تتغير طبيعة الملاحَظ وفق الملاحِظ. هذه فكرة انبثقت في حقل الفيزياء وأسست للنظرية النسبية، ثم فيما بعد النظرية الكمية التي مازال يصعب شرحها للطلاب والهواة الفضوليين حتى الآن، فميكانيكا الكم، أو الكمومية، حالة علمية معقدة بنيت على حدوس ذكية، شكلت ثورة على الفيزياء الكلاسيكية بدمجها بين الخاصية الجسيمية والخاصية الموجية لأول مرة، وهي معنية بالحقيقة غير المتأتية. لكن الحدوس الباحثة عنها هي التي تولد المعرفة وتستخدم الاستنتاجات في دفع العلم قدما، فالطبيعة الاحتمالية لتنبؤات نظرية الكم لا يمكن تفسيرها بأي نظرية حتمية أخرى، وهي صفة أصيلة في الطبيعة التي نعيش بها وليست نتاجا لنقص في المعرفة والمعلومات نعاني منه، ما جعل إنشتاين الرافض لللاحتمية الكمية يقول غاضبا "لكن الله لا يلعب بالنرد". وهذه الثورة في حقل الفيزياء التي قوضت أسس الوضعية المنطقية انتقلت إلى حقول معرفية أخرى وأحدثت داخلها ارتباكا كبيرا.
يقول يوسن س. نوفسكي ــ في كتابه (أرسان العقل) ترجمة نجيب الحصادي. قيد الطبع ــ في حديثه عن البشارة العلمية التي مفادها كما يرى أشياع الحتمية أنه لو عرف الإنسان كل أوضاع الكون الراهنة وأدرك النواميس التي تحكم ظواهره، لاستطاع الدراية بكل أوضاع مستقبله ــ: "ميكانيكا الكم أحدث فروع الفيزياء، تشكّك في هذه البشارة. العالم الكمومي غير قابل للفهم لأنه لا رجاء في معرفة مجمل خصائص أي شيء في آن واحد. فكلما كان الملاحِظ أكثر دقة في قياس طاقة حدث كمومي ما، قلّت قدرته على تحديد زمنه؛ وكلما ضاعف جهوده لتحديد موضع إلكترون ما، استعصت عليه الدراية بكمية حركته. معرفتنا لأشياء مأتى جهلنا بأخرى، كما لو أن العلم يحتم الجهل. بعد ميكانيكا الكم، لم يعد المجرِّب منفصلا عن التجربة، بل أصبح جزءا لا يتجزأ منها يؤثر على ما يسفر عنها، بل يسهم في تشكيله. وهو لا يتعرف على الخصائص حين يقوم بقياسها، بل قياسه هو ما يجعل الخصائص محددة بشكل جيد. قبل القياس، لم يكن المجرّب يجهل ما تكونه الخاصية، بل لم تكن هناك خاصية يجهلها".
هذه الفكرة تدرجت إلى حقول العلوم التجريدية ورصد الحوادث التي تقع حولنا بنفس شحنتها من الريبة حيال مقدرتنا على الوصول إلى حقائق موثوق فيها. وثمة أمثلة قد تسعف هذه التصور: فلنتخيل قرية صغيرة تسير حياتها اليومية بشكل اعتيادي، ثم يُعلن عن فريق تلفزيوني مراقِب سيزور القرية لإنجاز تقرير حولها، وغاية هذا الفريق رصد طبيعة وسلوك ومظاهر الحياة في القرية، لكن ما يحدث أن سكان هذه القرية ستتغير سلوكياتهم وطبائعهم بمجرد علمهم بزيارة هذا الفريق لقريتهم، وبالتالي سيخرج هذا الفريق الذي حاول أن يتقصى أكبر درجات الدقة في عمله المحترف بانطباعات لا تمثل حقيقة حياة هذا القرية الطبيعية، وربما لو استخدم أحد أفراد الفريق كاميرا وميكروفونا مخفيا فستكون النتائج مختلفة تماما.
وضع أي شيء تحت الملاحظة يغير طبائعه، سواء كان هذا الشيء خاضعا لتجربة في الفيزياء، أو فردا أو مجتمعا، وقد اضطر عالم فيزياء كان يبحث عن قيمة ثابت الجاذبية الذي تركه نيوتن غُفْلاً أن يخرج من الغرفة ويراقب تجربته عبر ثقب من الخارج، لأن وجوده داخل الغرفة سيؤثر في نتائج هذه التجربة التي تعتمد على ملاحظة التغيرات في كرات معلقة بأبعاد محسوبة في مجال مغناطيسي محدد القيم.
هذا المعنى يمكننا أن نتحدث عن الميديا عموما، أو وسائط الإعلام بكل أنواعها، بكونها أدوات ملاحظة تجتاح الحياة الطبيعية، وهو فضاء يمتهن المراقبة الدقيقة والملاحظة في رصد انطباعاته وحقائقه عن المجتمعات والسياسات والأخبار وغيرها، لكن، لأن الميكرفون والكاميرا هما أداتا هذه الملاحظة التي تسعى إلى إنشاء تقارير صحفية، فإن كل ما خلفها أو أمامها سيتغير، وبالتالي فرغم أن كل القنوات تضع شعارا يؤكد "الحقيقة أولا" أو "الحقيقة في متناولنا"، يظل مجرد وهم، بناء على أنهم أنفسهم كملاحظين يغيرون حقائق ما يرصدونه، وهذه الشبكة العملاقة من المشاهد والصور والتأويلات تخلق عالما افتراضيا وتقارير مصورة من خلالها تُتخذ القرارات، بما فيها قرارات الحروب. تضع العالم أمام شاشة عملاقة تشبه جدار كهف فلاطون، الذي يضرب مثلا عن الخديعة التي يتعرض لها عقل الإنسان. يتخيل فلاطون، في كتابه الجمهورية، كهفا سُجن فيه عدة أشخاص موجهة عيونهم صوب جداره الخلفي بأغلال تجعلهم غير قادرين على تحريك رؤوسهم، ودون علمهم ثمة أشخاص خلفهم يحجبهم حائط قصير يعرضون أمام ضوء نار أشياء تنعكس ظلالها على حائط الكهف، ما يجعلهم يتصورون أن ما يرونه أمامهم هو حقيقة الأشياء وهي الواقع، ولو حدث أن هرب أحدهم ورأى حقيقة الأشياء التي تحولت إلى صور وظلال وجاء ليخبرهم فمن الصعب أن يقنعهم بالخديعة.
"The less you know the better of you are" هذا المثل الإنجليزي الشائع "كلما عرفت أقل كلما أصبحت أفضل" يستدعيه المفكر الفرنسي بيار بورديو في كتابه المهم "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول". والأفضل في هذه الحالة هم نوعية أولئك الضيوف الذين تفضلهم القنوات التلفزيونية للحديث عبر شاشتها، أولئك الذين يطلق عليهم في الولايات المتحدة اسم (Panelists) أو (المحترفون) الذين يمثلون تلك القائمة في دليل هواتف التلفزيون والذين دائما تحت الطلب، وهم عادة يعرفون توجهات القناة وخطوطها الحمراء والخضراء، يتحدثون كثيرا وبحماس دون أن يقولوا شيئا، وغالبا دون أن يجيبوا عن أي سؤال، لكن تحت ذريعة مدى استجابة الجمهور لهذا النوع من المتحدثين يصبحون هم الأفضل. فالصحفيون ـ كما يستطرد بورديو ـ "الذين يتذرعون بأن ذلك هو ما يطلبه الجمهور حين يبررون سياسة التبسيط الديماغوجية هذه، لا يفعلون إلا إسقاط نزعاتهم الخاصة على رؤيتهم للعالم؛ وبخاصة عندما يدفعهم الخوف من الملل إلى إعطاء الأولوية للعراك بدلاً من النقاش، للخلاف والهجوم بدلاً من الجدل، أي لوضع كل شيء موضع التنفيذ لتفضيل المواجهة والصدام بين الأفراد، ورجال السياسة تحديداً، بدلا من إبراز وتحديد المواجهة بين حيثياتهم".
وبالتالي فإن سيل الأخبار والمعلومات المتدفق طيلة 24 ساعة داخل بيوت العالم يقدم كل شيء ماعدا الحقيقة، ويصبح البحث عما تستجيب له أذهان المشاهدين غايتها الأولى من أجل الحصول على أكبر درجات من الإقبال تجلب أكبر قدر من الإعلانات الممولة. في بحوث مؤسسات الدعاية والترويج "مجموعات التركيز ما عادت تمثل استطلاعا لما يحبه أو ما لا يحبه مشاهدون مختارون بعناية. وبخلاف ذلك، صار التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي يستخدم لدراسة استجابات عقول المشاهدين" كما يقول ألان دونو، في كتابه (نظام التفاهة).
وهذا ليس دحضا لحرص بعض الوسائط الرصينة على توخي المهنية والصدق، لكن طبيعة العلاقة بين الملاحِظ والملاحَظ تنتج سلطة خفية تشوّش على ما يحاول الخروج به من نتائج، والحقائق في هذه الحالة ستكون حقائق فعلا في عالم افتراضي، لكن بمجرد نقلها إلى العالم الواقعي تصطدم بكونه مختلفا، وربما هذا ما يفسر كل المبادرات الفاشلة التي كانت تقدم لعلاج الأزمات في المنطقة، فلا مبادرة تسير قدما لأنها صيغت وفق تقارير (المراقبين)، ووفق الخيالات التي تتراءى أمامنا (على الجدار الخلفي) في الشاشات المنتشرة بعرض العالم وطوله.
يقول يوسن س. نوفسكي ــ في كتابه (أرسان العقل) ترجمة نجيب الحصادي. قيد الطبع ــ في حديثه عن البشارة العلمية التي مفادها كما يرى أشياع الحتمية أنه لو عرف الإنسان كل أوضاع الكون الراهنة وأدرك النواميس التي تحكم ظواهره، لاستطاع الدراية بكل أوضاع مستقبله ــ: "ميكانيكا الكم أحدث فروع الفيزياء، تشكّك في هذه البشارة. العالم الكمومي غير قابل للفهم لأنه لا رجاء في معرفة مجمل خصائص أي شيء في آن واحد. فكلما كان الملاحِظ أكثر دقة في قياس طاقة حدث كمومي ما، قلّت قدرته على تحديد زمنه؛ وكلما ضاعف جهوده لتحديد موضع إلكترون ما، استعصت عليه الدراية بكمية حركته. معرفتنا لأشياء مأتى جهلنا بأخرى، كما لو أن العلم يحتم الجهل. بعد ميكانيكا الكم، لم يعد المجرِّب منفصلا عن التجربة، بل أصبح جزءا لا يتجزأ منها يؤثر على ما يسفر عنها، بل يسهم في تشكيله. وهو لا يتعرف على الخصائص حين يقوم بقياسها، بل قياسه هو ما يجعل الخصائص محددة بشكل جيد. قبل القياس، لم يكن المجرّب يجهل ما تكونه الخاصية، بل لم تكن هناك خاصية يجهلها".
هذه الفكرة تدرجت إلى حقول العلوم التجريدية ورصد الحوادث التي تقع حولنا بنفس شحنتها من الريبة حيال مقدرتنا على الوصول إلى حقائق موثوق فيها. وثمة أمثلة قد تسعف هذه التصور: فلنتخيل قرية صغيرة تسير حياتها اليومية بشكل اعتيادي، ثم يُعلن عن فريق تلفزيوني مراقِب سيزور القرية لإنجاز تقرير حولها، وغاية هذا الفريق رصد طبيعة وسلوك ومظاهر الحياة في القرية، لكن ما يحدث أن سكان هذه القرية ستتغير سلوكياتهم وطبائعهم بمجرد علمهم بزيارة هذا الفريق لقريتهم، وبالتالي سيخرج هذا الفريق الذي حاول أن يتقصى أكبر درجات الدقة في عمله المحترف بانطباعات لا تمثل حقيقة حياة هذا القرية الطبيعية، وربما لو استخدم أحد أفراد الفريق كاميرا وميكروفونا مخفيا فستكون النتائج مختلفة تماما.
وضع أي شيء تحت الملاحظة يغير طبائعه، سواء كان هذا الشيء خاضعا لتجربة في الفيزياء، أو فردا أو مجتمعا، وقد اضطر عالم فيزياء كان يبحث عن قيمة ثابت الجاذبية الذي تركه نيوتن غُفْلاً أن يخرج من الغرفة ويراقب تجربته عبر ثقب من الخارج، لأن وجوده داخل الغرفة سيؤثر في نتائج هذه التجربة التي تعتمد على ملاحظة التغيرات في كرات معلقة بأبعاد محسوبة في مجال مغناطيسي محدد القيم.
هذا المعنى يمكننا أن نتحدث عن الميديا عموما، أو وسائط الإعلام بكل أنواعها، بكونها أدوات ملاحظة تجتاح الحياة الطبيعية، وهو فضاء يمتهن المراقبة الدقيقة والملاحظة في رصد انطباعاته وحقائقه عن المجتمعات والسياسات والأخبار وغيرها، لكن، لأن الميكرفون والكاميرا هما أداتا هذه الملاحظة التي تسعى إلى إنشاء تقارير صحفية، فإن كل ما خلفها أو أمامها سيتغير، وبالتالي فرغم أن كل القنوات تضع شعارا يؤكد "الحقيقة أولا" أو "الحقيقة في متناولنا"، يظل مجرد وهم، بناء على أنهم أنفسهم كملاحظين يغيرون حقائق ما يرصدونه، وهذه الشبكة العملاقة من المشاهد والصور والتأويلات تخلق عالما افتراضيا وتقارير مصورة من خلالها تُتخذ القرارات، بما فيها قرارات الحروب. تضع العالم أمام شاشة عملاقة تشبه جدار كهف فلاطون، الذي يضرب مثلا عن الخديعة التي يتعرض لها عقل الإنسان. يتخيل فلاطون، في كتابه الجمهورية، كهفا سُجن فيه عدة أشخاص موجهة عيونهم صوب جداره الخلفي بأغلال تجعلهم غير قادرين على تحريك رؤوسهم، ودون علمهم ثمة أشخاص خلفهم يحجبهم حائط قصير يعرضون أمام ضوء نار أشياء تنعكس ظلالها على حائط الكهف، ما يجعلهم يتصورون أن ما يرونه أمامهم هو حقيقة الأشياء وهي الواقع، ولو حدث أن هرب أحدهم ورأى حقيقة الأشياء التي تحولت إلى صور وظلال وجاء ليخبرهم فمن الصعب أن يقنعهم بالخديعة.
"The less you know the better of you are" هذا المثل الإنجليزي الشائع "كلما عرفت أقل كلما أصبحت أفضل" يستدعيه المفكر الفرنسي بيار بورديو في كتابه المهم "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول". والأفضل في هذه الحالة هم نوعية أولئك الضيوف الذين تفضلهم القنوات التلفزيونية للحديث عبر شاشتها، أولئك الذين يطلق عليهم في الولايات المتحدة اسم (Panelists) أو (المحترفون) الذين يمثلون تلك القائمة في دليل هواتف التلفزيون والذين دائما تحت الطلب، وهم عادة يعرفون توجهات القناة وخطوطها الحمراء والخضراء، يتحدثون كثيرا وبحماس دون أن يقولوا شيئا، وغالبا دون أن يجيبوا عن أي سؤال، لكن تحت ذريعة مدى استجابة الجمهور لهذا النوع من المتحدثين يصبحون هم الأفضل. فالصحفيون ـ كما يستطرد بورديو ـ "الذين يتذرعون بأن ذلك هو ما يطلبه الجمهور حين يبررون سياسة التبسيط الديماغوجية هذه، لا يفعلون إلا إسقاط نزعاتهم الخاصة على رؤيتهم للعالم؛ وبخاصة عندما يدفعهم الخوف من الملل إلى إعطاء الأولوية للعراك بدلاً من النقاش، للخلاف والهجوم بدلاً من الجدل، أي لوضع كل شيء موضع التنفيذ لتفضيل المواجهة والصدام بين الأفراد، ورجال السياسة تحديداً، بدلا من إبراز وتحديد المواجهة بين حيثياتهم".
وبالتالي فإن سيل الأخبار والمعلومات المتدفق طيلة 24 ساعة داخل بيوت العالم يقدم كل شيء ماعدا الحقيقة، ويصبح البحث عما تستجيب له أذهان المشاهدين غايتها الأولى من أجل الحصول على أكبر درجات من الإقبال تجلب أكبر قدر من الإعلانات الممولة. في بحوث مؤسسات الدعاية والترويج "مجموعات التركيز ما عادت تمثل استطلاعا لما يحبه أو ما لا يحبه مشاهدون مختارون بعناية. وبخلاف ذلك، صار التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي يستخدم لدراسة استجابات عقول المشاهدين" كما يقول ألان دونو، في كتابه (نظام التفاهة).
وهذا ليس دحضا لحرص بعض الوسائط الرصينة على توخي المهنية والصدق، لكن طبيعة العلاقة بين الملاحِظ والملاحَظ تنتج سلطة خفية تشوّش على ما يحاول الخروج به من نتائج، والحقائق في هذه الحالة ستكون حقائق فعلا في عالم افتراضي، لكن بمجرد نقلها إلى العالم الواقعي تصطدم بكونه مختلفا، وربما هذا ما يفسر كل المبادرات الفاشلة التي كانت تقدم لعلاج الأزمات في المنطقة، فلا مبادرة تسير قدما لأنها صيغت وفق تقارير (المراقبين)، ووفق الخيالات التي تتراءى أمامنا (على الجدار الخلفي) في الشاشات المنتشرة بعرض العالم وطوله.