“ليست الأشياء هي ما يخيف الناس، ولكن وجهات النظر عن الأشياء: في الموت لا شيء يخيف! المخيف هو وجهات النظر التي ترى في الموت مصيراً مخيفاً”.
(إبكتيت)
الوصية القائلة بأن أكثر الأشياء التي لا تـُغتفر، في عرف الناس، هي الإختلاف في وجهات النظر، يمكن أن تصدق على العلاقات بين الأفراد، ولكنـّها تجانب الصواب إذا تعلق الأمر بالأنظمة الدنيوية، لأن تجربة هذه الأنظمة مع عنقاء السلطة برهنت على صدق الوصيـّة الأخرى القائلة بأن سرّ القوّة التي تتحكم بمصير الدنيا مستعارة من وجهة النظر التي تستخدم القوّة.
هذا يعني أن ليس ثمـّة نظام دنيوي أحقّ بالشفقة من نظام يحتقر وجهة النظر، فكيف بقمع وجهة النظر؟ هذا يعني أيضا أن الإعتراض المؤسس بطبيعته من حيثيات وجهة النظر، والحامل لهويـّة وجهة النظر، لن يكون بأي حال موقفاً مستهجناً إلا في ناموس مبلبلٍ مؤهل لأن يقرأ فيه عداوةً.
فعبارة ” وجهة نظر ” إذا حكـّمنا في شأنها فلسفة اللغة، لن تعني سوى الحضور في الموقع المواجه الذي تبدو فيه الأشياء، في وضع مخالف. وهي مخالفة ليست كامنة في طبيعة اللأشياء، ولكنها سمة كامنة في طبيعة الموقع، أي في الرؤية التي ترصد الأشياء من ذلك الموقع. وهو ما يعني أن طبيعة الأشياء التي يجري رصدها بمنظار الرؤية تبقى مستترة بنسبة خمسين بالمائةعلى الأقلّ.
فإذا شاء صاحب الرؤية أن يفوز بالنصف الباقي من المرئيّ فليس عليه أن يستبدل المنظار ولكن عليه أن يستبدل الموقع ليرى الجانب المستتر من الطبيعة المعنيّة التي لن تكون في هويّتها الأخيرة سوى: الحقيقة!
الوقوف على حقيقة المستتر هنا رهينة بوجود الرؤية المقابلة التي تلعب دور النصف المكمّل للدائرة المغلقة، هذه الدائرة التي لم تكن لتكون رديفا للربوبية في كلّ الثقافات لو لم تحتجب بنصفها الآخر عن الأنظار احتجاب الربوبية عن الأنظار، ووجهة نظر الإختلاف هي شرط لكمال الإتلاف الذي لا يدلّ هنا إلا على استكمال استحضار الحلم الخالد المتمثـّل في الحقيقة!
هذه الحقيقة التي ستظلّ بعداً مفقوداً مثيلاً للحجر الضائع في البستان الفلسفي الياباني ذي الستة عشر حجراً. فإذا آمنـّا، مع من آمن، بأن كل شيء في دنيانا هذه وسيلة بإستثناء الحقيقة التي هي وحدها الغاية، فإن الإنسان الذي يبخل بوجهة نظره في عالمنا فإنه لا يمارس الخطيئة ضد خليفة الله في الإنسان وهو الضمير فحسب، ولكنه يتآمر على السلطة الدنيوية ذاتها ليحوّلها، بهذه الروح الزهدية، من سلطة حريـّة إلى سلطة استبداديّة ! أي أنه يخون السلطة الدنيوية خيانةً تستوجب القصاص، من حيث ظنّ أنه تعمـّد الإمتناع عن الإدلاء بوجهة نظره طلباً لخلاص!
فالرأي المختلف، من هذا المنطلق، لا ينقلب عملاً مباحاً وحسب، ولكنه يصير ضرورة سيّما إذا أيقنـّا بشرعية وجوده المستعارة أصلا من ناموس الطبيعة التي قضت بألاّ يستقيم أمر على الإطلاق ما لم يخضع للجدل، لأن معجزة الحياة برمّتها لم تكن سوى تلك الرهينة المنبثقة من رحم تآلف الأضداد المتمثـّل في وحدة العناصر الأربعة.
فوجهة النظر، إذا حرّرنا العبارة من أسر الوجهة كمفهوم حميم الصلة بالمكان، وجدنا أنها مجرّد رأي مستعار من مدلول لغوي هو الرؤية . أي أنه كرؤية تبصّر. والتبصّر ليس استيعاباً مجانياً لعدسة عضوية هي العين، ولكنه بصيرة، أي تأمل . ونحن لن نفلح في إدراك حقيقة هذه اللفظة المتواضعة ما لم ننقذها من حضورها في معاجم اللغة بالإحتكام إلى سدنة الحكمة البشرية التي نصـّبتها قرينة للحقيقة منذ بارمينيدس حتى هايدغر. و لهذا، كان من الطبيعي أن نستعير الروح التأملية (كحاملة لعبء الرسالة الرؤيوية) خصال الحقيقة كسيرورة. أي كطبيعة لا دوغمائية، بل كسجيّة محوّلة. وهي مزيّة يباركها ناموس الجدل الذي أبدع أعجوبة مركـّبة إسمها الإنسان ليلقنها الدرس الرافض للجمود والقائل بوجوب استبدال وجهات النظر، لأن التنازل عن هوى النفس الأمـّارة بالسوء أفضل من الإستهانة بالمعبود الملقـّب بإسم الحقيقة، لأن التجربة أثبتت أننا كثيراً ما انتفعنا بوجهات نظر الأعداء في تدبير شؤننا الدنيوية، أكثر مما استعنا في قضاء حوائجنا بوجهات نظرنا.
و لكن إذا كان تباين وجهات النظر في وسط الجماعة البشرية جنس ثراء، فبأي حجة يمكن لهذا التباين أن يرتقي درجة في سلم الخلاف ليتحوّل إلى ما اصطلح على تسميته في أبجدية السياسة بـ”المعارضة”؟ وبصيغة أخرى: هل المعارضة مفهوم معارض حقاً، أم خطيئة اللغة السياسيّة هي التي نصّبته معارضة ليستجير بحمى ذلك المفهوم الخاطيء الذي يرى في المعارضة ضرباً من عداوة؟
كلمة” معارضة” في بيئتها المعجمية ليست موقف نفيّ يقوم به طرف ضد طرف آخر خصم، ولكنـّها “تقابل”، أو بحرف آخر، مباراة (لسان العرب). والمباراة، كما نعلم، لعبة منافسة أوّل ما تشترط حضور مبدأ النزاهة في اللعب. والإخلال بهذا المبدأ هو سرّ الريبة التي اعتدناها في العلاقة بين القطبين، وهي العنصر المهدّد بانهيار الحلف الجمعي. فأين يتجلـّى الإخلال بقواعد اللعبة؟
تسفر المباراة عن عطب في حال تغلب النفع الدنيوي على الحلم الزهدي، أي في حال الإنتصار للملكيـّة على حساب الحرّية، أو في حال التعبّد في محراب السلطة الدنيوية، بدل الأنحياز لسلطان الحقيقة الربوبية.
في هذه النقطة تتزعزع أركان العلاقة فيفقد الواجب نحو الضمير هويّته القدسية، ويبطل الكلم المؤهل لأن يصير جسداً، لينفرط عقد العهد. لا تعود المباراة منافسة نزيهة بين شريكين حميمين جمع بينهما “النفع العام”، ولكنـّها تنقلب حرباً سرية في البداية، ثمّ تتطوّر بروح الدسيسة لتصير حربا معلنة يرى فيها كل طرفٍ الخصمَ عدوّا مبينا. فالظمأ الى المنفعة يلغي الإحساس بحضور الوطن. وموت الإحساس بالوطن يميت الإحساس بالواجب بشقـّيه الدنيوي والديني. في هذا الدرك يحتكم الطرف الأقوى إلى إستخدام القمع بحجّة الدفاع عن النفس، في حين يستعير الطرف المقموع خصال ما اصطلح على تسميته في لغة العصر بـ ” الآخر”. فمن هذا” الآخر”هنا؟
الجواب:إذا قام الطرف الأقوى في المباراة بإلغاء حقّ الطرف الآخر الأضعف في القول فقد نزع عنه صفة الشراكة (المواطنة) ليخلع عليه سيماء الضحيّة. والضحية وحدها جديرة بحمل لقب “الآخر”. لماذا؟
الجواب: لأن الحرمان من البوح بوجهة النظر تدبير خطير لا ينطوي على مصادرة حريّة تعبير الشريك (المواطن) وحسب، ولكنـّه يعني مصادرة وجوده ما دمنا قد فرغنا من اليقين القائل بعدم وجود فرق بين اللغة والوجود.
وبما أن السكوت رهين نزع الألسن نهائياً، أي رهين الموت، فإن الطرف الأضعف (الذي استعار منذ الآن فصاعداً، لقباً مهيباً هو ” الآخر”) لن يكفّ عن التعبير ما لم يكفّ عن الحياة.
ونبرة التعبير عن وجهة النظر في هذا الـبٌـعْد الملتبس لا بدّ أن تبلغ في التطرّف حدها الأقصى! والتطرّف، كما نعلم، هو الأب الشرعي لظاهرة الإنحراف بكلّ أجناسه: السياسي، والاجتماعي، والديني، والإقتصادي، والأخلاقي!
في هذا البرزخ لا تعود المعارضة صمّام أمان ينفـّس عن طاقات الأمة، كما يصفها الحكيم، ولكنـّها تدفع صاحب وجهة النظر للتنصل من حلف السلم ليبحث عن منقذٍ آخر يصلح متنفساً لتصريف الطاقة المكبوتة. كما تنقلب حسن النوايا في قلب المريد المجبول بهاجس المباراة هاوية كئيبةٍ تلفظ المسوخ. فالإستهانة بالطرف المستضعف في المباراة خطيئة الأنظمة الدنيوية، لأن حكمة الإمام الغزالي تخذلها فتستسلم لمسّ إبليس بالإستكبار، بدل أن تستجيب لنداء الوصايا الأولى التي تنبّه من التفريط في بنود العقد البدْئي المعني بالأمر في أمثولة غوته عن الصوت الذي يبدو نسياً منسياً، ولكن سلطته في النهاية سلطة العدم الذي يرث الأرض ليقول كلمة الختام التي مُنِعَ من قولها طوال السيرة:
“أن تجاهر بوجهة النظر ذاك عمل شبيه بتحريك البيدق في لعبة شطرنج: البيدق معرّض لأن يهلك، ولكن في هلاكه ضمان كسب الجولة”.
الخطيئة، إذاً، ليست في المساس ببنود عقدٍ يبدو مبرماً مع البيدق، ولكنـّها في المساس ببنود العقد المبرم مع الناموس السماوي القاضي بتنصيب البيدق خليفة الله في الأرض، وتتويج اللسان خليفة الله في الإنسان، لأن الإنسان كما يقال وحده غاية، واللسان في الإنسان وحده حريّة!
(إبكتيت)
الوصية القائلة بأن أكثر الأشياء التي لا تـُغتفر، في عرف الناس، هي الإختلاف في وجهات النظر، يمكن أن تصدق على العلاقات بين الأفراد، ولكنـّها تجانب الصواب إذا تعلق الأمر بالأنظمة الدنيوية، لأن تجربة هذه الأنظمة مع عنقاء السلطة برهنت على صدق الوصيـّة الأخرى القائلة بأن سرّ القوّة التي تتحكم بمصير الدنيا مستعارة من وجهة النظر التي تستخدم القوّة.
هذا يعني أن ليس ثمـّة نظام دنيوي أحقّ بالشفقة من نظام يحتقر وجهة النظر، فكيف بقمع وجهة النظر؟ هذا يعني أيضا أن الإعتراض المؤسس بطبيعته من حيثيات وجهة النظر، والحامل لهويـّة وجهة النظر، لن يكون بأي حال موقفاً مستهجناً إلا في ناموس مبلبلٍ مؤهل لأن يقرأ فيه عداوةً.
فعبارة ” وجهة نظر ” إذا حكـّمنا في شأنها فلسفة اللغة، لن تعني سوى الحضور في الموقع المواجه الذي تبدو فيه الأشياء، في وضع مخالف. وهي مخالفة ليست كامنة في طبيعة اللأشياء، ولكنها سمة كامنة في طبيعة الموقع، أي في الرؤية التي ترصد الأشياء من ذلك الموقع. وهو ما يعني أن طبيعة الأشياء التي يجري رصدها بمنظار الرؤية تبقى مستترة بنسبة خمسين بالمائةعلى الأقلّ.
فإذا شاء صاحب الرؤية أن يفوز بالنصف الباقي من المرئيّ فليس عليه أن يستبدل المنظار ولكن عليه أن يستبدل الموقع ليرى الجانب المستتر من الطبيعة المعنيّة التي لن تكون في هويّتها الأخيرة سوى: الحقيقة!
الوقوف على حقيقة المستتر هنا رهينة بوجود الرؤية المقابلة التي تلعب دور النصف المكمّل للدائرة المغلقة، هذه الدائرة التي لم تكن لتكون رديفا للربوبية في كلّ الثقافات لو لم تحتجب بنصفها الآخر عن الأنظار احتجاب الربوبية عن الأنظار، ووجهة نظر الإختلاف هي شرط لكمال الإتلاف الذي لا يدلّ هنا إلا على استكمال استحضار الحلم الخالد المتمثـّل في الحقيقة!
هذه الحقيقة التي ستظلّ بعداً مفقوداً مثيلاً للحجر الضائع في البستان الفلسفي الياباني ذي الستة عشر حجراً. فإذا آمنـّا، مع من آمن، بأن كل شيء في دنيانا هذه وسيلة بإستثناء الحقيقة التي هي وحدها الغاية، فإن الإنسان الذي يبخل بوجهة نظره في عالمنا فإنه لا يمارس الخطيئة ضد خليفة الله في الإنسان وهو الضمير فحسب، ولكنه يتآمر على السلطة الدنيوية ذاتها ليحوّلها، بهذه الروح الزهدية، من سلطة حريـّة إلى سلطة استبداديّة ! أي أنه يخون السلطة الدنيوية خيانةً تستوجب القصاص، من حيث ظنّ أنه تعمـّد الإمتناع عن الإدلاء بوجهة نظره طلباً لخلاص!
فالرأي المختلف، من هذا المنطلق، لا ينقلب عملاً مباحاً وحسب، ولكنه يصير ضرورة سيّما إذا أيقنـّا بشرعية وجوده المستعارة أصلا من ناموس الطبيعة التي قضت بألاّ يستقيم أمر على الإطلاق ما لم يخضع للجدل، لأن معجزة الحياة برمّتها لم تكن سوى تلك الرهينة المنبثقة من رحم تآلف الأضداد المتمثـّل في وحدة العناصر الأربعة.
فوجهة النظر، إذا حرّرنا العبارة من أسر الوجهة كمفهوم حميم الصلة بالمكان، وجدنا أنها مجرّد رأي مستعار من مدلول لغوي هو الرؤية . أي أنه كرؤية تبصّر. والتبصّر ليس استيعاباً مجانياً لعدسة عضوية هي العين، ولكنه بصيرة، أي تأمل . ونحن لن نفلح في إدراك حقيقة هذه اللفظة المتواضعة ما لم ننقذها من حضورها في معاجم اللغة بالإحتكام إلى سدنة الحكمة البشرية التي نصـّبتها قرينة للحقيقة منذ بارمينيدس حتى هايدغر. و لهذا، كان من الطبيعي أن نستعير الروح التأملية (كحاملة لعبء الرسالة الرؤيوية) خصال الحقيقة كسيرورة. أي كطبيعة لا دوغمائية، بل كسجيّة محوّلة. وهي مزيّة يباركها ناموس الجدل الذي أبدع أعجوبة مركـّبة إسمها الإنسان ليلقنها الدرس الرافض للجمود والقائل بوجوب استبدال وجهات النظر، لأن التنازل عن هوى النفس الأمـّارة بالسوء أفضل من الإستهانة بالمعبود الملقـّب بإسم الحقيقة، لأن التجربة أثبتت أننا كثيراً ما انتفعنا بوجهات نظر الأعداء في تدبير شؤننا الدنيوية، أكثر مما استعنا في قضاء حوائجنا بوجهات نظرنا.
و لكن إذا كان تباين وجهات النظر في وسط الجماعة البشرية جنس ثراء، فبأي حجة يمكن لهذا التباين أن يرتقي درجة في سلم الخلاف ليتحوّل إلى ما اصطلح على تسميته في أبجدية السياسة بـ”المعارضة”؟ وبصيغة أخرى: هل المعارضة مفهوم معارض حقاً، أم خطيئة اللغة السياسيّة هي التي نصّبته معارضة ليستجير بحمى ذلك المفهوم الخاطيء الذي يرى في المعارضة ضرباً من عداوة؟
كلمة” معارضة” في بيئتها المعجمية ليست موقف نفيّ يقوم به طرف ضد طرف آخر خصم، ولكنـّها “تقابل”، أو بحرف آخر، مباراة (لسان العرب). والمباراة، كما نعلم، لعبة منافسة أوّل ما تشترط حضور مبدأ النزاهة في اللعب. والإخلال بهذا المبدأ هو سرّ الريبة التي اعتدناها في العلاقة بين القطبين، وهي العنصر المهدّد بانهيار الحلف الجمعي. فأين يتجلـّى الإخلال بقواعد اللعبة؟
تسفر المباراة عن عطب في حال تغلب النفع الدنيوي على الحلم الزهدي، أي في حال الإنتصار للملكيـّة على حساب الحرّية، أو في حال التعبّد في محراب السلطة الدنيوية، بدل الأنحياز لسلطان الحقيقة الربوبية.
في هذه النقطة تتزعزع أركان العلاقة فيفقد الواجب نحو الضمير هويّته القدسية، ويبطل الكلم المؤهل لأن يصير جسداً، لينفرط عقد العهد. لا تعود المباراة منافسة نزيهة بين شريكين حميمين جمع بينهما “النفع العام”، ولكنـّها تنقلب حرباً سرية في البداية، ثمّ تتطوّر بروح الدسيسة لتصير حربا معلنة يرى فيها كل طرفٍ الخصمَ عدوّا مبينا. فالظمأ الى المنفعة يلغي الإحساس بحضور الوطن. وموت الإحساس بالوطن يميت الإحساس بالواجب بشقـّيه الدنيوي والديني. في هذا الدرك يحتكم الطرف الأقوى إلى إستخدام القمع بحجّة الدفاع عن النفس، في حين يستعير الطرف المقموع خصال ما اصطلح على تسميته في لغة العصر بـ ” الآخر”. فمن هذا” الآخر”هنا؟
الجواب:إذا قام الطرف الأقوى في المباراة بإلغاء حقّ الطرف الآخر الأضعف في القول فقد نزع عنه صفة الشراكة (المواطنة) ليخلع عليه سيماء الضحيّة. والضحية وحدها جديرة بحمل لقب “الآخر”. لماذا؟
الجواب: لأن الحرمان من البوح بوجهة النظر تدبير خطير لا ينطوي على مصادرة حريّة تعبير الشريك (المواطن) وحسب، ولكنـّه يعني مصادرة وجوده ما دمنا قد فرغنا من اليقين القائل بعدم وجود فرق بين اللغة والوجود.
وبما أن السكوت رهين نزع الألسن نهائياً، أي رهين الموت، فإن الطرف الأضعف (الذي استعار منذ الآن فصاعداً، لقباً مهيباً هو ” الآخر”) لن يكفّ عن التعبير ما لم يكفّ عن الحياة.
ونبرة التعبير عن وجهة النظر في هذا الـبٌـعْد الملتبس لا بدّ أن تبلغ في التطرّف حدها الأقصى! والتطرّف، كما نعلم، هو الأب الشرعي لظاهرة الإنحراف بكلّ أجناسه: السياسي، والاجتماعي، والديني، والإقتصادي، والأخلاقي!
في هذا البرزخ لا تعود المعارضة صمّام أمان ينفـّس عن طاقات الأمة، كما يصفها الحكيم، ولكنـّها تدفع صاحب وجهة النظر للتنصل من حلف السلم ليبحث عن منقذٍ آخر يصلح متنفساً لتصريف الطاقة المكبوتة. كما تنقلب حسن النوايا في قلب المريد المجبول بهاجس المباراة هاوية كئيبةٍ تلفظ المسوخ. فالإستهانة بالطرف المستضعف في المباراة خطيئة الأنظمة الدنيوية، لأن حكمة الإمام الغزالي تخذلها فتستسلم لمسّ إبليس بالإستكبار، بدل أن تستجيب لنداء الوصايا الأولى التي تنبّه من التفريط في بنود العقد البدْئي المعني بالأمر في أمثولة غوته عن الصوت الذي يبدو نسياً منسياً، ولكن سلطته في النهاية سلطة العدم الذي يرث الأرض ليقول كلمة الختام التي مُنِعَ من قولها طوال السيرة:
“أن تجاهر بوجهة النظر ذاك عمل شبيه بتحريك البيدق في لعبة شطرنج: البيدق معرّض لأن يهلك، ولكن في هلاكه ضمان كسب الجولة”.
الخطيئة، إذاً، ليست في المساس ببنود عقدٍ يبدو مبرماً مع البيدق، ولكنـّها في المساس ببنود العقد المبرم مع الناموس السماوي القاضي بتنصيب البيدق خليفة الله في الأرض، وتتويج اللسان خليفة الله في الإنسان، لأن الإنسان كما يقال وحده غاية، واللسان في الإنسان وحده حريّة!