عبد الحميد الغرباوي - شـــــــامة.. قصة قصيرة

بكت ليلى كثيرا..
ثم ضحكت ضحكا هستيريا..

***

… و رأت ليلى … ،
رأت نفسها مطوقة برجال يؤمنون أن الأنثى ، تولد و تكبر ، و حين تنضج كتفاحة ، في بيت أبيها ، تظل تنتظر..
تنتظر اللحظة التي يأتي فيها ذكر يحملها إلى بيته..
تجلو أوانيه ، و تصبن ثيابه ، و تطهو طعامه ، وتحتضن نطفته داخل رحمها كلما أراد، لتنجب له أولادا و بنات ، إلى أن تذبل و تصفر و تسقط كورقة خريف…
و عرفت ، بحدس المرأة ، أنهم ، و هم يطوقونها ، لا يفكرون سوى في شيء واحد، شيء واحد يحرك دواخلهم ،
سواكنهم ،
و يخرجهم عن طواعيتهم ،
فجمعـت من ريقها و من صدإ قلبها ، بصقة كبيرة ، قذفت بها في وجوههم…
بحثت ، في زحمة الرجال ، عن وجه أبيها فلم تجده ، و عن وجه أخيها فرأته يقف خلف عمودين بشريين ، يختبئ محاولا عدم الوقوف أمامها ، وجها لوجه ..
صاح واحد منهم:
ـ هذه الفاسدة ، لا مبرر لوجودها بيننا بعد اليوم..
و دفعوا به إلى وسط الدائرة…
صرخت الحناجر، و ارتفعت الأيدي إلى السماء ملوحة، مهددة..
الصراخ و ارتفاع و نزول الأيدي، أصاب الأخ بهيجان ، فأخذ يشد على ثيابه ، يحاول تمزيقها، يصرخ ، مثلهم، يرفس بقدميه الأرض المتربة ، و كأنه ثور هائج ، و كل ذلك، و هو عاجز أن يصفعها أو يشدها من شعرها الأسود الغزير الطويل ، و يلقيها على الأرض، يجرجرها ، و يمرغ وجهها في التراب..
و كلما التقت عيناه بعينيها ، ترميه بنظرات تنطق بالكثير من الكلام ، فيرتد بصره وتتجمد الكلمات في حلقه …
أ ليست، هي أخته، التي احتفظت بالسر، سره مع بنت الجيران ؟ …
***
كانت ، ذلك اليوم، قد عادت ، من الثانوية ، في وقت لم يكن مقررا لها فيه أن تعود ، لو لم تتغيب أستاذة العلومل،..
سمعت صرخة مكتومة ، فأسرعت إلى بهو الضيوف، نظرت خلسة من خلف الباب الموارب، فرأته يربت على كتفيها ، شبه عارية، دامعة ، يطمئنها ، متوسلا إليها أن تستر الفضيحة ، و تصبر إلى حين تخرجه من مركز التكوين المهني ، و يدفع بطلب العمل إلى أكبر فندق في المدينة ،..
و يصبر ،..
يصبران ،..
ينتظر ،..
ينتظران ،..
ليحظى طلبه بالقبول و يعمل فيه طاهيا ، و بعد ذلك يعقد قرانه عليها…
و حين نجح أخوها في إبعاد الفضيحة من قلب الدار، وجدها ، هي أخته ، تقف أمامهما ، معلنة عن نفسها كشاهد شافَ ، لكنْ ، و لأنه أخوها ، طمأنته ،طمأنتها ، طمأنتهما،أنها شاهد “ما شافشي حاجة… ”
***
… و امتدت يد مشعرة،..
مكنت أخاها الحائر، الدائخ، من خنجر معقوف، كلما ضربت فيه خيوطُ الشمس الحارقة، انبعث من حوافه القاطعة ، بريق يعمي..
خانق …
و ارتفعت الأصوات تحثه :
” كفاك صراخا كالنساء، و أسرعْ إلى غسل العار..
ألا ترى ، أن مكانها أصبح بيننا مستحيلا..”
***
بكت ليلى كما لم تبك من قبلُ..
ماذا لو حدث كل هذا؟…
و من الطابق الخامس لعمارة في طور الاكتمال، لم تعلق بعد على بوابتها الكبيرة الألواح بأسماء المالكين، و من داخل غرفة ، من غرف شققها الفارغة، أطلت من نافذة عريضة لا تزال تنتظر إطارا و زجاجا يزينها …
كان الشارع صاخبا، يعج حركة…
انتاب ليلى، شعور بضآلة الأشياء…
بدت لها دمى صغيرةً ..
مدت ليلى يدها من النافذة ، و شرعت تلعب بالدمى كما تحب و تشاء ، تنقلها من مكان إلى آخر ، تسد عليها الطريق بأصابعها ، فتراها تحاول البحث عن ممر آخر، و ترغمها على الإسراع مرة و مرة على الإبطاء فلا تقوى على مجاراتها فتسقط متعثرة..
و رأت ليلى امرأة هيفاء ، لا يني رجل ، عن ملاحقتها و معاكستها ،..
أخذت ليلى يد المرأة و نزلت بها صفعا على خديه فولى هاربا خائبا مطعونا في كبريائه…
ابتسمت ليلى..
و استهواها أن ترى البشر و الشجر والآلة، أصغر وأضأل ، فخفت صاعدة إلى أعلى العمارة …
اقتربت من حافة السطح ، و أطلت دون رجفة أو خوف، ثم جلست، و تركت ساقيها تتدليان متأرجحتين في الفراغ..
و لأول مرة تكتشف أن أدخنة عوادم السيارات، و الموتوسيكلات ، لا تسود جدران و أشجار المدينة فحسب ، و لكن قسما كبيرا منها يصعد إلى السماء ليزرع في حناجر العصافير أوراما تخنقها و تجعلها عاجزة عن التغريد ، و أكيد أن النجوم ما عادت تنير السماء ليلا ، بسبب هذه الأدخنة، فهي التي تحجبها عن ملاقاة عشاق الليل و النجوم و القمر…
و تذكرت أغنية تتغنى بالليل و النجوم و القمر، وشرعت تدندن بلحنها ، غير مبالية بفستانها و قد رمى الهواء به إلى ما فوق الركبتين العاجيتين ، فبدا بياض الفخذين متألقا…
التقطت أذنٌ، شديدة الحساسية كردار، دندنات ليلى..
كانت الأذن ، لمخبر أحيل على المعاش، غير أن تجربته الفذة في مجال التنصت ، جعلت الدوائر المختصة تحتفظ به إلى حين إصابته بالصمم التام و البكم الشامل و العجز الذي لا ينفع معه إصلاح أو ترميم..
رفع المخبر رأسه، فشاهد ليلى تجلس على الحافة…
أثاره عريُها ،
و رغم العلو الشاهق، لحست عيناه ما تحت الفستان..
” إلهي..”
صاح متلمظا و كأنه يلحس قشدة…
و أصابه دوار ، فكاد يصدم عمود ضوء..
وقف..
” أ لم تجد هذه البلهاء مكانا أصلح للجلوس من ذاك المكان الخطر ؟..”
قال في داخله..،
و فكر لحظة في ما يمكن أن يحدث لها إذا ما هي فقدت توازنها …
و مر شابان من أمام المخبر الحائر، الذي لا يزال رافعا رأسه..
نظرا حيث ينظر..
ابتسم الأول:
ـ أكيد لونه أسود
ـ و كيف عرفت ذلك؟
ـ غالبيتهن يفضلنه أسود
ـ هذا هراء .. أنت ما زلت غرا، و لا تجربة لك مع النساء..
ـ أعرف ما لا تعرفه أيها الأحمق..
ـ و كم من النساء عرفت؟ لتخرج باستنتاجك الغريب والمدهش هذا؟..
و كاد الشاب الأول أن يخرج عن طوعه ، و يفقد السيطرة على لسانه ، و يقول له” إنهن كثيرات و أحلاهن أختك ..”
لكنه أحجم عن القول في آخر لحظة ، إذ تذكر، و هو يلثم شامة كبيرة خضراء على فخذها الأيسر،نصيحتها له بأن يكتم السر و إلا حدث لهما ما لا تحمد عقباه…
لكن المخبر سمع ما راج في صدر الشاب فصرخ في وجهه ..
” أ لم تستحي ؟..
أ هذه هي الصداقة؟…
كيف يسمح لك ضميرك خيانة صديق والكشف عن عري أخته؟..
سمع الشاب الثاني كلام المخبر ، فوقف شعر رأسه ،..
كاد يجن ..
جن..
و في اللحظة التي امتدت يده لتطبق على عنق صديقه الذي لم يبد أدنى مقاومة، هز الفضاءَ صراخ جارح، و صوت ثقيل مكتوم لجسد يرتطم بسطح سيارة رابضة على الرصيف..
هب الشابان و المخبر إلى الجسد المسجى على سقف السيارة..
كانت ليلى تلفظ أنفاسها الأخيرة و الدم ينزف من أذنيها و فمها و أنفها ، …
حاول العجوز ستر العري الذي كشفت عنه السقطة، فبدت له شامة خضراء تتوسط فخذها الأ….

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...