في إحدى دورات مهرجان الموصل الشعري ، ارتقى المنبر ( أعمى يقود بصيرا) ، بقامة قصيرة وشعر اجعد ووجه ثقبه الجذري وأطفأ عينيه.. فتبرم بعض الحاضرين الأنيقين من كبار شعراء ذلك العهد ، واستخف آخرون ، وسمعت جلبة بسبب تحرك الكراسي ، ومغادر الكثير منهم الى ردهات القاعة ، وحينما حملت اليهم مكبرات...
هذي العمارات العوالي ضيعن تجوالي، مجالي
حولي كأضرحةٍ مزورة بألوان اللآلي
يلمحنني بنواظرالاسمنت من خلف التعالي
هذي العمارات الكبارُ الخرس ملأى كالخوالي
أدنو ولا يعرفنني أبكي ولا يسألن: ما لي؟
وأقول: من أين الطريق؟ وهن أغبى من سؤالي
كانت لعمي هاهنا دار تحيط بها الدوالي
فغدت عمارة تاجر (هندي) أبوه...
بودِّي أن أفرَّ الآن منِّي
وأدخلَ نزوةً في رأس جنّي
وأسبح فوق ومضٍ لا يُسمّى
ولا يلقى الملقِّب والمكنّي
يحنُّ إلى مطافٍ غير طافٍ
ويُومي: يا نجوم إليه حِنّي
فأُوغل في صميم الومض أخفى
كنسغ الأرض عن زمني وعنّي
* * *
وكالبذر الدفين أنثُّ وجدي
لوجدي لا أنوح ولا أُغنّي
بكل قرارةٍ أنسَلُّ دفقاً...
1- مقدمة:
ليس ما أكتبه هنا بحثاً أو قراءة نقدية، بل مقاربات تسترجع أبعاداً من واقع مازال حياً ونابضاً في الذاكرة والوجدان لما يزيد عن خمسين عاماً من صداقتي لشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني، منذ أول لقاء جمعني به في صيف 1957م حتى رحيله إلى عالم الخلود في صيف 1999م. وبدايةً أود تأكيدَ حقيقة أنه...
يا حياتي ويا حياتي إلى كم
أحتسي من يديك صاباً وعلقم
وإلى كم أموت فيك وأحيا
أين مني القضا الأخير المحتم
أسلميني إلى الممات فإني
أجد الموت منك أحنى وأرحم
وإذا العيش كان ذلاً وتعذيباً
فإن الممات أنجى وأعصم
***
ما حياتي إلا طريق من الأشواك
أمشي بها على الجرح والدم
وكأني أدوس قلبي على النار
وأمضي...
عنّت وولّت كهذا الوقت أوقاتُ
جاءت كأسيادها، ماتت كما ماتوا
كانت لهم، مثلما كانوا لها فمضت
كما مضوا، لا هنا أضحت، ولاباتوا
فكيف أغربَ هذا الوقت مات وما
ولّى؟ وأسياده ماتوا ومافاتوا
في كل قصرٍ لعينيه وأعينهم
يموج عرسٌ وأعيادٌ وعاداتُ
* * *
لا الموت يمحو، لكي يرقى النقيض ولا
لأي حيٍّ مِن التمويت...
يا وجهها في الشاطىء الثاني
أسرجتُ للإبحار أحزاني
أشرعتَ يا أمواجُ أوردتي
وأتيتُ وحدي فوقَ أشجاني
ولِمَ أتيتُ؟ أتيتُ ملتمساً
فرحي وأشعاري وإنساني
من أينَ؟ لا أرجوكِ لا تسلي
تدرينَ … وجهُ الريحِ عنواني
لو كانَ لي من أينَ قبلَ هنا
قدَّرتُ أنَّ التِّيهَ أنساني
من أينَ ثانيةٌ وثالثةٌ
أضنيتُ بحثَ...
لأنهم من دمهم أبحروا
كالصبح، من توريدهم أسفروا
تكسروا ذات خريف هنا
والآن من أشلائهم أزهروا
وقبل إعلان الشذى، حدقوا
وعن سداد الرؤية استبصروا
تجمروا في ذكريات الحصى
ومن حنين التربة اخضوضروا
***
هناك رفوا... هٰـهُنا أعشبوا
هل تضجر الأمواج كي يضجروا؟
من كل شبر أبرقوا، أشرقوا
كيف التقى الميلاد...