بعد وفاة الجمل بأيام؛ أعلن الفنان فاروق حسني، أن وزارة الثقافة ستقيم عزاء للأديب عبد الفتاح الجمل يوم 21 فبراير 1994 بمسجد عمر مكرم، وانتهى الخبر بتلك الجملة «قرر وزير الثقافة فاروق حسني أن تقوم الوزارة باستقبال العزاء في فقيد الأدب المصري».
وفي الأسبوع التالي للوفاة، وتحديدًا يوم 27 فبراير 1994، نشرت «أخبار الأدب» خبرًا بعنوان «وزارة الثقافة تقتني مكتبة الجمل» تقول فيه: «أبدى الفنان فاروق حسني وزير الثقافة استعداده لبدء الإجراءات الخاصة باقتناء مكتبة الراحل تقديرًا له، وضمها إلى مكتبة القاهرة الكبرى، أو قصر ثقافة دمياط، تخليدًا لذكرى صاحبها، جاء ذلك بعد اتصال أخبار الأدب بوزير الثقافة أثر ما تردد عن رغبة بعض أقاربه في عرضها للبيع، تضم المكتبة مراجع نادرة في التراث العربي، وعددًا ضخمًا من التسجيلات الموسيقية العالمية النادرة، وكتب الفن».
رغم أن الخبر تضمن مكانين محددين يمكن العثور في أي منهما على مكتبة الجمل، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة.
حينما وجدتُ قصر ثقافة دمياط مغلقًا – كعادته في الآونة الأخيرة – توجهتُ بالسؤال لعائلته، أكدوا أن الكتب كلها اقتنتها وزارة الثقافة في القاهرة، لكنهم لا يعلمون المكان تحديدًا.
في القاهرة سألتُ أخته «تحية» وزوجها، فأخبراني بأن الكتب كلها موجودة في ركن يحمل اسم عبد الفتاح الجمل بمكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك. يقول المهندس محمد سناء: «كان كمّ الكتب كبيرًا جدًا، لا يقل عن 20 أو 30 ألف كتابًا، لدرجة أن سقف الشقة في الدور الأسفل «مال» عندما أحضرنا بقية كتبه من شقته الأخرى بمصر الجديدة. كان اختيار مكتبة القاهرة الكبرى قائمًا على أنها ليس بها استعارة، فالاستعارة تضيع الكتب. أرسلت الوزارة لجنة مكوّنة من خمسة أفراد، ظلوا يأتون يوميًا لمدة ثلاثة أو أربعة شهور حتى انتهوا من تسجيل كل الكتب، وبعد الحصر وجدوا عددها كبيرًا فقالوا سنضعها في ركن خاص باسم عبد الفتاح الجمل».
***
داخل مكتبة القاهرة الكبرى، بحثتُ أولًا عن الركن الذي يحمل اسم عبد الفتاح الجمل، انطلاقًا من كلمات زوج أخته، واستنادًا على ما جاء في الخبر منسوبًا إلى وزير الثقافة حينها بأن اقتناء مكتبة الراحل «تقديرًا له» و«تخليدًا لذكرى صاحبها». لم أجد شيئًا، ووجدني نائب مدير المكتبة تائهة فسألني عما أريد، أخبرته وتلقيتُ إجابة أذهلتني قدر ما أسعدتني. قال إن كُتب الجمل موجودة بالفعل، ولحسن الحظ كان هو شابًا صغيرًا – وقتذاك – وشهد واقعة تسليمها للمكتبة، لكنها ليست في ركن يحمل اسم صاحبها، وإنما تم إدراج كل كتاب فيها حسب التخصص الذي ينتمي إليه!
حاول مشكورًا أن يساعدني بأن أتاح لي البحث على أحد أجهزة الحاسب الآلي الموجودة، مؤكدًا أنه حرص قبل تفريق الكتب على تسجيلها وكتابة جملة إلى جانبها تدل عليها، وهي (هدية من مكتبة الأديب عبد الفتاح الجمل). وجدتُ الكتب بالفعل مسجّلة هكذا، لكن عددها فقط ستمائة! في البداية تخيّلتُ أن المهندس محمد ربما بالغ بعض الشيء عندما قال إنها تزيد على عشرين ألف كتاب، إلا أن (600) عدد قليل أيضًا بالنسبة لمسيرة عبد الفتاح الجمل، وهو ما تأكدتُ منه بمرور الوقت، وفسرتُ الأمر بأن تلك – فقط – الكتب التي كان نائب المدير مسئولًا حينذاك عن تسجيلها وليست جميعها.
***
لا أعلم من صاحب قرار تفنيد الكتب، إلا أن التساؤل الذي يراودني على الدوام «أي تقدير وأي تخليد هذا؟!». الكتب محمَّلة بالأتربة وأوراقها صارت مهترئة، وهو أمر طبيعي بفعل الزمن، لكنها وُضعت في المكتبة من أجل الحفاظ عليها بوضع ملائم، لا تكديسها بما يساهم في تلفها بشكل أكبر. الأمر الآخر أنها صارت كتبًا كآلاف الكتب الموجودة في المكتبات، لن تعرف أنها تخص عبد الفتاح الجمل إلا إذا صادفتك نُسخة مهداة ووقعت عيناك على صفحتها الأولى.
ما فعلته مكتبة القاهرة الكبرى هو أنها قتلت الرجل مرة أخرى بعد وفاته، عندما ضنّت عليه بمساحة تحمل اسمه وتوضَع فيها كتبه، خاصة أن عددها كبير، ما رأيته منها فقط في القاعة الرئيسية يتعدى الألفين، بخلاف ما تلف وما تتضمنه قاعة الفنون – الخاضعة للإصلاحات! – وغيرها. تلك الكتب كانت تمثّل نصف مقتنيات المكتبة – تقريبًا – إن لم يكن أكثر، عندما تم تسليمها، إذ تحمل جميعها تاريخي ورود هما (15/11/1995) و(1/12/1995) أي بعد عشرة أشهر فقط من افتتاح المكتبة في يناير 1995.
***
واظبتُ على الذهاب إلى المكتبة مرة أسبوعيًا لما يزيد على شهرين، وفي كل مرة أتجه إلى واحدة من خزانات الكتب لأطَّلع على كل رف بما يحويه من كتب، واحدًا تلو الآخر، كي أتعرف من بينها على تلك الخاصة بعبد الفتاح الجمل، إذ لاحظتُ سماتها بعد مطالعة عدة كتب، وعلى رأسها كما ذكرت قبل قليل؛ تاريخ الورود إلى المكتبة. بالإضافة إلى حرف «ج» مكتوبًا بالقلم «الفلوماستر» الأخضر أو «الجاف» الأسود، أو أن يتضمن الكتاب ورقة بين صفحاته بها نقدٌ للعمل، وغالبيتها من مقالات «عصير الكتب» لعلاء الديب، أو ورقة بيضاء يحدد بها الصفحة التي يقرؤها، أو أن يحمل إهداءً على صفحته الأولى، يبدأ غالبًا بـ «إلى الفنان».
وفي الأسبوع التالي للوفاة، وتحديدًا يوم 27 فبراير 1994، نشرت «أخبار الأدب» خبرًا بعنوان «وزارة الثقافة تقتني مكتبة الجمل» تقول فيه: «أبدى الفنان فاروق حسني وزير الثقافة استعداده لبدء الإجراءات الخاصة باقتناء مكتبة الراحل تقديرًا له، وضمها إلى مكتبة القاهرة الكبرى، أو قصر ثقافة دمياط، تخليدًا لذكرى صاحبها، جاء ذلك بعد اتصال أخبار الأدب بوزير الثقافة أثر ما تردد عن رغبة بعض أقاربه في عرضها للبيع، تضم المكتبة مراجع نادرة في التراث العربي، وعددًا ضخمًا من التسجيلات الموسيقية العالمية النادرة، وكتب الفن».
رغم أن الخبر تضمن مكانين محددين يمكن العثور في أي منهما على مكتبة الجمل، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة.
حينما وجدتُ قصر ثقافة دمياط مغلقًا – كعادته في الآونة الأخيرة – توجهتُ بالسؤال لعائلته، أكدوا أن الكتب كلها اقتنتها وزارة الثقافة في القاهرة، لكنهم لا يعلمون المكان تحديدًا.
في القاهرة سألتُ أخته «تحية» وزوجها، فأخبراني بأن الكتب كلها موجودة في ركن يحمل اسم عبد الفتاح الجمل بمكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك. يقول المهندس محمد سناء: «كان كمّ الكتب كبيرًا جدًا، لا يقل عن 20 أو 30 ألف كتابًا، لدرجة أن سقف الشقة في الدور الأسفل «مال» عندما أحضرنا بقية كتبه من شقته الأخرى بمصر الجديدة. كان اختيار مكتبة القاهرة الكبرى قائمًا على أنها ليس بها استعارة، فالاستعارة تضيع الكتب. أرسلت الوزارة لجنة مكوّنة من خمسة أفراد، ظلوا يأتون يوميًا لمدة ثلاثة أو أربعة شهور حتى انتهوا من تسجيل كل الكتب، وبعد الحصر وجدوا عددها كبيرًا فقالوا سنضعها في ركن خاص باسم عبد الفتاح الجمل».
***
داخل مكتبة القاهرة الكبرى، بحثتُ أولًا عن الركن الذي يحمل اسم عبد الفتاح الجمل، انطلاقًا من كلمات زوج أخته، واستنادًا على ما جاء في الخبر منسوبًا إلى وزير الثقافة حينها بأن اقتناء مكتبة الراحل «تقديرًا له» و«تخليدًا لذكرى صاحبها». لم أجد شيئًا، ووجدني نائب مدير المكتبة تائهة فسألني عما أريد، أخبرته وتلقيتُ إجابة أذهلتني قدر ما أسعدتني. قال إن كُتب الجمل موجودة بالفعل، ولحسن الحظ كان هو شابًا صغيرًا – وقتذاك – وشهد واقعة تسليمها للمكتبة، لكنها ليست في ركن يحمل اسم صاحبها، وإنما تم إدراج كل كتاب فيها حسب التخصص الذي ينتمي إليه!
حاول مشكورًا أن يساعدني بأن أتاح لي البحث على أحد أجهزة الحاسب الآلي الموجودة، مؤكدًا أنه حرص قبل تفريق الكتب على تسجيلها وكتابة جملة إلى جانبها تدل عليها، وهي (هدية من مكتبة الأديب عبد الفتاح الجمل). وجدتُ الكتب بالفعل مسجّلة هكذا، لكن عددها فقط ستمائة! في البداية تخيّلتُ أن المهندس محمد ربما بالغ بعض الشيء عندما قال إنها تزيد على عشرين ألف كتاب، إلا أن (600) عدد قليل أيضًا بالنسبة لمسيرة عبد الفتاح الجمل، وهو ما تأكدتُ منه بمرور الوقت، وفسرتُ الأمر بأن تلك – فقط – الكتب التي كان نائب المدير مسئولًا حينذاك عن تسجيلها وليست جميعها.
***
لا أعلم من صاحب قرار تفنيد الكتب، إلا أن التساؤل الذي يراودني على الدوام «أي تقدير وأي تخليد هذا؟!». الكتب محمَّلة بالأتربة وأوراقها صارت مهترئة، وهو أمر طبيعي بفعل الزمن، لكنها وُضعت في المكتبة من أجل الحفاظ عليها بوضع ملائم، لا تكديسها بما يساهم في تلفها بشكل أكبر. الأمر الآخر أنها صارت كتبًا كآلاف الكتب الموجودة في المكتبات، لن تعرف أنها تخص عبد الفتاح الجمل إلا إذا صادفتك نُسخة مهداة ووقعت عيناك على صفحتها الأولى.
ما فعلته مكتبة القاهرة الكبرى هو أنها قتلت الرجل مرة أخرى بعد وفاته، عندما ضنّت عليه بمساحة تحمل اسمه وتوضَع فيها كتبه، خاصة أن عددها كبير، ما رأيته منها فقط في القاعة الرئيسية يتعدى الألفين، بخلاف ما تلف وما تتضمنه قاعة الفنون – الخاضعة للإصلاحات! – وغيرها. تلك الكتب كانت تمثّل نصف مقتنيات المكتبة – تقريبًا – إن لم يكن أكثر، عندما تم تسليمها، إذ تحمل جميعها تاريخي ورود هما (15/11/1995) و(1/12/1995) أي بعد عشرة أشهر فقط من افتتاح المكتبة في يناير 1995.
***
واظبتُ على الذهاب إلى المكتبة مرة أسبوعيًا لما يزيد على شهرين، وفي كل مرة أتجه إلى واحدة من خزانات الكتب لأطَّلع على كل رف بما يحويه من كتب، واحدًا تلو الآخر، كي أتعرف من بينها على تلك الخاصة بعبد الفتاح الجمل، إذ لاحظتُ سماتها بعد مطالعة عدة كتب، وعلى رأسها كما ذكرت قبل قليل؛ تاريخ الورود إلى المكتبة. بالإضافة إلى حرف «ج» مكتوبًا بالقلم «الفلوماستر» الأخضر أو «الجاف» الأسود، أو أن يتضمن الكتاب ورقة بين صفحاته بها نقدٌ للعمل، وغالبيتها من مقالات «عصير الكتب» لعلاء الديب، أو ورقة بيضاء يحدد بها الصفحة التي يقرؤها، أو أن يحمل إهداءً على صفحته الأولى، يبدأ غالبًا بـ «إلى الفنان».