في أواسط الخمسينيّاتِ ، أصدرَ بدر شاكر السياب كُتَيِّباً بعنوان " مختارات من الشِعر العالميّ " ، أو نحو ذلك ، فقد بعُدَ الزمنُ ، حتى ضاقَ بنا ! على أي حالٍ ، أتذكّرُ في ما أتذكرُ أن من بين المختارات قصيدةً لجاك بريفير . كما أنني متأكدٌ تماماً من أن في " المختارات " قصيدةً للشاعر الأميركيّ إزرا باوند ، بعنوان " رسالة من زوجة تاجر النهر " . الحقُّ أن هذه القصيدة ، في نصِّها الإنجليزي ، الذي اعتمده بدرٌ في الترجمة ، هي ليست لباوند ، بل هي ترجمة باوند من اللغة اليابانية لقصيدة " لي بو " التي تمَّ نقلُها إلى هذه اللغة من أصلِها الصينيّ . لقد تصرّفَ باوند ، كما حلا له ، فقدّمَ نصّاً جميلاً ، مؤثِّراً . لكن ثمّت ملحوظات جادة حول الترجمة ، منها أن المخاطَب ، في النص الأصل ، لم يكن تاجراً ، تاجر نهرٍ ، بل كان قبطانَ نهرٍ هو اليانغتسي الجبّار ، كان المخاطَبُ River captain ، وفي متداوَلِنا في البصرة والخليجِ ، كان " نوخْذة " . ترجمةُ بدر للقصيدة ، كانت باذخةً . وقد التزمَ بالوزنِ ، كما يفعلُ ، عادةً ، المترجِمون الأدقّ احترافاً . هل انتبه أحدٌ ، ولو في السِرّ ، إلى أهمية ما فعله بدرٌ العظيمُ ؟ في ما يتّصِلُ بي : أعتقدُ أنني ظللتُ زمناً ، أردِّدُ القصيدةَ ، بل لقد حفظتُها ، عن ظهرِ قلبٍ ، كما نقول . ومن المؤكَّدِ ، أنني لم أعُدْ أحفظُ القصيدةَ عن ظهرِ قلبٍ . لكن القصيدة ظلّتْ كامنةً . هل كانت قصيدتي المعروفة : يا سالم المرزوق ، استعادةً لقصيدة لي بو ؟ يا سالم المرزوق ، خذني في السفينةِ ، في السفينةْ خُذْ مقلتي ثمناً ، سأفعلُ ما تشاء إلاّ حكاياتِ النساء ... * القصيدة الأصل ، موضع الحديث ، هي القصيدة الأولى في هذا الكتاب . * ولِدَ لي بو ، العامَ 701 في " طقماق " بقيرغيزستان الحاليّة ، لكن أسرته استقرّت في سيشوان حيث ترعرعَ. غادرَ البيت العائلي في العام 725 ، جوّابَ آفاقٍ في وادي نهر اليانغتسي ، يكتب الشِعر. في العام 742 عيّنه الإمبراطور كسوانغْ زونغْ في أكاديمية هانلين . لكنه ما لبِثَ أن طُرِدَ من البلاط الإمبراطوري . ثم دخل في خدمة الأمير يون ، الذي قاد ثورةً بعد تمرُّد آنْ لوشان في العام 755. حُبِسَ لي بو بتهمة الخيانة ، ونُفيَ ، ثم صدر عفوٌ عنه ، فعاد جوّاباً في وادي اليانغتسي. تزوّجَ أربع مرّاتٍ . وكان صديقاً للشاعر الشهير تو - فو . قضى في العام 762 مسموماً ، أو بتلَيُّفِ الكبِد . * تأثّرَ لي بو بالكونفوشيوسية ، والتاويّة بخاصة ( ترِدُ في قصائده إشاراتٌ إلى التاو ) ، كما أنه ابنٌ للطبيعةِ ، ومُحِبٌّ للكأس . كان جوّابَ آفاقٍ ، مُعْظَمَ حياته ، لا بسببٍ من فقرٍ ، بل بسببٍ من غنىً . وبالرغم من كونفوشيوسيّته ، إلاّ أن سيرتَه في صِباه ، وهو المغامرُ الحرُّ ، كانت بعيدةً عن تعاليم الكونفوشيوسية . في الصين الآن ألفٌ ومائةٌ من القصائدِ المنسوبةِ إليه . ويعتبره الصينيون ، شاعرَهم الأسمى ، حتى اليوم . قبل أيام كتبتُ إلى صديقي الصينيّ ليان ْبِن ني أُخبره باعتزامي نقل شاعرهم إلى العربية . ضحك صديقي ، قائلاً : العالَم لديه مختلفٌ تماماً عن عالم الصين الآن ... لكنه أضاف : أتعلمُ ؟ ابنتي في الروضة ، وهي تستظهرُ في هذه اللحظةِ قصيدةً من لي بو ! لندن 12.10.2014 -------------------------------------------- * المادّة مقدمة لكتاب " جِرارٌ بلونِ الذهب " الذي سيصدر عن " دار الجمل " ويضمّ مختاراتٍ من شاعر الصين لي بو Li Po |