قيل حينذاك إنها رأت صورتها في الماء، فانبهرت بها، ثم ارتمت في النهر، وغاصت في أعماقه رغبة في معانقة الصورة التي هي صورتها.
وقيل أيضا إن عيشة قنديشة حينما رأتها استولى عليها جمالها، ولم تقدر على مقاومة نيران الغيرة فاختطفتها..
وقيل أيضا إن "سبو" تعود على تلقي القرابين كل سنة، ولا يرضى بها إلا ثمينة وجميلة حتى يجود بالخير، ولم يكن هناك من قربان أثمن وأجمل من نرجس في تلك السنة ..
(...................)
"كأنها انشودة فرت من شفاهنا
أو رذاذ جميل محاه الهجير
مرت كصباح العيد مسرعة
غير عابئة بفرحنا الصغير
كالسلوى ذابت
فبكى الفصل
وهاجت الدمعات..."
هكذا أبن أحدنا نرجس التي حفرت لنفسها قبرا في الماء، ومضت بعيدا في غياهب الغياب، لم تنتظر حتى تستظهر سورة الرحمن وجدول الضرب ولا حتى نعرض المسرحية التي كانت هي بطلتها، استعجلت الرحيل، وحفرت غيابا عميقا في الصدور.
غابت، ومرت على غيابها سلسلة شاهقة من الزمن لكنها عادت، لتطل من نافذة حلم غريب، رأيته ذات ليلة شتوية موشحة بأكاليل المطر.
رأيتها تلبس خليطا من الألوان: فرح وحزن، قر وحر، صخب وهدوء، نار وماء، ري وجفاف، موت وحياة، وتجر خلفها بساتين يتعايش فيها النرجس والياسمين وشقائق النعمان.. لم يسبق لي أن رأيتها على شاشة الحلم، غابت منذ كنت طفلا (ألم أعد كذلك؟ !) ابتلعها النهر فجأة، كنا في رحلة دراسية (يخيل إلي) وانطلقنا نعدو بجانب المويجات الهادئة، أحيانا كنا نقترب منها كثيرا، ونغرف حفنات المياه، ونرش بعضنا، ويخيل إلي أن نرجس أرادت فعل ذلك فسرقها النهر..
ياه، كم يبدو ذلك الأصيل بعيدا بعيدا !
بدأ جميلا، وكانت الوجوه أجمل منه، لكنه انتهى حزينا
وتاهت الوجوه في فيافي الأحزان بلا بوصلات..
رحلت نرجس على هودج الخرير، فهطل الذهول غزيرا، وفاضت به الضفاف، غابت، وظلت الألسن تسبح في يم غيابها المفاجئ، تدفقت الحكايات غزيرة من هنا وهناك، وظللنا نحن الأطفال أصدقاء نرجس في الدراسة نواجه هذا القيل والقال بصمت سميك، وخوف رهيب، وتيه مجرد من الشواطئ..
بدت في الحلم شاسعة العينين، على خدها تفاح، وفي ثغرها عسل، وعلى صدرها زهر الرمان يتفتح، وفي ضفيرتها يكر سرب من الأفراس المجنونة..
وقفت أمامي، وقالت: أنا نرجس.. !
انفلتت بصعوبة من موج الدهشة التي ابتلعتني، ثم قلت فيها شعرا نسيته بعد اليقظة.. فاجأني وقوفها، لم أكن انتظر أن يأخذني ذلك النوم العميق نحو طيف نرجس، فأراها وأقول فيها شعرا، لعله أشبه بشعر أهل الأندلس القدامى.
قالت إنها نرجس، وأنها حية ترزق، وأنها ما زالت تذهب إلى المدرسة، وما زالت تعدو بجانب النهر، بل وتسبح فيه أحيانا .. !
ماذا أقول أمام هذا الحلم العجيب؟ !
لماذا هطلت على سحبه الغريزة؟ ولم تزورني هذه الطفلة وهي التي ماتت حين كنا جميعا أطفالا؟
ابتعدت عن هذا الحدث كثيرا، ابتعدت عن المدرسة، وعن النهر، وعن كل ماله صلة بهذا الأمر، طابور طويل من السنوات يفصلني عن هذه الطفلة التي سرقها النهر ذات أصيل بعيد بعيد ..، ووقفنا نحن الأطفال نبكي ونصرخ، ونطالب بعودتها، لكن النساء أخبرننا أن طلبنا مرفوض، وأن لا داعي للصراخ، سألنا عن السبب، فتلقينا سيلا من الكلام.
ومع ذلك، ظللنا نذهب كل يوم إلى النهر، نقف على الضفة و نسرح العيون بعيدا راجين أن يطلق سبو سراح نرجس، كنا نتمنى أن نرى جثتها فقط، فعادة ما تظهر جثث الغرقى بعد يوم أو يومين، ظللنا ننتظر دون جدوى، مر الأسبوع الأول وتبعه الثاني والثالث دون أن تطفو جثة الطفلة على السطح، ومع توالي الأيام تلاشت كل خيوط الأمل، وتوقفنا عن الذهاب إلى النهر، لكن يوما ما جاءتنا امرأة مجنونة إلى باب المدرسة وقالت: اتبعوني نحو سبو، فاليوم تظهر رفيقتكم. وتبعناها نرفرف بأجنحة الحلم والجنون، ولما وصلنا إلى النهر وجدنا ضفافه ترفل بأزهار النرجس !
وقيل أيضا إن عيشة قنديشة حينما رأتها استولى عليها جمالها، ولم تقدر على مقاومة نيران الغيرة فاختطفتها..
وقيل أيضا إن "سبو" تعود على تلقي القرابين كل سنة، ولا يرضى بها إلا ثمينة وجميلة حتى يجود بالخير، ولم يكن هناك من قربان أثمن وأجمل من نرجس في تلك السنة ..
(...................)
"كأنها انشودة فرت من شفاهنا
أو رذاذ جميل محاه الهجير
مرت كصباح العيد مسرعة
غير عابئة بفرحنا الصغير
كالسلوى ذابت
فبكى الفصل
وهاجت الدمعات..."
هكذا أبن أحدنا نرجس التي حفرت لنفسها قبرا في الماء، ومضت بعيدا في غياهب الغياب، لم تنتظر حتى تستظهر سورة الرحمن وجدول الضرب ولا حتى نعرض المسرحية التي كانت هي بطلتها، استعجلت الرحيل، وحفرت غيابا عميقا في الصدور.
غابت، ومرت على غيابها سلسلة شاهقة من الزمن لكنها عادت، لتطل من نافذة حلم غريب، رأيته ذات ليلة شتوية موشحة بأكاليل المطر.
رأيتها تلبس خليطا من الألوان: فرح وحزن، قر وحر، صخب وهدوء، نار وماء، ري وجفاف، موت وحياة، وتجر خلفها بساتين يتعايش فيها النرجس والياسمين وشقائق النعمان.. لم يسبق لي أن رأيتها على شاشة الحلم، غابت منذ كنت طفلا (ألم أعد كذلك؟ !) ابتلعها النهر فجأة، كنا في رحلة دراسية (يخيل إلي) وانطلقنا نعدو بجانب المويجات الهادئة، أحيانا كنا نقترب منها كثيرا، ونغرف حفنات المياه، ونرش بعضنا، ويخيل إلي أن نرجس أرادت فعل ذلك فسرقها النهر..
ياه، كم يبدو ذلك الأصيل بعيدا بعيدا !
بدأ جميلا، وكانت الوجوه أجمل منه، لكنه انتهى حزينا
وتاهت الوجوه في فيافي الأحزان بلا بوصلات..
رحلت نرجس على هودج الخرير، فهطل الذهول غزيرا، وفاضت به الضفاف، غابت، وظلت الألسن تسبح في يم غيابها المفاجئ، تدفقت الحكايات غزيرة من هنا وهناك، وظللنا نحن الأطفال أصدقاء نرجس في الدراسة نواجه هذا القيل والقال بصمت سميك، وخوف رهيب، وتيه مجرد من الشواطئ..
بدت في الحلم شاسعة العينين، على خدها تفاح، وفي ثغرها عسل، وعلى صدرها زهر الرمان يتفتح، وفي ضفيرتها يكر سرب من الأفراس المجنونة..
وقفت أمامي، وقالت: أنا نرجس.. !
انفلتت بصعوبة من موج الدهشة التي ابتلعتني، ثم قلت فيها شعرا نسيته بعد اليقظة.. فاجأني وقوفها، لم أكن انتظر أن يأخذني ذلك النوم العميق نحو طيف نرجس، فأراها وأقول فيها شعرا، لعله أشبه بشعر أهل الأندلس القدامى.
قالت إنها نرجس، وأنها حية ترزق، وأنها ما زالت تذهب إلى المدرسة، وما زالت تعدو بجانب النهر، بل وتسبح فيه أحيانا .. !
ماذا أقول أمام هذا الحلم العجيب؟ !
لماذا هطلت على سحبه الغريزة؟ ولم تزورني هذه الطفلة وهي التي ماتت حين كنا جميعا أطفالا؟
ابتعدت عن هذا الحدث كثيرا، ابتعدت عن المدرسة، وعن النهر، وعن كل ماله صلة بهذا الأمر، طابور طويل من السنوات يفصلني عن هذه الطفلة التي سرقها النهر ذات أصيل بعيد بعيد ..، ووقفنا نحن الأطفال نبكي ونصرخ، ونطالب بعودتها، لكن النساء أخبرننا أن طلبنا مرفوض، وأن لا داعي للصراخ، سألنا عن السبب، فتلقينا سيلا من الكلام.
ومع ذلك، ظللنا نذهب كل يوم إلى النهر، نقف على الضفة و نسرح العيون بعيدا راجين أن يطلق سبو سراح نرجس، كنا نتمنى أن نرى جثتها فقط، فعادة ما تظهر جثث الغرقى بعد يوم أو يومين، ظللنا ننتظر دون جدوى، مر الأسبوع الأول وتبعه الثاني والثالث دون أن تطفو جثة الطفلة على السطح، ومع توالي الأيام تلاشت كل خيوط الأمل، وتوقفنا عن الذهاب إلى النهر، لكن يوما ما جاءتنا امرأة مجنونة إلى باب المدرسة وقالت: اتبعوني نحو سبو، فاليوم تظهر رفيقتكم. وتبعناها نرفرف بأجنحة الحلم والجنون، ولما وصلنا إلى النهر وجدنا ضفافه ترفل بأزهار النرجس !