قال الصمّة بن عبدالله بن طفيل بن الحرث بن قرّة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب:
حننتَ إلى ريّا ونفسُكّ باعدتْ / مزارَكَ مِنْ ريّا وشعباكما معا
فما حسنٌ أنْ تأتيّ الأمرَ طائعا / وتجزعَ أنْ داعي الصبابةِ أَسمعا
قفا ودّعا نجدا ومَنْ حلَّ بالحِمى / وقلّ لنجدٍ عندنا أنْ يُودَّعا
بنفسيَ تلكَ الأرضُ ما أطيبَ الرُّبا / وما أخسنَ المُصْطافَ والمُتربّعا
وليستْ عشيّاتُ الحِمى برواجعٍ / عليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تدْمعا
ولمّا رأيتُ البِشْرَ أعرضَ دونَنا / وحالتْ بناتُ الشوق يحْنِنَّ نُزَّعا
بكتْ عينيَ اليُسرى فلمّا زجرتُها / عنِ الجهلِ بعدَ الحِلم أسْبلتا معا
تلفتُّ نحوَ الحيّ حتّى وجدتُني / وجعتُ من الإصغاءِ لِيتا وأَخْدعا
وأذكرُ أيّام الحمى ثمّ أنْثني / على كبِدي منْ خشيةٍ أنْ تَصّدّعا
ما خلوتُ بنفسي مرّة إلا أخذتْ هذه الأبيات تتصادى في داخلي. وأنا أحفظها غيبا طبعا، لكنني لا أهتدي عادة إلى ترتيب أبياتها بعد البيتين الأوّل والثاني. تفتتح هذه الأبيات باب النسيب في حماسة أبي تمّام الشهيرة. يقولون إنّه كان شاعرا في اختياره حماسته أكثر منه شاعرا في الشعر من تأليفه. وهذه من مبالغاتهم طبعا، لكنّها تبيّن قيمة هذه المختارات الرفيعة.
اعتمدتُ في اختيار الأبيات التسعة فوق، على حماسة أبي تمّام، كما أسلفتُ، ولكنّها ترِد في مراجع أخرى كثيرة: مرّة في قصيدة من 23 بيتا، ومرّة في قصيدة أخرى تزيد عن أربعين! مع ذلك تظلّ هذه الأبيات، التي اختارها أبو تمّام، أجمل ما في القصيدة المذكورة. لكنّي عجبتُ أن أسمع الرحابنة يضيفون إليها بيتا آخر: كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما / حرامٌ على الأيّام أنْ نتجمّعا. وهو بيت جميل طبعا، لكنّه لا ينسجم، في أذني وفكري، مع الأبيات الأخرى، ولعلّه السبب لعدم ذكره في الحماسة أيضا!
يصف أبو تمّام صاحبَ الأبيات هذه بأنّه " كان شريفا ناسكا عابدا غزِلا شاعرا مقلّا من شعراء الدولة الأمويّة .." . ولا مجال إلى الشكّ في تقييم أبي تمّام للشاعر وقصيدته طبعا. وأنا لم أقرأ يوما وصف شاعر أنّه "كان مُقلّا" إلا استبشرتُ خيرا بجودة الأبيات تلك، وإلا ما كانت هذه الأبيات لتبقى على الأيّام، رغم أنّ صاحبها "كان مُقلّا!
أمّا "الحكاية" في مناسبة هذه الأبيات فلنا أن نقبلها أو نرفضها. ذلك أنّ "مناسبات" كثيرة يؤلّفونها بعد اشتهار الأبيات، حتّى في الدولة الأمويّة، لتكون "خلفيّة" تعين القارئ على فهم الأبيات. فلعلّ الحكاية الواردة هنا أيضا، عن تجبّر عمّ الشاعر به، بفرض "المعاجز" عليه لقبوله تزويجه ريّا، ما دفعه إلى ترك وطنه - لعلّها من هذا النوع أيضا!
إذا كانوا، في المعايير الكلاسيكيّة، يجعلون شعر الحبّ أنواعا، من نسيب وغزل وتشبيب، فنحن هنا حيال تسعة أبيات من البحر الطويل، أكثر البحور شيوعا في الشعر الكلاسيكي، في النسيب طبعا، أو الحبّ المعذّب، يصف فيه الشاعر" تصرّف هواها به وحبّها"، بأسلوب الحبّ "المحبَط"، بمفاهيمنا نحن. أو الحبّ من غير أمل كما تقول الأغنية الشهيرة.
في البيتين الأوّل والثاني، يعترف الشاعر إذ يخاطب نفسه فيهما، بأنّه كان المذنب في ابتعاده عن محبوبته ريّا. لذا فهو لا يوجّه لومه إلّا إلى نفسه. ولوم الذات أمضّ أنواع اللوم.
يلاحظ أيضا تكرار اسم المحبوبة ريّا في البيت الأوّل مرّتين، كأنّما تكرار اسمها يشفي جروحه. والشاعر يلوم نفسه أنّه السبب في ابتعاده عنها، كما أسلفنا، بينما كانا قبلا في القبيلة ذاتها يراها وتراه، على الأقلّ.
ويختتم الشاعر البيت بقافية العين المفتوحة، ملتزما هذا الرويّ في الأبيات كلّها طبعا. وهو رويّ لا يكاد يختلف عن صوت البكاء العالي، عا.. عا.. يتردّد على امتداد القصيدة كلّها. كأنّما هذه القافية صوت البكاء الكسير في كلّ بيت منها.
يضاف أخيرا أنّ الشعب في هذا السياق، " وشعباكما معا"، تعني القبيلة، لا الأمّة nation) ) كما صارت دلالتها بعد ظهور القوميّات في عصرنا الحاضر.
في البيت الثالث، "قفا ودّعا نجدا.. " لا بدّ من الوقوف على خطاب المثنى بالذات. وهي قضيّة لغويّة أسلوبيّة شغلت المفسّرين طويلا. ولعلّ امرأ القيس هو أوّل من أخذ بهذا الخطاب، حين بدأ معلّقته بقوله "قفا نبكِ..". وفي رأينا أنّه بدأ خطابا للواحد مختوما بالأف، كما في مطلع قصيدة المتنبي " بادٍ هواكّ صبرتَ أو لم تصبرا .. " وإذ جاء الشعراء بعد ذلك انصرفوا إلى مخاطبة المثنّى في مطالع كثيرة لاحقة!
في هذا البيت لا بدّ من الوقوف أيضا على " نجد" التي تتكرّر مرّتين - قفا ودّعا نجدا.. وقلّ لنجد عندنا .. - وهي المنطقة الداخليّة في جزيرة العرب، في السعوديّة اليوم: الحجاز ونجد. وقد وردتْ في سياقات التشوّق إلى الوطن غير مرّة في الشعر الكلاسيكي: " تمتّع من شميم عرار نجد / فما بعد العشيّة من عرارِ، ألا يا حبّذا نفحات نجد / وريّا روضه بعد القطار، وأهلك إذ يحلّ الحيّ نجدا .." حتّى غدتْ في الشعر القديم كأنّما هي رمز للوطن أو الأهل؛ ما جعل الشعراء المعاصرين أيضا يوردون "نجد" في السياق ذاته. يقول البارودي متشوّقا لوطنه مصر يوم كان منفيّا في جزيرة سرنديب / سيلان : أشتاق نجدا وساكنيه / وأين مني الغداةَ نجدُ. كما وردت نجد هذه في قصائد البياتي الفلسطينيّة، رمزا لفلسطين السليبة: قالوا: "تمتّع من شميم،/ عرار نجدٍ، يا رفيقْ"/ فبكيتُ من عاري:/ فما بعدَ العشيّة من عرارْ. أرأيتّ كيف غدتْ نجد قناعا للوطن حتّى عند الشعراء من عصرنا الحاضر؟!
نأتي بعد ذلك إلى البيتين الرابع والخامس، وكلاهما في حبّ الوطن. كأنّما نسي الشاعر ريّا وانصرف إلى الحبّ الآخر، حبّ الحمى، أو حبّ الوطن بلغتنا نحن اليوم. يلاحظ في البيت الخامس أيضا تكرار ما يسميه رجال النحو التعجّب مرّتين: ما أطيب الربا، ما أحسن المصطاف والمتربَّع! ثمّ يأتي البيت الخامس لتأكيد زوال الأيّام الطيّبة تلك دون رجعة، مؤكّدا ذلك بالنفي وبالحرف الزائد "برواجعٍ". فلم يعدْ من حيلة للشاعر سوى جريان دمعه من العينين عجزا وأسفا! وفي آخر البيت قضيّة نحويّة، أو ما يسمّيه النحاة عادة " جزم المضارع في جواب الطلب" – خلِّ عينيكَ تدمعا.
في البيتين السادس والسابع عودة إلى وصف الخروج من الوطن، وقيام الجبل "بشر" حاجبا للرؤية الورائيّة، ما أثار الحنين والشوق في نفسه. والبيت السابع بعده صورة شعريّة رائعة: كأنّما بكتْ العين اليسرى، وإذ لامها على فعلتها هذه بكت العينان معا! وهي صورة شعريّة لافتة، لكنّ المفسّرين "الحَرْفيّين" جعلوا الشاعر أعور، ليستقيم المعنى في البيت حرفيّا!
لا ننسَ أخيرا في البيت السابع مفهومي الجهل والحِلم. وكانوا في أيّام مضتْ يفسّرون الجهل ، والجاهليّة أيضا، بمعنى عدم المعرفة، كأنّما العصر الجاهلي سُمّي بهذا الاسم لأنّهم في العصر ذاك لم يعرفوا العلم؛ أو لم يعرفوا القراءة والكتابة. حتّى كتب جولدسيهر مقالته الشهيرة، مؤكّدا بالأمثلة الكلاسيكيّة، النثريّة والشعريّة، أنّ الجهل هو عكس الحِلم أيضا. فإذا كان الحلم يعني الأناة وسعة الصدر، فالجهل عكسها؛ أي التصرّف الغريزي و"العنتريّة" بالذات! وفي هذا البيت هنا اعتبر الشاعر البكاء جهلا، والصمود وضبط النفس حِلمًا.
في البيت الثامن وصف حسّي رائع لما يتركه الالتفات الدائم إلى الوراء من ألم، أو تشنّج بلغة اليوم، في عروق العنق, ولا أذكر الناقد الذي أعجبه هذا البيت جدّا، فجعله خيرا من قصيدة كاملة!
أمّا البيت التاسع والأخير فيعود فيه الشاعر إلى أثر الذكريات التي تعود بالشاعر إلى الأيّام الماضية البعيدة، حتّى تكاد كبده تتشقّق. ولعلّ من المفيد هنا أنّ الكبد غالبا ما ترِد بالذات في سياق الأسى والأوجاع. كأنّما الكبد هي موضع الآلام والشكوى، لا القلب!
تكاد هذه الأبيات القليلة تضمّ كلّ المعاني التي تتردّد في وصف ألم الفراق والمعاناة في شعر النسيب الكلاسيكي!
حننتَ إلى ريّا ونفسُكّ باعدتْ / مزارَكَ مِنْ ريّا وشعباكما معا
فما حسنٌ أنْ تأتيّ الأمرَ طائعا / وتجزعَ أنْ داعي الصبابةِ أَسمعا
قفا ودّعا نجدا ومَنْ حلَّ بالحِمى / وقلّ لنجدٍ عندنا أنْ يُودَّعا
بنفسيَ تلكَ الأرضُ ما أطيبَ الرُّبا / وما أخسنَ المُصْطافَ والمُتربّعا
وليستْ عشيّاتُ الحِمى برواجعٍ / عليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تدْمعا
ولمّا رأيتُ البِشْرَ أعرضَ دونَنا / وحالتْ بناتُ الشوق يحْنِنَّ نُزَّعا
بكتْ عينيَ اليُسرى فلمّا زجرتُها / عنِ الجهلِ بعدَ الحِلم أسْبلتا معا
تلفتُّ نحوَ الحيّ حتّى وجدتُني / وجعتُ من الإصغاءِ لِيتا وأَخْدعا
وأذكرُ أيّام الحمى ثمّ أنْثني / على كبِدي منْ خشيةٍ أنْ تَصّدّعا
ما خلوتُ بنفسي مرّة إلا أخذتْ هذه الأبيات تتصادى في داخلي. وأنا أحفظها غيبا طبعا، لكنني لا أهتدي عادة إلى ترتيب أبياتها بعد البيتين الأوّل والثاني. تفتتح هذه الأبيات باب النسيب في حماسة أبي تمّام الشهيرة. يقولون إنّه كان شاعرا في اختياره حماسته أكثر منه شاعرا في الشعر من تأليفه. وهذه من مبالغاتهم طبعا، لكنّها تبيّن قيمة هذه المختارات الرفيعة.
اعتمدتُ في اختيار الأبيات التسعة فوق، على حماسة أبي تمّام، كما أسلفتُ، ولكنّها ترِد في مراجع أخرى كثيرة: مرّة في قصيدة من 23 بيتا، ومرّة في قصيدة أخرى تزيد عن أربعين! مع ذلك تظلّ هذه الأبيات، التي اختارها أبو تمّام، أجمل ما في القصيدة المذكورة. لكنّي عجبتُ أن أسمع الرحابنة يضيفون إليها بيتا آخر: كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما / حرامٌ على الأيّام أنْ نتجمّعا. وهو بيت جميل طبعا، لكنّه لا ينسجم، في أذني وفكري، مع الأبيات الأخرى، ولعلّه السبب لعدم ذكره في الحماسة أيضا!
يصف أبو تمّام صاحبَ الأبيات هذه بأنّه " كان شريفا ناسكا عابدا غزِلا شاعرا مقلّا من شعراء الدولة الأمويّة .." . ولا مجال إلى الشكّ في تقييم أبي تمّام للشاعر وقصيدته طبعا. وأنا لم أقرأ يوما وصف شاعر أنّه "كان مُقلّا" إلا استبشرتُ خيرا بجودة الأبيات تلك، وإلا ما كانت هذه الأبيات لتبقى على الأيّام، رغم أنّ صاحبها "كان مُقلّا!
أمّا "الحكاية" في مناسبة هذه الأبيات فلنا أن نقبلها أو نرفضها. ذلك أنّ "مناسبات" كثيرة يؤلّفونها بعد اشتهار الأبيات، حتّى في الدولة الأمويّة، لتكون "خلفيّة" تعين القارئ على فهم الأبيات. فلعلّ الحكاية الواردة هنا أيضا، عن تجبّر عمّ الشاعر به، بفرض "المعاجز" عليه لقبوله تزويجه ريّا، ما دفعه إلى ترك وطنه - لعلّها من هذا النوع أيضا!
إذا كانوا، في المعايير الكلاسيكيّة، يجعلون شعر الحبّ أنواعا، من نسيب وغزل وتشبيب، فنحن هنا حيال تسعة أبيات من البحر الطويل، أكثر البحور شيوعا في الشعر الكلاسيكي، في النسيب طبعا، أو الحبّ المعذّب، يصف فيه الشاعر" تصرّف هواها به وحبّها"، بأسلوب الحبّ "المحبَط"، بمفاهيمنا نحن. أو الحبّ من غير أمل كما تقول الأغنية الشهيرة.
في البيتين الأوّل والثاني، يعترف الشاعر إذ يخاطب نفسه فيهما، بأنّه كان المذنب في ابتعاده عن محبوبته ريّا. لذا فهو لا يوجّه لومه إلّا إلى نفسه. ولوم الذات أمضّ أنواع اللوم.
يلاحظ أيضا تكرار اسم المحبوبة ريّا في البيت الأوّل مرّتين، كأنّما تكرار اسمها يشفي جروحه. والشاعر يلوم نفسه أنّه السبب في ابتعاده عنها، كما أسلفنا، بينما كانا قبلا في القبيلة ذاتها يراها وتراه، على الأقلّ.
ويختتم الشاعر البيت بقافية العين المفتوحة، ملتزما هذا الرويّ في الأبيات كلّها طبعا. وهو رويّ لا يكاد يختلف عن صوت البكاء العالي، عا.. عا.. يتردّد على امتداد القصيدة كلّها. كأنّما هذه القافية صوت البكاء الكسير في كلّ بيت منها.
يضاف أخيرا أنّ الشعب في هذا السياق، " وشعباكما معا"، تعني القبيلة، لا الأمّة nation) ) كما صارت دلالتها بعد ظهور القوميّات في عصرنا الحاضر.
في البيت الثالث، "قفا ودّعا نجدا.. " لا بدّ من الوقوف على خطاب المثنى بالذات. وهي قضيّة لغويّة أسلوبيّة شغلت المفسّرين طويلا. ولعلّ امرأ القيس هو أوّل من أخذ بهذا الخطاب، حين بدأ معلّقته بقوله "قفا نبكِ..". وفي رأينا أنّه بدأ خطابا للواحد مختوما بالأف، كما في مطلع قصيدة المتنبي " بادٍ هواكّ صبرتَ أو لم تصبرا .. " وإذ جاء الشعراء بعد ذلك انصرفوا إلى مخاطبة المثنّى في مطالع كثيرة لاحقة!
في هذا البيت لا بدّ من الوقوف أيضا على " نجد" التي تتكرّر مرّتين - قفا ودّعا نجدا.. وقلّ لنجد عندنا .. - وهي المنطقة الداخليّة في جزيرة العرب، في السعوديّة اليوم: الحجاز ونجد. وقد وردتْ في سياقات التشوّق إلى الوطن غير مرّة في الشعر الكلاسيكي: " تمتّع من شميم عرار نجد / فما بعد العشيّة من عرارِ، ألا يا حبّذا نفحات نجد / وريّا روضه بعد القطار، وأهلك إذ يحلّ الحيّ نجدا .." حتّى غدتْ في الشعر القديم كأنّما هي رمز للوطن أو الأهل؛ ما جعل الشعراء المعاصرين أيضا يوردون "نجد" في السياق ذاته. يقول البارودي متشوّقا لوطنه مصر يوم كان منفيّا في جزيرة سرنديب / سيلان : أشتاق نجدا وساكنيه / وأين مني الغداةَ نجدُ. كما وردت نجد هذه في قصائد البياتي الفلسطينيّة، رمزا لفلسطين السليبة: قالوا: "تمتّع من شميم،/ عرار نجدٍ، يا رفيقْ"/ فبكيتُ من عاري:/ فما بعدَ العشيّة من عرارْ. أرأيتّ كيف غدتْ نجد قناعا للوطن حتّى عند الشعراء من عصرنا الحاضر؟!
نأتي بعد ذلك إلى البيتين الرابع والخامس، وكلاهما في حبّ الوطن. كأنّما نسي الشاعر ريّا وانصرف إلى الحبّ الآخر، حبّ الحمى، أو حبّ الوطن بلغتنا نحن اليوم. يلاحظ في البيت الخامس أيضا تكرار ما يسميه رجال النحو التعجّب مرّتين: ما أطيب الربا، ما أحسن المصطاف والمتربَّع! ثمّ يأتي البيت الخامس لتأكيد زوال الأيّام الطيّبة تلك دون رجعة، مؤكّدا ذلك بالنفي وبالحرف الزائد "برواجعٍ". فلم يعدْ من حيلة للشاعر سوى جريان دمعه من العينين عجزا وأسفا! وفي آخر البيت قضيّة نحويّة، أو ما يسمّيه النحاة عادة " جزم المضارع في جواب الطلب" – خلِّ عينيكَ تدمعا.
في البيتين السادس والسابع عودة إلى وصف الخروج من الوطن، وقيام الجبل "بشر" حاجبا للرؤية الورائيّة، ما أثار الحنين والشوق في نفسه. والبيت السابع بعده صورة شعريّة رائعة: كأنّما بكتْ العين اليسرى، وإذ لامها على فعلتها هذه بكت العينان معا! وهي صورة شعريّة لافتة، لكنّ المفسّرين "الحَرْفيّين" جعلوا الشاعر أعور، ليستقيم المعنى في البيت حرفيّا!
لا ننسَ أخيرا في البيت السابع مفهومي الجهل والحِلم. وكانوا في أيّام مضتْ يفسّرون الجهل ، والجاهليّة أيضا، بمعنى عدم المعرفة، كأنّما العصر الجاهلي سُمّي بهذا الاسم لأنّهم في العصر ذاك لم يعرفوا العلم؛ أو لم يعرفوا القراءة والكتابة. حتّى كتب جولدسيهر مقالته الشهيرة، مؤكّدا بالأمثلة الكلاسيكيّة، النثريّة والشعريّة، أنّ الجهل هو عكس الحِلم أيضا. فإذا كان الحلم يعني الأناة وسعة الصدر، فالجهل عكسها؛ أي التصرّف الغريزي و"العنتريّة" بالذات! وفي هذا البيت هنا اعتبر الشاعر البكاء جهلا، والصمود وضبط النفس حِلمًا.
في البيت الثامن وصف حسّي رائع لما يتركه الالتفات الدائم إلى الوراء من ألم، أو تشنّج بلغة اليوم، في عروق العنق, ولا أذكر الناقد الذي أعجبه هذا البيت جدّا، فجعله خيرا من قصيدة كاملة!
أمّا البيت التاسع والأخير فيعود فيه الشاعر إلى أثر الذكريات التي تعود بالشاعر إلى الأيّام الماضية البعيدة، حتّى تكاد كبده تتشقّق. ولعلّ من المفيد هنا أنّ الكبد غالبا ما ترِد بالذات في سياق الأسى والأوجاع. كأنّما الكبد هي موضع الآلام والشكوى، لا القلب!
تكاد هذه الأبيات القليلة تضمّ كلّ المعاني التي تتردّد في وصف ألم الفراق والمعاناة في شعر النسيب الكلاسيكي!
سليمان جبران - شعر النسيب في أبيات: بنفسيَ هذي الأرصُ ما أطيبّ الربا وما أحسنَ المصطافَ والمتربَّعا!
سليمان جبران - شعر النسيب في أبيات: بنفسيَ هذي الأرصُ ما أطيبّ الربا وما أحسنَ المصطافَ والمتربَّعا!
www.ahewar.org