* ملاحظات مهمة قبل قراءة القصة .....
1- ( المشاحيف )جمع مشحوف وهو الزورق المستخدم في اهوار جنوب العراق ، والقرى المتاخمةلها ، ويتميز بكونه مطليا بالقار ، ويكاد يقتصر شكله هذا على تلك المنطقة التي توارثت استعماله منذ ازمنة سحيقة.
2- ( الجباشة) هي مكان يقام وسط المياه ( مياه الاهوار)وتكون عبارة عن كميات كبيرة من القصب والبردي الذي يجمع ويرص على بعضه حتى يصل الارض ليثبت عليها ويرتفع فوق الماء لتقام عليه بيوت القصب .
3- ( الكواهين) هي الممرات التي تتصل ببعضها لتؤلف طرق الهور بين النباتات العالية كالقصب والبردي ويقال انها كانت شوارع معبدة في زمن السومريين والحضارات القديمة الاخرى التي قامت على تلك البقاع قبل ان تغمرها المياه ، لذلك لم ينبت فيها القصب او غيره حتى عصرنا هذا !!
4- ( حية كواهين ).. الثعبان الذي يعيش في مياه الهور ، والذي ينساب بخفة ورشاقة وسط الماء وبين عروق الاشنات ، وتاتي في النص ، كاستعارة تنهل من موجودات وكائنات البيئة ,وهي عبارة شائعة هناك.
حين ولج عنق المشحوف، ذنب الشط، انبسطت الواح الرز، داكنة الخضرة امام عيني غيلان، الذي احس ، ان دروب الهور، قذفت به، مثل خرقة بالية، بعد مخاض عسير. فراح يندفع مع مشحوفه بعيدا عن الرحم الكبير الذي لم يعرف العيش بعيدا عنه، وبدا كما لو انه يسبح في مشيمة. ود لو تشبت باعطافها ليؤخر ولادة فرضت عليه، او قررها مكرها قبل يوم او اكثر، لكنه هبط أخيرا.. هبط مجهضا بارادته تشايعه اصوات طيور قريبة، تعالت، وتعانقت مع اصوات لبطات المجذاف وهو يمخر في الماء الغرين للشط الذي تراءى له مثل أفعى تتلوى بين الزروع، وعند ذاك أحس بالتعب!.. حك صدره وشعر كأن جسده النحيل يثقل عليه.. أهو التعب يا غيلان؟!.. تساءل مع نفسه لما ارتخت يداه وكاد المجذاف يسقط منه.. ترقرقت في عينيه دموع، عبثا حاول ان يحبسها، لكنه، شد على المجذاف وعض على شفتيه، فتسللت قطرات دمع لتسقي لحيته التي دعكها باصابعه المتخشبة.. ربط المشحوف عند الجرف، وتنحى قليلا يتهادى كالتائه في مشيته على اليابسة، يتلفت بين صمت الزروع التي انفرشت امامه، وبين أشنات الهور التي بدت خلفه مثل قلاع خضر، خالها تهبط رويدا رويدا من علوها، كلما تقدم، حتى صارت مثل سور أخضر أخذ يتأمله من مكانه غير البعيد... نظر الى المشحوف وغاصت يده في جيب دشداشته القصيرة، ليخرج علبة التبغ، جلس مفترشا أعشاب الجرف الرطبة وراح ينفث دخان سيكارته التي لفها بيده، فيما استحال رأسه الى مرجل يقذف امامه صورا عديدة..
***
عندما انطفأت أعين النجوم بين بيوت القصب الرابضة على ظهور الماء، لملم غيلان متاعه، ووضع الصرة تحت ابطه، متجها الى المشحوف الذي يمد بعنقه طوال الليل باتجاه الجاموسة الوحيدة التي كانت تهز برأسها جنب الصريفة، قبل ان تهبط الى الماء بانتظار قطعان الجاموس التي ستعلن عن فجر يوم جديد، سيكون طعمه مختلفا لغيلان الذي نظرالى جاموسته وفرك عينيه، ليتخلص من بقايا قذى ونعاس ما زال عالقا بهما، ومن تحت الأزار الأحمر الحائل، أخرجت زوجته (حسنة) رأسها تتابع حركته غير مصدقة.. التقت عيناها بعينيه، فأدارت وجهها ثم غطته، فيما كانت (شوفة) ابنتهما تتململ في فراشها وسط (الجباشة) التي توزعتها ثلاث صرائف هي بيته القابع في قرية باعماق الهور.. نهضت لتودع والدها، فعاجلها بالقول.. (نامي بويه)!.. حك شعر رأسه قبل ان يلفه باليشماغ ومسح بنظرة خاطفة البيوت القابضة على ظهور ماء الهور بارتعاش تذكيه ريح خفيفة جعلت رؤوس اشنات القصب والبردي تتمايل بهدوء.. وضع صرة المتاع في المشحوف، وهم بالركوب.. تعالت اصوات طيور مائية من فوقة، وهي تتجه الى مكان ما، فرفع رأسه بينما بدأت قطعان الجاموس، تمخر في ماء الهور المائل للخضرة، عندها أحس أنه ربما تأخر، فأنطلق، لا يلوي على شيء، تاركا وراءه صدى اصوات المجذاف الذي أخذ يرفس الماء بقوة ..
لقد قرر غيلان أخيرا، ان يبيع مشحوفه، ليشتري راحة البال،ويرضي زوجته لتكف عن تبرمها وملامتها له، بعد ان ضاقت به الحال، واخذ العوز ينهش بيته، وها هو يقترب من لحظات وداعه.. سيتركه محاصرا بأتربة البراري والشوك والعاقول، عند ضفتي شط قرية (الهباشة) التي لا يحتفي اهلها كثيرا بالمشاحيف.. سيترك مشحوف غيلان دلال الهور، وستختفي عن اذنيه اصداء الغناء وسط (الكواهين).. هو يعرف هذا، ويعرف كيف تكون المشاحيف مهانة عند أهل القرى المتاخمة للمدن، انهم يعاملونها كالحمير، فحين يعبرون بها الشطوط، يركلون مؤخراتها باقدامهم، بعد ان يدفعوا اعناقها بقسوة،.. ويعرف انهم يتركون صغارهم يعبثون بها، يقفزون منها والى الجرف يضربون حواشيها، فتتألم، لكنهم لا يسمعون تأوهاتها، ويربطونها بالحبال مثل البهائم على أوتاد في الاجراف.. لكنه يعلم أيضا، ان (مشحوفه) الذي كان له كالنديم الحميم، او هكذا تصف علاقتهما الناس سيكون هناك.. بعد ساعات!
***
حين تعالت شمس الضحى، وانقشع المتبقي من الغمام في ذلك اليوم الشتوي البعيد، كان غيلان عند صديقه (حجي حميّد) صانع المشاحيف الماهر، يجلس قريبا من مشغله، عند الموقد، يحتسي الشاي على ضفة الشط الذي استقرت عند جانبه الأيسر مشاحيف عدة، جاهزة للبيع يناول (حجي حميّد) بين الحين والأخر، عباراته الطريفة التي يضحك منها (حجي حميّد) مرة ويغضب مرة اخرى، لكنه سرعان ما يهدأ لأنه يعرف غيلان الذي يتعمد مناكدته، ليغضبه كي يضحك منه.. ثم يجلسان، يحتسيان الشاي معا في أوقات استراحات الرجل الذي كان ينتظر في ذلك اليوم اشخاصا سيأتون من مكان بعيد، ومعهم سعر المشحوف الذي وعدهم باكماله، مثلما وعد زوجته بالمبلغ المنتظر،كي تذهب الى السوق.. أشعل (حجي حميّد) سيكارته وراح ينفث دخانها، قرب غيلان الذي كان يحدثه عن ليلته الفائتة وعن كمية السمك الذي اصطاده وانواعه، وعن مشحوفة العجوز الذي يرغب باستبداله، فيرد (حجي حميّد) بلا مبالاة،.. ((هسى موش فارغ يا غيلان، ان شاء الله بالصيف اسويلك المشحوف اليعجبك)).. ثم يسرح عن غيلان قليلا، يقلب أمورا عدة تشغله ومنها، المشحوف الذي انجزه، وينتظر تسليمه لاصحابه، أو الذين سيكونون أصحابه اذا ما تم البيع وتسلم النقود.. ولأن غيلان، عادة ما يعطي رأيه بالمشاحيف المنجزة، نهض، فيما كان (حجي حميّد) سارحا مع احلامه، وراح يتجول بين المشاحيف يمتدح هذا وينتقد شيئا في ذاك، وفجأة تسمر في مكانه وانعقد لسانه للحظات، قبل ان يصرخ كالملدوغ... (حجي حميّد)!!..
انتبه الرجل على صيحة غيلان الغريبة، ونهض مرتبكا،.. خيرا (شبيك غيلان)؟!..
كان غيلان قد امسك بعنق المشحوف ثم احتضنه واستدرك يصيح كالطفل.. هذا مشحوفي!!!
ـ((غيلان، العن الشيطان ولا تخجلنا ويا الناس اللي راح يجون، انت مجنون.. المشحوف مبيوع)).رد على غيلان بشيء من الغضب..
نظر غيلان الى (حجي حمّيد) وقال بصوت مرتجف..
كتلك مشحوفي وما يأخذه مني شاه العجم!!
سمعت زوجة(حجي حميّد) صوت غيلان، فخرجت من بيت القصب القريب، وهي تضع كفها فوق حاجبيها اتقاء أشعة الشمس..
ـ((غيلان رحمة الوالديك، خلنا نشوف رزقنا، عوف المشحوف))!
كانت تدرك ان غيلان الذي يلازمه الافلاس دائما، يأخذ المشاحيف بلا نقود، ليعود الى صديقه (حجي حميّد) بانواع من السمك، الذي يجعل جلساتهم حول الموقد عامرة بروائح الشواء التي يطيب معها السمر،.. وحين هم (حجي حميّد) ان يسحب غيلان ويعيده الى الموقد، رأى رجلين يتجهان نحوهما، فأدرك عمق المأزق الذي وقع فيه، لأنه يعرف ماذا يعني، ان يتعلق غيلان بشيء..
رد حجي حميد السلام، بارتباك على الرجلين، فيما تنحى غيلان قليلا، يسمع ما سيدور من كلام، وقد عرف انهما الموعودان بمشحوف، وحين سألا (حجي حميّد)عما اذا كان قد اكمل لهما مشحوفا أم لا، صمت قليلا، فمرت اللحظات ثقيلة، أحس غيلان خلالها، كأنه بانتظار حجر كبير سيهوي على رأسه، فبدا متوترا فيما كانت زوجة(حجي حميّد) شبه يائسة.. تلعثم الرجل قليلا، قبل ان يستدرك وينطق بجملة، ستكون بداية لعلاقة غيلان مع مشحوف صار مضربا للامثال عند أهل الهور..
ـ((تعذروني يا جماعة، مشحوفكم بعده ما خلصان، وانشاء الله، حسبة اسبوع وتجون تستلمون مشحوف يعجبكم))!!
تنفس غيلان الصعداء، وانشرحت اساريره، فيما يئست تماما، زوجة (حجي حميّد) من ذهابها الى السوق غدا..
حين عاد الرجلان خائبين وعاتبين أيضا، كان غيلان جالسا، يتناول بقية طعام الغداء، وينظر بانتشاء للمشحوف الذي يتطاول عنقه بين المشاحيف، كأنه فتاة هيفاء وقد اسفرت عن جيدها وشعرها بوجه الريح بين فتيات أقزام..
وقف( حجي حميد)، ينظر لغيلان الذي ظل يلتهم طعامه بلا مبالاة وقال معنفا.. ((ها..رضيت هسه))!
ابتسم غيلان، ونادى على زوجة صديقه (حجي حميّد) طالبا المزيد من المرق ليغمس ما تبقى لديه من خبز،.. لان طريقه طويلة!.. فردت بعصبية، لا يبالي لها غيلان عادة وهي تخاطب زوجها..
ـ((غيلان مجنون، وانت هم صرت مثله.. احسن لي أعوفك وخلي غيلان ينفعك))!..
حين ركب غيلان مشحوفة الجديد، وانطلق به، تناهي اليه صوت حجي حميد.. ((هذا المشحوف سويته مثل حية كواهين، ما يركبه الا معيدي، رابي ويا عروك الكصب))!..
التفت اليه غيلان، وأجابه، بان ضرب الماء بالمجذاف فتطاير باتجاه (حجي حميّد) الذي رد بعصبية مفتعلة... مجنون!!
بعدها غاب غيلان مع مشحوفه في دروب الهور.. يغني..
***
في جولاته اليومية وسط اشنات الهور العالية، والكواهين، كان غيلان، كثيرا ما يفض القصب والبردي المنتصب على الجزر اليابسة، يفضه بيده ويركل العروق باتجاه الجانبين ليهيئ مكانا له عندما ينال منه التعب كي يستريح او ينام، وبعد ان يغط باحلامه مع صور عديدة يستيقظ وقد ارتوى جسده من راحة يوفرها صمت الأشنة العميق، وعذوبة هواء فيئها العالي، لكنه عاد في أحد الايام، مرتبكا، بعد نومة غير طويلة، جلس منها، يتفقد نفسه، بعد ان ظن انه قد استحال شخصا أخر، ممسكا رأسه، يتلفت، ثم سرعان ما ركب مشحوفه عائدا الى قريته،.. تجاوز بيت اهله،ولسان حاله يقول شيئا ، لفت انتباه أمه التي كانت تنظر اليه من مشبك القصب، بعد عودته مبكرا، من رحلة صيده اليومية.. اتجه بمشحوفة نحو الرجل العّراف الذي ظل كثيرا ما يسخر منه، ويستفزه.. لقد استسلم لقوة غريبة، أخذت تدفعه باتجاه تفسير الحلم الغريب... ابتسم العراف لما رآه يدخل صريفته المنعزلة تقريبا عن بيوت القرية، وعاجله قبل ان يسلم ويجلس بكلمة لها معنى يعرفه غيلان..
ـ هل مازال والدك مصرا؟!
جلس غيلان صامتا، ينظر بوجه العرّاف، قبل ان يرد بصوت يغالب حيرته التي كانت بادية عليه..
ـ لا..!! قالها وهو يهز رأسه..
ليس رفض والده زواجه من حسنة، هو الذي يحزنه، وليس رغبته في معرفة طالعه بعد ان توترت علاقته بابيه، وخشيته من ضياع حسنة منه، هو الذي أتى به الى بيت العراف..
ـ حسنة ستكون لي، هكذا قررت!..
رفع العراف رأسه، ثم أفتر فمه عن ابتسامة خفيفة فيها بعض التساؤل الذي لم ينتظر غيلان سماعه ليجيب،.. قال؛
ـ جئتك لأمر اخر!..
...حين غفا غيلان وسط الأشنة، تراءى له انه كمن يقفز من مكان مرتفع ثم أحس انه معلق في الفضاء الذي كان يتسع كلما انحدر نحو الاعماق.. بسط يديه وفتح رجليه، يتأمل فاغرا فمه، ماحوله من أشياء غريبة لم يألفها من قبل، وجوه لأناس لم يرهم في حياته، ينظرون بوجهه ويبتسمون،.. وحين استقر على الارض كانت الفسحة، تستقبل قصرا مدهشا، وفيها كان هو، صبيا مع عشرات الصبية، يتلون نشيدا بلغة، أخذ يتلوها معهم، وكأنه شربها مع حليب أمه ..عندما أقترب الجمع من مدخل القصر شاهد ملكا عظيما، يجلس على كرسيه الوثير، محاطا بحاشيته، والجند المدججين باسلحة احتار في وصفها للعّراف..
ـ وماذا بعد؟.. قال العّراف الذي كان يتابع صور الحلم المتدفقة من فم غيلان ورأسه ايضا.. توقف جمع الصبية، وتوقف النشيد، فيما كانت عينا الملك مصوبتان باتجاه غيلان الذي خفض رأسه استحياء، قبل ان تسحبه يد أحد الجند.. وقف بين يدي الملك، الذي قال له: خذ.. أمسك غيلان الشيء الذي لم يتبين معالمه بيده وضمه الى صدره قبل ان يضعه في جيبه من دون ان يكلم الملك، وانصرف ليقف في الصف من جديد، لكنه لم يجد احدا من زملائه الصبية، تلفت، وشعر بالحيرة، وضع الملك الذي نهض، يده على رأس غيلان ثم دعاه ليرافقه في جولة شملت انحاء القصر الذي كان غيلان يتعثر وينهض بين أروقته الفخمة قبل ان يخرجا قليلا.. ولما اقتربا من مكان تغطيه احجار ضخمة، اشار الملك باصبعه فأنفتح باب واسع، كان مموها ويبدوكأنه صخور كبيرة، رصفت بانتظام، وحين اكتمل انفتاح الباب، أمره الملك أن يدخل،.. مشى غيلان وحيدا، وظل يمشي في ممر طويل، يطل بين الحين والأخر، على اماكن، يعتقد انه رأها من قبل لكنه لا يستطيع ان يتذكر أين حدث ذلك،.. كان اثناء مسيره، يشعر بأنه يتقدم في السن، ولما وقف في مكان تحيطه، اسود متوثبة صامتة، شعر بالخوف، لكن الأسود حيته، بهزة موحدة للرؤوس، وفي المكان وجد زملاءه الصبية، يقفون بانتظام، كأنهم يستعدون لاداء النشيد، الذي نسي كلماته، وعندما حاول ان يصطف معهم، شعر بالخجل، فهو لم يعد صبيا.. تقدم باتجاه أحد الاسود يدفعه الفضول وامسكه، فتهشم.. شعر بالذنب والخوف معا.. استدار، فلم يجد أثرا للصبية أيضا.. وكان الملك من ورائه يبتسم..تقدم نحوه ليعتذر،لكنه اكتشف ان الملك هو الأخر، لم يكن سوى تمثال من حجر، ، اقترب منه فأنهار التمثال وتلاشى.. شعر بانه بات اعزل في المكان الذي بدا موحشا.. اراد العودة من حيث أتى، لكن الطرق من امامه وخلفه قد اختفت وتلاشت معظم معالم المكان، ووجد نفسه في صحراء من صمت مطبق.. تذكر ان الملك اعطاه شيئا ما.. مد يده واخرج اللوح الصغير، نظر اليه فرأى وجهه منحوتا عليه، وتحته عبارة، حفظ خطوطها، من دون ان يفهم شيئا منها.. ناداه صوت من مكان ما،.. ((أيها الفتى، من أتى بك الى هنا.. أخرج فهذه أرضي!)).. رد غيلان بصوت مرتجف؛.. لقد أتى بي الملك.. اجابه الصوت؛ ليس من ملك هنا غيري.. رد مرة اخرى مؤكدا؛.. وقد سلمني هذا اللوح، ثم رفعه في الفضاء ليريه اياه فتطاول ظل شبح ضخم، تبينت معالمه، شيئا فشيئا، فأذا به هو غيلان نفسه.. بعدها ضحك الشبح ضحكة مجلجلة واختفى فيما كان غيلان، واقفا، وبيده اللوح الذي عليه رسمه، ووسط بحر الحيرة الذي كان تائها فيه، شاهد من بعيد نسبيا أحجارا ضخمة، فتذكر ان الملك عندما اشار اليها باصبعه انفتحت، قال، لا أدري ان كان هذا بابا للخروج او الدخول، لكن علي ان استعين باللوح لأن فيه شيئا من سر الملك لافتحه، وحين تحركت الاحجار الضخمة، شعر بشيء من البرد بعد ان دخل الباب، ووسط الظلام الدامس الذي وجد نفسه فيه، فتح عينيه، رأى رؤوس القصب والبردي في، الاشنة تهزها ريح عالية، وعرف انه كان غارقا في حلم غريب.. ركب مشحوفه واتجه الى العرّاف الذي كان ينظر اليه كالابله وهو يستمع للحلم الذي لم يجد عناء في تفسيره.. قال لغيلان؛ أحمد الله وتب اليه يا غيلان، لقد كنت نائما على أشنة يسكنها الجن، واوصيك ان لا تسخر مني امام الناس بعد اليوم، فلولا التعاويذ التي اكتبهالك كلما طلبتها مني أمك لتلبسك أحد الجن وبقيت معهم، أو أصبحت مجنونا، فحاذر ان تعود لتلك الأشنة مرة أخرى!!
***
ظل غيلان قلقا، مضطرب الفؤاد، يود لو منع الرجال الذين كانوا يحملون خرائط وأدوات ويرطنون مع رجال الحكومة من الاقتراب من الأشنة المسكونة، لكن رجال الشرطة الذين كانوا يجلسون في الزوارق المحيطة بالمكان، ظلوا يمنعونه.. وكان يحدث نفسه، متالما على هؤلاء الذين قد يصيبهم الجن بمكروه ان اقتربوا!.. وعندما ذاع بين الناس فيما بعد ان هؤلاء الرجال ذوي البشرات الشقر اكتشفوا قصرا كبيرا مطمورا تحت الطين والماء، تحدث هو عن القصر، وعن عوالمه المدهشة للناس الذين كانوا يسمعون ويندهشون ويضحكون ايضا، ومنهم العّراف الذي كان يقول لأمه، بعد ان عاد غيلان ليسخر منه ومن تفسيره للاحلام، لقد تلبسه الجن، ولا فائدة من كتابتي التعاويذ، فيما كان غيلان، يصر على انه هو صاحب القصر،
وان الملك، سلمه مفتاحه!.. وهكذا أشيع عن غيلان ان فيه مس من الجن وانه نصف عاقل ونصف مجنون، ولم تنفع تعاويذ أمه التي كانت تعلقها على كتفه طفلا، أو في فراشه صبيا، عندما راح يسمي القصب باسمائه ويداعب الاسماك، وينام وحيدا بين الاشنات العالية، لما يشعر بالتعب، حتى نال منه الجن، يومذاك وصار في نظر الناس،ألذ المجانين في جلساته واحاديثه، وعشقه لاشيائه وتعلقه بها، ألم يتعلق بحسنة ما أن رآها، وقال لاصحابه.. هذه ستكون زوجتي، ولن تكون لي زوجة غيرها! ولن ينفع معه رفض أبوه الذي طرده، بعد اصراره على الزواج من ابنة رجل طردته عشيرته لخلافه مع رئيسها..
* انها أعين الحساد يا غيلان.. قالت له أمه..
انحنى ليقبل يديها، فسقطت نجمتان من عينيه في حجرها حين ذهب ليعزيها بوفاة أبيه..
* هل عشت سعيدا مع حسنة؟.. أردفت تقول
ـ لقد احببتهايأمي..
ردت، كأنها تخاطب نفسها.. هكذا انت يا غيلان، حين تحب تنسى كل شيء!
*****
مثل محارب مهزوم، ركب غيلان المشحوف، واتجه شمالا، نحو قرية (الهباشة) يحدوه الأمل في الحصول على الدنانير العشرة، وكان يستعيد في لحظات توحده، غضبه وهياجه على (علوان الساجر) حين قال له قبل بضعة شهور، عندما جاء القرية ليحضر عرس أحد أولاد (الشيخ موحان)؛.. غيلان لماذا لا تبيعني مشحوفك؟!.. وكان ذلك مقلب دبره لعلوان، أحدهم، ليثيرغضب غيلان عليه مما يزيد من حالة المرح السائدة في اجواء القرية يوم العرس.. يتعالى الضحك بين الحاضرين، الذين يذكون من طرافة الموقف، حين ينقسمون بين مؤيد لغيلان في رفضه الغاضب، وبين داعيا اياه للبيع فالسعر مغر!.. وتظل عبارة غيلان الأثيرة يتردد صداها بين الجميع.. ((هكذا تسكام حجي حمّيد، أنت تركبه))!!.. ومرة اخرى يتعالى الضحك ويعود غيلان وفي داخله شيء من بقايا غضب، لم يجد له صدى عند زوجته حسنة، التي دوختها حكاية العشرة دنانير.. وكيف لا، وثمن المشحوف لا يتجاوز الثلاثة لأحسن انواعها.. سبعة دنانير، اذن، سترمم خراب الحال وتخفف من وطاة العوز الذي انهك العائلة..
ـ هل كانت غلطتي؟.. ظل غيلان يردد مع نفسه، يقول، نعم، كان علي ان لا اذكر الحكاية امامها أصلا، وأنجو من بحر الملامة الذي أغرق فيه كان هذه المدة..
****
قبل ان يصحو من نومه، أحس غيلان ان اسرابا من المشاحيف، أتت كما لو انها تطير فوق الماء، يتوزعها رجال ملثمون، كانو يجذفون بصمت، احاطوا بيته، ثم ترجلوا على الجباشة، وصاروا يقتربون منه شيئا فشيئا، والصمت يغلف وجوههم والمكان، ثم احاطوه نهض، ليستقبلهم، أو ليتبين مطلبهم، لكنهم عاجلوه بان امسكوه، ثم رفعوه، فبدت اشكالهم غائمة، بلا ملامح، وحين طوحوا به، شعر كأنه يطير فوق الماء الذي راح يهبط ويهبط ثم تلاشى تماما، رأى الأرض وقد استحالت صحراء مجدبة، فلم ير أثرا للقصب والبردي ولم يعد يرى اسماكا، كان يشعر انه يطير فوق تلك الصحراء الممتدة، تشايعه اصوات مجلجلة لضحكات الملثمين الساخرة، وحين سقط على الأرض، شاهد مشحوفه وقد تهرأ تماما، وأختفت انتصابته التي كان يباهي بها الأخرين، تقدم نحو المشحوف يركض في الأرض الجرداء، لكن المشحوف راح يبتعد، يسير لوحده تاركا بقايا اضلاعه المتكسرة على الارض اليابسة، تشير للطريق الذي اخذ غيلان يركض فيه، قبل ان يطل على مكان يعرفه، يعرفه تماما، هو مكان بيت (حجي حمّيد)، الذي شاهده غيلان من بعيد، رآه وقد وضع رأسه بين ركبتيه، يرفعه حينا ثم يعود ليضعه مرة أخرى، ومن حوله عشرات المشاحيف المحطمة، فوق اليباب، ووسطها تماما، رأى مشحوفه قد استقر وكأنه عاد لمسقط رأسه ليموت بين أخوته.. حاول ان يكلم (حجي حميّد)، ويقول له، لم أفعل هذا برغبتي، لكن لسانه انعقد حين رأى جموع الملثمين تحيط به وبالمكان كله، وشاهد خناجرهم المستقرة، عند جنوبهم ، ينظرون اليه بتلك الوجوه الغائمة، وكان الصمت سيدا أيضا، ثم هبت ريح عاتية، فراحت المشاحيف تتلاشى كما لو انها قش تطاير امام العاصفة، جثى على ركبتيه ثم قعد، وقبالة (حجي حميّد) تماما، أخذ يبكي ويضع رأسه بين ركبتيه، كمن يعتذر.. وحين صحا من نومه تلفت وهو في الفراش، كانت امتدادات الماء تناديه كأنها تقول، ان موعد الرحيل قد أزف والطريق الى قرية الهباشة طويل ، نهض ونظر الى المشحوف، وقال مع نفسه.. الحمد لله كان حلما!..
****
هز علوان الساجر رأسه غير مصدق، وقال من دون ان يقرأ الحزن الذي غلف وجه غيلان..
ـ((ما أختلفنا يا غيلان.. عشرة، مثل ما تريد ))
ـ((انت اللي عرضت هذا السعر))!
أحس غيلان، وهو يعصر الدنانير بين اصابعه كأنه يهوم في قرارة هوة سحيقة، وقد انقطعت به السبل، اراد ان يقول كلمة او يعلق بشيء، لكن لسانه تخشب، واستعصت عليه المفردات، نهض وكمن يرفع الأرض معه، سار متثاقلا باتجاه بيت (ناهض الفرهود) الذي سيشتري منهم مشحوفا عجوزا يعود به، لكن جسده راح يتثاقل، وأحس انه غير قادر على السير.. التفت فرأى مشحوفه وقد ربط الى الجرف، تحيطه من اماكن عدة نباتات العاقول، ويهمي على وجهه التراب الذي تثيره حركة الاغنام في الحراثي القريبة، شاهد اولاد علوان الساجر، يتقافزون من والى المشحوف الذي كان أنينه يصل اسماع غيلان، ولعله سمع بعض هذا، الأنين، حين توقف عند ذنب الشط، ليلف سيكارته،.. قال غيلان حينها يخاطب المشحوف؛ لقد دللتك كثيرا، وكنت في بيتي أميرا، لكنك لم تنتبه لملابس ابنتي شوفه، ولم تسمع ملامة زوجتي حسنة، ولم تهتم بعوزي، كنت تتبختر في الهور وتتباهى امام الناس لانك تحب نفسك ولم تحبني، أما الأن فقد آن الاوان ليأخذ كل منا نصيبه، لقد أعطيتك من عمري سنينا عديدة، وأريد ان تعطيني من عمرك سنه واحدة، موسم واحد، دشداشة واحدة لشوفه، ولزوجتي حسنة التي ظلت تنشف اضلاعك كلما اوجعها برد المطر، او رذاذ ماء الهور كانت تنسى اوجاع اضلاعها التي تلسعها سياط الريح الباردة حين تنحني مع خرقتها لترفع الماء عنك كي لا تبرد هل كنت تعرف هذا؟!!..
ـ (وتعوفني يا غيلان؟).. خّيل اليه ان المشحوف يقول له ذلك،.. فانهمر الدمع من عينيه وبعصبية رد.. (( اعوفك))!.. ثم ركب المشحوف واتجه شمالا، يجفف دمعه بصمت... ولكن الصوت جاءه من المشحوف متهجدا شاكيا هذه المرة.. (تعوفني يا غيلان)!..
تسمر في مكانه، وراحت يداه ترتجفان، بل جسده كله كان يختض، ثم شعر وكان قوة هائلة قد تلبسته وراحت ترفعه، تدفعه، نحو علوان الساجر، المشغول عنه بمحاورة العائلة التي افرحها الضيف الجديد،.. مشحوف غيلان، ذو العنق العالي والحواف الرشيقة، الذي بدا في انتصابه عند الجرف مثل مهر جامح ، شد الى حائط طيني، وحين ابتعد غيلان عن علوان الساجر، ومعه الدنانير، اخذ المشحوف ينظر بحزن، ويحاول القفز باتجاه غيلان الذي راح يبتعد على امل ان يشتري مشحوفا اخر يعود به.، لكنه ظل يتلفت نحو المشحوف، او انهما كانا يتبادلان الخواطر... هسيس اصوات متداخلة جعلت غيلان يقف منتصبا، ومثل مشدوه ظل يدور في المكان، يدور باتجاه اصوات كثيرة.. صوت شوفه تناديه.. بويه اريد دشداشة، وصوت زوجته حسنة الشاكي وصوت (حجي حميّد)، الذي اوصاه بان لا يركب هذا المشحوف الا معيدي اصيل!. وصوت اغنياته الحائرة بين الكواهين، والتي ما زالت فتية طازجة، تاتيه مع الذكريات القديمة التي تعيد لكهولته شبابا يحن اليه، وها هو صداها يتردد وسط مشحوفه الماسور الى ضفة الشط، تهمي باتجاهه رؤوس الشوك والعاقول، ويذري عليه تراب اليابسة.
ـ ((علوان.. هذي العشر دنانير مالتك اخذها))!!..
انتبه علوان الساجر الى وجه غيلان الذي راه يفور بالغضب. تماما كغضبه قبل شهور حين عرض عليه المبلغ وفكرة بيع المشحوف في عرس ابن الشيخ فرحان.. تقدم غيلان نحو المشحوف، وانتبه الى ان الذي يسحله هو علوان الساجر، ليبعده وسمع ايضا، ان الضحك والصيحات التي تتعالى في المكان هي لعلوان الساجر وصبيته الساخرين الفرحين، بصيدهم الجديد،.. رفس غيلان الارض بقوة، وصرخ كالمجنون ،
.. لا .. التفت حوله الاذرع وحاولوا طرحه ارضا وهو يرفس.. مجنون.. تعالت اصوات الساجر وزوجته واولاده. ثم تمرغت الاجساد في التراب على الجرف، قرب المشحوف الذي كان ينظر بعينين قلقتين لغيلان ماذا سيفعل، افلت غيلان وامسك بعنق مشحوفه الذي ابعده قليلا احد الاولاد عن الجرف، وتقدم به نحو الشمال، يلعن غيلان وجنونه... امسكوه، صاح علوان الساجر، لكن غيلان راح يندفع مثل فحل جاموس جريح، يرغي، ووسط دهشة وذهول الجميع كان غيلان في الشط، يشق الماء الغرين باتجاه المشحوف.. امسك بعنقه. ثم طوقه واستدار معه نحو الجنوب، باتجاه مجرى النهر، او باتجاه الهور، بعد ان تقوس. شابكا يديه وقدميه ليطوق العنق الذي انحنى قليلا كانه يحتضنه هو الاخر. فيما كان ظهره يلامس الماء.. انحدرا متشابكين، تدفعهم الريح. وماء النهر، رويدا رويدا، بعيدا عن اجمات الشوك والعاقول، واتربة الارض اليابسة، تشايعهما صيحات علوان الساجر وزوجته واولاده، ولكنه كان يناى بعيدا عنهم. وعن المكان وعن كل شيء من حوله، وقد استوى بحركة رشيقة، ليظل محتضنا عنق المشحوف، متمددا فوقه، وقد اخذته شبه غيبوبة، ووجد نفسه ينحدر الى اعماق بعيدة، بعد ان انفتحت امامه، باب كبيرة، ليغوص في العالم الذي سرقه من نومه في ذلك اليوم، الذي استيقظ منه ولم يفلح الساخرون منه، ان يزيحوا من يقظته المشدودة لذلك العالم الساحر، فكرة امتلاكه القصر، الذي سلمه مفاتيحه الملك العظيم.. شعر غيلان انه يهبط هناك، بمشحوفه الذي اكتظ بالصبية الذين كانوا ينشدون معه، ذلك النشيد الجميل.. اندفعوا بالمشحوف الذي بدا وكانه يشق كتلا من ضباب ابيض، يتجولون بواسطته في اروقة القصر.. قصر غيلان الذي اودعه اياه الملك وسلمه مفتاح اسراره... اللوح الصغير.. تذكر غيلان ذلك حين شاهد الاحجار الكبيرة او الباب المموه للعالم السري، الذي ظل يمر عليه كل يوم، غير ابه بتحذيرات العّراف، بعد ان علم، بان قصره مخبوء تحت المكان، وحين مد يده ليخرج اللوح، كي لا يصطدم المشحوف بالحجر او الباب، لم يجده، شعر بشيء من الفزع، فيما كان الصبية منشغلون عنه. ينشدون، لكن الباب انفتح على مصراعيه، ليمر المشحوف الذي بدأ يرتفع، رويدا رويدا، كانه يطير بالصبية الجذلين، الذين ادهشه لما تامل وجوههم، انهم جميعا، يشبهونه صبيا، او يشبهون صورته المنحوتة على اللوح، ثم، وكلما ارتفع المشحوف، اخذ يراهم بوضوح اكثر، وها هم بدشاديشهم القصيرة، وقد اكملوا النشيد وتبعثروا في المكان، وكل واحد منهم، قد ركب مشحوفا لوحده، تلفت بينهم مشدوها.. كان (حجي حميّد) يضحك، وهو يوزع المشاحيف والملك من بعيد يراقب بصمت اداء الصبية لنشيد المشاحيف وحين اقترب غيلان من (حجي حميّد)، واحتضنه، احس بنشوة غامرة،.. كان المشحوف قد دلف ماء الهور من ذنب الشط، الذي صار خلفه، وفتح عينيه على اشنات الهور ودروبه التي كانت تتجه به، وهو مستسلم لبقايا صدى النشيد الذي اخذه الى حلمه المدهش، نحو القصر، قصره المخبوء تحت الماء..
عبد الامير المجر
( من المجموعة القصصية : ( غيلان نشيد المشاحيف)، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2009)
1- ( المشاحيف )جمع مشحوف وهو الزورق المستخدم في اهوار جنوب العراق ، والقرى المتاخمةلها ، ويتميز بكونه مطليا بالقار ، ويكاد يقتصر شكله هذا على تلك المنطقة التي توارثت استعماله منذ ازمنة سحيقة.
2- ( الجباشة) هي مكان يقام وسط المياه ( مياه الاهوار)وتكون عبارة عن كميات كبيرة من القصب والبردي الذي يجمع ويرص على بعضه حتى يصل الارض ليثبت عليها ويرتفع فوق الماء لتقام عليه بيوت القصب .
3- ( الكواهين) هي الممرات التي تتصل ببعضها لتؤلف طرق الهور بين النباتات العالية كالقصب والبردي ويقال انها كانت شوارع معبدة في زمن السومريين والحضارات القديمة الاخرى التي قامت على تلك البقاع قبل ان تغمرها المياه ، لذلك لم ينبت فيها القصب او غيره حتى عصرنا هذا !!
4- ( حية كواهين ).. الثعبان الذي يعيش في مياه الهور ، والذي ينساب بخفة ورشاقة وسط الماء وبين عروق الاشنات ، وتاتي في النص ، كاستعارة تنهل من موجودات وكائنات البيئة ,وهي عبارة شائعة هناك.
حين ولج عنق المشحوف، ذنب الشط، انبسطت الواح الرز، داكنة الخضرة امام عيني غيلان، الذي احس ، ان دروب الهور، قذفت به، مثل خرقة بالية، بعد مخاض عسير. فراح يندفع مع مشحوفه بعيدا عن الرحم الكبير الذي لم يعرف العيش بعيدا عنه، وبدا كما لو انه يسبح في مشيمة. ود لو تشبت باعطافها ليؤخر ولادة فرضت عليه، او قررها مكرها قبل يوم او اكثر، لكنه هبط أخيرا.. هبط مجهضا بارادته تشايعه اصوات طيور قريبة، تعالت، وتعانقت مع اصوات لبطات المجذاف وهو يمخر في الماء الغرين للشط الذي تراءى له مثل أفعى تتلوى بين الزروع، وعند ذاك أحس بالتعب!.. حك صدره وشعر كأن جسده النحيل يثقل عليه.. أهو التعب يا غيلان؟!.. تساءل مع نفسه لما ارتخت يداه وكاد المجذاف يسقط منه.. ترقرقت في عينيه دموع، عبثا حاول ان يحبسها، لكنه، شد على المجذاف وعض على شفتيه، فتسللت قطرات دمع لتسقي لحيته التي دعكها باصابعه المتخشبة.. ربط المشحوف عند الجرف، وتنحى قليلا يتهادى كالتائه في مشيته على اليابسة، يتلفت بين صمت الزروع التي انفرشت امامه، وبين أشنات الهور التي بدت خلفه مثل قلاع خضر، خالها تهبط رويدا رويدا من علوها، كلما تقدم، حتى صارت مثل سور أخضر أخذ يتأمله من مكانه غير البعيد... نظر الى المشحوف وغاصت يده في جيب دشداشته القصيرة، ليخرج علبة التبغ، جلس مفترشا أعشاب الجرف الرطبة وراح ينفث دخان سيكارته التي لفها بيده، فيما استحال رأسه الى مرجل يقذف امامه صورا عديدة..
***
عندما انطفأت أعين النجوم بين بيوت القصب الرابضة على ظهور الماء، لملم غيلان متاعه، ووضع الصرة تحت ابطه، متجها الى المشحوف الذي يمد بعنقه طوال الليل باتجاه الجاموسة الوحيدة التي كانت تهز برأسها جنب الصريفة، قبل ان تهبط الى الماء بانتظار قطعان الجاموس التي ستعلن عن فجر يوم جديد، سيكون طعمه مختلفا لغيلان الذي نظرالى جاموسته وفرك عينيه، ليتخلص من بقايا قذى ونعاس ما زال عالقا بهما، ومن تحت الأزار الأحمر الحائل، أخرجت زوجته (حسنة) رأسها تتابع حركته غير مصدقة.. التقت عيناها بعينيه، فأدارت وجهها ثم غطته، فيما كانت (شوفة) ابنتهما تتململ في فراشها وسط (الجباشة) التي توزعتها ثلاث صرائف هي بيته القابع في قرية باعماق الهور.. نهضت لتودع والدها، فعاجلها بالقول.. (نامي بويه)!.. حك شعر رأسه قبل ان يلفه باليشماغ ومسح بنظرة خاطفة البيوت القابضة على ظهور ماء الهور بارتعاش تذكيه ريح خفيفة جعلت رؤوس اشنات القصب والبردي تتمايل بهدوء.. وضع صرة المتاع في المشحوف، وهم بالركوب.. تعالت اصوات طيور مائية من فوقة، وهي تتجه الى مكان ما، فرفع رأسه بينما بدأت قطعان الجاموس، تمخر في ماء الهور المائل للخضرة، عندها أحس أنه ربما تأخر، فأنطلق، لا يلوي على شيء، تاركا وراءه صدى اصوات المجذاف الذي أخذ يرفس الماء بقوة ..
لقد قرر غيلان أخيرا، ان يبيع مشحوفه، ليشتري راحة البال،ويرضي زوجته لتكف عن تبرمها وملامتها له، بعد ان ضاقت به الحال، واخذ العوز ينهش بيته، وها هو يقترب من لحظات وداعه.. سيتركه محاصرا بأتربة البراري والشوك والعاقول، عند ضفتي شط قرية (الهباشة) التي لا يحتفي اهلها كثيرا بالمشاحيف.. سيترك مشحوف غيلان دلال الهور، وستختفي عن اذنيه اصداء الغناء وسط (الكواهين).. هو يعرف هذا، ويعرف كيف تكون المشاحيف مهانة عند أهل القرى المتاخمة للمدن، انهم يعاملونها كالحمير، فحين يعبرون بها الشطوط، يركلون مؤخراتها باقدامهم، بعد ان يدفعوا اعناقها بقسوة،.. ويعرف انهم يتركون صغارهم يعبثون بها، يقفزون منها والى الجرف يضربون حواشيها، فتتألم، لكنهم لا يسمعون تأوهاتها، ويربطونها بالحبال مثل البهائم على أوتاد في الاجراف.. لكنه يعلم أيضا، ان (مشحوفه) الذي كان له كالنديم الحميم، او هكذا تصف علاقتهما الناس سيكون هناك.. بعد ساعات!
***
حين تعالت شمس الضحى، وانقشع المتبقي من الغمام في ذلك اليوم الشتوي البعيد، كان غيلان عند صديقه (حجي حميّد) صانع المشاحيف الماهر، يجلس قريبا من مشغله، عند الموقد، يحتسي الشاي على ضفة الشط الذي استقرت عند جانبه الأيسر مشاحيف عدة، جاهزة للبيع يناول (حجي حميّد) بين الحين والأخر، عباراته الطريفة التي يضحك منها (حجي حميّد) مرة ويغضب مرة اخرى، لكنه سرعان ما يهدأ لأنه يعرف غيلان الذي يتعمد مناكدته، ليغضبه كي يضحك منه.. ثم يجلسان، يحتسيان الشاي معا في أوقات استراحات الرجل الذي كان ينتظر في ذلك اليوم اشخاصا سيأتون من مكان بعيد، ومعهم سعر المشحوف الذي وعدهم باكماله، مثلما وعد زوجته بالمبلغ المنتظر،كي تذهب الى السوق.. أشعل (حجي حميّد) سيكارته وراح ينفث دخانها، قرب غيلان الذي كان يحدثه عن ليلته الفائتة وعن كمية السمك الذي اصطاده وانواعه، وعن مشحوفة العجوز الذي يرغب باستبداله، فيرد (حجي حميّد) بلا مبالاة،.. ((هسى موش فارغ يا غيلان، ان شاء الله بالصيف اسويلك المشحوف اليعجبك)).. ثم يسرح عن غيلان قليلا، يقلب أمورا عدة تشغله ومنها، المشحوف الذي انجزه، وينتظر تسليمه لاصحابه، أو الذين سيكونون أصحابه اذا ما تم البيع وتسلم النقود.. ولأن غيلان، عادة ما يعطي رأيه بالمشاحيف المنجزة، نهض، فيما كان (حجي حميّد) سارحا مع احلامه، وراح يتجول بين المشاحيف يمتدح هذا وينتقد شيئا في ذاك، وفجأة تسمر في مكانه وانعقد لسانه للحظات، قبل ان يصرخ كالملدوغ... (حجي حميّد)!!..
انتبه الرجل على صيحة غيلان الغريبة، ونهض مرتبكا،.. خيرا (شبيك غيلان)؟!..
كان غيلان قد امسك بعنق المشحوف ثم احتضنه واستدرك يصيح كالطفل.. هذا مشحوفي!!!
ـ((غيلان، العن الشيطان ولا تخجلنا ويا الناس اللي راح يجون، انت مجنون.. المشحوف مبيوع)).رد على غيلان بشيء من الغضب..
نظر غيلان الى (حجي حمّيد) وقال بصوت مرتجف..
كتلك مشحوفي وما يأخذه مني شاه العجم!!
سمعت زوجة(حجي حميّد) صوت غيلان، فخرجت من بيت القصب القريب، وهي تضع كفها فوق حاجبيها اتقاء أشعة الشمس..
ـ((غيلان رحمة الوالديك، خلنا نشوف رزقنا، عوف المشحوف))!
كانت تدرك ان غيلان الذي يلازمه الافلاس دائما، يأخذ المشاحيف بلا نقود، ليعود الى صديقه (حجي حميّد) بانواع من السمك، الذي يجعل جلساتهم حول الموقد عامرة بروائح الشواء التي يطيب معها السمر،.. وحين هم (حجي حميّد) ان يسحب غيلان ويعيده الى الموقد، رأى رجلين يتجهان نحوهما، فأدرك عمق المأزق الذي وقع فيه، لأنه يعرف ماذا يعني، ان يتعلق غيلان بشيء..
رد حجي حميد السلام، بارتباك على الرجلين، فيما تنحى غيلان قليلا، يسمع ما سيدور من كلام، وقد عرف انهما الموعودان بمشحوف، وحين سألا (حجي حميّد)عما اذا كان قد اكمل لهما مشحوفا أم لا، صمت قليلا، فمرت اللحظات ثقيلة، أحس غيلان خلالها، كأنه بانتظار حجر كبير سيهوي على رأسه، فبدا متوترا فيما كانت زوجة(حجي حميّد) شبه يائسة.. تلعثم الرجل قليلا، قبل ان يستدرك وينطق بجملة، ستكون بداية لعلاقة غيلان مع مشحوف صار مضربا للامثال عند أهل الهور..
ـ((تعذروني يا جماعة، مشحوفكم بعده ما خلصان، وانشاء الله، حسبة اسبوع وتجون تستلمون مشحوف يعجبكم))!!
تنفس غيلان الصعداء، وانشرحت اساريره، فيما يئست تماما، زوجة (حجي حميّد) من ذهابها الى السوق غدا..
حين عاد الرجلان خائبين وعاتبين أيضا، كان غيلان جالسا، يتناول بقية طعام الغداء، وينظر بانتشاء للمشحوف الذي يتطاول عنقه بين المشاحيف، كأنه فتاة هيفاء وقد اسفرت عن جيدها وشعرها بوجه الريح بين فتيات أقزام..
وقف( حجي حميد)، ينظر لغيلان الذي ظل يلتهم طعامه بلا مبالاة وقال معنفا.. ((ها..رضيت هسه))!
ابتسم غيلان، ونادى على زوجة صديقه (حجي حميّد) طالبا المزيد من المرق ليغمس ما تبقى لديه من خبز،.. لان طريقه طويلة!.. فردت بعصبية، لا يبالي لها غيلان عادة وهي تخاطب زوجها..
ـ((غيلان مجنون، وانت هم صرت مثله.. احسن لي أعوفك وخلي غيلان ينفعك))!..
حين ركب غيلان مشحوفة الجديد، وانطلق به، تناهي اليه صوت حجي حميد.. ((هذا المشحوف سويته مثل حية كواهين، ما يركبه الا معيدي، رابي ويا عروك الكصب))!..
التفت اليه غيلان، وأجابه، بان ضرب الماء بالمجذاف فتطاير باتجاه (حجي حميّد) الذي رد بعصبية مفتعلة... مجنون!!
بعدها غاب غيلان مع مشحوفه في دروب الهور.. يغني..
***
في جولاته اليومية وسط اشنات الهور العالية، والكواهين، كان غيلان، كثيرا ما يفض القصب والبردي المنتصب على الجزر اليابسة، يفضه بيده ويركل العروق باتجاه الجانبين ليهيئ مكانا له عندما ينال منه التعب كي يستريح او ينام، وبعد ان يغط باحلامه مع صور عديدة يستيقظ وقد ارتوى جسده من راحة يوفرها صمت الأشنة العميق، وعذوبة هواء فيئها العالي، لكنه عاد في أحد الايام، مرتبكا، بعد نومة غير طويلة، جلس منها، يتفقد نفسه، بعد ان ظن انه قد استحال شخصا أخر، ممسكا رأسه، يتلفت، ثم سرعان ما ركب مشحوفه عائدا الى قريته،.. تجاوز بيت اهله،ولسان حاله يقول شيئا ، لفت انتباه أمه التي كانت تنظر اليه من مشبك القصب، بعد عودته مبكرا، من رحلة صيده اليومية.. اتجه بمشحوفة نحو الرجل العّراف الذي ظل كثيرا ما يسخر منه، ويستفزه.. لقد استسلم لقوة غريبة، أخذت تدفعه باتجاه تفسير الحلم الغريب... ابتسم العراف لما رآه يدخل صريفته المنعزلة تقريبا عن بيوت القرية، وعاجله قبل ان يسلم ويجلس بكلمة لها معنى يعرفه غيلان..
ـ هل مازال والدك مصرا؟!
جلس غيلان صامتا، ينظر بوجه العرّاف، قبل ان يرد بصوت يغالب حيرته التي كانت بادية عليه..
ـ لا..!! قالها وهو يهز رأسه..
ليس رفض والده زواجه من حسنة، هو الذي يحزنه، وليس رغبته في معرفة طالعه بعد ان توترت علاقته بابيه، وخشيته من ضياع حسنة منه، هو الذي أتى به الى بيت العراف..
ـ حسنة ستكون لي، هكذا قررت!..
رفع العراف رأسه، ثم أفتر فمه عن ابتسامة خفيفة فيها بعض التساؤل الذي لم ينتظر غيلان سماعه ليجيب،.. قال؛
ـ جئتك لأمر اخر!..
...حين غفا غيلان وسط الأشنة، تراءى له انه كمن يقفز من مكان مرتفع ثم أحس انه معلق في الفضاء الذي كان يتسع كلما انحدر نحو الاعماق.. بسط يديه وفتح رجليه، يتأمل فاغرا فمه، ماحوله من أشياء غريبة لم يألفها من قبل، وجوه لأناس لم يرهم في حياته، ينظرون بوجهه ويبتسمون،.. وحين استقر على الارض كانت الفسحة، تستقبل قصرا مدهشا، وفيها كان هو، صبيا مع عشرات الصبية، يتلون نشيدا بلغة، أخذ يتلوها معهم، وكأنه شربها مع حليب أمه ..عندما أقترب الجمع من مدخل القصر شاهد ملكا عظيما، يجلس على كرسيه الوثير، محاطا بحاشيته، والجند المدججين باسلحة احتار في وصفها للعّراف..
ـ وماذا بعد؟.. قال العّراف الذي كان يتابع صور الحلم المتدفقة من فم غيلان ورأسه ايضا.. توقف جمع الصبية، وتوقف النشيد، فيما كانت عينا الملك مصوبتان باتجاه غيلان الذي خفض رأسه استحياء، قبل ان تسحبه يد أحد الجند.. وقف بين يدي الملك، الذي قال له: خذ.. أمسك غيلان الشيء الذي لم يتبين معالمه بيده وضمه الى صدره قبل ان يضعه في جيبه من دون ان يكلم الملك، وانصرف ليقف في الصف من جديد، لكنه لم يجد احدا من زملائه الصبية، تلفت، وشعر بالحيرة، وضع الملك الذي نهض، يده على رأس غيلان ثم دعاه ليرافقه في جولة شملت انحاء القصر الذي كان غيلان يتعثر وينهض بين أروقته الفخمة قبل ان يخرجا قليلا.. ولما اقتربا من مكان تغطيه احجار ضخمة، اشار الملك باصبعه فأنفتح باب واسع، كان مموها ويبدوكأنه صخور كبيرة، رصفت بانتظام، وحين اكتمل انفتاح الباب، أمره الملك أن يدخل،.. مشى غيلان وحيدا، وظل يمشي في ممر طويل، يطل بين الحين والأخر، على اماكن، يعتقد انه رأها من قبل لكنه لا يستطيع ان يتذكر أين حدث ذلك،.. كان اثناء مسيره، يشعر بأنه يتقدم في السن، ولما وقف في مكان تحيطه، اسود متوثبة صامتة، شعر بالخوف، لكن الأسود حيته، بهزة موحدة للرؤوس، وفي المكان وجد زملاءه الصبية، يقفون بانتظام، كأنهم يستعدون لاداء النشيد، الذي نسي كلماته، وعندما حاول ان يصطف معهم، شعر بالخجل، فهو لم يعد صبيا.. تقدم باتجاه أحد الاسود يدفعه الفضول وامسكه، فتهشم.. شعر بالذنب والخوف معا.. استدار، فلم يجد أثرا للصبية أيضا.. وكان الملك من ورائه يبتسم..تقدم نحوه ليعتذر،لكنه اكتشف ان الملك هو الأخر، لم يكن سوى تمثال من حجر، ، اقترب منه فأنهار التمثال وتلاشى.. شعر بانه بات اعزل في المكان الذي بدا موحشا.. اراد العودة من حيث أتى، لكن الطرق من امامه وخلفه قد اختفت وتلاشت معظم معالم المكان، ووجد نفسه في صحراء من صمت مطبق.. تذكر ان الملك اعطاه شيئا ما.. مد يده واخرج اللوح الصغير، نظر اليه فرأى وجهه منحوتا عليه، وتحته عبارة، حفظ خطوطها، من دون ان يفهم شيئا منها.. ناداه صوت من مكان ما،.. ((أيها الفتى، من أتى بك الى هنا.. أخرج فهذه أرضي!)).. رد غيلان بصوت مرتجف؛.. لقد أتى بي الملك.. اجابه الصوت؛ ليس من ملك هنا غيري.. رد مرة اخرى مؤكدا؛.. وقد سلمني هذا اللوح، ثم رفعه في الفضاء ليريه اياه فتطاول ظل شبح ضخم، تبينت معالمه، شيئا فشيئا، فأذا به هو غيلان نفسه.. بعدها ضحك الشبح ضحكة مجلجلة واختفى فيما كان غيلان، واقفا، وبيده اللوح الذي عليه رسمه، ووسط بحر الحيرة الذي كان تائها فيه، شاهد من بعيد نسبيا أحجارا ضخمة، فتذكر ان الملك عندما اشار اليها باصبعه انفتحت، قال، لا أدري ان كان هذا بابا للخروج او الدخول، لكن علي ان استعين باللوح لأن فيه شيئا من سر الملك لافتحه، وحين تحركت الاحجار الضخمة، شعر بشيء من البرد بعد ان دخل الباب، ووسط الظلام الدامس الذي وجد نفسه فيه، فتح عينيه، رأى رؤوس القصب والبردي في، الاشنة تهزها ريح عالية، وعرف انه كان غارقا في حلم غريب.. ركب مشحوفه واتجه الى العرّاف الذي كان ينظر اليه كالابله وهو يستمع للحلم الذي لم يجد عناء في تفسيره.. قال لغيلان؛ أحمد الله وتب اليه يا غيلان، لقد كنت نائما على أشنة يسكنها الجن، واوصيك ان لا تسخر مني امام الناس بعد اليوم، فلولا التعاويذ التي اكتبهالك كلما طلبتها مني أمك لتلبسك أحد الجن وبقيت معهم، أو أصبحت مجنونا، فحاذر ان تعود لتلك الأشنة مرة أخرى!!
***
ظل غيلان قلقا، مضطرب الفؤاد، يود لو منع الرجال الذين كانوا يحملون خرائط وأدوات ويرطنون مع رجال الحكومة من الاقتراب من الأشنة المسكونة، لكن رجال الشرطة الذين كانوا يجلسون في الزوارق المحيطة بالمكان، ظلوا يمنعونه.. وكان يحدث نفسه، متالما على هؤلاء الذين قد يصيبهم الجن بمكروه ان اقتربوا!.. وعندما ذاع بين الناس فيما بعد ان هؤلاء الرجال ذوي البشرات الشقر اكتشفوا قصرا كبيرا مطمورا تحت الطين والماء، تحدث هو عن القصر، وعن عوالمه المدهشة للناس الذين كانوا يسمعون ويندهشون ويضحكون ايضا، ومنهم العّراف الذي كان يقول لأمه، بعد ان عاد غيلان ليسخر منه ومن تفسيره للاحلام، لقد تلبسه الجن، ولا فائدة من كتابتي التعاويذ، فيما كان غيلان، يصر على انه هو صاحب القصر،
وان الملك، سلمه مفتاحه!.. وهكذا أشيع عن غيلان ان فيه مس من الجن وانه نصف عاقل ونصف مجنون، ولم تنفع تعاويذ أمه التي كانت تعلقها على كتفه طفلا، أو في فراشه صبيا، عندما راح يسمي القصب باسمائه ويداعب الاسماك، وينام وحيدا بين الاشنات العالية، لما يشعر بالتعب، حتى نال منه الجن، يومذاك وصار في نظر الناس،ألذ المجانين في جلساته واحاديثه، وعشقه لاشيائه وتعلقه بها، ألم يتعلق بحسنة ما أن رآها، وقال لاصحابه.. هذه ستكون زوجتي، ولن تكون لي زوجة غيرها! ولن ينفع معه رفض أبوه الذي طرده، بعد اصراره على الزواج من ابنة رجل طردته عشيرته لخلافه مع رئيسها..
* انها أعين الحساد يا غيلان.. قالت له أمه..
انحنى ليقبل يديها، فسقطت نجمتان من عينيه في حجرها حين ذهب ليعزيها بوفاة أبيه..
* هل عشت سعيدا مع حسنة؟.. أردفت تقول
ـ لقد احببتهايأمي..
ردت، كأنها تخاطب نفسها.. هكذا انت يا غيلان، حين تحب تنسى كل شيء!
*****
مثل محارب مهزوم، ركب غيلان المشحوف، واتجه شمالا، نحو قرية (الهباشة) يحدوه الأمل في الحصول على الدنانير العشرة، وكان يستعيد في لحظات توحده، غضبه وهياجه على (علوان الساجر) حين قال له قبل بضعة شهور، عندما جاء القرية ليحضر عرس أحد أولاد (الشيخ موحان)؛.. غيلان لماذا لا تبيعني مشحوفك؟!.. وكان ذلك مقلب دبره لعلوان، أحدهم، ليثيرغضب غيلان عليه مما يزيد من حالة المرح السائدة في اجواء القرية يوم العرس.. يتعالى الضحك بين الحاضرين، الذين يذكون من طرافة الموقف، حين ينقسمون بين مؤيد لغيلان في رفضه الغاضب، وبين داعيا اياه للبيع فالسعر مغر!.. وتظل عبارة غيلان الأثيرة يتردد صداها بين الجميع.. ((هكذا تسكام حجي حمّيد، أنت تركبه))!!.. ومرة اخرى يتعالى الضحك ويعود غيلان وفي داخله شيء من بقايا غضب، لم يجد له صدى عند زوجته حسنة، التي دوختها حكاية العشرة دنانير.. وكيف لا، وثمن المشحوف لا يتجاوز الثلاثة لأحسن انواعها.. سبعة دنانير، اذن، سترمم خراب الحال وتخفف من وطاة العوز الذي انهك العائلة..
ـ هل كانت غلطتي؟.. ظل غيلان يردد مع نفسه، يقول، نعم، كان علي ان لا اذكر الحكاية امامها أصلا، وأنجو من بحر الملامة الذي أغرق فيه كان هذه المدة..
****
قبل ان يصحو من نومه، أحس غيلان ان اسرابا من المشاحيف، أتت كما لو انها تطير فوق الماء، يتوزعها رجال ملثمون، كانو يجذفون بصمت، احاطوا بيته، ثم ترجلوا على الجباشة، وصاروا يقتربون منه شيئا فشيئا، والصمت يغلف وجوههم والمكان، ثم احاطوه نهض، ليستقبلهم، أو ليتبين مطلبهم، لكنهم عاجلوه بان امسكوه، ثم رفعوه، فبدت اشكالهم غائمة، بلا ملامح، وحين طوحوا به، شعر كأنه يطير فوق الماء الذي راح يهبط ويهبط ثم تلاشى تماما، رأى الأرض وقد استحالت صحراء مجدبة، فلم ير أثرا للقصب والبردي ولم يعد يرى اسماكا، كان يشعر انه يطير فوق تلك الصحراء الممتدة، تشايعه اصوات مجلجلة لضحكات الملثمين الساخرة، وحين سقط على الأرض، شاهد مشحوفه وقد تهرأ تماما، وأختفت انتصابته التي كان يباهي بها الأخرين، تقدم نحو المشحوف يركض في الأرض الجرداء، لكن المشحوف راح يبتعد، يسير لوحده تاركا بقايا اضلاعه المتكسرة على الارض اليابسة، تشير للطريق الذي اخذ غيلان يركض فيه، قبل ان يطل على مكان يعرفه، يعرفه تماما، هو مكان بيت (حجي حمّيد)، الذي شاهده غيلان من بعيد، رآه وقد وضع رأسه بين ركبتيه، يرفعه حينا ثم يعود ليضعه مرة أخرى، ومن حوله عشرات المشاحيف المحطمة، فوق اليباب، ووسطها تماما، رأى مشحوفه قد استقر وكأنه عاد لمسقط رأسه ليموت بين أخوته.. حاول ان يكلم (حجي حميّد)، ويقول له، لم أفعل هذا برغبتي، لكن لسانه انعقد حين رأى جموع الملثمين تحيط به وبالمكان كله، وشاهد خناجرهم المستقرة، عند جنوبهم ، ينظرون اليه بتلك الوجوه الغائمة، وكان الصمت سيدا أيضا، ثم هبت ريح عاتية، فراحت المشاحيف تتلاشى كما لو انها قش تطاير امام العاصفة، جثى على ركبتيه ثم قعد، وقبالة (حجي حميّد) تماما، أخذ يبكي ويضع رأسه بين ركبتيه، كمن يعتذر.. وحين صحا من نومه تلفت وهو في الفراش، كانت امتدادات الماء تناديه كأنها تقول، ان موعد الرحيل قد أزف والطريق الى قرية الهباشة طويل ، نهض ونظر الى المشحوف، وقال مع نفسه.. الحمد لله كان حلما!..
****
هز علوان الساجر رأسه غير مصدق، وقال من دون ان يقرأ الحزن الذي غلف وجه غيلان..
ـ((ما أختلفنا يا غيلان.. عشرة، مثل ما تريد ))
ـ((انت اللي عرضت هذا السعر))!
أحس غيلان، وهو يعصر الدنانير بين اصابعه كأنه يهوم في قرارة هوة سحيقة، وقد انقطعت به السبل، اراد ان يقول كلمة او يعلق بشيء، لكن لسانه تخشب، واستعصت عليه المفردات، نهض وكمن يرفع الأرض معه، سار متثاقلا باتجاه بيت (ناهض الفرهود) الذي سيشتري منهم مشحوفا عجوزا يعود به، لكن جسده راح يتثاقل، وأحس انه غير قادر على السير.. التفت فرأى مشحوفه وقد ربط الى الجرف، تحيطه من اماكن عدة نباتات العاقول، ويهمي على وجهه التراب الذي تثيره حركة الاغنام في الحراثي القريبة، شاهد اولاد علوان الساجر، يتقافزون من والى المشحوف الذي كان أنينه يصل اسماع غيلان، ولعله سمع بعض هذا، الأنين، حين توقف عند ذنب الشط، ليلف سيكارته،.. قال غيلان حينها يخاطب المشحوف؛ لقد دللتك كثيرا، وكنت في بيتي أميرا، لكنك لم تنتبه لملابس ابنتي شوفه، ولم تسمع ملامة زوجتي حسنة، ولم تهتم بعوزي، كنت تتبختر في الهور وتتباهى امام الناس لانك تحب نفسك ولم تحبني، أما الأن فقد آن الاوان ليأخذ كل منا نصيبه، لقد أعطيتك من عمري سنينا عديدة، وأريد ان تعطيني من عمرك سنه واحدة، موسم واحد، دشداشة واحدة لشوفه، ولزوجتي حسنة التي ظلت تنشف اضلاعك كلما اوجعها برد المطر، او رذاذ ماء الهور كانت تنسى اوجاع اضلاعها التي تلسعها سياط الريح الباردة حين تنحني مع خرقتها لترفع الماء عنك كي لا تبرد هل كنت تعرف هذا؟!!..
ـ (وتعوفني يا غيلان؟).. خّيل اليه ان المشحوف يقول له ذلك،.. فانهمر الدمع من عينيه وبعصبية رد.. (( اعوفك))!.. ثم ركب المشحوف واتجه شمالا، يجفف دمعه بصمت... ولكن الصوت جاءه من المشحوف متهجدا شاكيا هذه المرة.. (تعوفني يا غيلان)!..
تسمر في مكانه، وراحت يداه ترتجفان، بل جسده كله كان يختض، ثم شعر وكان قوة هائلة قد تلبسته وراحت ترفعه، تدفعه، نحو علوان الساجر، المشغول عنه بمحاورة العائلة التي افرحها الضيف الجديد،.. مشحوف غيلان، ذو العنق العالي والحواف الرشيقة، الذي بدا في انتصابه عند الجرف مثل مهر جامح ، شد الى حائط طيني، وحين ابتعد غيلان عن علوان الساجر، ومعه الدنانير، اخذ المشحوف ينظر بحزن، ويحاول القفز باتجاه غيلان الذي راح يبتعد على امل ان يشتري مشحوفا اخر يعود به.، لكنه ظل يتلفت نحو المشحوف، او انهما كانا يتبادلان الخواطر... هسيس اصوات متداخلة جعلت غيلان يقف منتصبا، ومثل مشدوه ظل يدور في المكان، يدور باتجاه اصوات كثيرة.. صوت شوفه تناديه.. بويه اريد دشداشة، وصوت زوجته حسنة الشاكي وصوت (حجي حميّد)، الذي اوصاه بان لا يركب هذا المشحوف الا معيدي اصيل!. وصوت اغنياته الحائرة بين الكواهين، والتي ما زالت فتية طازجة، تاتيه مع الذكريات القديمة التي تعيد لكهولته شبابا يحن اليه، وها هو صداها يتردد وسط مشحوفه الماسور الى ضفة الشط، تهمي باتجاهه رؤوس الشوك والعاقول، ويذري عليه تراب اليابسة.
ـ ((علوان.. هذي العشر دنانير مالتك اخذها))!!..
انتبه علوان الساجر الى وجه غيلان الذي راه يفور بالغضب. تماما كغضبه قبل شهور حين عرض عليه المبلغ وفكرة بيع المشحوف في عرس ابن الشيخ فرحان.. تقدم غيلان نحو المشحوف، وانتبه الى ان الذي يسحله هو علوان الساجر، ليبعده وسمع ايضا، ان الضحك والصيحات التي تتعالى في المكان هي لعلوان الساجر وصبيته الساخرين الفرحين، بصيدهم الجديد،.. رفس غيلان الارض بقوة، وصرخ كالمجنون ،
.. لا .. التفت حوله الاذرع وحاولوا طرحه ارضا وهو يرفس.. مجنون.. تعالت اصوات الساجر وزوجته واولاده. ثم تمرغت الاجساد في التراب على الجرف، قرب المشحوف الذي كان ينظر بعينين قلقتين لغيلان ماذا سيفعل، افلت غيلان وامسك بعنق مشحوفه الذي ابعده قليلا احد الاولاد عن الجرف، وتقدم به نحو الشمال، يلعن غيلان وجنونه... امسكوه، صاح علوان الساجر، لكن غيلان راح يندفع مثل فحل جاموس جريح، يرغي، ووسط دهشة وذهول الجميع كان غيلان في الشط، يشق الماء الغرين باتجاه المشحوف.. امسك بعنقه. ثم طوقه واستدار معه نحو الجنوب، باتجاه مجرى النهر، او باتجاه الهور، بعد ان تقوس. شابكا يديه وقدميه ليطوق العنق الذي انحنى قليلا كانه يحتضنه هو الاخر. فيما كان ظهره يلامس الماء.. انحدرا متشابكين، تدفعهم الريح. وماء النهر، رويدا رويدا، بعيدا عن اجمات الشوك والعاقول، واتربة الارض اليابسة، تشايعهما صيحات علوان الساجر وزوجته واولاده، ولكنه كان يناى بعيدا عنهم. وعن المكان وعن كل شيء من حوله، وقد استوى بحركة رشيقة، ليظل محتضنا عنق المشحوف، متمددا فوقه، وقد اخذته شبه غيبوبة، ووجد نفسه ينحدر الى اعماق بعيدة، بعد ان انفتحت امامه، باب كبيرة، ليغوص في العالم الذي سرقه من نومه في ذلك اليوم، الذي استيقظ منه ولم يفلح الساخرون منه، ان يزيحوا من يقظته المشدودة لذلك العالم الساحر، فكرة امتلاكه القصر، الذي سلمه مفاتيحه الملك العظيم.. شعر غيلان انه يهبط هناك، بمشحوفه الذي اكتظ بالصبية الذين كانوا ينشدون معه، ذلك النشيد الجميل.. اندفعوا بالمشحوف الذي بدا وكانه يشق كتلا من ضباب ابيض، يتجولون بواسطته في اروقة القصر.. قصر غيلان الذي اودعه اياه الملك وسلمه مفتاح اسراره... اللوح الصغير.. تذكر غيلان ذلك حين شاهد الاحجار الكبيرة او الباب المموه للعالم السري، الذي ظل يمر عليه كل يوم، غير ابه بتحذيرات العّراف، بعد ان علم، بان قصره مخبوء تحت المكان، وحين مد يده ليخرج اللوح، كي لا يصطدم المشحوف بالحجر او الباب، لم يجده، شعر بشيء من الفزع، فيما كان الصبية منشغلون عنه. ينشدون، لكن الباب انفتح على مصراعيه، ليمر المشحوف الذي بدأ يرتفع، رويدا رويدا، كانه يطير بالصبية الجذلين، الذين ادهشه لما تامل وجوههم، انهم جميعا، يشبهونه صبيا، او يشبهون صورته المنحوتة على اللوح، ثم، وكلما ارتفع المشحوف، اخذ يراهم بوضوح اكثر، وها هم بدشاديشهم القصيرة، وقد اكملوا النشيد وتبعثروا في المكان، وكل واحد منهم، قد ركب مشحوفا لوحده، تلفت بينهم مشدوها.. كان (حجي حميّد) يضحك، وهو يوزع المشاحيف والملك من بعيد يراقب بصمت اداء الصبية لنشيد المشاحيف وحين اقترب غيلان من (حجي حميّد)، واحتضنه، احس بنشوة غامرة،.. كان المشحوف قد دلف ماء الهور من ذنب الشط، الذي صار خلفه، وفتح عينيه على اشنات الهور ودروبه التي كانت تتجه به، وهو مستسلم لبقايا صدى النشيد الذي اخذه الى حلمه المدهش، نحو القصر، قصره المخبوء تحت الماء..
عبد الامير المجر
( من المجموعة القصصية : ( غيلان نشيد المشاحيف)، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2009)
قصة / غيلان .. نشيد المشاحيف - مركز النور
نحن مركز اعلامي ثقافي فني مستقل , نتخذ من بلاد المهجر مقرا لنا , نحاول مد الجسور مع الوطن و إيصال نشاطاتنا بمختلف المجالات من خلال الصورة و الكلمة.
www.alnoor.se