بصراحة… أفضل أن أظل مريضًا بالمنزل.
بالطبع قد يكون المستشفى أكثر إضاءة وأكثر تحضرًا، وقد يكون الطعام هناك أفضل ويخضع لعناية أكثر، ولكن كما يقولون: لا مكان مثل البيت أبدًا.
أخذوني إلى المستشفى لإصابتي بالتيفوس. ظنت إدارة المنزل أن هذا سوف يعالج آلامي غير المحتملة. لكنهم لم يحققوا هذا الهدف، فقد أرسلوني إلى مستشفى من نوع خاص جدًا، حيث لم يكن كل شيء يسير على هواي.
يصلون بالمريض هناك ويسجلون وصوله في سجل المستشفى، ثم يقرأ المريض فجأة على الحائط: “تسليم الجثامين من الثالثة وحتى الرابعة”.
لم أكن أعرف شيئًا عن المرضى الآخرين لكن قدماي أخذتا ترتعشان عندما قرأت هذا الإعلان. الأمر الرئيسي أن درجة حرارتي كانت مرتفعة، وقد تكون حياتي بشكل عام مازالت تومض بصعوبة بالغة داخل جسدي، ثم أقرأ فجأة هذه الكلمات!
قلت للرجل الذي سجَّل دخولي:
ــ لمَ تعلقون أيها الرفيق المسعف هذه الكلمات الخشنة؟ لن ينفع المريض أن يقرأ مثل هذه الكلمات.
عند سماعه هذا تعجب المسعف، أو ذلك الـ… ماذا تدعونه بالضبط؟ وقال لي:
-غريبة! مريض يسير بصعوبة، وينفث البخار تقريبًا من فمه من فرط الحرارة، ومع ذلك مازال ينتقد كل شيء. إن شُفيت – وهو أمر مستبعد إلى حد كبير – فانتقد كما تشاء، وإلا سلمنا جثمانك فعلا بين الثالثة والرابعة كما هو مكتوب، وحينها ستتأكد من ذلك.
أردت أن أتشاجر مع هذا الرجل، ولكن نظرًا لارتفاع درجة حرارتي التي وصلت إلى 39.8 فلم أفعل ذلك. قلت له فقط:
– انتظر حتى أُشفى يا سماعة الطبيب أنت، وحينها سيتوجب عليك أن تبرر وقاحتك هذه. أيمكن أن يسمع مريض مثل هذه الكلمات؟ إن هذا يفت في عضده كاملا.
تعجب المسعف من أن مريضًا متعبًا يتحدث معه بهذه الحرية ويجادله بهذه الطريقة، فأنهى الحوار على الفور، وظهرت حينها إحدى الممرضات وقالت:
– تعال أيها المريض لننظفك.
لكنني تضايقت أيضًا من هذه الكلمات.
– الأفضل ألا تقولي هذا؛ بل تعال إلى دورة المياه. هكذا تكون الكلمة أجمل وترفع من معنويات المريض. لست جوادًا حتى تنظفوه.
قالت الممرضة:
– ألا يكفي إنه مريض! بل إنه أيضًا يدلي بكافة الملاحظات حول أدق التفاصيل. من المؤكد أنك لن تُشفى طالما تدس أنفك في كل شيء.
ثم اصطحبتني إلى دورة المياه وطلبت مني أن أخلع ثيابي.
بدأت في خلع ثيابي، وفجأة رأيت فوق محبس المياه رأسًا ما تبرز من الحائط؛ رأيت فجأة كما لو أن إحدى العجائز تجلس في حوض الاستحمام، لابد وأنها قطعًا من المرضى. قلت للممرضة:
– إلى أين تذهبون بي أيها الكلاب؟ إلى حمام السيدات؟ هناك امرأة تستحم هناك.
قالت الممرضة:
– نعم.. هناك فعلا إحدى العجائز المرضى تجلس هناك. لا تُلق إليها بالا. درجة حرارتها مرتفعة، وهي لا تتفاعل مع شيء مطلقًا. يمكنك أن تخلع ثيابك دون أدنى قلق، وفي أثناء هذا سنخرج هذه العجوز وننعشك ببعض المياه.
قلت:
– العجوز لا تتفاعل، لكني أنا الذي يمكنه أن يتفاعل! بالتأكيد لن أشعر بالراحة عندما يكون لديكم شخص ما يسبح في حوض الاستحمام هناك.
وحينها ظهر المسعف فجأة مجددًا وقال:
– إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مريضًا يصعب إرضاؤه بهذا الشكل! يقول على هذا (وقحًا) وعلى ذاك (سيئًا). عجوز أوشكت على الموت تستحم، فيشتكي، وربما تكون درجة حراراتها قد وصلت إلى أربعين، وهي لا تبالي بشيء، وترى كل شيء كما لو أنه يتساقط من منخل. على أية حال لن تجعلها رؤيتك تعيش في العالم خمس دقائق إضافية. لا… إني أفضل أن يأتي إلينا المرضى غير واعين بشيء. على الأقل لن يعترضوا على شيء، وسيرضون بكل شيء، ولن ينخرطوا معنا في أية مناقشات علمية.
وحينها تعالى صوت العجوز التي تستحم:
– حاذروا! سأخرج من المياه، وسينكشف أمامكم كل شيء.
وحينها انشغلوا مع العجوز وطلبوا مني أن أخلع ثيابي.
وبينما انخرطت في خلع ثيابي ملأوا حوض الاستحمام بالمياه الساخنة وطلبوا مني أن أجلس داخله.
ولأنهم عرفوا طبيعة شخصيتي فلم يجادلوني في شيء، وحاولوا أن يوافقوني على كل شيء. وبعد الاستحمام منحوني ثيابًا داخلية كبيرة جدًا لا تناسب حجمي على الإطلاق. قلت في نفسي إنهم لابد وقد أتوا بهذه الثياب التي لا تناسب حجمي عن عمد بدافع من خبثهم، لكني اكتشفت بعد ذلك أن هذه ظاهرة طبيعية في المكان. لديهم مرضى صغار الحجم يرتدون قمصانًا واسعة كما لو أنها القاعدة، بينما يرتدي المرضى كبار الحجم قمصانًا ضيقة.
بل ويبدو أن الثياب التي منحوني إياها أفضل من غيري، فعلامة المستشفى على القميص موجودة على الكم فقط، لذا فهي لا تفسد منظره، بينما عند الآخرين موجودة على كامل الظهر، والبعض لديهم العلامة على الصدر، وهذا أمر يهدر الكرامة الإنسانية.
ولكن في أثناء هذا كانت درجة حرارتي تواصل الارتفاع، لذا لم أعد أتجادل حول مثل هذه الأمور.
وضعوني في عنبر غير كبير الحجم، حيث يوجد فيه ما يقرب من ثلاثين مريض من مختلف الأنواع. البعض منهم كان في حالة خطرة، والبعض – على النقيض من ذلك – بدأ في التعافي، والبعض كان يُصفِّر، وآخرون يلعبون الشطرنج. كان ثلاثة منهم يتسكعون في العنبر ويقرأون بصوت عال ما هو مكتوب على الحوائط فوق رءوس المرضى. قلت للممرضة:
– قد يكونون قد أرسلوا بي إلى مستشفى مجانين، فإن كان الأمر كذلك فأخبريني. إني أذهب للمستشفيات في كل عام ولم أر شيئًا مماثلا لهذا. الهدوء والنظام في كل مكان، بينما المكان عندكم يشبه السوق.
قالت:
– ربما تود أن تطلب أن يضعوك في عنبر خاص، ويعينوا عليه الحرس حتى تطارد الذباب والبراغيث بحرية؟!
صرخت فيها طالبًا أن يأتوني بكبير الأطباء، ولكن بدلا منه ظهر ذلك المسعف فجأة مرة أخرى. كنت أشعر بالضعف الشديد، وعندما رأيته فقدت وعيي تمامًا.
لم أعد إلى وعيي إلا بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أيام على ما أعتقد. قالت الممرضة لي:
– لديك جسد صلب. لقد نجوت من كل شيء. حتى أننا وضعناك بجانب نافذة مفتوحة دون قصد، ومع ذلك بدأت صحتك في التحسن على نحو غير متوقع. أما الآن، فإن لم تلتقط عدوى من زملائك من المرضى فيمكن حقًا أن نهنئك بشفائك كاملا.
ومع ذلك لم يستسلم جسدي ثانية لأي مرض. الشيء الوحيد الذي أصابني قبل أن أغادر كان مرضًا طفوليًا؛ أصبت بالسعال.
قالت الممرضة:
– لابد وأنك التقطت العدوى من الجناح الأيمن. لدينا هناك قسم الأطفال. ولابد أنك تناولت الطعام بدون حذر بنفس الأدوات التي يستخدمها طفل مريض بالسعال، ولهذا أصابك المرض.
حسنًا… سريعًا ما تولى جسدي المقاومة، وعادت إليه الصحة مرة أخرى، ولكن عندما حان الوقت لإطلاق سراحي من المستشفى جاءتني المشاكل من كل صوب… مرضت ثانية، ولكن تلك المرة كان مرضًا عصبيًا. من جراء الضغط العصبي انتشرت على جسدي بقعًا كثيرة تشبه الطفح الجلدي. قال الطبيب:
– توقف عن الانفعال العصبي، وستُشفى بمرور الوقت.
ببساطة كنت أشعر بالانفعال لأنهم لم يطلقوا سراحي. إما أنهم نسوا، أو أن شيئًا ما حدث لا أعرفه، أو لأن أحدهم لم يأت بعد، ومن المستحيل معرفة الحقيقة. أخيرًا بدأت زوجات المرضى في التحرك، وتحطمت أنوف كافة العاملين بالمستشفى. قال المسعف:
– كنا مشغولين جدًا حتى أن الوقت لم يُتح لنا لإطلاق سراح أي مريض. الأهم من ذلك أننا لم نتأخر أكثر من ثمانية أيام، بينما تثيرون كل هذه الضجة! لدينا بعض المرضى الذين تعافوا منذ ثلاثة أسابيع ولم يُطلق سراحهم، ومع ذلك فقد صبروا.
لكنهم أطلقوا سراحي سريعًا، وعدت إلى منزلي. قالت زوجتي:
– أتعرف يا بيتيا… منذ أسبوع ظننا أنك رحلت إلى العالم الآخر، فقد جاءنا إخطار من المستشفى يقول: “بمجرد أن يصلك الإخطار يمكنك أن تأتي لاستلام جثمان زوجك”.
هرعت زوجتي إلى المستشفى، لكنهم اعتذروا لها هناك على هذا الخطأ الذي قامت به إدارة السجلات. لقد مات شخص آخر ظنوا أنه أنا. ومع أني حتى وقتنا هذا في تمام الصحة إلا أن بعض البقع الجلدية تظهر على سطح جلدي من جراء الانفعال العصبي. بشكل عام أشعر بالضيق الشديد من هذه الحادثة، وأشعر دومًا أني أريد أن أهرع للمستشفى حتى أتشاجر مع أحدهم هناك، لكني أتذكر وقتها ما يحدث هناك، ولا أذهب كما تعرفون.
أمكث في البيت الآن عندما أشعر بالمرض.
1936
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “قصص مختارة” الصادرة مؤخرًا في سلسلة إبداعات عالمية ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون ـ الكويت ـ عدد أغسطس 2018
بالطبع قد يكون المستشفى أكثر إضاءة وأكثر تحضرًا، وقد يكون الطعام هناك أفضل ويخضع لعناية أكثر، ولكن كما يقولون: لا مكان مثل البيت أبدًا.
أخذوني إلى المستشفى لإصابتي بالتيفوس. ظنت إدارة المنزل أن هذا سوف يعالج آلامي غير المحتملة. لكنهم لم يحققوا هذا الهدف، فقد أرسلوني إلى مستشفى من نوع خاص جدًا، حيث لم يكن كل شيء يسير على هواي.
يصلون بالمريض هناك ويسجلون وصوله في سجل المستشفى، ثم يقرأ المريض فجأة على الحائط: “تسليم الجثامين من الثالثة وحتى الرابعة”.
لم أكن أعرف شيئًا عن المرضى الآخرين لكن قدماي أخذتا ترتعشان عندما قرأت هذا الإعلان. الأمر الرئيسي أن درجة حرارتي كانت مرتفعة، وقد تكون حياتي بشكل عام مازالت تومض بصعوبة بالغة داخل جسدي، ثم أقرأ فجأة هذه الكلمات!
قلت للرجل الذي سجَّل دخولي:
ــ لمَ تعلقون أيها الرفيق المسعف هذه الكلمات الخشنة؟ لن ينفع المريض أن يقرأ مثل هذه الكلمات.
عند سماعه هذا تعجب المسعف، أو ذلك الـ… ماذا تدعونه بالضبط؟ وقال لي:
-غريبة! مريض يسير بصعوبة، وينفث البخار تقريبًا من فمه من فرط الحرارة، ومع ذلك مازال ينتقد كل شيء. إن شُفيت – وهو أمر مستبعد إلى حد كبير – فانتقد كما تشاء، وإلا سلمنا جثمانك فعلا بين الثالثة والرابعة كما هو مكتوب، وحينها ستتأكد من ذلك.
أردت أن أتشاجر مع هذا الرجل، ولكن نظرًا لارتفاع درجة حرارتي التي وصلت إلى 39.8 فلم أفعل ذلك. قلت له فقط:
– انتظر حتى أُشفى يا سماعة الطبيب أنت، وحينها سيتوجب عليك أن تبرر وقاحتك هذه. أيمكن أن يسمع مريض مثل هذه الكلمات؟ إن هذا يفت في عضده كاملا.
تعجب المسعف من أن مريضًا متعبًا يتحدث معه بهذه الحرية ويجادله بهذه الطريقة، فأنهى الحوار على الفور، وظهرت حينها إحدى الممرضات وقالت:
– تعال أيها المريض لننظفك.
لكنني تضايقت أيضًا من هذه الكلمات.
– الأفضل ألا تقولي هذا؛ بل تعال إلى دورة المياه. هكذا تكون الكلمة أجمل وترفع من معنويات المريض. لست جوادًا حتى تنظفوه.
قالت الممرضة:
– ألا يكفي إنه مريض! بل إنه أيضًا يدلي بكافة الملاحظات حول أدق التفاصيل. من المؤكد أنك لن تُشفى طالما تدس أنفك في كل شيء.
ثم اصطحبتني إلى دورة المياه وطلبت مني أن أخلع ثيابي.
بدأت في خلع ثيابي، وفجأة رأيت فوق محبس المياه رأسًا ما تبرز من الحائط؛ رأيت فجأة كما لو أن إحدى العجائز تجلس في حوض الاستحمام، لابد وأنها قطعًا من المرضى. قلت للممرضة:
– إلى أين تذهبون بي أيها الكلاب؟ إلى حمام السيدات؟ هناك امرأة تستحم هناك.
قالت الممرضة:
– نعم.. هناك فعلا إحدى العجائز المرضى تجلس هناك. لا تُلق إليها بالا. درجة حرارتها مرتفعة، وهي لا تتفاعل مع شيء مطلقًا. يمكنك أن تخلع ثيابك دون أدنى قلق، وفي أثناء هذا سنخرج هذه العجوز وننعشك ببعض المياه.
قلت:
– العجوز لا تتفاعل، لكني أنا الذي يمكنه أن يتفاعل! بالتأكيد لن أشعر بالراحة عندما يكون لديكم شخص ما يسبح في حوض الاستحمام هناك.
وحينها ظهر المسعف فجأة مجددًا وقال:
– إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مريضًا يصعب إرضاؤه بهذا الشكل! يقول على هذا (وقحًا) وعلى ذاك (سيئًا). عجوز أوشكت على الموت تستحم، فيشتكي، وربما تكون درجة حراراتها قد وصلت إلى أربعين، وهي لا تبالي بشيء، وترى كل شيء كما لو أنه يتساقط من منخل. على أية حال لن تجعلها رؤيتك تعيش في العالم خمس دقائق إضافية. لا… إني أفضل أن يأتي إلينا المرضى غير واعين بشيء. على الأقل لن يعترضوا على شيء، وسيرضون بكل شيء، ولن ينخرطوا معنا في أية مناقشات علمية.
وحينها تعالى صوت العجوز التي تستحم:
– حاذروا! سأخرج من المياه، وسينكشف أمامكم كل شيء.
وحينها انشغلوا مع العجوز وطلبوا مني أن أخلع ثيابي.
وبينما انخرطت في خلع ثيابي ملأوا حوض الاستحمام بالمياه الساخنة وطلبوا مني أن أجلس داخله.
ولأنهم عرفوا طبيعة شخصيتي فلم يجادلوني في شيء، وحاولوا أن يوافقوني على كل شيء. وبعد الاستحمام منحوني ثيابًا داخلية كبيرة جدًا لا تناسب حجمي على الإطلاق. قلت في نفسي إنهم لابد وقد أتوا بهذه الثياب التي لا تناسب حجمي عن عمد بدافع من خبثهم، لكني اكتشفت بعد ذلك أن هذه ظاهرة طبيعية في المكان. لديهم مرضى صغار الحجم يرتدون قمصانًا واسعة كما لو أنها القاعدة، بينما يرتدي المرضى كبار الحجم قمصانًا ضيقة.
بل ويبدو أن الثياب التي منحوني إياها أفضل من غيري، فعلامة المستشفى على القميص موجودة على الكم فقط، لذا فهي لا تفسد منظره، بينما عند الآخرين موجودة على كامل الظهر، والبعض لديهم العلامة على الصدر، وهذا أمر يهدر الكرامة الإنسانية.
ولكن في أثناء هذا كانت درجة حرارتي تواصل الارتفاع، لذا لم أعد أتجادل حول مثل هذه الأمور.
وضعوني في عنبر غير كبير الحجم، حيث يوجد فيه ما يقرب من ثلاثين مريض من مختلف الأنواع. البعض منهم كان في حالة خطرة، والبعض – على النقيض من ذلك – بدأ في التعافي، والبعض كان يُصفِّر، وآخرون يلعبون الشطرنج. كان ثلاثة منهم يتسكعون في العنبر ويقرأون بصوت عال ما هو مكتوب على الحوائط فوق رءوس المرضى. قلت للممرضة:
– قد يكونون قد أرسلوا بي إلى مستشفى مجانين، فإن كان الأمر كذلك فأخبريني. إني أذهب للمستشفيات في كل عام ولم أر شيئًا مماثلا لهذا. الهدوء والنظام في كل مكان، بينما المكان عندكم يشبه السوق.
قالت:
– ربما تود أن تطلب أن يضعوك في عنبر خاص، ويعينوا عليه الحرس حتى تطارد الذباب والبراغيث بحرية؟!
صرخت فيها طالبًا أن يأتوني بكبير الأطباء، ولكن بدلا منه ظهر ذلك المسعف فجأة مرة أخرى. كنت أشعر بالضعف الشديد، وعندما رأيته فقدت وعيي تمامًا.
لم أعد إلى وعيي إلا بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أيام على ما أعتقد. قالت الممرضة لي:
– لديك جسد صلب. لقد نجوت من كل شيء. حتى أننا وضعناك بجانب نافذة مفتوحة دون قصد، ومع ذلك بدأت صحتك في التحسن على نحو غير متوقع. أما الآن، فإن لم تلتقط عدوى من زملائك من المرضى فيمكن حقًا أن نهنئك بشفائك كاملا.
ومع ذلك لم يستسلم جسدي ثانية لأي مرض. الشيء الوحيد الذي أصابني قبل أن أغادر كان مرضًا طفوليًا؛ أصبت بالسعال.
قالت الممرضة:
– لابد وأنك التقطت العدوى من الجناح الأيمن. لدينا هناك قسم الأطفال. ولابد أنك تناولت الطعام بدون حذر بنفس الأدوات التي يستخدمها طفل مريض بالسعال، ولهذا أصابك المرض.
حسنًا… سريعًا ما تولى جسدي المقاومة، وعادت إليه الصحة مرة أخرى، ولكن عندما حان الوقت لإطلاق سراحي من المستشفى جاءتني المشاكل من كل صوب… مرضت ثانية، ولكن تلك المرة كان مرضًا عصبيًا. من جراء الضغط العصبي انتشرت على جسدي بقعًا كثيرة تشبه الطفح الجلدي. قال الطبيب:
– توقف عن الانفعال العصبي، وستُشفى بمرور الوقت.
ببساطة كنت أشعر بالانفعال لأنهم لم يطلقوا سراحي. إما أنهم نسوا، أو أن شيئًا ما حدث لا أعرفه، أو لأن أحدهم لم يأت بعد، ومن المستحيل معرفة الحقيقة. أخيرًا بدأت زوجات المرضى في التحرك، وتحطمت أنوف كافة العاملين بالمستشفى. قال المسعف:
– كنا مشغولين جدًا حتى أن الوقت لم يُتح لنا لإطلاق سراح أي مريض. الأهم من ذلك أننا لم نتأخر أكثر من ثمانية أيام، بينما تثيرون كل هذه الضجة! لدينا بعض المرضى الذين تعافوا منذ ثلاثة أسابيع ولم يُطلق سراحهم، ومع ذلك فقد صبروا.
لكنهم أطلقوا سراحي سريعًا، وعدت إلى منزلي. قالت زوجتي:
– أتعرف يا بيتيا… منذ أسبوع ظننا أنك رحلت إلى العالم الآخر، فقد جاءنا إخطار من المستشفى يقول: “بمجرد أن يصلك الإخطار يمكنك أن تأتي لاستلام جثمان زوجك”.
هرعت زوجتي إلى المستشفى، لكنهم اعتذروا لها هناك على هذا الخطأ الذي قامت به إدارة السجلات. لقد مات شخص آخر ظنوا أنه أنا. ومع أني حتى وقتنا هذا في تمام الصحة إلا أن بعض البقع الجلدية تظهر على سطح جلدي من جراء الانفعال العصبي. بشكل عام أشعر بالضيق الشديد من هذه الحادثة، وأشعر دومًا أني أريد أن أهرع للمستشفى حتى أتشاجر مع أحدهم هناك، لكني أتذكر وقتها ما يحدث هناك، ولا أذهب كما تعرفون.
أمكث في البيت الآن عندما أشعر بالمرض.
1936
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “قصص مختارة” الصادرة مؤخرًا في سلسلة إبداعات عالمية ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون ـ الكويت ـ عدد أغسطس 2018