كتبتُ في العدد الماضي أن عائد خصباك لم يضيّع وقته في الدراسة والكلام الفارغ، وانطلق في شوارع القاهرة، يمضي أيامه ولياليه. من الصعب أن يختار الواحد مجتزءا من مسيرته الفاتنة ومشاهده المتتابعة والوجوه التي صافحت عينيه لأول مرة.
في البداية ، وقبل أن يتعرّف على الأشقياء والمسجلين خطر أمثال يحي الطاهر عبد الله وابراهيم منصور وخيري شلبي ومن لف لفهّم، اعتاد أن يمرّ على الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان آنذاك لاجئا سياسيا، وكان أحد كبار الشعراء العرب، ونجما لامعا في القاهرة التي فتحت ذراعيها له، بعد ان كتب صلاح جاهين واحدة من أجمل قصائده عنه عندما كان مطاردا من عدة أنظمة عربية، كما كان- البياتي- يُستقبل استقبالا حافلا في العواصم الأوربية ودول الكتلة الاشتراكية.
ومن بين دول عديدة كانت على استعداد لاستضافته وقبوله لاجئا سياسيا، اختار القاهرة. أتذكره جيدا على ريش وأنا في العشرين من عمري، ولم يكن مسموحا لمثلي أن يقترب منه، كما أن محله المختار هو " كافتريا لاباس" في شارع قصر النيل، وهو مكان لم يكن من السهل فيه أن تُفلت من طلب مشروب وتدفع مالم يكن متاحا أصلا!.
يمرّ عائد إذن على البياتي في المساء، ويمضيان الليل معا غالبا حتى شروق الشمس اليوم التالي. دعاه الأخير إلى كافتريا " سميراميس "، وهناك رأى ما لم يكن يتوقعه مطلقا. التقى أولا بالملحن كمال الطويل الذي بادر بالترحيب، هاله أن الملحن الكبير يعرف البياتي، وبعد قليل جاءت الطامة الكبرى: عبد الحليم حافظ بشحمه ولحمه يشدّ على يد البياتي قائلا:" شاعرنا الكبير .. مابنشوفكش .. أتابع شعرك.." كاد عائد أن يفقد صوابه ويحدث له ماحدث لفتاتين شاهدتا حليم فارتميتا عليه وكل منهما تصرخ " عُبد!! ثم تخرّ على الأرض، بينما حليم يتجاذب أطراف الحديث مع البياتي الذي كان يتميز غيظا ويحاول أن يداري غضبه. وقرب انتهاء السهرة مال على عائد قائلا: "زمن غير عادل.. شاعر كبير وعالمي ( يقصد نفسه بطبيعة الحال) لم تقل له صبية مرة واحدة " عُبد"، وهذا في دقيقة واحدة يحصل معه الذي شاهدته أمامك.. ومرتين!!"
ليس ذلك فقط،بل أن البياتي أفصح عن غضبه عندما شاهد فيلم" إيزادورا" برفقة عائد وغالي شكري، لأن فانيسا رود جريف التي تقوم بدور إيزادورا اختارت الشاعر الروسي يسينين لتحبه، بينما أمامها شعراء كبار( يقصد نفسه ) لم تكلّف نفسها وتلتفت إليهم!!
لكن عائد مع ذلك يدين للبياتي باصطحابه لتناول أشهى فلافل في القاهرة في محل صغير يديره خواجة يوناني، وبعد قليل فوجئ بالشاعرمعين بسيسو يندفع إلى الداخل ليحتضن البياتي، وهو أمر يمكن احتماله، أما دخول ميمي شكيب بعد ذلك بشحمها ولحمها فلا يمكن احتماله!! وبالفعل راح عائد يتحين الفرصة ويشاغلها عن بُعد حتى انتقل إلى مائدتها وانخرطا في حديث ذي شجون، بينما وقف البياتي ومعين منتظرين أن ينتهي عائد ويقوم معهما، فقالت له ميمي : " عليك الآن ياحبة عيني أن تقرر: إما أن تبقى مع الشعر ( بفتح الشين والعين) أو تذهب مع الشعر ( بكسر الشين والعين)!! وهو مايعني أن ميمي تعرف الشاعرين، أما عائد فقد اختار أن يبقى ويترك الشعر بكسر العين والشعر!!
أتيح لي أن أتشرف بصداقة البياتي بعد ما يزيد على عقدين من السنين، وعرفته عن قُرب وأحببته عندما حلّ على القاهرة ضيفا مرة أخرى ، وأشهد أن عائد بلغ الذُرى في رسم ملامح وشخصية البياتي على نحو لم يتكرر..
أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل...
في البداية ، وقبل أن يتعرّف على الأشقياء والمسجلين خطر أمثال يحي الطاهر عبد الله وابراهيم منصور وخيري شلبي ومن لف لفهّم، اعتاد أن يمرّ على الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان آنذاك لاجئا سياسيا، وكان أحد كبار الشعراء العرب، ونجما لامعا في القاهرة التي فتحت ذراعيها له، بعد ان كتب صلاح جاهين واحدة من أجمل قصائده عنه عندما كان مطاردا من عدة أنظمة عربية، كما كان- البياتي- يُستقبل استقبالا حافلا في العواصم الأوربية ودول الكتلة الاشتراكية.
ومن بين دول عديدة كانت على استعداد لاستضافته وقبوله لاجئا سياسيا، اختار القاهرة. أتذكره جيدا على ريش وأنا في العشرين من عمري، ولم يكن مسموحا لمثلي أن يقترب منه، كما أن محله المختار هو " كافتريا لاباس" في شارع قصر النيل، وهو مكان لم يكن من السهل فيه أن تُفلت من طلب مشروب وتدفع مالم يكن متاحا أصلا!.
يمرّ عائد إذن على البياتي في المساء، ويمضيان الليل معا غالبا حتى شروق الشمس اليوم التالي. دعاه الأخير إلى كافتريا " سميراميس "، وهناك رأى ما لم يكن يتوقعه مطلقا. التقى أولا بالملحن كمال الطويل الذي بادر بالترحيب، هاله أن الملحن الكبير يعرف البياتي، وبعد قليل جاءت الطامة الكبرى: عبد الحليم حافظ بشحمه ولحمه يشدّ على يد البياتي قائلا:" شاعرنا الكبير .. مابنشوفكش .. أتابع شعرك.." كاد عائد أن يفقد صوابه ويحدث له ماحدث لفتاتين شاهدتا حليم فارتميتا عليه وكل منهما تصرخ " عُبد!! ثم تخرّ على الأرض، بينما حليم يتجاذب أطراف الحديث مع البياتي الذي كان يتميز غيظا ويحاول أن يداري غضبه. وقرب انتهاء السهرة مال على عائد قائلا: "زمن غير عادل.. شاعر كبير وعالمي ( يقصد نفسه بطبيعة الحال) لم تقل له صبية مرة واحدة " عُبد"، وهذا في دقيقة واحدة يحصل معه الذي شاهدته أمامك.. ومرتين!!"
ليس ذلك فقط،بل أن البياتي أفصح عن غضبه عندما شاهد فيلم" إيزادورا" برفقة عائد وغالي شكري، لأن فانيسا رود جريف التي تقوم بدور إيزادورا اختارت الشاعر الروسي يسينين لتحبه، بينما أمامها شعراء كبار( يقصد نفسه ) لم تكلّف نفسها وتلتفت إليهم!!
لكن عائد مع ذلك يدين للبياتي باصطحابه لتناول أشهى فلافل في القاهرة في محل صغير يديره خواجة يوناني، وبعد قليل فوجئ بالشاعرمعين بسيسو يندفع إلى الداخل ليحتضن البياتي، وهو أمر يمكن احتماله، أما دخول ميمي شكيب بعد ذلك بشحمها ولحمها فلا يمكن احتماله!! وبالفعل راح عائد يتحين الفرصة ويشاغلها عن بُعد حتى انتقل إلى مائدتها وانخرطا في حديث ذي شجون، بينما وقف البياتي ومعين منتظرين أن ينتهي عائد ويقوم معهما، فقالت له ميمي : " عليك الآن ياحبة عيني أن تقرر: إما أن تبقى مع الشعر ( بفتح الشين والعين) أو تذهب مع الشعر ( بكسر الشين والعين)!! وهو مايعني أن ميمي تعرف الشاعرين، أما عائد فقد اختار أن يبقى ويترك الشعر بكسر العين والشعر!!
أتيح لي أن أتشرف بصداقة البياتي بعد ما يزيد على عقدين من السنين، وعرفته عن قُرب وأحببته عندما حلّ على القاهرة ضيفا مرة أخرى ، وأشهد أن عائد بلغ الذُرى في رسم ملامح وشخصية البياتي على نحو لم يتكرر..
أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل...
