى أهل كورنثوس في المقدمة «لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت لكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا لكن لكي تعرفوا المحبة التي عندي»، والحقيقة إن هذه الكلمات تلخص شخصية كمال الإنسانية التي تنزع إلى الحزن الداخلي رغم أنه حين يلقاه المرء لا يشعر أبداً بأنه أمام إنسان يميل إلى الكآبة لكونه يعمد دائماً للفكاهة الحلوة واللفظ الأنيق، وفي حضرته نلحظ خفة الظل وأنه يمر كطيف بعد الالتقاء به، ودائماً يحدّث الناس بنظرات لا تستقر على شيء، إذ يذيغ بصره في كل الاتجاهات، لكن دائماً تفوح كتاباته برائحة الحزن وعاطفة المكلومين فهو شاعر اخترق حجاب النثر، واخترق حجاب الشعر حين أرهف السمع لسماء روحه المشغوفة بالجديد إذ حاك شعره بأسلوبه المميز دون أن نلمح روائح الشعراء السابقين عليه، أو الذين يعاصرهم ويقرأ لهم فهو يسبح في منطقة أخرى لها خصوصيتها وفرادتها في الشعر الحديث وما بعد الحداثة
يطارد دائماً قصيدة تحمل ملامحه في عالم غير مرئي يصطدم بالعدم ويسافر في اللامعقول، وإن كان شعره لا يمتح من بئر البهجة، ولا تكاد تجد فيه جملة على بساط الفرح، فهو في «عاطفة قاسية تلوح بالعصا» يسرد تفاصيل مدهشة عن صاحبته التي حاول أن يستحضر رائحتها في صلوات عميقة لكن بلا جدوى، والتي رمز إليها بحرف« الجيم» وهي التي أفضت له بكل هذا العذاب الفضي، وهذا الديوان يعبر عن شاعر يعرف كيف يوجه شباكه فيصطاد من بحر الشعر الكلام الثمين يقول كمال عبدالحميد في مقطوعات: الصدى والصوت
الصدى: "الجيم" تخرج مهجورة عقب الاحتباس، وإذ اختلطت بالكاف فليست بالفصيحة
الصوت: إشارة إلى فساد مقدر في اجتماع حرفي بحرفها
وهو يعاتب "الجيم" أيضاً فيقول: في البدء أقول أحبك وأنا أكره روحي المختبئة في الظل
كطفلة مذنبة، روحي التي ورطتني في الحب في قبضة الحرير والشوك
روحي الباكية بلا خجل أمام عاطفة قاسية تلوح بالعصا
إن كمال عبدالحميد، امتلك زمام التعبير برشاقة وقدرة على التعامل مع اللغة عبر تراكيب وصيّغ جميلة غير مألوفة، فهو ينزع إلى كل أنواع الخيال ليتشكل المعنى بحرفية تامة عبر تجربة عميقة تخمرت عجينتها في خلاياه الإبداعية سنوات طويلة حتى أصبح التمثيل الجمالي باللغة عنده في أرقى مستوى فهو يقول: أحبك وأنا أتابع المسرح الكوني بشغفٍ
ولا أتعاطف مع الأشرار كما تفعلين بعد كل فيلم عربي
الأشرار الذين يكرهون البطل والبطلة، يدبرون المكائد في منتصف القصة
ماذا أفعل الآن بكل هذا الشر حولنا، يلزمني أن أكره جيداً لأجسد مضمون العقدة الدرامية
لن يكون ملائماً لأمثالي أن يتحدثوا عن التسامح وهم محاصرون بالخذلان
يعوزني أن أكره بعمق أصحاب الأدوار الثانوية والرئيسية وأنتبه حين تتحرك
«pan left » الكاميرا لأن المخرج عادة ما يوصي بإظهار جهة القلب
ليعرف المشاهد كم تبقى من الوقت حتى أسقط خاسراً
«close up » في لقطة
سيكون وجهي ملء الشاشة
أنظر في عمق الكادر وأتمتم بكلمة واحدة
وسيخمن الناس آخر ما أقوله
ويعلنون النهايات المفتوحة
عبث ألا تعرفي أنك آخر ما أقوله
عبث أن تكوني بعيدة حين يصفق المخرج للمشهد الأخير
وتظل إسناداته المجازية ولفتاته التعبيرية تبين الحالة الشعرية التي تسكنه في اللحظات التي تفيض فيها النفس عند امتلائها، إننا أمام شاعر ابتعد كثيراً عن الأضواء ولم يهادن النقاد ويستثمر موقعه في عالم الصحافة ليطوع عصا النقد أو يستثير النقاد بالمقايضات المباحة عبر الأعمدة التي كان يملك توزيعها على من يشاء منهم. رفض كمال هذه الطريقة التي نجح فيها غيره، واختار أن تكون كلماته التي ينثرها بدفء من قارورة عطره الحزين على صفحات كتبه هي المرآة الحقيقية التي تعكس وجهه حتى إنه لم يروّج لذاته الشعرية عبر الصحف، وعهدناه يذهب إلى الندوات الشعرية التي يدعى إليها على استحياء ويغمض عينيه في حياء كلما امتدحه مثقف عارف بموهبته، كمال الذي يصف نفسه بأنه «رجل ضامر خليط اثنين أوله طاغ وثانيه غائب في هواه، هو هذا الجنوبي الذي تتلمذ على يد عبدالوهاب مطاوع عندما كان يعمل صحفياً في صحيفة الأهرام المصرية في تسعينيات القرن الماضي، وإن طائر الشعر الذي يسكنه غاص به في بحار الدهشة وصعد به إلى السماء فهو مبدع متجدد الخلايا، مغاير مخلص لإبداعه الشعري، لديه استراتيجية فكرية تطرحه شاعراً فذاً وناثراً قديراً وروائياً يمتلك براعة خفية في القص فأسلوبه في كتابة المقالات ينبئ عن أنه حكاء ماهر إذ ينتمي إلى عوالم مسكونة بالمغامرة بذرت في رحم شعريته أزهار الجمال، وعصرت في روحه نضرة الفن الممزوج بعطر الأشكال الفنية التي تبرز منجزاته الأدبية في صورة واسعة من الخيال والتصوير المبتكر، والتواصل الجمالي مع اللغة في حركة تطورها وحرارتها
يقول كمال في مقطع من ديوان «عاطفة قاسية تلوح بالعصا»: آه يا قدري
اكشف ما وراء الشجرة اليابسة
الشجرة التي اسمُها حياتي
قل كم تبقى من الموت
هل ثمة ما أخسره
وأنا منكس هكذا على الأرض
يا قدري أيها العبقري
كيف أرسلتني بضربة حظ واحدة
بين يدي حبيبتي
ويقول في مقطوعة شعرية أخرى تبلور أسلوبه المتدفق
اتركوني هنا في عزلتي
قريباً من الله والمطر
والطيور المتأرجحة
لأنني كرهت البيوت والجدران
كرهت ما تبقى من حنيني
ما تبقى من حوافر أصحابي على الرخام
إن ديوان «عاطفة قاسية تلوح بالعصا» ملحمة شعرية مسكونة بالخسائر والهزائم تظهر بجلاء أن كمال عبدالحميد من حزن كثير وأن نهر حبه لا يعود للوراء
أشرف جمعة
- منقول عن أصوات.كوم