لا يمكن للشاعر، أيّ شاعرٍ، أن يُشكِّل بداياته الشعرية على هواه. لابدّ من توافر ظرفٍ أو أكثر يعينه على وضع موهبته الشعرية في مكانها اللائق، وفي زمانها الصحيح. وهذا ما حدث تماما للشاعر اليمنيّ عبد الله البردوني. وربما كانت بدايته صاعقة، بالنسبة للكثيرين منا، نحن العراقيين، في أول السبعينيات. كان ذلك في الدورة الأولى لمهرجان أبي تمام، في الموصل، عام 1971.
كانت القاعة غاصة بالحضور، وكان أبرز ضيوف المهرجان، في تلك اللحظة، نزار قباني وبلند الحيدري وأحمد عبد المعطي حجازي وآخرون. وحين نودي على البردوني تلفّتَ بعضنا أكثر من مرة، كي يمكنه رؤية الشاعر بوضوح، وهو يمرّ بين الجمهور المحتشد. اسمٌ لم يكن ذائعا بين الناس، مقارنة بالضيوف النجوم من الشعراء. صعد إلى المنصة مجرّدا إلا من ذاته، دونما شهرةٍ ضافيةٍ أو أناقةٍ مهيبة. ليس إلاّ وجهٌ عبث به الجُدَريّ، وحجمٌ بالغ الضآلة، وعينان مطفأتان.
وقف البردوني أمام جمهور بعضه غير آبهٍ بما يرى، وبعضه الآخر لم يدركْ بعد الشأنَ الشعريَّ لهذا القادم الجديد. حدَّق الشاعر في ظلامٍ دامس، وكأنه يتشمّمُ هواء القاعة بذكاءٍ وخبرة، ويستنهض موهبة لمْ يكتشفْ أحدٌ خطرها حتى تلك اللحظة.
فجأة اندلع من القمقم المظلم جنّيٌّ كفيفٌ، متوقد البصيرة، حاد النبرة، ليندفع في اتجاه جمهور بدا مأخوذا من هول المفاجأة، وهو يصغي إلى وابلٍ من مطر الكلام النادر، الجارف، المقتدر. كلام يجمع وعي الحاضر المزري إلى ماضٍ فجائعيّ تتكرر مشاهده، ويجمع لذة الكلام المجرّح إلى نبل المقصد وجمال الحلم.
هكذا بدا لنا البردونيّ في تلك اللحظة، ذاهبا إلى مكامن الأسى في القلوب، يتلاعب بمنطلقات الأشياء ومآلاتها، من دون رقيبٍ من لغةٍ أو بلاغة، مازجـا الحزن بنقيضه، فإذا به غضبٌ مشوبٌ بالأسى، أو أسى ينقلبُ على ذاته ويتمردُ عليها في كل لحظة.
في ذلك الزمن العابر كرعدٍ مكتوم، كنا على مفترق الطرق، نعيد تشكيل استجاباتنا، ويُعِـدُّ كل منا ذاكرته لاستقبال ضيفٍ جديدٍ لن يبرحها بسهولة ولزمنٍ طويلٍ ربما، وليضفي على الشاعر، أو كأنه يفعل ذلك، صفةَ الاكتشاف الشعريّ الذي يخيّب التوقعات، ويتجاوز الكثير من مألوف القصيدة العمودية الشائعة آنذاك.
هل كان البردوني، وهو يكسر قشرة المكان اليمني، يستجيب من دون وعيٍ، أو بوعيٍ يشوبه خدرٌ سحريّ، لذلك النداء الغامض البعيد: «اغتربْ تتجدّدِ»؟
حين عاد البردوني إلى مكانه كان في وضع مغاير تماما. على العكس من ذهابه الفقير إلى المنصة. كان يبدو أطول قامة وأشد ثباتا في مشيته، وكأن لقصيدته ما لعصيّ الأنبياء من سحر وجبروت. تكاد العيون أن تلتهمه، وتشده ذاكرة الناس إليها من فرط الافتتان به، وكان ثمة وميضٌ من القدم والنبوغ يتقاطر من هندامه المتواضع. ولم يكن ما حدث من اكتشافٍ، بالنسبة للكثيرين من الشعراء والجمهورعلى السواء بعيدا عن مرمى سحر أبي تمام ومهرجانه الحافل أو شعريته الصادمة. كان اندفاع البردوني خارج المكان اليمني، الراكد، الضيق، المكرور آنذاك، قد دفع به إلى آفقٍ أبعد من محليته اليمنية. لا يمكنني تصور البردوني في تلك اللحظة بعيدا عن أبي تمام، في أبعاده السحرية الثلاثة: ربطه التجدَّد بالغربة، والشعريةَ بالغرابة، والشهرةَ بنموذج ٍشعريّ له وقع الحدث أو الحادثة، أعني «قصيدة عمورية» في تلك المناسبة تحديدا.
هل كان البردوني، وهو يكسر قشرة المكان اليمني، يستجيب من دون وعيٍ، أو بوعيٍ يشوبه خدرٌ سحريّ، لذلك النداء الغامض البعيد: «اغتربْ تتجدّدِ»؟ كان الشاعر يتجاوزذلك المكان القديم النائي، متجها إلى مركزٍ طافحٍ بالضوء والحيوية وقلق التحولات.
ومع قدْرٍ لا بأس به من التعديلات، تختلط الحدوس بالخرافة أو الأسطورة لتتسع دائرة التأويل. البردوني، هنا، يمعن في تحولاته، ويرتقي في أحلامه خارجا من وطأة العمى وضنك المكان والزمان وفداحة الفاقة.. ويشتبك ماضي الخرافة بحاضرها، حاضر البردوني بالراعي اليمني القديم، صاحب القصيدة اليتيمة، الذي يترك شياهه للرمل والريح (*) متجها للفوز بابنة الملك التي اشترطت، كما تقول الحكاية، أن يكون طالب الزواج منها شاعرا يمكنه وصف مفاتنها وكأنه يراها. لكن الشاعر الراعي لا يتوقف في صنعاء، وهي كثيرةٌ عليه في تلك اللحظة، بل تقوده غواية الشعر إلى العراق في لحظة احتفاءٍ كبرى بشاعر الغرابة أبي تمام، الذي أثار الجدل، وأغضب الذائقة التقليدية، وكانت بعض قصائده مفتتحا لشعرٍ لا يقال ليفهم، بل ليُحَسَّ ويقلقَ ويحيّر. تحولٌ آخر يمدُّهُ بالحياة جنونٌ يستبدل القصيدة بابنة الملك ليحظى بهالة الاعتراف أو التكريس الشعريّ لتكون قصيدتُهُ، لا الزواجُ بابنة الملك، هي جائزتهُ الكبرى.
*- اختلف الرواة كثيرا بشأن هذه الحكاية، فمن قائلٍ إن القصيدة اليتيمة هي للشاعر الأمويّ ذي الرمة، ومن قائلٍ إنها لدوقلة المنبجي، ومن ثالثٍ يقول إن صاحبها كان راعيا من اليمن، قال هذه القصيدة من دون أن يترك لنا قصيدة سواها.
واختلف الرواة أيضا حول بطلة القصيدة، فهي تارة من تهامة، وتارة أخرى من الحجاز. طورا ابنةُ أميرٍ من الجزيرة وطورا آخر ابنةٌ لملكٍ من ملوك اليمن؟ ومهما اختلفت عناصر الحكاية، فإن المآلات واحدة، وحين نستبدل القصيدة بابنة الملك تظل حكاية البردونيّ صالحة لنوعٍ من التأويل الطريف لرحلته إلى الموصل.
كانت القاعة غاصة بالحضور، وكان أبرز ضيوف المهرجان، في تلك اللحظة، نزار قباني وبلند الحيدري وأحمد عبد المعطي حجازي وآخرون. وحين نودي على البردوني تلفّتَ بعضنا أكثر من مرة، كي يمكنه رؤية الشاعر بوضوح، وهو يمرّ بين الجمهور المحتشد. اسمٌ لم يكن ذائعا بين الناس، مقارنة بالضيوف النجوم من الشعراء. صعد إلى المنصة مجرّدا إلا من ذاته، دونما شهرةٍ ضافيةٍ أو أناقةٍ مهيبة. ليس إلاّ وجهٌ عبث به الجُدَريّ، وحجمٌ بالغ الضآلة، وعينان مطفأتان.
وقف البردوني أمام جمهور بعضه غير آبهٍ بما يرى، وبعضه الآخر لم يدركْ بعد الشأنَ الشعريَّ لهذا القادم الجديد. حدَّق الشاعر في ظلامٍ دامس، وكأنه يتشمّمُ هواء القاعة بذكاءٍ وخبرة، ويستنهض موهبة لمْ يكتشفْ أحدٌ خطرها حتى تلك اللحظة.
فجأة اندلع من القمقم المظلم جنّيٌّ كفيفٌ، متوقد البصيرة، حاد النبرة، ليندفع في اتجاه جمهور بدا مأخوذا من هول المفاجأة، وهو يصغي إلى وابلٍ من مطر الكلام النادر، الجارف، المقتدر. كلام يجمع وعي الحاضر المزري إلى ماضٍ فجائعيّ تتكرر مشاهده، ويجمع لذة الكلام المجرّح إلى نبل المقصد وجمال الحلم.
هكذا بدا لنا البردونيّ في تلك اللحظة، ذاهبا إلى مكامن الأسى في القلوب، يتلاعب بمنطلقات الأشياء ومآلاتها، من دون رقيبٍ من لغةٍ أو بلاغة، مازجـا الحزن بنقيضه، فإذا به غضبٌ مشوبٌ بالأسى، أو أسى ينقلبُ على ذاته ويتمردُ عليها في كل لحظة.
في ذلك الزمن العابر كرعدٍ مكتوم، كنا على مفترق الطرق، نعيد تشكيل استجاباتنا، ويُعِـدُّ كل منا ذاكرته لاستقبال ضيفٍ جديدٍ لن يبرحها بسهولة ولزمنٍ طويلٍ ربما، وليضفي على الشاعر، أو كأنه يفعل ذلك، صفةَ الاكتشاف الشعريّ الذي يخيّب التوقعات، ويتجاوز الكثير من مألوف القصيدة العمودية الشائعة آنذاك.
هل كان البردوني، وهو يكسر قشرة المكان اليمني، يستجيب من دون وعيٍ، أو بوعيٍ يشوبه خدرٌ سحريّ، لذلك النداء الغامض البعيد: «اغتربْ تتجدّدِ»؟
حين عاد البردوني إلى مكانه كان في وضع مغاير تماما. على العكس من ذهابه الفقير إلى المنصة. كان يبدو أطول قامة وأشد ثباتا في مشيته، وكأن لقصيدته ما لعصيّ الأنبياء من سحر وجبروت. تكاد العيون أن تلتهمه، وتشده ذاكرة الناس إليها من فرط الافتتان به، وكان ثمة وميضٌ من القدم والنبوغ يتقاطر من هندامه المتواضع. ولم يكن ما حدث من اكتشافٍ، بالنسبة للكثيرين من الشعراء والجمهورعلى السواء بعيدا عن مرمى سحر أبي تمام ومهرجانه الحافل أو شعريته الصادمة. كان اندفاع البردوني خارج المكان اليمني، الراكد، الضيق، المكرور آنذاك، قد دفع به إلى آفقٍ أبعد من محليته اليمنية. لا يمكنني تصور البردوني في تلك اللحظة بعيدا عن أبي تمام، في أبعاده السحرية الثلاثة: ربطه التجدَّد بالغربة، والشعريةَ بالغرابة، والشهرةَ بنموذج ٍشعريّ له وقع الحدث أو الحادثة، أعني «قصيدة عمورية» في تلك المناسبة تحديدا.
هل كان البردوني، وهو يكسر قشرة المكان اليمني، يستجيب من دون وعيٍ، أو بوعيٍ يشوبه خدرٌ سحريّ، لذلك النداء الغامض البعيد: «اغتربْ تتجدّدِ»؟ كان الشاعر يتجاوزذلك المكان القديم النائي، متجها إلى مركزٍ طافحٍ بالضوء والحيوية وقلق التحولات.
ومع قدْرٍ لا بأس به من التعديلات، تختلط الحدوس بالخرافة أو الأسطورة لتتسع دائرة التأويل. البردوني، هنا، يمعن في تحولاته، ويرتقي في أحلامه خارجا من وطأة العمى وضنك المكان والزمان وفداحة الفاقة.. ويشتبك ماضي الخرافة بحاضرها، حاضر البردوني بالراعي اليمني القديم، صاحب القصيدة اليتيمة، الذي يترك شياهه للرمل والريح (*) متجها للفوز بابنة الملك التي اشترطت، كما تقول الحكاية، أن يكون طالب الزواج منها شاعرا يمكنه وصف مفاتنها وكأنه يراها. لكن الشاعر الراعي لا يتوقف في صنعاء، وهي كثيرةٌ عليه في تلك اللحظة، بل تقوده غواية الشعر إلى العراق في لحظة احتفاءٍ كبرى بشاعر الغرابة أبي تمام، الذي أثار الجدل، وأغضب الذائقة التقليدية، وكانت بعض قصائده مفتتحا لشعرٍ لا يقال ليفهم، بل ليُحَسَّ ويقلقَ ويحيّر. تحولٌ آخر يمدُّهُ بالحياة جنونٌ يستبدل القصيدة بابنة الملك ليحظى بهالة الاعتراف أو التكريس الشعريّ لتكون قصيدتُهُ، لا الزواجُ بابنة الملك، هي جائزتهُ الكبرى.
*- اختلف الرواة كثيرا بشأن هذه الحكاية، فمن قائلٍ إن القصيدة اليتيمة هي للشاعر الأمويّ ذي الرمة، ومن قائلٍ إنها لدوقلة المنبجي، ومن ثالثٍ يقول إن صاحبها كان راعيا من اليمن، قال هذه القصيدة من دون أن يترك لنا قصيدة سواها.
واختلف الرواة أيضا حول بطلة القصيدة، فهي تارة من تهامة، وتارة أخرى من الحجاز. طورا ابنةُ أميرٍ من الجزيرة وطورا آخر ابنةٌ لملكٍ من ملوك اليمن؟ ومهما اختلفت عناصر الحكاية، فإن المآلات واحدة، وحين نستبدل القصيدة بابنة الملك تظل حكاية البردونيّ صالحة لنوعٍ من التأويل الطريف لرحلته إلى الموصل.
اكتشاف عبد الله البردونيّ | علي جعفر العلاق
لا يمكن للشاعر، أيّ شاعرٍ، أن يُشكِّل بداياته الشعرية على هواه. لابدّ من توافر ظرفٍ أو أكثر يعينه على وضع موهبته الشعرية في مكانها اللائق، وفي زمانه
www.alquds.co.uk