صلاح البشير - إلَى مَنْ يُهِمُّهُ أمْرِي.. قصة قصيرة

أقبل عليهما مبتهجاً باسماً مُشرِق الوجه والنفس جميعاً، وقف يعدل هندامه، يدخل منديلاً أحمراً فِي جيب سُترته الزرقاء مرةً ثُم يُخرجه أخرى، يبدو راضياً كل الرضا، ومنصرفاً إلى نفسه عنْ كل الدنيا، كأنَّ فِيْها حاجةً إلى شيءٍ مِنْ اللذةِ بعدَ أنْ أغرقت فِي الألم وإلى شيءٍ مِنْ السرور بعد أنْ أسرف عليها الحزن، خفيف الحركة لا يكاد يجلس إليهما إلا ويحسا مِنْه قلباً يضطرب حماساً، ونفساً تتوثب إلى السعادة توثباً، وعقلاً يكاد يطير طرباً، كأنَّما يُريد أنْ يسبغهما بشيءٍ مِنْ حماسه وسعادته وطربه ليبث فِيْهما حياةً وخصباً ونشاطاً، أو كأنَّه رُد إلى الطفولة بعد أنْ قطعَ مراحل الصبا والشباب وخطا بعض خطواتٍ قصارٍ على درب الكهولة، أو كأنَّه أراد أنْ يقضي يومه فِي جذلٍ وابتهاج أو أنْ يغرق فِي الضحك حتى تنهل الدموع مِنْ عينيه. ابتسم أحد مستقبليه فأسرف فِي الابتسام ووقف مرحباً وهو يقول:
  • مرحى .. مرحى .. ما هذا الذي أراه؟ حلةٌ بهية .. وطلعةٌ ندية..
رد عليه فِي غرورٍ واضحٍ:
  • أشكرك يا يوسف...
ثم التفت إلى مجالسهما سائلاً:
  • وأنت... ماذا تقول؟
أجابه فِي تكلفٍ ظاهر:
  • كعادتك دائماً... تبدو وسيماً...
التفت إلى يوسف سائلاً:
  • ماذا أصابه أيها العزيز؟

أجابه فِي شيءٍ مِنْ الضيق المفتعل:
  • لا عليك.. إنَّه على هذه الحال منذ أنْ عزمت الذي عزمت..
نظر إلي صاحبه دهشاً وقال:
  • أما زلت غير راضٍ يا محمد؟! .. أبعد كل الذي سقته مِنْ أسباب ترفض هذا الزواج؟!
أطال محمد النظر إلى محدثه، نظرةً استحالت إلى أغرب خليط مِنْ البؤس والعطف معاً، كأنَّ هذا الخليط الغريب قد تجمع واتخذ مكاناً بين جفنيه دون أنْ يدري، وظل صامتاً لا يقول أي شيء سوى أنْ يدور بطرفه بين صاحبيه كالذاهل المنكر، ثم أخذ يتهته كأنما يحدث غيرهما قائلاً:
  • لقد اجتهدت فِي منعك مِنْ هذا الزواج ما وسعني الاجتهاد، وآثرت الخير والمعروف لك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، لكني بإصرارك هذا أراك كافراً بالنعمة، جاحداً للجميل، مضيعاً للمعروف، تؤذي نفسك وأهلك بالهين والعظيم مِنْ الأمر على السواء، وقد كنت فِيْنَا خيراً صالحاً لا يمازحه الشر، وقدوة صالحة لا تشوبها شائبة أو شبهة. ألا ترى أنك تسد على نفسك وتكتفي فقط بتدبير الأمر على ما تحب وتشتهي؟!
همَّ بمقاطعته، ولكنه مضى فِي حديثه مكملاً دون أنْ يمكنه مِنْها:
  • لقد ذهب كل شيءٍ وأصبحت حياتك السابقة فيما أرى وجداً كلها، وأصبحت فِي غفلتك المتصلة المخيفة لا تكاد تستوي أو تبين، وأصبح عقلك عاجزاً حتى عنْ تفسير أيسر الأشياء، كأنك تضطر إلى ذلك اضطراراَ. وأنت فِي هذا البؤس المؤلم وهذا الشقاء الذي تسعى إليه، تحتاج إلى مَنْ يمد لك يداً وينالك بمعروف.
لمْ يستطع أنْ يمضي فِي حديثه لأنَّ صوته انحبس فِي حلقه، ولأنَّ دموعه انهملت على خديه غزاراً، كأنَّما يريد أنْ يفر مِنْ صورةٍ لا يستطيع لها ثباتاً، ثم رفع رأسه إلى السماء راجياً أنْ يفتح الله لقلب صاحبه البائس فرجةً مِنْ أمل. وقتئذٍ أغرق يوسف فِي الضحك، وأمسك بكتفي محمد وهو يقول:
  • أراك تعرض على عصام العلل والآفات، كأنما حياته طوع بنانك، تصرفها على ما تهوى وتتحكم فِيْها تحكم مَنْ يملك مِنْ أمرها شيئاً.
صرخ محمد فِي وجه محدثه صرخةً أذهلته، وقال:
  • صه أيها الغبي!.. إنِّي أحاول إصلاح أمره فلا أجد لإصلاحه سبيلاً، وأجتهد فِي أنْ أعبد له طريق العودة إلى الصواب فأجده يسلك طريقاً معاكساً، وأتوسل إلى الله أنْ يضع عنْه هذا الإصر الذي سيثقل كاهله وينغص عليه حياته، وأنْ يرده إلى خير ما كان فِيْه مِنْ سعادة، وأنت تنظر إلى الأمر فِي شيءٍ مِنْ الازدراء والاستخفاف دون أنْ تنسى نصيبك مِنْه، وكيف ذلك؟ وصاحبنا سيتزوج مِنْ صديقة زوجتك العاهرة!
ألجمت المفاجأة صاحبيه، وظلا ينقلان بصريهما بينهما ردحاً غير قليل. لملم عصام شتات نفسه، واعتدل فِي جلسته وقال وهو يحاول أنْ يغالب غضبه ويكظم غيظه ليلبس بُرد الهدوء:
  • كفاك هراء أيها العزيز فقد طفح الكيل، إنك تلح علىَّ بما لا أطيق، أتقول كل الذي قلته فِي يوم عُرسي بدلاً مِنْ مباركتي! أتغار مِنِّي لزواجي مِنْ تلك المليحة؟! ثم تصفها أمامي بالعاهرة! ما عدت أطيق حديثك .. وصرت تثقل علىّ حين تلقاني بوجهك العابس، فإنْ لمْ تطق أمري فليكتئب قلبك ما أردت له أنْ يكتئب، وليبتئس ضميرك ما شئت له أنْ يبتئس، فإما أنْ تلقاني بوجه مستوي المنظر، أو لنْ يعنيني ما يصيبك فِي هذه الدنيا مِنْ خيرٍ أو شر.
نقل محمد ناظريه بينهما محزوناً كئيباً لا يدري ماذا يقول، وقد أخذ وجهه ينقبض، وكادت كلمات صاحبه أنْ تلبسه شيئاً مِنْ الغضب وتخرجه إلى سطوة النفس وهو يراه يغطي عينيه بعصابة الغفلة، ويوقر أذنيه بما لمْ تتعودا سماعه، فما عاد يسمعه وما عاد يرى أين تقع خطواته.. لملم إليه بعض نفسه وقال:
  • أعذرني أيها الصديق فإنَّ عبء أمرك علىَّ ثقيل، وعقلي لا يعينني على فهم حاجتك إليه، وأنا لا أود اصطناع مهنة الخطباء الوعاظ، ولا أحسن النفوذ إلى دخائل نفسك، ولا أحسن الإنباء بالغيب أيضاً، ولكنى أرى أنَّ بينك وبين نفسك شراً منذ اليوم، أما وقد انتهى الأمر بيننا إلى هذا الحد، فإنني أود أنْ أسألك سؤالاً واحداً أنصرف بعده إلى غير رجعة.
تململ عصام وفِي نفسه خليط مِنْ خوفٍ وضيق، وقال:
  • تفضل .. هات ما عندك.. فقط لا تسيء إليها ثانيةً ..
أطرق برأسه برهةً، ثم رفعها وقد تفرقت شفتاه عنْ ابتسامةٍ يسيرة فِيْها شيء مِنْ غضبٍ وكثير مِنْ حُزنٍ، وقال سائلاً صاحبه:
  • ماذا عنْ هدى وأطفالك الثلاثة؟
ترنح عصام ترنح السكير، مسترجعاً سؤال صاحبه استرجاع الذاهل، الذي يسمع ويعي ولكنه ينكر ما يسمع ويعي ولا يحسن مع ذلك الرد عليه. وأطرق يوسف إطراق الرجل الذي يعلم أنَّه يأتي إثماً مِنْ الأمر ويفعل مِنْه منكراً، ولكنه مع ذلك يلتمس لنفسه ولصاحبه العذر فِيْما يأتيان ويفعلان. قطع الأخير حبل الصمت وقد بلغ منهما مبلغاً، وقال فِي صوتٍ خفيضٍ كذوبٍ:
  • سيمسكهم معززين مكرمين.
استجمع عصام بعض شتات نفسه، كأنَّ كلمات صاحبه الأخيرة قد ردت إليه بعض رشده أو كأنَّها أخرجته مِنْ يم الإثم إلى بر الصلاح وجعلته يتهته فِي صوتٍ فاترٍ حائر:
  • نعم .. نعم .. سأمسكها معززةً مكرمةً .. نعم .. هي وأولادها
ثم رفع رأسه ينظر إليه فِي استحياءٍ وأردف:
  • .. وسأوسع عليهما فِي الرزق، وأقوم لهم بأكثر مما يحتاجون إليه
أجابه فِي صوتٍ حزين:
  • إنني لا أملك إصلاح ما فسد مِنْ أمرك، والله وحده القادر على أنْ يرد الناس أخياراً وأبرارا. ولكن .. خذ عنِّي هذا المظروف الذي أثقلني، واستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
أخذ عصام المظروف بيدٍ مرتجفة وهو يرى صاحبه يوليه ظهره فِي وجه كسته الظلمة ولفه الانقباض .. شق المظروف فِي لهفةٍ وجلةٍ، وجعل يقرأ فِي صوتٍ عالٍ:

إلى مَنْ يُهمه أمري..
أيها الحر - غفر الله لك وأطال بقاءك – حين تقرأ كتابي هذا ستعلم أنَّه يرنو إليك، وأنت كما عرفتك دائماً رجل متئد رزين، شديد الوقار، عظيم الحُلم، تملأ النفوس بشراً، والقلوب حبوراً، وتقضي لك الأقدار أنْ تستقبل النهار مغتبطاً حين يشرق نوره، وتستقبل الليل مبتهجاً حين تدلهم ظلمته، وتنفق ما بينهما فِي عملٍ هادئٍ مريح. ولكن! .. كل شيء منتهٍ إلى السأم إذا اتصل، حتى الحياة الراضية، والنعمة الدائمة، والعيش الهادئ المطمئن. فلست أنكر مِنْك أنْ تملَّ هذا النعيم المقيم، وتطمع فِي الترفيه عنْ نفسك بقليلٍ مِنْ البؤس يأتيك مِنْ بعيد، وفضل مِنْ الحزن يعبر إليك المحيطات والبحار، فيبلغ نفسك الوادعة الهادئة، كأنه الصدى الضئيل. والناس يرفهون على أنفسهم بما يستطيعون، والله يقسم الحظوظ بينهم بما يريد. لست أدري وقع كتابي إليك هذه المرة، فقد كنت فِيْما مضى مِنْ أيامٍ تقرأ كتابي إليك فيقع فِي نفسك موقع الماء الذرب على موضع الألم. وأنا أخشى أنْ أسوءك بإثارة الحزن والأسى فِي نفسك والندم فِي قلبك، حين ترى نفسك فِي هذا الكتاب فتنكرها أشد الإنكار، وتود لو تجهلها، أو تستطيع أنْ تفلت مِنْها، وأخشى أنْ يسوءك مِنْه تذكيرك بما مضى، وأخشى أنْ يُحزنك مِنْه صعوبة الرجوع إلى ما قد سلف، أو يشق عليك أنْ تستبين ألا سبيل إلى استدراك ما فات، ولا استئناف ما فرط، كأنْ قد سبق السيف العذل. لا تغضب .. لمْ أرد إغضابك، ولو قد أردت إليه لما استطعته ولا قدرت عليه .. ولكني أخشى أنْ ينبئك كتابي بأنَّك قد تجنيت علينا فِي غير حاجةٍ للتجني، وتكلفت قطيعتنا فِي غير مقتضى لتكلفها، وأقدمت عليها حين كان كل شيء يدعوك إلى أنْ تحجم عنْها وتسمو بنفسك عنْ فِعلها، وأخشى أنْ يسوءك كتابي وأنت الزوج المحب والأب الودود، فتشق علىَّ وتكلفني أكثر مما أطيق، فإنِّي ما كنت أحسب أنْ الدهر يفعل بالناس مثل ما فعل بنا.
إلى مَنْ يُهمه أمري..
إنَّك تعلم أنني أنثى لا تحسن احتمال المحنة ولا الثبات للخطب، وتعلم أنَّ للأنثى خوفاً خفياً دائماً، يتسرب إلى قلبها فتسري له فِي جسمها كله رعدة قوية لا يعرفها غيرها، وتعلم أنَّ هذا الخوف يصوّر لها ما شاء مِنْ الصور حين يغزو قلبها فيصرفها عنْ الحياة ويصرف الحياة عنْها. وإنِّي لأشهد الله أنِّي ما عرفت فِيْك انحرافاً عنْ الجادة حين يطول السير فِيْها، ولا عرفت فِيْك جنوحاً إلى الشر ولا رغبة فِي البؤس حين يثقل عليك اتصال النعيم، ولاعرفت فِيْك اعوجاجاً يمنع اتصالك بذوي مودتك، ولا التواءً يسوقك إلى جحود حقوق الزوج والأبناء، ولا تطرفاً تنفرد فِيْهِ بالسعادة والغبطة دون أهلك، وأنَّك كنت فِيْنَا طيب النفس، قرير العين، رضِي البال، تثير ابتسامنا، وتبعث الضحك فِيْنَا، وتدعونا إلى التأمل والتفكير وأنت واثقٌ بنفسك إلى أبعد حدود الثقة. وفجأة! .. أفقت ذات صباح، فإذا أنت سؤوم لا تطمئن إلى لونٍ مِنْ العيش معي، ولا تسيغ مِنِّي مودة تسعى إليك، كأنك تتجرع مِنِّي الألم غصصاً، وتتلقى مِنْ عُشرتي أهوالاً، وكأنَّ قلبك يلتوي عنِّي ما استطاع إلى الالتواء سبيلاً. أصبح كل شيءٍ فِي حياتنا مسخاً، وكل ما فِيْها عبوساً غير ضاحكٍ ولا باسم. لا تُرِع .. يا حبيبي .. لا تُرِع، وإنْ كان أمري كله يدعو إلى الرَوَع. منذئذ انكفأت على نفسي أسألها ما جنت، فلم أجد جواباً حتى تسمعتك ذات ليلة وأنا أنقل طرفي فِي وجهك وأنت نائمٌ تنطق باسمها فِي أحلامك مردداً فِي صوتٍ يسرف فِي الغبطة والسرور "أحبك يا شاديتي الجميلة .. أحبك كما لمْ أحبْ مِنْ قبل .. أحبك وأريد الزواج منك" ..تسمعت كلماتك فما عُدت أستطيع، وقفز قلبي مِنْ بين أضلعي وسامني سوء العذاب، وأدركت أنَّ سبب التواء قلبك عنَّي أنثى أخرى، تسربت إليه فِي غفلةٍ مِنِّي. ورغم ذلك، لمْ أصدق بادئ الأمر ، غير أنَّ مسبحة الأيام قد كرت مؤكدةً ما سمعته، وعلمت أنَّك ستدخل علىَّ ضرةً، وأنَّك ستمسكني على كُرهٍ مِنِّي .. ربما لأنَّك حسبت أنْ حُبي لك لا يُعينني على فراقك، أولأنْني مقيدة لك ببطونٍ ثلاثة. ولأنْني أنثى فقد تسقطت أخباركما وعلمت أنَّها كزهرِ الربيع يتردد قبل أنْ ينفتح، وأنَّها كالغصن الأخضر تؤامر نفسها قبل أنْ تطاوع النسيم حين يُريد أنْ يعابثها فتعابثه، وأنْ يميل بها فتميل معه حيث يميل، وأنَّها كانت تشرب فتظمأ، حتى عرفتك فرويت بلا شراب. وعرفت – والله على ما أقول شهيد – أنها تقارف الإثم، وتكتحل بمرواد الفسوق. فعجبت لأمرك، ثم نظرت إلى المرآة أطالع نفسي فِيْها، فإذا بعض خيوط الصباح قد تسربت إلى ليل شعري، فضممت بطوني الثلاثة إلى صدري، وأنا أتكلف الوقار تكلفاً، ثم دعوت الله أنْ يشفيك مِنْ سقمك.
إلى مَنْ يُهمه أمري..
أعلم أنَّك لا تحب أنْ تؤذي أحداً، ولا أنْ تتقدم إلى أحدٍ بِما يكره، وأعلم أنَّك حرٌ لنْ تسومني سُوء الضُر، ولنْ ترهقني مِنْ أمري عسراً. أما وقد استوفيت مِنِّي حق طاعتك، فلا تمسكني على ما أكره مِنْ الألم والبؤس، وأنت تدخل علىَّ أخرى تنقص علىّ حياتي، وتذيقني ألم الغيرة، وشقاء الحسد، وتورطني فِي غدرك والكيد لك والكذب عليك، أنت تعلم ".. أنَّ كيدهنَ عظيم"، وأنا بذلك لا أكفر بنعمتك، ولا أجحد جميلك، ولا أضَيع معروفك، ولا أعمل إلى نسيان إحسانك، وسأظل أذكر فِيْك الزوج الوفي، ولكني أنثى لا تقبل مشاركةً فِي بعلها.
المخلصة: هدى
انتهى مِنْ قراءة الكتاب وقد استوطن نفسه قلق بلغ حد الجزع، وتخلّع قلبه فأخرجه عنْ وقاره المألوف، وتمرغت روحه فِي وحل الحزن إلى أقصاها، واصطلت بنار الندم إلى أشدها. يضطرب قلبه كأنه لا يعرف للثبات أمراً، ويختلف إلى الألم فلا يجد مِنْه مخلصاً. وكرت مسبحة الذكريات، فتذكر حين التقى هدىً لأول مرةٍ فِي رواق الجامعة، وهي تخطب فِيْهم وتحثهم على الثورة، والخروج إلى الشارع، لأنَّ أهل الحل والربط قد حادوا عنْ الطريق المرسوم. كان الجو السياسي فِي تلك الأثناء قلقاً مضطرباً، كأنَّه رواح بين عهدٍ قديمٍ مدبر وجديد مقبل، يحمل آمال الشعب فِي العيش الحر، ويجري فِيْه الحكم بين الناس بالحق والعدل لا بالحب والبغض. كانت تردد فِي صوتٍ كأنَّه يخرج إليهم مِنْ بين انطلاق الفجر وإشراق الصباح، كنسيم عليل رقيق:
  • هذه بلادنا التي نعيش فيها على اختلاف مشاربنا ومنازعنا، فلنختار أنْ يكون منهجنا فِي الاقتراب من قضاياها منهجاً عقلانياً، لأن العقل - لا الهوى – هو الذي يعطي للحكمة الوطنية ثباتها مع تبدل الأحوال.
.. هكذا وضعها الله فِي مخيلته دائماً، أحبها وأحبته، وارتادا معاً دهاليز الحياة، فماذا حدث؟!! ها هو يرى نفسه على حقيقتها، فينكرها أشد الإنكار، ويود لو يجهلها، أو يستطيع أنْ يفلت منها. الندم يلدغ قلبه على ما أضاع مِنْ حق نفسه وأهله، وما بدد مِنْ مودة كان الواجب عليه أنْ يحتفظ بها، هل يستطيع أنْ يصل ما انقطع مِنْ أسباب ويجمع ما تفرق مِنْ شمل؟ أم أنَّ ما بينه وبينها أمد بعيد لا سبيل إلى قطعه، وهوة سحيقة لاسبيل إلى عبورها. قام مِنْ كرسيه محاولاً أنْ يقف، أمسك بربطة عنقه يريد حلها، ثم شهق شهقةً انقطعت بعدها أنفاسه.

الرياض – المملكة العربية السعودية (أكتوبر 1999م).
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...