عبدالله البردوني - رسالة إلى صديق في قبره

هٰهـــنــا عــنــدي غــريـبـات الــعــوادي
عـنـدك الإنـصـات والـهـجس الـرمـادي
كـيـف أروي يــا صـديـقي؟ هــل تــرى
أنـنـي أزجــي إلــى الـمـوتى كـسـادي؟
هــاهـنـا مــســراك يــلـغـي وحــشـتـي
وصــدى نـجواك، يَـغلي فـي اعـتقادي
مِــــن هــنــا أشــتــف مـــاذا تـنـتـوي؟
أســــأل الــقـبـر: أيـنـسـيـكَ افـتـقـادي
إنـــنـــي يــــــا بـــــن أبـــــي مــتّــحـدٌ
بـثـرى مـثـواك، هــل تـرضى اتّـحادي؟
* * *
أيــــن أنــــت الآن؟ هـــا أنـــت مــعـي
نـمضغ (الـسوطي) وأقـوال الـروادي؟
ونـــــــرى سِــــرِّيَّـــة الآتـــــــي كـــمـــا
تـــقــرأ الـــبــرق نـــبــوءات الــبــوادي
نــبـحـث (الإكــلـيـل، زربــــا، رنــدلـى)
نــقـتـفـي كـــــل رحـــيــلٍ ســنـدبـادي
نــغـتـذي شِــعــر (الــشـحـاري) تــــارةً
تــــارةً نـحـسـو خـطـابـات (الــربـادي)
* * *
يــا بــن أرضـي لـم تـغب عـن صـدرها
بــــل تــحـوَّلـت جــــذوراً لامــتــدادي
بــيــتـك الــثــانـي ذراعٌ مِــــن دمــــي
وأنــــا بــيـتـي دم الــطـيـف الـقـتـادي
عـــنــدك الـــنــوم الــطـفـولـي، وأنـــــا
لـــي زغــاريـد الـصـواريـخ الــشـوادي
لِــنـثـيـثِ الــصــمـت تــصـغـي، وأنــــا
فـــي زحـــام الــنـار أُصــغـي لاتِّـقـادي
* * *
أدَّعـــــي الــحــشـد أمــــام الـمـعـتـدي
ثــم يـعـدو فــوق أنـقـاض احـتـشادي
وبــرُغــمـي يــصـبـح الــغــازي أخــــي
بـعـدما أضـحـى أخـي أعـدى الأعـادي
* * *
كــيــف أمــحــو كــــل هــــذا؟ دلِّــنـي
لا تـقـل - أرجــوك - دعـنـي وانـفـرادي
يـــا صـديـقي أنــت أدنــى مِــن فـمـي
فــلـمـاذا أنـــت أنـــأى مِـــن مُـــرادي؟
أجـــتــدي رأيـــــا ســديــداً، لا تــقــل:
مــثـلـمـا مِـــــتُّ أنــــا أودى ســــدادي
مِـــن أســاريـر الـحِـمـى ســـرتَ إلـــى
قـلـبـهِ كـــي تـنـجـلي يــوم اســودادي
* * *
أنــــت فــــي الــبـعـد قــريــبٌ، وأنــــا
فـي غـياب الـقرب مـثلي فـي ابتعادي
أنــــت فــــي شـبـريـنِ مِـــن وادٍ، أنـــا
خـلـف حـتـفي هـائـمٌ فــي غـير وادي
* * *
يــــــا صــديــقـي لــبِّــنِـي أو نـــادنــي
لـــم يــعـد لـــي مَـــن أُلـبِّـي أو أُنــادي
كــنـتَ تــأبـى الـصـمـت بـــل سـمَّـيـتَهُ
غـيـرَ مـجـدٍ: فـهـل الإفـصـاح جــادي؟
* * *
آخــــــر الأخـــبـــار: قـــالـــت زحـــلــةٌ
أغـصـنـت نـــار الـتـحدي فــي زنــادي
أخـــذت (بــيـروت) رقـــم الـقـبر مِــن
(صـفـدٍ) قـالـت: عـلـى هــذا اعـتمادي
قـــال (حـــاوي) وهــو يــردي نـفـسهُ:
يــــا رفــاقـي هـــذه أُخـــرى جــيـادي
شــــاعـــرٌ ثــــــانٍ تـــحـــدّى قـــائـــلاً:
الـــــدم الــيــوم حــروفــي ومــــدادي
قـــلــتَ لـــــي يـــومــاً كـــهــذا إنَّـــمــا
كــنـت تـوصـيـني بـتـثقيف اجـتـهادي
ذلـــــــك الــــــودّ الــــــذي أولــيــتـنـي
مـثـلـه عــنـدي: فــمـن أولـــي وِدادي؟
* * *
مــوطــنـي يـــنــأى ويـــدنــو غـــيــرَهُ
زمـــنــاً كــــان هــنــا حــــامٍ وفــــادي
لا انـثـنـى الـمـاضـي، ولا الآتـــي دنـــا
مَـــن تُـــرى بـيـنـهما أُعــطـي قـيـادي؟
قـــــال لــــي ذاك ارتــضــى إخــــلادهُ
قــــال لــــي هــــذا: أرى الآن اتِّــئـادي
هــــل تُــــرى أَرتـــدُّ، أو أمــضـي إلـــى
أيـــن أمـضـي، وإلــى أيــن ارتــدادي؟
* * *
يــــا صـديـقـي أســفـر الــيـوم الـــذي
كـــان يـخـفـى، وتـــراه نــصـف بــادي
كـنـتَ تـنـبي عــن حـشـا الـغـيب كـمـا
كـــان يُـنـبـي ذلــك (الـقِـسُّ الإيــادي)
* * *
ربـــمـــا تــبــغـي جـــديــداً، حــجــمـهُ
نــدَّ عــن وصـفـي كـمـا أعـيـا ازدرادي
بــعـد أن مُــتَّ، مـضـى الـمـوت الــذي
كـــان عــاديـاً ووافـــى غـيـر عــادي..
صــــــار ســـوقـــاً، عــمــلــةً، مـــأدبــةً
مـكـتـباً، مـسـعـى يـسـمـى بـالـحـيادي
فـــــي الـتـراثـيـات دكــتــوراً، وفــــي
غــــرف الـتـعـذيـب نـفـسـيـاً ريــــادي
* * *
ويــســمـى فــتــرةً ضــيــف الــحـمـى
فــتـرةً يُــدعـى: الـخـبـير الاقـتـصادي
يـــدخــل الــقــهـوة مِـــــن فـنـجـانـهـا
مِـن غـصون الـقات يـغشى كـل صادي
يــحـرس الأثـــرى، يُـبـاكي مَــن بـكـى
يرتدي أجفان «عيسى» وهو «سادي»
يــــا صــديـقـي لا تــقــل: زعـزعـتـنـي
قــم وقــل: يــا قـبر فـلتصبح جـوادي
ذلــــــك الـــمـــوت الــــــذي لاقــيــتَـهُ
مــات يـومـاً، وابـتـدى الـقـتل الإِبـادي
ومـــــدى الـــرعــب الـــــذي تـــذكــرهُ
عــدَّدَ الأشــواط، غـالـى فــي الـتمادي
ذلــــــك الــســهــل الــــــذي تــعــرفــهُ
بـــات سـجـنـاً لـصـقـه سـجـنٌ ونــادي
* * *
مــجـلـس الـشـعـب ارتــقـت جــدرانـهُ
قــال لـلـجيران: ضـيـقوا مِــن عـنـادي
فــأجــابــوا: مــــــا كـــهـــذا يــبــتـنـي
بـيـتـه، بـــل يـبـتـني أقـــوى الـمـبادي
* * *
ربـــمـــا تــســألـنـي عـــــن (مـــــأربٍ)
وانـبـعاث (الـسد) و(الـشيك الـزيادي)
ذكـــريــات (الـــســد) آلــــت طــبـخـةً
ثـــم عـــادت نـاقـةً مِــن غـيـر حــادي
كــــــل مـــشـــروعِ عـــلـــى عـــادتـــه
عــنـده الـتـأجـيل كـالـقـات اعـتـيـادي
* * *
و(أبــــي هــــادي) أتـــدري لـــم يــعـد
أعــزبــاً، قــــد زوَّجــــوهُ (أُم هــــادي)
فـــارتـــقـــب ذريَّـــــــــةٌ مـــيــمــونــةً
قـبـل أن تـسـتلطف الـعـرس الـحدادي
قــــل لــمـن أغـــرى انـتـقـادي بـعـدمـا
نــــزل الــقـبـرَ عــــلا فـــوق انـتـقـادي
***
يــا صـديـقي مــا الـذي أحـكي، سـدىً
تـستزيد الـبوح، مـا جـدوى ازديـادي؟
شــاخــت الأمــسـيـة الـمـلـيـون فــــي
ريــش صـوتي وانـحنى ظـهرُ سـهادي
والــســكـاكـيـن الــشــتـائـيـات كــــــم
قـلـن لــي: يـا نـحس جـمَّرتَ ابـترادي
الـشـظـايـا تــحــت جــلـدي، والــكـرى
خــنـجـرٌ بــيــن وســــادي واتــســادي
* * *
أنـــــت عـــنــد الــقــبـر ســــاهٍ، وأنــــا
أحــمـل الأجــداث طُــرّاً فــي فــؤادي
أتــــرانـــي لـــــــم أجــــــرب جـــيـــداً
صـــادروا خــطـوي، وآفـــاق ارتـيـادي
مِـــــن نــفــايـات عــطـايـاهـم يـــــدي
وجــبــيــنـي، وبــأيــديـهـم عـــتـــادي
* * *
أنـــــت غــــافٍ بــيــن نــومـيـن، أنــــا
بــيــن نــابـيَ حــيَّـةٍ وحـــشٌ رقـــادي
مــــتَّ يــومــاً يــــا صــديـقـي، وأنــــا
كــــل يــــومٍ والـــردى شُــربـي وزادي
أنـــــت فــــي قــبــرٍ وحــيــدٍ هــــادئٍ
أنـــا فـــي قـبـريـن: جــلـدي وبـــلادي
إنـــمـــا مــــــا زالـــــت الأرض عـــلــى
عـهـدها، والـشـمس مــا زالــت تـغـادي

(فبراير ١٩٨٣م)

البردوني
ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار
  • Like
التفاعلات: عماد مارش
أعلى