أمين الزّاوي - ويجيء الموج امتدادًا




«كلمة:
المرأة التي تقاسمني آلام الزنزانة والمنفى والفرح و.. و.. و..
أمين


كان جسدي حورا.. عندما كان وطني القضية المرفوعة..

آتيك من مفترق قوارب الصمت مدججا بالرفض، بالسخط، باللعنة، بالحب البدوي، بالطفل الذي ينمو كسنابل القمح..

آتيك أحمل راية، ملفعا في راية، من لونها يأخذ القمر حمرة عيونه.

يخرج كل لحظة من أكوام التبن، وقيض البيارد وظل أغاني الحواتين، فارسا يمتطي فرسا دهماء.. يقرأ لأطفال العالم الثالث كف الجوع والثورة.. الحرب.. الموت.. الرحلة.. المطر.. المنفى.. العشق وأشياء لا يبوح بها سوى للأطفال.

وأنا آتيك، أوقفني هذا الصباح رجل غريب من المدينة، كان يشبه إلى حد ما (موسى) كما تحكي عنه خرافات جدتي، التي ماتت ذات شتاء، ولم تنه لي قصّة (عيشة بنت الحطاب).

سألني عن أقرب فندق يمكن له أن يقضي فيه الليلة، لم ألتفت بادئ الأمر.

لكني أيقنت أن كل فنادق مدينتنا محجوزة..

لم أجبه.. ولم أتجاهله.. حتي أني كنت أتمنى أن لا ينام في هذه الظّروف التي لا يجد فيها أين ينام.

– 2 –

كان الأطفال – قال الراوي – يلعبون في الساحة العمومية أسرعوا فجأة جهة الزقاق الذي ينزل في اتجاه سوق الأغنام والأبقار، وقفوا عند (الحلقة) كان الرجل الذي اجتمع حوله كل من في السوق من الأطفال، ما فتيء يقرأ الأكف. تقدم منه طفل من مخلفات الحرب التحريرية:

اسمك؟
لا اسم لي..

صاح الأطفال من خلفه..

بوشواطة..

في رأس الطفل أشياء كثيرة تمارس عملية الحفر بقوة. على عينيه يتمطى التعب وشبح الأكياس التي يحملها للشحن أو التفريغ.. من إحدى الشاحنات العملاقة.. تقوس ظهره، في أذته صوت المحرك والزجر والأمر والنهي.. والتاريخ.

نظر فيه العراف ثم قال:

المدن التي ركبتها – يا بني – علمتك كيف تغتال الحزن، في زمن يأتي لا ريب فيه، سوف يبعدونك عن هذا الوطن، وسوف يحاولون أن يفرسوا في غابات الحب الموحشة التي تملكها صحارئ الكآبة.

سيعلمونك في الأقبية الظلماء التي يدخلونك إليها أغانئ الرثاء، وأنت لا تحسن غناء هذه القصائد.. وعندما لا تبكي ولا تغني، سيحاولون أن يعلموك الرقص، وحين ترقص لهم كالعصفور رقصك المفضل.. سيصمتون.

الطفل كان مشدودا إلى كلام الشيخ..

من أنت حتى تقرأ أسرار هذا القلب، الذي لا يملك أما ولا أبا.
غريب أنا عن مدينتكم يا بني، لكني أسمع دائما ألحانكم تأتيني من خلف هذا الجبل العظيم. وأشار بإصبعه اليسرى إلى الشاحنة الضخمة الرابضة تنتظر الطفل تفريغها.
في زمن يأتي – أيها الشّيخ – هل سأدخل المدرسة وأتعلم كتابة الرسائل التي تحمل السلام والتحيات إلى الناس في كل مكان.. هل سأتعلم كتابة اسمي واسم أبي.. وكل الذين لم تسجل الحالات المدنية أسماؤهم في المدينة..
.. وسيأتي ذات صباح أبرد بقليل من هذا الصباح.. وستسمع فوق زنزانتك التي كتبت على جدرانها بعض حبك وبعض كفرك وبعض أشعارك وأسماء رفاقك الذي ألقي عليهم القبض معك في تلك الليلة التي مارستم فيها الحلم بقوة.. حيث تتذكر كتبك التي حجزوها، وبعض الوجوه التي تعفرت بالدم وهي تبتسم وكثيرا من الجروح التي لا تزال تسجل كل ذلك على ظهرك..

إذن فالأمر بسيط.. ستسمع أغنية فيها بحة العمال والفلاحين وفيها بريق المناجل ورائحة النساء العائدات عند القيلولة من الحصاد.. ستأتيك اللذة، وتتذكر فتاة الحي ولأول مرة ستبكي، ثم تكتب على الجدار كاذبا أنك لم تبك ثم تسمع خطوات السجان تسرع إلى الخارج، فيشدك وقع خطواته السريعة وصليل المفاتيح يتبعه..

في هذا الصباح البارد من زمن يأتي ستكون لك لحية.. تدخل فيها أصابعك، ثم تأخذ برسم وجه حبيبتك التي منعوك منها لأنك لم تكرهها ولأنك قلت فيها شعرا دون رخصة موقعة من رجال البوليس والشرطة والجمارك الواقفين كل لحظة في خطوط الحدود، ورجال المخابرات، والفقهاء والمشرعين وأهل القانون والمقدمين وكبار الجماعة والأئمة وأصحاب الأمر والنهي عن المنكر وكل أعوان المدينة.

ستحب هذه الزنزانة في هذه اللحظات كثيرا لأنك تحمل على صدرها جزء منك. وتحمل أشياء كثيرة.. تذكرك.

في اللحظة كان الطفل يفرغ نظراته المحمومة في هذا الرجل قال له:

أنت تقرأ قلبي..

تلفت (المهرج) في الجمع، كانوا شبه حيارى، مرر يده على وجهه المزروع ندبا فيها..

ينتشر الماضي أليما.

تقدم منه طفل آخر في اللحظة انتشر الرعب في عيني (الشيخ)، كان يغني:

العلامة كبيرة..

وغنى معه الأطفال، بقوة، إلا أن الطفل الأول كان صامتا..

وكان الحضور..

وكان الغياب..

– 3 –

وكان المساء.. وكنت واقفا في الأمام، اعترف لأطفال مدرسة الحي الشعبي، أسفل السوق، أن الولادات، في هذه الأزمنة عسيرة..

كان الدم الناري يعسكر في وجهة مقسمة إلى اثنين..

الجهة الأولى مقابر.

والثانية سلاسل..

– 4 –

توقفت عن فتل الكسكسي فجأة قالت:

متى تكبر وتقلع علينا الغبينة!!

في ملامحها تمدد أخطبوط العرق وتشرعت مراكب الجوع واغتالتها الذكرى:

بنت الميلود الرقيعي.. طفلة رقيقة، سأزوجها لك، إنها تحسن حلب المعز والأبقار وغناء أناشيد الجنود والشوالة..

في ذات الوقت دخل (الدراري) يحملون (شواطات) السنابل التي التقطوها منذ الصباح خلف حصادة (المعلم) أحمد، كان البعض يقول:

سأبيع (قردية) وأشتري بها نعالة عمر واحد ما لبسها في الدشرة.

قال الدري الذي لم يجمع سوى شواطة مغبرة، شاحبة السنابل:

والله ملتو لو كان خلاني نزيد نجمع، حتى انجيب خير منكم.
باينا عليك.. البارح شحال جمعت؟
قفة.. معمرة,, السبولة المخيرة لأختها.. لكن ربو أخذاها مني لدوابه للعلف..

كان الكبار يتحدثون عن ابنه (المعلم)، يقولون أنها تقرأ كثيرا وتحسن التحدث باللغة الفرنسية، وهي جميلة تتكلم مع الرجال وتسير في الشوارع..

– 5 –

توقفت سيارة الشرطة مزمرة برعب عند الباب، قفز منها اثنان مسلحان بالدم والرعب والاندفاع. وأشياء أخرى..

أنت المعزوز المدعو (بوشواطة)؟
نعم..
اطلع..

عندما كان السجان يحل له ربطة عنقه الرقيقة الوسخة وخيط حذائه وحزام خصره تفحص وجه أمه من خال المحققين الذي أحاطوا به، إلا أنه كان يبدو هادئا.. ولأول مرة كانت رائحة الحقول تشعره بوجوده الحقيقي وكانت الطفلة التي يجوع إليها في كل لحظة تسير في دمه نارا محرقة شعلة من لهب.. تحاصره من كل جهة.. كان مصروعا تغتاله قوافل الذكريات.. في الزنزانة التي قيد إليها.. يتبعه لحن رخيم.. كان.. عرف الصوت من أوله..

المهرج الشيخ.. كان.

– 6 –

الظلام.. ليس غير الظلام، ولم يتبين في الأول أي شيء يشم رائحة البول والغائط والعرق، انتابه قلق. البطانية الملقاة وسط الحجرة المنداة تبعث فيه القرف، نظر إلى الجدار، مملوءا بالتواريخ المحفورة بحمى وبقصة هذا الزمن، قوائم أسماء بالفرنسية و العربية لرجال تعاقبوا على هذه الزنزانة في أزمنة متفاوتة البعد.

تساءل:

ذاك المهرج كان يقرأ كل ما في صدري..

واسم الشيخ كان بين قائمة الجدار، ولم يدهش ذلك..

وسقطت كثير من الأسئلة التي كانت تلاحقه..

لم يكن يتسلى بقراءة الجدران، كان يقف طويلا أمام كل حرف. وعرف بعض الخطوط.

في اللحظة يأتيه الوطن عبر خيط ضوء يتيم ينزل بألم من ثقف في سقف الزنزانة.. ممتطيا صهوة المحنة كاك.. يراه يترجل مساحة العشق يملؤه..

يقف الوطن أمامه خجولا صامتا..

يسأله:

هل كنت تتعشى في خمارات البلد.. يصافحك الاقطاعيون.. لا يجيب الوطن، ثم يضيف:

هل تفهم كيف يموت العمال في ترعات المناجم.. وفي أقبية..

لا يجيب الوطن ويظل مطأطئ الرأس.. ثم يضيف:

هل قضيت ليلة دون عشاء.. أنت أو صغارك؟؟

يسكت الوطن ثم يركب الريح..

وأبكي..وأكتب ثانية على الجدار كاذبا أنني لم أبك طول حياتي..

ويأتيه الوطن ثانية في المساء.. يحكي له شيئا فقط حتى يزاح الصمت الثقيل!

وأدخل نقابات لا أعرفها، وأعرفها.. مقطعا مفزوعا تطاردني رائحة (الاقطاع) في ملاك الأجساد الطرية التي تقدم في الأماسي الجميلة..

أرمي عني الموت وأصير الموقف في أول طابور للطلاب..

عندما جاءه الوطن هذه المرة لم يتألم إلا من صورة الحبيبة التي حاصروها من كل جانب كانت تطعنه..

تذكر أنه عندما قيد إلى الزنزانة قال لها في ذلك المساء:

سنتزوج مع نزوح الربيع إلى قرانا.. وسنحمل إلى قلب الأطفال عناقيد الشمس، وستبقى ذاكرتنا بجروحها تعطينا بعدا وقوة جديدة.

أجابتني وفي كلماتها تصهل أفرسة الحب الوحشية، وتفرخ صحراء الشعر ألحان المنفى والغربة:

أنظر، هذه الغيوم تحمل على أعناقها، أشياء.. هذه فرس حمراء سيأتينا يركبها رجل ينزل بمدينتنا ذات مساء وسيسألك عن المبيت ولن تتجاهله.. وسيقرأ لك الكف في السوق الشعبية، يعلن لك عن أشياء مخيفة..

وحدثتني ليلة التي سبقت مساء القبض عن طفلنا الذي يغرد في حلمها..

– 7 –

عندما نزلت الأدراج التي تؤدي إلى الميناء.. كان الصباح رطبا تصحبني ذكرياتي وأحلامي وأشعار زوجتي التي لا تعرف الوزن، والتي سجلتها على الجدران وحفظتها.. كان طفل المحنة يشبه المحنة يحمل صندوق (كرتون) عليه علب الكبريت و(الأفراز) وأنواع السجائر الرخيصة يبيعها لعمال الميناء، يبتسم لي وجدت فيه لحن بيت من الأشعار التي حفظتها في الزنزانة، قدم لي علبة وقال:

أفراز.. أفراز.. يا بولحية..

وعندما سمحوا لي أن أتحدّث معه، لأن إقلاع الباخرة لم يحن بعد، رغم أن بعض المسافرين كانوا يتجمعون عند أحد المداخل، قلت له:

ولدت بعد.. أفراز أفراز..
كم عمرك؟
منذ كم بالتقريب؟
أتشتري السجائر.. ماعندكش حتى باش تحسن لحيتك..

تركني مسرعا يعترض الذين ينزلون الأدراج.. عندما غاب وسط الزحام ميزت صوته يقول:

المهرج.. المهرج..

البحر كان يتقيأ عبارات حزني ويحتضن أسراري.. وبعض طيور الماء كانت تغني للقادمين والراحلين، وكانت المدينة لأول مرة تبدو لي ملبدة بغيوم تشبه عيون الطفل بائع الأفراز. شاهدت (المهرج) خلفي يقتادوه هو الآخر في اتجاه مصعد خاص في الباخرة.. رأيت كفه وعرق المعصم بادية.. قالت لي الزنزانة:

لو تعلم كيف يترك الرجال الفقراء هذا الوطن لبكيت..

في الطريق عندما بدا لي ذات يوم أن أحبك.. ضحكنا كثيرا لهذه الفكرة..

قالت لي:

أن تحب في هذا الزمن فأنت مستعد للموت.. وكانت موغلة في لهب الأحزان التي تستطيل وتستدير في أهرام الامساء بوطني..

كنت واقفا بين مد الرحلة واسترجاع اللحن الذي يأكل السواعد..

وكنت تبتعدين.. تبتعدين ولم يبق لنا وقت لتآسي.. فقط سمعت قوافل الأناشيد ترحل جهة البحر المغشوش.. كنت أبحث فيهما عن طريق أدحرج منه شراع الحزن..

انتشلني صراخ طفل عربي.. عرفته بسمرته وأوساخه وحلم إلى الخبزة، فتساءلت عن مصاعد المحنة في أهداب أمه.. أدركت الساعة أن طريق البحر مسكون.. مشحون بعواصف اللعنة..

يقيأت كفري.. أغرقني عشق الزنزانة في اللحظة.

وحتى بعيدا كنت أمارس طقوس الحب مصلوبا على الخشبة.

عندما عدت إليك من أدغال المنفى منعوني أن أكون صابونا أو خبزا أو رغوة ولكنهم لم يمنعوني أن أكون حلما.. وكنت الصحراء والشعر وعنترة..

كانت تتراءى لي نوافذ مفتوحة يتسلقها نور في عصر المنفى.. كنت أصرخ في الأحياء الشعبية المنسية وأصقاع اللذة.

– 8 –

في نوع من الاستشراق والتبصر كان المهرج يجمع لوازمه، ثم يغادر (رحبة) السوق.

يتسابق الصغار في الطريق الضيق الذي ينزل إلى الحي، لكن الطفل الذي قرأ له الكف كان يسير بطئ الخطو حزينا..

سأله أحد الدراري ضاحكا:

نخاف – كما قال المهرج – أن يأتي اليوم الذي لا ريب فيه فيبعدونك عن.. الوطن.. عن الحارة.. عنا.. عنها.. وتنتهي كل ألعابنا.

لم يجبه لكنه كان يبدو صامتا أكثر من اللازم..»



* الحي الجامعي المتطوع، في 9-12-1978

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- قصّة «ويجيء الموج امتداداً» كتبها أمين الزّاوي قبل حوالي أربعين عاماً، وهو طالب، في مطلع العشرينيات من العمر، في سنواته الأولى في الجامعة، قبل أن يتمّ الليسانس، ثم الماجيستر، والدكتوراه في دمشق، ثم يكرّس اسمه كواحد من ألمع المبدعين.

** عن موقع نفحة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...