(1)
تنتمي هذه المقدمة إلى المقدمات الموازية للنص-حسب تقسيم عبدالكبير الخطيبي في تقديمه لكتاب عبدالفتاح كيليطو "الأدب والغرابة-دراسات بنيوية في الأدب العربي-أي أنها تخالف المقدمات التقريظية التي لا تضيف-في غالب الأحيان- شيئا إلى الكتاب المقدم-ويمكنها أن تكون فقط اشهارية أو تجارية.كما تخالف—أيضا—المقدمة النقدية التي تدخل في حوار مع الكتاب المقدم.أما المقدمة الموازية للنص التي نتبناها هنا فتكون مستقلة تماما عنه-أي النص-إنها إذن مقدمة جد غير مباشرة.هذه المقدمة مع احتفاظها بحريتها،يتحتم عليها أن توجه انتباهها للثيمات و الأسئلة المطروحة.فلا نص الكاتب يجب أن يلحق بصاحب التقييم،ولا المقدمة تعود إلى الكاتب:فكل واحد منهما يعمل لحسابه الخاص.ومن هنا فإننا لن نتحدث نقديا عن "الرحيل على صوت فاطمة" لمحمد محيي الدين بقدر ما سنحاول إثارة قضايا،وإبراز مفاتيح للخطاب الشعري السبعيني-..إذ لا تتعدى حدود الاهتمام به الإشارات المقتضبة في ثنايا الحوارات والمقالات الإشارة إلى بعض الأسماء البارزة.
ومن هنا ضرورة ما أسمته جوليا كرستيفا استكشاف الكهوف البلورية للنص حيث يتداخل ما يهبط من السقف مع ما ينبت من الأرض.
(2)
تعلن هذه المقدمة عدم براءتها إذ أنها قراءة-وبما أنه ليست هنالك قراءة بريئة،فإنها تدخل ضمن اختيار من الاختيارات المطروحة،والاختيار هنا هو اختيار الخطاب الشعري السبعيني.وهذه المقدمة صوت من أصوات الدفاع عن الخطاب الشعري السبعيني في أنصع نماذجه-يقول محمد محيي الدين في مشروع بيانه الشعري المنشور بجريدة الأيام 3-2-1984 "أعتقد أن شعراء هذا الجيل رغما عن الأسباب التي ذكرتها،ورغما عن الحصار المضروب خارجا وداخلا قد تجاوز قصيدة الستينات مبنى ومعنى،ويتمثل ذلك في أشعار عالم عباس محمد علي وأسامة الخواض"..أي أنه يقرر بروز خطاب شعري متميز أضاف لما أنجزه الخطاب الشعري الستيني الجهير الصوت-إننا لن نقع في وهم كمال الحداثة،وما أسماه أدونيس في بيان الحداثة الأوهام الخمسة للحداثة" وذلك في كتابه "فاتحة لنهايات القرن العشرين"،ونؤمِّن على ما قاله منير العكش في "أسئلة الشعر" حين قال"الحداثة استمرار وليس صيغة ثابتة،والقصيدة صورة واحدة من احتمالات الشعر،وليست كل الشعر".
(3)
(أ) يقول محمد محيي الدين في مشروع بيانه الشعري"تطوَّر شكل القصيدة بالاستفادة من المسرح"...ومن هنا طبيعة التجربة الدرامية التي أسسها بنضوج الخطاب الشعري السبعيني. أنها تمثل تعدُّد الصوت وهو كما يرى الشاعر والناقد البنيوي كمال أبو ديب في دراسته بمجلة "كلمات" العدد الثاني مارس 1984 الموسومة "الواحد-المتعدد-دراسة في الأصول التطورية للشعر الحديث" وهو أي تعدُّد الصوت "يمنح القصيدة بعدا جديدا أتفق على تسميته بالبعد الدرامي ،ويمثل انتقالا من القصيدة الغنائية إلى القصيدة الاحتدامية الدرامية"..كما "يمنح هذا التعدُّد في الصوت للقصيدة بعدا جديدا على صعيد الرؤية العربية للعالم هو تعدُّد المنظور".
(ب) بنية المكان في النص الشعري ذات بنية معقَّدة في الخطاب الشعري السبعيني-سيميولوجيا الصفحة الشعرية بتعبير لا بشري-وتخالف نظيرتها في الخطاب الشعري الستيني..أنها ترتضي قانون التدوير كما أسمته نازك الملائكة- وذلك بكل تعقيده وتعدُّد أصواته ففيه كما يرى محمد بنيس في –ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب-مقاربة بنيوية تكوينية- ففيه يزحف الأسود على الفراغ-في قانون التدوير"ويمسح الأبيض ما أمكن في الصفحة التي يكتب فيها، واستمرار الخط في هذه الحالة يمكن اعتباره خدعة للقارئ بعد أن يوهمه الشاعر بالخروج من الشعر إلى النثر" ومن هنا لا يفرق القارئ بين الشعر والنثر من الناحية البصرية" ولكن عندما يتداخل مع الإيقاع يفطن بالمتاهة التي حملها الشاعر إليه دون سابق إنذار، وهنا يهجم الشعر على النثر، والأسود يحد من مجال الأبيض،ويدخل المعلوم صلب المجهول الذي يشد القارئ إلى قلقه الدائم".
(ج) يقول محمد محيي الدين-أيضا- في مشروع بيانه الشعري "تطور شكل القصيدة بالاستفادة من المسرح،من الموروث من الأجناس الفنية الأخرى". ومن هنا دور بنية المكان في النص الشعري في تجسيم تلك الاستفادة. ومن هنا دور ما أسماه "بنيس" مستويات اللون داخل النص "ذلك أن الطباعة تدخل في إطار تشكيل النص كمكان. وفي هذا المجال سنستعمل مصطلحين مرتبطين بالطباعة..فالأسود و الأبيض هنا لا علاقة لهما بالسطر والفراغ، ولكن بحجم الخط من حيث رقته وسمكه هو الأسود، وهما مساعدان على تشكيل طبيعة المكان على اعتبار أنهما يؤثران على البعد"..هو دور الطباعة في إبراز بنية الخطاب الشعري السبعيني الذي يؤسس قانونا جديدا في الكتابة الشعرية السودانية هو قانون التدوير الذي له إرهاصات في ديوان الشعر السوداني المعاصر ولكنها لم تبلغ النضج و الطزاجة والتعقد البنيوي الذي أسسه الخطاب الشعري السبعيني، وذلك باستفادته من الكولاج، والفلاش باك، المونتاج الزماني والمكاني، ....الخ ومن هنا تناصّه مع الخطاب الشعري العربي وقطيعته مع الخطاب الشعري الستيني السوداني، وإن كان يضع في اعتباره النماذج المتطورة من ذلك الخطاب وعلى رأسها العودة إلى سنّار لمحمد عبد الحي ،وهذا رأي شخصي جدا..
(د) ما هي علاقة السؤال والجواب بين هذا الخطاب الشعري والواقع؟قرأ هذا الخطاب الشعري سؤال الواقع.وأجاب عليه في متنه الذي أسسه، ليمارس القارئ بعد ذلك قراءة أخرى لمتن الخطاب الشعري..والإجابة تندغم في فضاء القصيدة العربية الحديثة المعادية للموت.. يقول محمد محيي الدين في مشروع بيانه الشعري "باعتقادي أن القصيدة العربية الحديثة تحمل اليوم عبء الإنسان العربي بكل استلابه وقهره وغربته ولا أنسنته، وهي تحمل أيضا عبء نفسها وعبء العملية الفنية"...هذا الخطاب الشعري يؤسس في معاداته للموت النص الشعري المفتوح، ويعادي أيضا شفافية النص المتدثرة بأسمال الواقعية في أردأ نماذجها ، أنه مشروع يتعلق بمشروع الحداثة العربي- وكما يقول العكش- "كان عداء الموت من أهم معايير الحداثة، عداء الموت على مستوياته وأشكاله كافة، لا بصورته الفردية المحتومة".
*****************
*تصدّرتْ هذه المقدمة ديوان محمد محي الدين "الرحيل على صوت فاطمة"،الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر في طبعته الأولى في عام 1984.
تنتمي هذه المقدمة إلى المقدمات الموازية للنص-حسب تقسيم عبدالكبير الخطيبي في تقديمه لكتاب عبدالفتاح كيليطو "الأدب والغرابة-دراسات بنيوية في الأدب العربي-أي أنها تخالف المقدمات التقريظية التي لا تضيف-في غالب الأحيان- شيئا إلى الكتاب المقدم-ويمكنها أن تكون فقط اشهارية أو تجارية.كما تخالف—أيضا—المقدمة النقدية التي تدخل في حوار مع الكتاب المقدم.أما المقدمة الموازية للنص التي نتبناها هنا فتكون مستقلة تماما عنه-أي النص-إنها إذن مقدمة جد غير مباشرة.هذه المقدمة مع احتفاظها بحريتها،يتحتم عليها أن توجه انتباهها للثيمات و الأسئلة المطروحة.فلا نص الكاتب يجب أن يلحق بصاحب التقييم،ولا المقدمة تعود إلى الكاتب:فكل واحد منهما يعمل لحسابه الخاص.ومن هنا فإننا لن نتحدث نقديا عن "الرحيل على صوت فاطمة" لمحمد محيي الدين بقدر ما سنحاول إثارة قضايا،وإبراز مفاتيح للخطاب الشعري السبعيني-..إذ لا تتعدى حدود الاهتمام به الإشارات المقتضبة في ثنايا الحوارات والمقالات الإشارة إلى بعض الأسماء البارزة.
ومن هنا ضرورة ما أسمته جوليا كرستيفا استكشاف الكهوف البلورية للنص حيث يتداخل ما يهبط من السقف مع ما ينبت من الأرض.
(2)
تعلن هذه المقدمة عدم براءتها إذ أنها قراءة-وبما أنه ليست هنالك قراءة بريئة،فإنها تدخل ضمن اختيار من الاختيارات المطروحة،والاختيار هنا هو اختيار الخطاب الشعري السبعيني.وهذه المقدمة صوت من أصوات الدفاع عن الخطاب الشعري السبعيني في أنصع نماذجه-يقول محمد محيي الدين في مشروع بيانه الشعري المنشور بجريدة الأيام 3-2-1984 "أعتقد أن شعراء هذا الجيل رغما عن الأسباب التي ذكرتها،ورغما عن الحصار المضروب خارجا وداخلا قد تجاوز قصيدة الستينات مبنى ومعنى،ويتمثل ذلك في أشعار عالم عباس محمد علي وأسامة الخواض"..أي أنه يقرر بروز خطاب شعري متميز أضاف لما أنجزه الخطاب الشعري الستيني الجهير الصوت-إننا لن نقع في وهم كمال الحداثة،وما أسماه أدونيس في بيان الحداثة الأوهام الخمسة للحداثة" وذلك في كتابه "فاتحة لنهايات القرن العشرين"،ونؤمِّن على ما قاله منير العكش في "أسئلة الشعر" حين قال"الحداثة استمرار وليس صيغة ثابتة،والقصيدة صورة واحدة من احتمالات الشعر،وليست كل الشعر".
(3)
(أ) يقول محمد محيي الدين في مشروع بيانه الشعري"تطوَّر شكل القصيدة بالاستفادة من المسرح"...ومن هنا طبيعة التجربة الدرامية التي أسسها بنضوج الخطاب الشعري السبعيني. أنها تمثل تعدُّد الصوت وهو كما يرى الشاعر والناقد البنيوي كمال أبو ديب في دراسته بمجلة "كلمات" العدد الثاني مارس 1984 الموسومة "الواحد-المتعدد-دراسة في الأصول التطورية للشعر الحديث" وهو أي تعدُّد الصوت "يمنح القصيدة بعدا جديدا أتفق على تسميته بالبعد الدرامي ،ويمثل انتقالا من القصيدة الغنائية إلى القصيدة الاحتدامية الدرامية"..كما "يمنح هذا التعدُّد في الصوت للقصيدة بعدا جديدا على صعيد الرؤية العربية للعالم هو تعدُّد المنظور".
(ب) بنية المكان في النص الشعري ذات بنية معقَّدة في الخطاب الشعري السبعيني-سيميولوجيا الصفحة الشعرية بتعبير لا بشري-وتخالف نظيرتها في الخطاب الشعري الستيني..أنها ترتضي قانون التدوير كما أسمته نازك الملائكة- وذلك بكل تعقيده وتعدُّد أصواته ففيه كما يرى محمد بنيس في –ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب-مقاربة بنيوية تكوينية- ففيه يزحف الأسود على الفراغ-في قانون التدوير"ويمسح الأبيض ما أمكن في الصفحة التي يكتب فيها، واستمرار الخط في هذه الحالة يمكن اعتباره خدعة للقارئ بعد أن يوهمه الشاعر بالخروج من الشعر إلى النثر" ومن هنا لا يفرق القارئ بين الشعر والنثر من الناحية البصرية" ولكن عندما يتداخل مع الإيقاع يفطن بالمتاهة التي حملها الشاعر إليه دون سابق إنذار، وهنا يهجم الشعر على النثر، والأسود يحد من مجال الأبيض،ويدخل المعلوم صلب المجهول الذي يشد القارئ إلى قلقه الدائم".
(ج) يقول محمد محيي الدين-أيضا- في مشروع بيانه الشعري "تطور شكل القصيدة بالاستفادة من المسرح،من الموروث من الأجناس الفنية الأخرى". ومن هنا دور بنية المكان في النص الشعري في تجسيم تلك الاستفادة. ومن هنا دور ما أسماه "بنيس" مستويات اللون داخل النص "ذلك أن الطباعة تدخل في إطار تشكيل النص كمكان. وفي هذا المجال سنستعمل مصطلحين مرتبطين بالطباعة..فالأسود و الأبيض هنا لا علاقة لهما بالسطر والفراغ، ولكن بحجم الخط من حيث رقته وسمكه هو الأسود، وهما مساعدان على تشكيل طبيعة المكان على اعتبار أنهما يؤثران على البعد"..هو دور الطباعة في إبراز بنية الخطاب الشعري السبعيني الذي يؤسس قانونا جديدا في الكتابة الشعرية السودانية هو قانون التدوير الذي له إرهاصات في ديوان الشعر السوداني المعاصر ولكنها لم تبلغ النضج و الطزاجة والتعقد البنيوي الذي أسسه الخطاب الشعري السبعيني، وذلك باستفادته من الكولاج، والفلاش باك، المونتاج الزماني والمكاني، ....الخ ومن هنا تناصّه مع الخطاب الشعري العربي وقطيعته مع الخطاب الشعري الستيني السوداني، وإن كان يضع في اعتباره النماذج المتطورة من ذلك الخطاب وعلى رأسها العودة إلى سنّار لمحمد عبد الحي ،وهذا رأي شخصي جدا..
(د) ما هي علاقة السؤال والجواب بين هذا الخطاب الشعري والواقع؟قرأ هذا الخطاب الشعري سؤال الواقع.وأجاب عليه في متنه الذي أسسه، ليمارس القارئ بعد ذلك قراءة أخرى لمتن الخطاب الشعري..والإجابة تندغم في فضاء القصيدة العربية الحديثة المعادية للموت.. يقول محمد محيي الدين في مشروع بيانه الشعري "باعتقادي أن القصيدة العربية الحديثة تحمل اليوم عبء الإنسان العربي بكل استلابه وقهره وغربته ولا أنسنته، وهي تحمل أيضا عبء نفسها وعبء العملية الفنية"...هذا الخطاب الشعري يؤسس في معاداته للموت النص الشعري المفتوح، ويعادي أيضا شفافية النص المتدثرة بأسمال الواقعية في أردأ نماذجها ، أنه مشروع يتعلق بمشروع الحداثة العربي- وكما يقول العكش- "كان عداء الموت من أهم معايير الحداثة، عداء الموت على مستوياته وأشكاله كافة، لا بصورته الفردية المحتومة".
*****************
*تصدّرتْ هذه المقدمة ديوان محمد محي الدين "الرحيل على صوت فاطمة"،الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر في طبعته الأولى في عام 1984.