ظلّ قابيل سنوات، يعاني من مشاكل نفسية معقّدة، بعد حادثة قتله لأخيه. لم تكفّ أمّه حوّاء عن رجمه بالشتائم والدعاء عليه بالهلاك، كما أنّ أباه قاطعه نهائيّا، وقال له:
- اخرج من بيتي.
فخرج من بيت أبيه آدم مهموما، واعتزل الناس، كان يرى فيهم مجلبة للحزن واليأس، ويذكّرونه بدم أخيه.
نصحه أحدُ أحفاده، من حملة الكتب القديمة، اسمه ورقة ابن نوفل أن يذهب إلى عرّاف بابليّ.
فقال له العرّاف البابليّ:
- وضعك غريب يا سيّدي، لقد تحوّلت روحك إلى غراب يمسك في منقاره عين إنسان.
خرج قابيل من بيت العراف البابليّ، وهو يرتعش خوفا. نصحه أحدُ أحفاده من حملة الكتب الحداثية اسمه رولان بارت، أن يذهب إلى الدكتور كارل غوستاف يونغ.
قال له كارل يونغ:
- حدّق في الكرة الأرضية على مكتبي.
- أنا لا استطيع النظر في عيون ذرّيتي، إنهم يشيرون إلي بقسوة، ويقولون: هذا قاتل أخيه.
وكان قابيل لحظتها، ينظر إلى امرأة فلسطينية في القدس تبكي تحت السماء يطعنها شخص كان يبكي تحت جدار، فيختلط دمها بدمعها، ويظلّ القاتل يبكي على جدار لا يرى من خلاله السماء، ورأى رجالا في اليمن يقتلون رجالا في اليمن، ورأى شبيهه في طرابلس يقتل شبيه أخيه في طرابلس، ورأى فتاة كوردية في سوريا يغتصبها ظلّ خارج من كتب صفراء...
فأغمض قابيل عينيه، وقال:
- لا أريد أن أنظر في الكرة الأرضية يا دكتور.
تنحنح كارل غوستاف يونغ، ثمّ أدار الكرة الأرضية إلى مكان آخر غير الشرق. وقال:
- تأمّل هذه الأرض الثلجيّة البيضاء، إنه القطب الشمالي، وستكون هناك وحيدا، ولا ترى إنسانا واحدا.
حدّق قابيل في الأرض البيضاء التي تمتدّ أمامه. سهول وجبال من الجليد، قرّر للتوّ أن يستعين بتجاربه البدائية، ويبني فيها كوخا. ثمّ شعر بالبرد، فاصطاد دبّا قطبيا، ولبس جلده. ثمّ شعر بالجوع، فاصطاد فقمة، وأكل لحمها، بعد ذلك استرخى قابيل في كوخه الجليديّ، وراح يستمع إلى وقع قطرات قريبة. أطلّ من باب كوخه، فرأى الشمس أشرقت، وبدأت تذوّب القشرة الفوقية للجليد، أمتعت نفسه المناظر السحرية التي أحدثها انعكاس الشمس على الجليد، فقال:
- يا اللّٰه.
في تلك اللحظة، أطلّ عليه غرابٌ وهو يمسك في منقاره عين إنسان، فتح فمه من الذّعر، فدخل الغراب من فمه إلى أعماقه. خرج يركض فوق الجليد، يركض في الأبيض الممتدّ، ولم يكن هناك سفينة أو زلاجة أو طائرة أو حتى ناقة مجنّحة تعيده إلى أهله. ظلّ قابيل يركض فزعا في القطب الشمالي، بينما كان كارل غوستاف يونغ يمسح الغبار عن الجهة التي أمامه من الكرة الأرضية، ويقيس بإبهامه المسافة بين أوروبّا والشرق الأقصى.
سفيان رجب
(*) من مجموعته القصصية: أهل الكتاب الأحمر
- اخرج من بيتي.
فخرج من بيت أبيه آدم مهموما، واعتزل الناس، كان يرى فيهم مجلبة للحزن واليأس، ويذكّرونه بدم أخيه.
نصحه أحدُ أحفاده، من حملة الكتب القديمة، اسمه ورقة ابن نوفل أن يذهب إلى عرّاف بابليّ.
فقال له العرّاف البابليّ:
- وضعك غريب يا سيّدي، لقد تحوّلت روحك إلى غراب يمسك في منقاره عين إنسان.
خرج قابيل من بيت العراف البابليّ، وهو يرتعش خوفا. نصحه أحدُ أحفاده من حملة الكتب الحداثية اسمه رولان بارت، أن يذهب إلى الدكتور كارل غوستاف يونغ.
قال له كارل يونغ:
- حدّق في الكرة الأرضية على مكتبي.
- أنا لا استطيع النظر في عيون ذرّيتي، إنهم يشيرون إلي بقسوة، ويقولون: هذا قاتل أخيه.
وكان قابيل لحظتها، ينظر إلى امرأة فلسطينية في القدس تبكي تحت السماء يطعنها شخص كان يبكي تحت جدار، فيختلط دمها بدمعها، ويظلّ القاتل يبكي على جدار لا يرى من خلاله السماء، ورأى رجالا في اليمن يقتلون رجالا في اليمن، ورأى شبيهه في طرابلس يقتل شبيه أخيه في طرابلس، ورأى فتاة كوردية في سوريا يغتصبها ظلّ خارج من كتب صفراء...
فأغمض قابيل عينيه، وقال:
- لا أريد أن أنظر في الكرة الأرضية يا دكتور.
تنحنح كارل غوستاف يونغ، ثمّ أدار الكرة الأرضية إلى مكان آخر غير الشرق. وقال:
- تأمّل هذه الأرض الثلجيّة البيضاء، إنه القطب الشمالي، وستكون هناك وحيدا، ولا ترى إنسانا واحدا.
حدّق قابيل في الأرض البيضاء التي تمتدّ أمامه. سهول وجبال من الجليد، قرّر للتوّ أن يستعين بتجاربه البدائية، ويبني فيها كوخا. ثمّ شعر بالبرد، فاصطاد دبّا قطبيا، ولبس جلده. ثمّ شعر بالجوع، فاصطاد فقمة، وأكل لحمها، بعد ذلك استرخى قابيل في كوخه الجليديّ، وراح يستمع إلى وقع قطرات قريبة. أطلّ من باب كوخه، فرأى الشمس أشرقت، وبدأت تذوّب القشرة الفوقية للجليد، أمتعت نفسه المناظر السحرية التي أحدثها انعكاس الشمس على الجليد، فقال:
- يا اللّٰه.
في تلك اللحظة، أطلّ عليه غرابٌ وهو يمسك في منقاره عين إنسان، فتح فمه من الذّعر، فدخل الغراب من فمه إلى أعماقه. خرج يركض فوق الجليد، يركض في الأبيض الممتدّ، ولم يكن هناك سفينة أو زلاجة أو طائرة أو حتى ناقة مجنّحة تعيده إلى أهله. ظلّ قابيل يركض فزعا في القطب الشمالي، بينما كان كارل غوستاف يونغ يمسح الغبار عن الجهة التي أمامه من الكرة الأرضية، ويقيس بإبهامه المسافة بين أوروبّا والشرق الأقصى.
سفيان رجب
(*) من مجموعته القصصية: أهل الكتاب الأحمر