أنت الإنسانيَّة بكاملها.
أنت ألِفُها وياؤها. منك تتفجر ينابيعها، وإليك تجري، وفيك تصبُّ.
أنت حاكمها ومحكومها، وظالمها ومظلومها، وهادمها ومهدومها.
أنت واهبها وموهوبها، وناكبها ومنكوبها، وصالبها ومصلوبها.
أنت فقيرها وغنيُّها، وضعيفها وقويُّها، وظاهرها وخفيُّها.
أنت جلاَّدها ومجلودها، وناقدها ومنقودها، وحاسدها ومحسودها.
أنت رفيعها وخسيسها، وأثيمها وقدِّيسها، وملاكها وإبليسها.
أنت ابن كلِّ أبٍ وأمٍّ، وأبو كلِّ أخٍ وأخت. وأنا، كائنًا مَن كنتُ، لا مهرب لي منك، ولا لك منِّي، لأنك أنا، وأنا أنت، وكلانا الإنسانيَّة بأسرها.
لولاك لما كنتُ كما أنا، ولولاي لما كنتَ كما أنت، ولولانا لما كان سوانا كما هو.
لولا الذين سبقونا لما كنَّا، ولولانا لما كان في رحم الزمان إنسان.
* * *
أفي قلب جارك سعادة؟ – ألا فاغتبطْ بسعادته، لأن في نسيجها خيطًا من نَسْج روحك. وما همُّك أرأتْ عينُ جارك ذلك الخيط أم لم ترَه – فالعين التي ترى كلَّ شيء تراه!
أفي قلب جارك حرقة؟ – فليحترقْ قلبُك بها، لأن في نارها شرارةً من موقد بغضك وإهمالك.
أفي عين جارك دمعة؟ – فلتدمعْ بها عينُك، لأن فيها ذرَّة من ملح قساوتك.
أعَلى وجه جارك بسمة؟ – فليبسمْ لها وجهُك، لأن في حلاوتها شعاعًا من نور محبتك.
أجارُك في السجن لجريمة اقترفَها؟ – ألا فأرسلْ بعضًا من قلبك معه إلى السجن، لأنَّك شريكه في جريمته، وإنْ لم تحاكمْك السلطةُ المشروعةُ بشرائعها ولم يقضِ بسجنك رجلٌ مثلك.
* * *
أمس رأيتك ترقص وتصيح في الناس: “صفِّقوا! صفِّقوا!” ألست ترى أن الحياة الجذلة فيك لا ترقص إلاَّ إذا صفَّق لها جذلُ الحياة في سواك؟ فما بالك لا تصفِّق عندما يرقص الغير؟!
أمس سمعتك تشكو وتنوح: “اسمعوني، أيُّها الناس! أنصفوني، أيُّها الناس، فأنا مظلوم!” وممَّن تودُّ أن ينصفك الناس إلاَّ من أنفسهم؟! فإذا كنت تشكو الناس للناس، فعلامَ لا تصغي لشكواهم منك وتنصفهم من نفسك؟!
أمس رأيتك تحصي أرباحك، وتربِّت نفسَك معجبًا بدهائك، وما سمعتك تقول: “هذا ما أكسَبَنيه الناس.” واليوم رأيتك تحسب خسائرك، لاعنًا دهاءَ غيرك، وسمعتك تقول: “هذا ما سَلَبَنيه الناس.” أوَلا تخجل من أن تكون في الحياة شريكًا “مُضاربًا”؟!
* * *
أنت الإنسانيَّة بكاملها، عرفتَ ذلك أم جهلتَه. وأنا صورتك ومثالك. فأين تهرب منِّي إلاَّ إذا هربتَ من نفسك؟!
وإنْ أنت هربت من نفسك – فمَن أنت؟!
* ميخائيل نعيمه، المراحل: سياحات في ظواهر الحياة وبواطنها، طب 9، مؤسسة نوفل، بيروت 1989؛ ص 91-93.
** كاتب لبناني (1889-1988) يُعدُّ، مع جبران خليل جبران، من كتَّاب التيار الثيوصوفي في الأدب العربي الحديث. من مؤلفاته: مذكرات الأرقش، صوت العالم، كتاب مرداد: منارة وميناء، اليوم الأخير. (المحرِّر)
أنت ألِفُها وياؤها. منك تتفجر ينابيعها، وإليك تجري، وفيك تصبُّ.
أنت حاكمها ومحكومها، وظالمها ومظلومها، وهادمها ومهدومها.
أنت واهبها وموهوبها، وناكبها ومنكوبها، وصالبها ومصلوبها.
أنت فقيرها وغنيُّها، وضعيفها وقويُّها، وظاهرها وخفيُّها.
أنت جلاَّدها ومجلودها، وناقدها ومنقودها، وحاسدها ومحسودها.
أنت رفيعها وخسيسها، وأثيمها وقدِّيسها، وملاكها وإبليسها.
أنت ابن كلِّ أبٍ وأمٍّ، وأبو كلِّ أخٍ وأخت. وأنا، كائنًا مَن كنتُ، لا مهرب لي منك، ولا لك منِّي، لأنك أنا، وأنا أنت، وكلانا الإنسانيَّة بأسرها.
لولاك لما كنتُ كما أنا، ولولاي لما كنتَ كما أنت، ولولانا لما كان سوانا كما هو.
لولا الذين سبقونا لما كنَّا، ولولانا لما كان في رحم الزمان إنسان.
* * *
أفي قلب جارك سعادة؟ – ألا فاغتبطْ بسعادته، لأن في نسيجها خيطًا من نَسْج روحك. وما همُّك أرأتْ عينُ جارك ذلك الخيط أم لم ترَه – فالعين التي ترى كلَّ شيء تراه!
أفي قلب جارك حرقة؟ – فليحترقْ قلبُك بها، لأن في نارها شرارةً من موقد بغضك وإهمالك.
أفي عين جارك دمعة؟ – فلتدمعْ بها عينُك، لأن فيها ذرَّة من ملح قساوتك.
أعَلى وجه جارك بسمة؟ – فليبسمْ لها وجهُك، لأن في حلاوتها شعاعًا من نور محبتك.
أجارُك في السجن لجريمة اقترفَها؟ – ألا فأرسلْ بعضًا من قلبك معه إلى السجن، لأنَّك شريكه في جريمته، وإنْ لم تحاكمْك السلطةُ المشروعةُ بشرائعها ولم يقضِ بسجنك رجلٌ مثلك.
* * *
أمس رأيتك ترقص وتصيح في الناس: “صفِّقوا! صفِّقوا!” ألست ترى أن الحياة الجذلة فيك لا ترقص إلاَّ إذا صفَّق لها جذلُ الحياة في سواك؟ فما بالك لا تصفِّق عندما يرقص الغير؟!
أمس سمعتك تشكو وتنوح: “اسمعوني، أيُّها الناس! أنصفوني، أيُّها الناس، فأنا مظلوم!” وممَّن تودُّ أن ينصفك الناس إلاَّ من أنفسهم؟! فإذا كنت تشكو الناس للناس، فعلامَ لا تصغي لشكواهم منك وتنصفهم من نفسك؟!
أمس رأيتك تحصي أرباحك، وتربِّت نفسَك معجبًا بدهائك، وما سمعتك تقول: “هذا ما أكسَبَنيه الناس.” واليوم رأيتك تحسب خسائرك، لاعنًا دهاءَ غيرك، وسمعتك تقول: “هذا ما سَلَبَنيه الناس.” أوَلا تخجل من أن تكون في الحياة شريكًا “مُضاربًا”؟!
* * *
أنت الإنسانيَّة بكاملها، عرفتَ ذلك أم جهلتَه. وأنا صورتك ومثالك. فأين تهرب منِّي إلاَّ إذا هربتَ من نفسك؟!
وإنْ أنت هربت من نفسك – فمَن أنت؟!
* ميخائيل نعيمه، المراحل: سياحات في ظواهر الحياة وبواطنها، طب 9، مؤسسة نوفل، بيروت 1989؛ ص 91-93.
** كاتب لبناني (1889-1988) يُعدُّ، مع جبران خليل جبران، من كتَّاب التيار الثيوصوفي في الأدب العربي الحديث. من مؤلفاته: مذكرات الأرقش، صوت العالم، كتاب مرداد: منارة وميناء، اليوم الأخير. (المحرِّر)