وداد معروف - القِـرط الذهبي.. قصة قصيرة

بحثت عنها في كل الغرف، صعدت السطح، لم أجدها، إلى أين ذهبت؟ ربما ذهبت لجدتي، سأذهب لها أسألها . تهلَّلت لمّا رأتني وقالت؛ حسن، تعال أضع لك إفطارا. أأمك بخير؟
عرفت أنها ليست عندها، لم أشأ أن أقلقها، تركتها مُسرعا إلى بيت خالتي ثم زوجة عمي. لم أجدها في أي بيت من بيوت أقاربنا، عادت رباب ورحاب من المدرسة، سألا عليها، قلت: لا أدري .
الصغيرتان تدوران في المنزل تبحثان عن طعام، لا يوجد أي شيء في البيت سوى الخبز الجاف، حتى البطاطا التي نفطر عليها كل صباح لا يوجد لها أثر.
ماذا سأفعل لهاتين البنتين اللتين انكمشتا في زاوية من الغرفة لأسُدًّ جوعهما، أأعود لجدتي وأطلب منها الإفطار الذي كانت تدعوني إليه؟
أستحي أن أعود كل هذه المسافة من أجل لُقمة، لن أتركهما جائعتين، عليّ أن أتصرف في طعام لهما؛ فأنا أخوهما الأكبر وقد أوصاني أبي بهما وبأمي .
عدت إلى لمطبخ مرة أخرى لعلّي أجد شيئا، كل الخزن فارغة، والأدراج أيضا، حتى برطمانات المخلل لم يعد بها إلا الماء المالح . لمحت برطمان السكر، فتحته ، إنه فارغ هو أيضا، إلا من قطعة مُلتصقة في قعره و بعض حبيبات علي جوانبه .
خطرت لي فكرة، أن أضع فيه بضع ملاعق من الماء وأذيبه، ثم أُبلّـل بها الخبز؛ وقد فعلت، قدمته لهما، أَكَلا . لمحت في عيونهما نظرة رضا طابت لها نفسي. اقتربتا مني ونامتا بجواري، تأملت وجهيهما البريء .
رباب ثماني سنوات ورحاب ست سنوات، مات أبي منذ عامين وكنت في الثانية عشرة من عمري. آه، كم أوحشتني يا أبي، أوحشني صوتك وضحكك ويدك التي كانت دائما تمسك بيدي وتصحبني إلى الورشة والمسجد والمقهى، لكن أين أنت يا أمي؟
ليست عادتك أن تخرجي دون أن تخبريني بوجهتك، ألست رجلَكِ كما تقولين لي دائما ؟
ها قد أذن العصر ولم تعودي . ظلت عيناي معلقتين بالباب، أتمنى أن تفتحه وتدخل . ياه .. أخيرا تحرك الباب ودخلت أمي مكدودة تحمل في يديها أكياسا كثيرة، رمت بها في الصالة، وأسرعت إليّ لتطمئن على أخوتي .هدأَت عندما رأتهما نائمتين، ابتسمت عندما أخبرتها بما فعلته لهما وربتت على كتفي، وقبَّلت رأسي، خلعت حجابها وطلبت مني كوب ماء فهي لم تتناول شيئا طوال يومها، جئت به، سألتها:
- أين كنتِ يا أمي؟
- كنت عند قبر أبيك .. لم أقتنع بردها فالأكياس التي ملأت الصالة لا تقول ذلك، فهي لمحلات في المركز الذي تتبعه قريتنا، كانت تُسابق نفسها لتعُـدّ لنا الطعام، وقد أتحفتنا في هذا اليوم بصينية اللبنيّة المُميزة التي طلبناها منها كثيرا ولم تصنعها.
ضحكنا في هذا اليوم طويلا ونحن نلتف حول أمي؛ فلذة الطعام لا تكتمل إلا بحكي أمي لنا وحواديتها التي لا تُمَلّ حتى غلبنا النوم .
رباب فوق صدرها، ورحاب على فخذها، وأنا تحت قدميها، وهكذا كل يوم، ثم نصبح وقد وجد كل منا نفسه في فراشه.
مرّت بنا الأيام وتبدّل حالنا للأفضل بعد هذه الغيبة التي غابتها أمي. عملت ببيع المخلل الذى أتقنت صُنعه، وأنهيتُ أنا وإخوتي دراستنا، أدَرتُ أنا مصنع المخللات الذي طورته أمي من غرفة في بيتنا إلي محل أوسع في سوق قريتنا إلي مصنع صغير في منزل استأجرتهُ لهذا الغرض .
في اليوم الثالث من عزاءِ أمي وبعد انصراف المُعزين جلس ثلاثتنا أنا وأختاي في الحجرة، ظللنا نجترُّ الذكريات، حدثتهما عن أبي وورشته الشهيرة وماله الوفير الذي أنفق كله على مرضه الأخير، لم يتبق لنا منه إلا القليل وعن أمي وما لاقته في تدبير معيشتنا، وقول خالي حينما استدانت منه مرة بعد مرة : أخرجيهم من المدارس! والدموع التي كنت أذرفها علي مخدتي كلما همست جدتي لها بقدوم عريس وهي لا تدرى أن الهمسات تطايرت لأذنيَّ، وتحدثت رباب عن إتقان أمي صناعة المخللات.
لكن سر الغيبة كان عند رحاب أصغرنا فقد لازمت أمي طويلا في مرضها الأخير فأطلعتها عن ذلك اليوم الذي خرجت فيه مكروبة حزينة بعدما سألتها رحاب :
- ما هو أسوأ يوم مر عليكِ بعد وفاة أبي ؟
- أجابت أمي : يوم أن خرجتم للمدارس دون أن أجد لكم ما تفطرون به، وقد انتهى كل ما معي من نقود وتراكمت عليّ الديون ولم أعد أجرؤ أن أطلب مرة أخرى ديْنًا جديدًا، وأضافت: وقتها، طرأت لي فكرة أن ألبس إسدالا أسود، وأذهب للمركز، وتلجلجت أختي، ولم تستطع أن تكمل فقد خنقتها العبرات . قالت؛ كان قاسيا جدا أن يخرج أبناؤها أمامها جائعين وهم الذين طعموا في حياة أبيهم أفخر الأطعمة .
- سألتها بلهفة قولي بعد أن لبست أمك الإسدال وذهبت للمركز ماذا حدث؟
- وضعت رباب يدها على فمها، وقالت بخوف: أخشى أن تكون أرادت... ولم تكمل.
- هزت رحاب رأسها وقالت: هو ما خطر ببالك، ذهبت أمكم لتتسول.
- طأطأت رأسي وانهمرت دموعي غزيرة؛ أمي الكريمة العزيزة تتسول؟
- أكملت رحاب: نعم يا حسن .
قالت أمي لما دخلت السوق ومددت يدي ووضع أحدهم فيها خمسين قرشا. وهنا انهمرت دموع أمكم ولم تتوقف إلا بعد محايلة مني وقبلات علي جبينها ويديها كي تتوقف عن البكاء. وظللت أواسيها حتي أكملت: حضرتني صورة أبي بجاهه وعزه وشموخه، فتراجعت يدي، واستكثرت أن أخفضها لأحد كي أطعمكم . خرجت من السوق ولم أمدها إلا للبائع ليشتري قرطي الذهبي، أخذت النقود وعدت وقد حملت لكم ما أشبعكم يومها، وما كان نواة لمصنع المخلل الذي عشتم منه في أمان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...