يقول شيشرون :
التاريخ شاهد الأزمنة، ونور الحقيقة، وحياة الذاكرة، ومُعَلم الحياة، ورسول القِدَم.
و الفيلسوف الإيطالي جيانتيريزو "فاتيمو" يقول :
" إن التاريخ هو سيرورة اضعاف أو مسيرة علمنة وخيبة أمل "
2. وما التاريخ بحسب المفكر اليساري والماركسي غازي الصوراني ؟
الجواب :
اعتقد أن وصف التاريخ على أنه "سيرورة اضعاف أو مسيرة علمنة وخيبة أمل" يندرج تحت ما أسميه نزوة رغبوية ذاتية في تفسير التاريخ، وكأنه العنصر الرئيسي المباشر في إدارة العملية التطورية للبشر في كوكبنا الأرضي، وهي نزوه ارادوية تلغي او تتجاوز المفاهم المُؤَسِّسة أو الصانعه للتاريخ ، وأقصد بذلك ، القوى المنتجة وانماط وعلاقات الانتاج ، وقبل كل شيء الصراع الطبقي والتناقضات التناحرية وغيرها ، الكامنة في اطاره ضمن البنى التحتية (المادية والانتاجية) والبنى الفوقية الفكرية والقانونية المنعكسة عنها.
وإذا كان السياق التطوري للمجتمعات البشرية في المنظور العام على هذه الشاكلة، فإن خصوصية التطور في كل مجتمع من المجتمعات عموماً ، وبين المجتمعات الرأسمالية المتقدمة والمجتمعات التابعة والمتخلفة خصوصاً، تفرض مساراً وسيرورة للتاريخ تختلف باختلاف تطور المجتمعات ، بحيث يمكن القول، إن إبراز حركة التاريخ وسيرورته رهن بطبيعة تطور المجتمع ، أو هي بالأحرى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع تقدم أو تخلف الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والفكرية التي تحدد أو تصنع معالم التاريخ وسيرورته في هذا المجتمع أو ذاك.
وهنا أشير إلى ان الفيلسوف الايطالي جيانتيريزو (المعروف بـ "فاتيمو") يُعَرِّف التاريخ (حسب السؤال المطروح أعلاه) من منظور أيديولوجي بحيث يصبح التاريخ ملحقاً للأيديولوجيا ، على النقيض من رؤية كارل ماركس التي أنهت الحاق التاريخ بالأيديولوجيا ، عندما انطلق من الأسس المادية العلمية (الاقتصادية الاجتماعية) لتطور التاريخ، وبذلك صاغ ماركس القواعد الأساسية لميدان كان قد بقي حتى ذلك الوقت موضع حلم أو تفسير ذاتي او ارادوي، بدل أن يكون موضع استكشاف فعلي من قلب العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمعات في مرحلة زمانية محددة، وهذا ما حصل بالفعل على أثر تراجع ثم اضمحلال قوى الانتاج والعلاقات الانتاجية ومن ثم العلاقات الاجتماعية في المرحلة الاقطاعية في أوروبا التي امتدت تقريباً منذ القرن الرابع الميلادي حتى نهاية القرن السابع عشر، وبزوغ عصر النهضة أو ما يعرف اليوم بالحداثة من قلب العلاقات الرأسمالية الجديدة انعكاساً قوياً لمصالح البورجوازية الناهضة منذ نهاية القرن السابع عشر.
فعلى الصعيد التاريخي في عصر النهضة ، بدأت الحداثة بادراك مادية الطبيعة ومحورية الإنسان، بعد أن فقدت الكنيسة تأثيرها على عقول الناس في أوروبا، ذلك إن عنصراً أساسياً من عناصر الحداثة هو اكتشاف قيمة الفرد بوصفه ذاتاً خلاقة، فالفرد وفق الحداثة تنبع قيمته من ذاته لامن ملّته ولا من قبيلته، وهذه الفكرة الحداثوية الجوهرية بما تحمله من مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني لم تتبلور بعد في مجتمعاتنا العربية، بسبب استمرار فواتها وتخلفها ورفض الشرائح أو القبائل والعائلات والأنظمة الحاكمة في بلادنا العربية لتلك الأفكار، حفاظاً على مصالحها الطبقية الأنانية الخاصة عبر تكريس كل مظاهر الاستتباع والتخلف والاستبداد والقمع وفق مقتضيات تحالفها الاستراتيجي مع النظام الامبريالي ضد مصالح وتطور شعوبها، كما نلاحظ بوضوح لدى أنظمة الخليج والسعودية من ناحية ولدى أنظمة الاستبداد من ناحية ثانية، التي ترفض كلياً مفاهيم وأفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية ، مما أدى إلى تكريس ما أسميه مجازاً تعطيل وإعاقة حركة التاريخ في بلادنا، من خلال هيمنة عقلية الصحراء المتخلفة (وأقصد بذلك ملوك وأمراء السعودية والخليج الى جانب حركات الاسلام السياسي التي ترفع شعار الخلافة!) بحيث يصح القول أن الصحراء تحكم المدينة أو تتحكم في التطور الحديث أو كما يقول ماركس "الميت يحكم الحي" ، إذ أن "هذا الميت" الصحراوي مازال أصحابه من ملوك وأمراء وشيوخ القبائل العربية ، حتى اللحظة يتحركون في حلقة دائرية تعيد انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتجدده، في محاولة منهم التهرب من تحدي الحداثة، بالعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية اعادة زراعته وانتاجه بالتنسيق مع تلك الأنظمة في قلب عفوية الجماهير الشعبية، باستحضار التاريخ الماضي بصورة رثة، بذريعة العودة إلى اصول الايمان والاعتقاد.
ولا آخال نفسي مختلفاً في المضمون أو الدلالات عن جوهر أفكار الفيلسوف الايطالي فاتيمو التي تنتمي – في قسم منها- إلى الفكر الحداثي عموماً والفلسفة الماركسية خصوصاً، لكنني اختلف بالتأكيد مع طروحاته الفكرية التي تنتمي إلى ما يسمى بفلسفة ما بعد الحداثة . خاصة وأنه يربط بين العدمية وحقيقة التاريخ، معتبراً أن التاريخ هو مسيرة علمنة وخيبة أمل، لكنه يرى "أنها مسيرة تفترض قراراً بنبذ العنف"، وهو قرار ينطلق من دعوة ارادوية ذاتية ومثالية في آن واحد ، على الرغم من أنها تحمل ابعاداً ومضامين انسانية الطابع، لكنها تتجاوز طبيعة الصراعات السياسية والطبقية المتفاقمة انعكاساً لمصالح الرأسمالية العالمية في الظروف الراهنة، والدور الامبريالي المتحكم في موازين القوى العالمية حتى اللحظة ، وتأثيره الفعال – المباشر وغير المباشر- في التخطيط والتنفيذ لعمليات عدوانية عنيفة تكريساً لضمان "ديمومة" مصالحه في بلادنا ، إلى جانب دوره المعروف في إثارة واشعال أبشع مظاهر العنف الدموي، الطائفي والاثني والمذهبي، التي باتت اليوم عنواناً بارزاً في العديد من البلدان العربية بديلاً عن الصراع الطبقي ، وبديلاً عن الصراع العربي ضد الامبريالية والصهيونية.
وهنا بالضبط يتجلى العنف كظاهرة مرتبطة بنزوع النظام الامبريالي الدائم صوب التوسع والسيطرة على ثروات ومقدرات شعوب العالم الفقيرة، ما يعني ان الدعوة إلى نبذه، مسألة تندرج ضمن رؤية انسانية مثالية نبيلة على المستوى الذاتي، لكنها مستحيلة التحقيق بحكم تناقضها مع الطبيعة العدوانية للنظام الامبريالي ، وهي طبيعة تستدعي ممارسة العنف الثوري المضاد من قبل الشعوب المضطهدة في مجابهة هذه العدوانية وفك الارتباط وكل اشكال التبعية مع ذلك النظام وذلك هو الطريق الوحيد صوب تحويل مجرى تاريخنا العربي المعاصر من سيرورة الاضعاف والاستسلام إلى سيرورة التحدي المعتمدة على الذات وتحديد مصيرنا الراهن المستقبلي برؤية نهضوية وديمقراطية وانسانية، وعند ذلك فقط يمكن الحديث عن نبذ العنف وفق رؤية وممارسة واقعية ثورية بعيداً عن الأوهام المثالية أو العدمية المنسجمة مع أفكار "ما بعد الحداثة"، وهي عندي ليست سوى نوع من الانحراف عن مجرى فلسفة الحداثة ومسارها التطوري اللانهائي .
وهنا بالضبط يتحدد الدور الطليعي -الراهن و المستقبلي- للمثقف العربي الماركسي الثوري الديمقراطي –بالمعنى الجمعي، العضوي، الحزب- لمجابهة هذا الواقع المأزوم والثورة عليه وتغييره انطلاقاً من رؤية واضحة ومحددة تقوم على القطيعة المعرفية والسياسية مع مفاهيم التاريخ الماضي من خلال القطيعة الثورية مع كل الأنظمة الرجعية وأنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف والتوريث من جهة ، والقطيعة الكلية والشاملة مع كل أشكال ومظاهر التبعية أو التحالف (مهما كانت المبررات) مع مجمل نظام العولمة الإمبريالي ، و النظام الرأسمالي أو ما يسمى بالاقتصاد الحر والليبرالية الجديدة من جهة ثانية ، ما يعني أن هذه الرؤية الثورية الديمقراطية هي في ذات الوقت رؤية تاريخية حداثية تقدمية راهنة يتوجب أن تنطلق بداية من الغاء النظام الرأسمالي باعتباره نظاماً للاستغلال والقهر والقمع والاستبداد والافقار ، وبالتالي فإن النضال السياسي والديمقراطي والمجتمعي والكفاحي ضد الوجود الامبريالي، هو شرط أول يتوازى ويندمج تماماً مع هدف التغيير الديمقراطي صوب تحقيق أهداف الثورة الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية العربية في بلادنا، وذلك انطلاقاً من وعينا بضرورة العمل على مراكمة العوامل الموضوعية والذاتية لتحقيق هذه الرؤية الثورية الهادفة إلى تغيير مجمل العلاقات الاجتماعية القديمة وتحطيمها على طريق بلورة علاقات وقوى انتاجيه وبنى فوقية تكون قادرة على اشتقاق مسار وسيرورة تاريخنا المعاصر بعيداً عن كل خيبات الأمل أو سيرورات التراجع والاضعاف .
انتظرونا في عقد القران بين النظامين الرأسمالي والديموقراطي من " بؤرة ضوء" الحلقة الثالثة
* * *
التاريخ شاهد الأزمنة، ونور الحقيقة، وحياة الذاكرة، ومُعَلم الحياة، ورسول القِدَم.
و الفيلسوف الإيطالي جيانتيريزو "فاتيمو" يقول :
" إن التاريخ هو سيرورة اضعاف أو مسيرة علمنة وخيبة أمل "
2. وما التاريخ بحسب المفكر اليساري والماركسي غازي الصوراني ؟
الجواب :
اعتقد أن وصف التاريخ على أنه "سيرورة اضعاف أو مسيرة علمنة وخيبة أمل" يندرج تحت ما أسميه نزوة رغبوية ذاتية في تفسير التاريخ، وكأنه العنصر الرئيسي المباشر في إدارة العملية التطورية للبشر في كوكبنا الأرضي، وهي نزوه ارادوية تلغي او تتجاوز المفاهم المُؤَسِّسة أو الصانعه للتاريخ ، وأقصد بذلك ، القوى المنتجة وانماط وعلاقات الانتاج ، وقبل كل شيء الصراع الطبقي والتناقضات التناحرية وغيرها ، الكامنة في اطاره ضمن البنى التحتية (المادية والانتاجية) والبنى الفوقية الفكرية والقانونية المنعكسة عنها.
وإذا كان السياق التطوري للمجتمعات البشرية في المنظور العام على هذه الشاكلة، فإن خصوصية التطور في كل مجتمع من المجتمعات عموماً ، وبين المجتمعات الرأسمالية المتقدمة والمجتمعات التابعة والمتخلفة خصوصاً، تفرض مساراً وسيرورة للتاريخ تختلف باختلاف تطور المجتمعات ، بحيث يمكن القول، إن إبراز حركة التاريخ وسيرورته رهن بطبيعة تطور المجتمع ، أو هي بالأحرى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع تقدم أو تخلف الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والفكرية التي تحدد أو تصنع معالم التاريخ وسيرورته في هذا المجتمع أو ذاك.
وهنا أشير إلى ان الفيلسوف الايطالي جيانتيريزو (المعروف بـ "فاتيمو") يُعَرِّف التاريخ (حسب السؤال المطروح أعلاه) من منظور أيديولوجي بحيث يصبح التاريخ ملحقاً للأيديولوجيا ، على النقيض من رؤية كارل ماركس التي أنهت الحاق التاريخ بالأيديولوجيا ، عندما انطلق من الأسس المادية العلمية (الاقتصادية الاجتماعية) لتطور التاريخ، وبذلك صاغ ماركس القواعد الأساسية لميدان كان قد بقي حتى ذلك الوقت موضع حلم أو تفسير ذاتي او ارادوي، بدل أن يكون موضع استكشاف فعلي من قلب العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمعات في مرحلة زمانية محددة، وهذا ما حصل بالفعل على أثر تراجع ثم اضمحلال قوى الانتاج والعلاقات الانتاجية ومن ثم العلاقات الاجتماعية في المرحلة الاقطاعية في أوروبا التي امتدت تقريباً منذ القرن الرابع الميلادي حتى نهاية القرن السابع عشر، وبزوغ عصر النهضة أو ما يعرف اليوم بالحداثة من قلب العلاقات الرأسمالية الجديدة انعكاساً قوياً لمصالح البورجوازية الناهضة منذ نهاية القرن السابع عشر.
فعلى الصعيد التاريخي في عصر النهضة ، بدأت الحداثة بادراك مادية الطبيعة ومحورية الإنسان، بعد أن فقدت الكنيسة تأثيرها على عقول الناس في أوروبا، ذلك إن عنصراً أساسياً من عناصر الحداثة هو اكتشاف قيمة الفرد بوصفه ذاتاً خلاقة، فالفرد وفق الحداثة تنبع قيمته من ذاته لامن ملّته ولا من قبيلته، وهذه الفكرة الحداثوية الجوهرية بما تحمله من مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني لم تتبلور بعد في مجتمعاتنا العربية، بسبب استمرار فواتها وتخلفها ورفض الشرائح أو القبائل والعائلات والأنظمة الحاكمة في بلادنا العربية لتلك الأفكار، حفاظاً على مصالحها الطبقية الأنانية الخاصة عبر تكريس كل مظاهر الاستتباع والتخلف والاستبداد والقمع وفق مقتضيات تحالفها الاستراتيجي مع النظام الامبريالي ضد مصالح وتطور شعوبها، كما نلاحظ بوضوح لدى أنظمة الخليج والسعودية من ناحية ولدى أنظمة الاستبداد من ناحية ثانية، التي ترفض كلياً مفاهيم وأفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية ، مما أدى إلى تكريس ما أسميه مجازاً تعطيل وإعاقة حركة التاريخ في بلادنا، من خلال هيمنة عقلية الصحراء المتخلفة (وأقصد بذلك ملوك وأمراء السعودية والخليج الى جانب حركات الاسلام السياسي التي ترفع شعار الخلافة!) بحيث يصح القول أن الصحراء تحكم المدينة أو تتحكم في التطور الحديث أو كما يقول ماركس "الميت يحكم الحي" ، إذ أن "هذا الميت" الصحراوي مازال أصحابه من ملوك وأمراء وشيوخ القبائل العربية ، حتى اللحظة يتحركون في حلقة دائرية تعيد انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتجدده، في محاولة منهم التهرب من تحدي الحداثة، بالعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية اعادة زراعته وانتاجه بالتنسيق مع تلك الأنظمة في قلب عفوية الجماهير الشعبية، باستحضار التاريخ الماضي بصورة رثة، بذريعة العودة إلى اصول الايمان والاعتقاد.
ولا آخال نفسي مختلفاً في المضمون أو الدلالات عن جوهر أفكار الفيلسوف الايطالي فاتيمو التي تنتمي – في قسم منها- إلى الفكر الحداثي عموماً والفلسفة الماركسية خصوصاً، لكنني اختلف بالتأكيد مع طروحاته الفكرية التي تنتمي إلى ما يسمى بفلسفة ما بعد الحداثة . خاصة وأنه يربط بين العدمية وحقيقة التاريخ، معتبراً أن التاريخ هو مسيرة علمنة وخيبة أمل، لكنه يرى "أنها مسيرة تفترض قراراً بنبذ العنف"، وهو قرار ينطلق من دعوة ارادوية ذاتية ومثالية في آن واحد ، على الرغم من أنها تحمل ابعاداً ومضامين انسانية الطابع، لكنها تتجاوز طبيعة الصراعات السياسية والطبقية المتفاقمة انعكاساً لمصالح الرأسمالية العالمية في الظروف الراهنة، والدور الامبريالي المتحكم في موازين القوى العالمية حتى اللحظة ، وتأثيره الفعال – المباشر وغير المباشر- في التخطيط والتنفيذ لعمليات عدوانية عنيفة تكريساً لضمان "ديمومة" مصالحه في بلادنا ، إلى جانب دوره المعروف في إثارة واشعال أبشع مظاهر العنف الدموي، الطائفي والاثني والمذهبي، التي باتت اليوم عنواناً بارزاً في العديد من البلدان العربية بديلاً عن الصراع الطبقي ، وبديلاً عن الصراع العربي ضد الامبريالية والصهيونية.
وهنا بالضبط يتجلى العنف كظاهرة مرتبطة بنزوع النظام الامبريالي الدائم صوب التوسع والسيطرة على ثروات ومقدرات شعوب العالم الفقيرة، ما يعني ان الدعوة إلى نبذه، مسألة تندرج ضمن رؤية انسانية مثالية نبيلة على المستوى الذاتي، لكنها مستحيلة التحقيق بحكم تناقضها مع الطبيعة العدوانية للنظام الامبريالي ، وهي طبيعة تستدعي ممارسة العنف الثوري المضاد من قبل الشعوب المضطهدة في مجابهة هذه العدوانية وفك الارتباط وكل اشكال التبعية مع ذلك النظام وذلك هو الطريق الوحيد صوب تحويل مجرى تاريخنا العربي المعاصر من سيرورة الاضعاف والاستسلام إلى سيرورة التحدي المعتمدة على الذات وتحديد مصيرنا الراهن المستقبلي برؤية نهضوية وديمقراطية وانسانية، وعند ذلك فقط يمكن الحديث عن نبذ العنف وفق رؤية وممارسة واقعية ثورية بعيداً عن الأوهام المثالية أو العدمية المنسجمة مع أفكار "ما بعد الحداثة"، وهي عندي ليست سوى نوع من الانحراف عن مجرى فلسفة الحداثة ومسارها التطوري اللانهائي .
وهنا بالضبط يتحدد الدور الطليعي -الراهن و المستقبلي- للمثقف العربي الماركسي الثوري الديمقراطي –بالمعنى الجمعي، العضوي، الحزب- لمجابهة هذا الواقع المأزوم والثورة عليه وتغييره انطلاقاً من رؤية واضحة ومحددة تقوم على القطيعة المعرفية والسياسية مع مفاهيم التاريخ الماضي من خلال القطيعة الثورية مع كل الأنظمة الرجعية وأنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف والتوريث من جهة ، والقطيعة الكلية والشاملة مع كل أشكال ومظاهر التبعية أو التحالف (مهما كانت المبررات) مع مجمل نظام العولمة الإمبريالي ، و النظام الرأسمالي أو ما يسمى بالاقتصاد الحر والليبرالية الجديدة من جهة ثانية ، ما يعني أن هذه الرؤية الثورية الديمقراطية هي في ذات الوقت رؤية تاريخية حداثية تقدمية راهنة يتوجب أن تنطلق بداية من الغاء النظام الرأسمالي باعتباره نظاماً للاستغلال والقهر والقمع والاستبداد والافقار ، وبالتالي فإن النضال السياسي والديمقراطي والمجتمعي والكفاحي ضد الوجود الامبريالي، هو شرط أول يتوازى ويندمج تماماً مع هدف التغيير الديمقراطي صوب تحقيق أهداف الثورة الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية العربية في بلادنا، وذلك انطلاقاً من وعينا بضرورة العمل على مراكمة العوامل الموضوعية والذاتية لتحقيق هذه الرؤية الثورية الهادفة إلى تغيير مجمل العلاقات الاجتماعية القديمة وتحطيمها على طريق بلورة علاقات وقوى انتاجيه وبنى فوقية تكون قادرة على اشتقاق مسار وسيرورة تاريخنا المعاصر بعيداً عن كل خيبات الأمل أو سيرورات التراجع والاضعاف .
انتظرونا في عقد القران بين النظامين الرأسمالي والديموقراطي من " بؤرة ضوء" الحلقة الثالثة
* * *