- 2 -
عنى الفارابي كل العناية بموضوع السعادة علما وعملا، فخصه بكتابين من كتبه شرح فيهما مختلف آرائه الصوفية، وبين الوسائل الموصلة إلى السعادة؛ وهذان الكتابان هما: تحصيل السعادة، والتنبيه على السعادة، اللذان طبعا في حيدر آباد سنة 1345 و 1346هـ، وقد امتازا - مقرونين إلى الرسائل الفارابية الأخرى التي وصلت إلينا - بغزارة مادتهما ووضوح أسلوبهما؛ وحبذا لو فكرنا في إعادة طبعهما بمصر. ولم يكتف الفارابي بهذه الدراسة النظرية، بل جد في أن يتذوق السعادة بنفسه، وأن يصل بتفكيره وتأمله إلى مرتبة الفيض والإلهام كما صنع أفلوطين من قبل. ويقال إنه حظي بذلك مرة أو مرتين.
وواضح أنه ليس في مكنة الناس جميعاً الصعود إلى مرتبة هذه السعادة، ولا يبلغها إلا النفوس الطاهرة المقدسة التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتصعد إلى عالم النور والبهجة. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق، ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن، وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه، وتَقْبَل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس، والأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن. . . وإذا اجتمعت من الحس الباطن غابت إلى قوة غابت عن أخرى مثل البصر يُخَبَّل بالسمع، والخوف يشغل عن الشهوة، والشهوة تشغل عن الغضب، والفكرة تصد عن الذكر، والتذكر يصير عن التفكر، أما الروح القدسية فلا يشغلها شأن عن شأن).
فالروح القدسية إذن واصلة، ترى المغيب، وتسمع الخفي، وتجاوز عالم الحس إلى عالم المشاهدة الحقيقية والبهجة الدائمة. هذه هي نظرية الاتصال التي قال بها الفارابي واعتنقها الفلاسفة اللاحقون، وقد لعبت دوراً هاما بوجه خاص لدى فلاسفة الأندلس. وهي كما ترى ضرب من التصوف النظري القائم على البحث والدراسة يقربنا إلى الله ونعيمه المقيم. والتصوف في جملته ساد العالم الإسلامي منذ زمن بعيد تحت مؤثرات كثيرة بين فار وهندية ومسيحية وإغريقية. وفي رأي كل متصوف أن الغرض الرئيسي من العمل والتأمل هو الاتصال أو الفناء في الله. يقول رينان: (لم يعرف الشرق أن يقف في العبادة عند حد المبالغة والإسراف، بل كان الاتحاد مع العقل الكلي بوسائل خارجية حلم الطوائف الصوفية في الهند والفرس. وهناك سبع درجات - كما يقول المتصوفة - تقود المرء إلى الغاية النهائية التي هي الفناء المطلق أو النرفانا البوذية، حيث يصل الإنسان أن يقول: أنا الله) ومشكلة أنا وأنت من المشاكل الهامة في تاريخ التصوف الإسلامي، فأنا وهو الشخص الإنساني يعمل على أن ينمحي في أنت وهو الله، وما الحلول الذي قال به الحلاج والذي درسه الأستاذ ماسنيون دراسة عظيمة إلا أوضح مظهر لهذه المشكلة في الإسلام، فهو يتلخص في اختفاء الإنسان في الله، وبذا يتحد أنا وأنت اتحاداً كاملاً.
كان الفارابي صوفياً في قرارة نفسه، يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة. وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه وإعراضه عن الدنيا. وابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك. وبالرغم من أنه عاش في بلاط سيف الدولة بن حمدان وجالس العظماء لم يغير شيئاً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه. فجليس الملوك هذا وصفي الأمراء كان يرى في أغلب الأحيان بالقرب من الطبيعة يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات. وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار والأزهار. فهذا الاستعداد الفطري الذي نشأ عليه، وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه، أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره، وكانت عاملاً في تكوين نظرية السعادة الفارابية. وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا الاستعداد ويتلاءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل، وفي باب التعمق والتركيز أدخل. وهذا شأن الصوفية جميعاً يرسلون الجمل المختصرة المعماة. وكثيراً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي وإدراك كنهها، وشكوا من غموضها وتعقدها.
ويجب أن نضم إلى هذا المؤثر الداخلي عاملاً آخر خارجياً، ألا وهو الوسط الذي عاش فيه أبو نصر، فقد تفشت في العالم الإسلامي لعهده أفكار صوفية كثيرة صادرة عن أصل هندي أو فارسي أو إغريقي أو مسيحي. ولا يستطيع أحد أن ينكر تأثره بهذه الأفكار، وفي كتاباته ما ينهض دليلاً على ذلك. فقد جارى المتصوفة وشرح لنا المراتب التي يمر بها من يرغب في السعادة. والمرتبة الأولى في رأيه هي مرتبة الإرادة، وتتلخص في شوق زائد ورغبة أكيدة في تنمية المعلومات واكتساب الحقائق الخالدة. فإن كانت هذه الرغبة مؤسسة على دوافع حسية أو خيالية فهي مجرد إرادة، وإن قامت على التفكير والتأمل فهي اختيار حقيقي. وبعد الاختيار تجيء السعادة التي تحدثنا عنها من قبل. فهذا التدرج في جملته يشبه من بعض الوجوه منازل الصوفية.
وفوق هذا فقد عاصر الفارابي كبار الصوفية الذين يقولون بالحلول، وعلى رأسهم الجنيد المتوفى سنة 911 ميلادية وناشر نظرية الاتحاد الصوفية ومردد الجملة المأثورة: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب). ويروى أن الشبلي دخل عليه يوماً وبحضرته زوجه، فأرادت أن تحتجب، ولكنه أبى عليها ذلك قائلاً: لا خير للشبلي عندك. ولم يكد الأخير يسمع هذه الكلمة حتى بكى. فقال الجنيد لزوجه على الأثر: استتري فقد أفاق الشبلي من غيبته. والحلاج تلميذ الجنيد من معاصري الفارابي كذلك، فقد توفى سنة 922 للميلاد. وهو صاحب الجملة المشهورة: (أنا الحق) التي لاقى من جرائها حتفه. وعلى يديه سما مذهب الحلول إلى أوجه وبدا في أوضح صوره، وتم الاتحاد الكامل بين أنا وأنت. وأشعار هذا العصر الصوفية مملوءة بالغيبة والحضور، والوجد والوجود، والنسيان والذكر. يقول بعضهم:
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو علي من الشهود
ويقول الآخر:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب ولا رويت
ربما يبدو بعد الذي تقدم أنا ميالون إلى أن نعقد صلة بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي، وأن نثبت أن آراء أوائل المتصوفة قد أثرت تأثيراً مباشراً في أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية، ولكنا نسلم بذلك من ناحية النزعة والتوجيه العام فقط، أما من جهة النظريات في تكوينها وتفاصيلها فأنا نرفضه للأسباب الآتية:
أولاً: تصوف الفارابي نظري مبني على الدراسة والبحث قبل كل شيء. فبالعلم، والعلم وحده، تقريباً نصل إلى السعادة. أما العمل ففي المرتبة الثانية ومهمته ثانوية للغاية. على عكس هذا يقرر الصوفية أن التقشف والحرمان من الملذات الجسمية وتعذيب الجسم هو الوسيلة الناجعة للاتحاد بالله. يقول الجنيد: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات).
ثانياً: - وهذا فرق جوهري - الاتصال الذي يقول به الفارابي مجرد سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعال دون أن يمتزج أحدهما بالآخر. أما المتصوفة فينظمون من العبد والرب وحدة غير منفصلة، ويقولون بحلول اللاهوت في الناسوت. وعلى هذا يتلاشى أنا في أنت تماماً ولا يتميز الخلق من الخالق. وهذا هو سر حملة أهل السنة على هذا الخلط غير المقبول والغلو المفرط. حقاً أن الفارابي يذهب في فقرة واحدة غريبة إلى أن الإنسان حين يصل إلى درجة السعادة يحل فيه العقل الفعال. غير أنه لا يمكن أن يقبل هذا التعبير على علاته ويجب أن يحمل حملاً مجازياً. فأن صاحبه يلاحظ غير مرة أن العقل المستفاد وهو أسمى درجات الكمال الإنساني يختلف في طبيعته ووظيفته ومرتبته عن العقل الفعال. ويرى الفارابي فوق هذا أن الموجودات في تدرجها مكونة من طبقات بعضها فوق بعض؛ والله مثال الكمال المطلق، وبينه وبين الإنسان والعالم الأرضي كله فواصل متعددة. فنظريات الفارابي الميتافيزيقية والفلكية المختلفة لا تسمح بأن يتحد الخلق مع الخالق أو أن يمتزج العقل الإنساني بالعقل الفعال.
وأخيراً على كلمة اتحاد واتصال فتؤذنان بالفرق الواضح بين نظرية الحلول الحلاجية ونظرية السعادة الفارابية؛ فأن الكلمة الأولى التي تنصرف عادة إلى نظرية المتصوفة تدل على الاندماج التام بين المخلوق والخالق، في حين أن الكلمة الثانية التي تطلق على نظرية الفلاسفة تشعر فقط بمجرد علاقة بين الإنسان والعالم الروحي.
فالواجب علينا إذن أن نبحث عن منبع آخر يمكن أن تكون نظرية السعادة الفارابية في جملتها قد استقيت منه. وإذا شئنا تعرف هذا المنبع وجب علينا أن نصعد إلى أرسطو وإلى كتابه الأخلاق النيقوماخية بوجه خاص. يقول جلسون: (ليس ثمة فكرة ولا عبارة لدى أرسطو لم تنظر ولم ينتفع بها شراحه. وهذه الملاحظة صادقة على العموم في كل المشاكل التي درسها وخاصة في مشكلة العقل). ونظرية الاتصال التي نحن بصددها تؤيد هذه الملاحظة تمام التأييد، فإنها مأخوذة نصاً عن أصل أرسطي؛ وذلك أن أرسطو في شرحه للخير يقول في الكتاب العاشر من الأخلاق النيقوماخية إنه فضيلة تتكون في الوحدة وبالتأمل العقلي وتخالف الفضائل الإنسانية الأخرى المتعلقة بالجسم. هو قوة تأملية تكتفي بنفسها وتدرك الحق المطلق، وفضيلة عليا لأنه يتصل بأسمى شيء في الإنسان وهو العقل. وباختصار هو فضيلة الفضائل لأنه يصدق على الجانب القدسي حقيقة في الإنسان. ليس هناك شك في أن هذه الفقرات أساس لنظرية الفارابي في السعادة والاتصال. ففي رأيه، كما في رأي أرسطو، الحياة العقلية غاية في نفسها. ومتى جد الإنسان في الدراسة والنظر والبحث والتفكير تشبه بالله والعقول المفارقة التي هي إدراك مستمر وتأمل دائم. ومتى انقطع الإنسان إلى هذا المجهود النظري أقترب من الكائنات العلوية، وفاز بسعادة ليست وراءها سعادة. فأرسطو الواقعي مصدر الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية، و (الأديمونيا) الأرسطية عماد لنظرية السعادة الفارابية. وإذا تتبعنا كل ما وصل إلينا من كتب أرسطو لم نجد فيه إلا نصين اثنين يشعران بروح خفية وينزعان نزعة صوفية. وهما ما أشرنا إليه آنفاً في كتاب الأخلاق النيقوماخية وما جاء في كتاب النفس خاصاً بوظيفة العقل الفعال وأثره في تكوين المعلومات العامة. وكلا النصين أثر تأثيراً عميقاً في فلاسفة الإسلام وآرائهم الصوفية والنفسية. حقاً إن الفارابي ضنين بأسراره ولا يجب أن يقف قراءه على مصادر أفكاره؛ بيد أن عباراته تكفي للبرهنة على ما ذهبنا إليه. وأبن رشد الذي يعتنق نظرية الفارابي في الاتصال يقول لنا إن هذه النظرية جواب على سؤال أرسطو ولم يجب عليه. فبعد أن وضح كيف يدرك (النوس) أو العقل الحقائق المجردة قال: (سنرى فيما بعد إذا كان في مقدور العقل الإنساني - ولو أنه غير مفارق - أن يدرك أشياء مفارقة بذاتها). ولما لم يف أرسطو بوعده أخذ فلاسفة الإسلام على عاتقهم أن يتلافوا هذا النقص ويجيبوا على هذا السؤال.
غير أن أرسطو وحده لا يكفي في توضيح نظريات الفارابي التصوفية؛ ذلك لأن بينه وبين الفيلسوف العربي مدرسة الإسكندرية التي أثرت كذلك في فلاسفة الإسلام عامة وعلى رأسهم الفارابي. والاتصال الذي يقول به الفارابي لا يختلف كثيراً عن (الاكْستَاسيس) أو الجذب الذي قالت به مدرسة الإسكندرية. فالاثنان يعتمدان على التأمل والنظر وينتجان هياما وغبطه تخرج بنا من عالم الحس والمادة إلى نور الحقيقة واليقين. نعم انه يصعب علينا أن نحلل هاتين الظاهرتين تحليل نفسياً دقيقاً، ولكنا نستطيع أن نلاحظ انهما يمثلان أسمى أعمال العقل الإنساني التي ترمي إلى الخير الأعلى. ومتى وصل المرء إلى مرتبتهما أحس بسعادة تجل عن الوصف وغبطة لانهاية لها. وفي عبارات الفارابي ما يعلن عن الأصل الإسكندري الذي أعتمد عليه والذي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى كتاب الربوبية. ولنكتف بتقديم نص واحد من كل طرف يشهد بذلك. يقول الفارابي: (إن لك منك غطاء فضلاً عن لباسك من البدن، فاجتهد أن ترفع الحجاب وتتجرد، وحينئذ تلحق. فلا تسل عما تباشره، فإن ألمت فويل لك، وإن سلمت فطوبى لك. وأنت في بدنك تكون كأنك لست في بدنك، وكأنك في صقع الملكوت، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاتخذ لك عند الحق عهداً، إلى أن تأتيه فرداً). ويقول صاحب كتاب الربوبية أو أثولوجيا: (ربما خلوت أحيانا ً بنفسي وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم. فأكون داخلاً في ذاتي وراجعاً إليها وخارجاً من سائر الأشياء سواي، وأكون العلم والعالم والعلوم جميعاً. وأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى معه متعجباً، وأعلم عند ذلك أني من العالم الشريف جزء صغير. وحين أوقن بذلك أرقى بذهني إلى العالم الإلهي، ويخيل إلي كأني قطعة منه. فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه. ومن الغريب أني أشعر بأن روحي مملوءة بالنور مع أنها لم تفارق البدن). هذان النصان من غير تعليق ناطقان بالقرابة القربى والعلاقة الوثيقة بين الجذب الذي دعا إليه رجال مدرسة الإسكندرية، والاتصال الذي جد في طلبه الفارابي. وكتاب الربوبية هو المرآة التي عكست كثيراً من آراء أفلوطين وأتباعه على العالم الإسلامي.
(يتبع)
عنى الفارابي كل العناية بموضوع السعادة علما وعملا، فخصه بكتابين من كتبه شرح فيهما مختلف آرائه الصوفية، وبين الوسائل الموصلة إلى السعادة؛ وهذان الكتابان هما: تحصيل السعادة، والتنبيه على السعادة، اللذان طبعا في حيدر آباد سنة 1345 و 1346هـ، وقد امتازا - مقرونين إلى الرسائل الفارابية الأخرى التي وصلت إلينا - بغزارة مادتهما ووضوح أسلوبهما؛ وحبذا لو فكرنا في إعادة طبعهما بمصر. ولم يكتف الفارابي بهذه الدراسة النظرية، بل جد في أن يتذوق السعادة بنفسه، وأن يصل بتفكيره وتأمله إلى مرتبة الفيض والإلهام كما صنع أفلوطين من قبل. ويقال إنه حظي بذلك مرة أو مرتين.
وواضح أنه ليس في مكنة الناس جميعاً الصعود إلى مرتبة هذه السعادة، ولا يبلغها إلا النفوس الطاهرة المقدسة التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتصعد إلى عالم النور والبهجة. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق، ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن، وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه، وتَقْبَل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس، والأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن. . . وإذا اجتمعت من الحس الباطن غابت إلى قوة غابت عن أخرى مثل البصر يُخَبَّل بالسمع، والخوف يشغل عن الشهوة، والشهوة تشغل عن الغضب، والفكرة تصد عن الذكر، والتذكر يصير عن التفكر، أما الروح القدسية فلا يشغلها شأن عن شأن).
فالروح القدسية إذن واصلة، ترى المغيب، وتسمع الخفي، وتجاوز عالم الحس إلى عالم المشاهدة الحقيقية والبهجة الدائمة. هذه هي نظرية الاتصال التي قال بها الفارابي واعتنقها الفلاسفة اللاحقون، وقد لعبت دوراً هاما بوجه خاص لدى فلاسفة الأندلس. وهي كما ترى ضرب من التصوف النظري القائم على البحث والدراسة يقربنا إلى الله ونعيمه المقيم. والتصوف في جملته ساد العالم الإسلامي منذ زمن بعيد تحت مؤثرات كثيرة بين فار وهندية ومسيحية وإغريقية. وفي رأي كل متصوف أن الغرض الرئيسي من العمل والتأمل هو الاتصال أو الفناء في الله. يقول رينان: (لم يعرف الشرق أن يقف في العبادة عند حد المبالغة والإسراف، بل كان الاتحاد مع العقل الكلي بوسائل خارجية حلم الطوائف الصوفية في الهند والفرس. وهناك سبع درجات - كما يقول المتصوفة - تقود المرء إلى الغاية النهائية التي هي الفناء المطلق أو النرفانا البوذية، حيث يصل الإنسان أن يقول: أنا الله) ومشكلة أنا وأنت من المشاكل الهامة في تاريخ التصوف الإسلامي، فأنا وهو الشخص الإنساني يعمل على أن ينمحي في أنت وهو الله، وما الحلول الذي قال به الحلاج والذي درسه الأستاذ ماسنيون دراسة عظيمة إلا أوضح مظهر لهذه المشكلة في الإسلام، فهو يتلخص في اختفاء الإنسان في الله، وبذا يتحد أنا وأنت اتحاداً كاملاً.
كان الفارابي صوفياً في قرارة نفسه، يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة. وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه وإعراضه عن الدنيا. وابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك. وبالرغم من أنه عاش في بلاط سيف الدولة بن حمدان وجالس العظماء لم يغير شيئاً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه. فجليس الملوك هذا وصفي الأمراء كان يرى في أغلب الأحيان بالقرب من الطبيعة يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات. وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار والأزهار. فهذا الاستعداد الفطري الذي نشأ عليه، وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه، أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره، وكانت عاملاً في تكوين نظرية السعادة الفارابية. وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا الاستعداد ويتلاءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل، وفي باب التعمق والتركيز أدخل. وهذا شأن الصوفية جميعاً يرسلون الجمل المختصرة المعماة. وكثيراً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي وإدراك كنهها، وشكوا من غموضها وتعقدها.
ويجب أن نضم إلى هذا المؤثر الداخلي عاملاً آخر خارجياً، ألا وهو الوسط الذي عاش فيه أبو نصر، فقد تفشت في العالم الإسلامي لعهده أفكار صوفية كثيرة صادرة عن أصل هندي أو فارسي أو إغريقي أو مسيحي. ولا يستطيع أحد أن ينكر تأثره بهذه الأفكار، وفي كتاباته ما ينهض دليلاً على ذلك. فقد جارى المتصوفة وشرح لنا المراتب التي يمر بها من يرغب في السعادة. والمرتبة الأولى في رأيه هي مرتبة الإرادة، وتتلخص في شوق زائد ورغبة أكيدة في تنمية المعلومات واكتساب الحقائق الخالدة. فإن كانت هذه الرغبة مؤسسة على دوافع حسية أو خيالية فهي مجرد إرادة، وإن قامت على التفكير والتأمل فهي اختيار حقيقي. وبعد الاختيار تجيء السعادة التي تحدثنا عنها من قبل. فهذا التدرج في جملته يشبه من بعض الوجوه منازل الصوفية.
وفوق هذا فقد عاصر الفارابي كبار الصوفية الذين يقولون بالحلول، وعلى رأسهم الجنيد المتوفى سنة 911 ميلادية وناشر نظرية الاتحاد الصوفية ومردد الجملة المأثورة: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب). ويروى أن الشبلي دخل عليه يوماً وبحضرته زوجه، فأرادت أن تحتجب، ولكنه أبى عليها ذلك قائلاً: لا خير للشبلي عندك. ولم يكد الأخير يسمع هذه الكلمة حتى بكى. فقال الجنيد لزوجه على الأثر: استتري فقد أفاق الشبلي من غيبته. والحلاج تلميذ الجنيد من معاصري الفارابي كذلك، فقد توفى سنة 922 للميلاد. وهو صاحب الجملة المشهورة: (أنا الحق) التي لاقى من جرائها حتفه. وعلى يديه سما مذهب الحلول إلى أوجه وبدا في أوضح صوره، وتم الاتحاد الكامل بين أنا وأنت. وأشعار هذا العصر الصوفية مملوءة بالغيبة والحضور، والوجد والوجود، والنسيان والذكر. يقول بعضهم:
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو علي من الشهود
ويقول الآخر:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب ولا رويت
ربما يبدو بعد الذي تقدم أنا ميالون إلى أن نعقد صلة بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي، وأن نثبت أن آراء أوائل المتصوفة قد أثرت تأثيراً مباشراً في أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية، ولكنا نسلم بذلك من ناحية النزعة والتوجيه العام فقط، أما من جهة النظريات في تكوينها وتفاصيلها فأنا نرفضه للأسباب الآتية:
أولاً: تصوف الفارابي نظري مبني على الدراسة والبحث قبل كل شيء. فبالعلم، والعلم وحده، تقريباً نصل إلى السعادة. أما العمل ففي المرتبة الثانية ومهمته ثانوية للغاية. على عكس هذا يقرر الصوفية أن التقشف والحرمان من الملذات الجسمية وتعذيب الجسم هو الوسيلة الناجعة للاتحاد بالله. يقول الجنيد: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات).
ثانياً: - وهذا فرق جوهري - الاتصال الذي يقول به الفارابي مجرد سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعال دون أن يمتزج أحدهما بالآخر. أما المتصوفة فينظمون من العبد والرب وحدة غير منفصلة، ويقولون بحلول اللاهوت في الناسوت. وعلى هذا يتلاشى أنا في أنت تماماً ولا يتميز الخلق من الخالق. وهذا هو سر حملة أهل السنة على هذا الخلط غير المقبول والغلو المفرط. حقاً أن الفارابي يذهب في فقرة واحدة غريبة إلى أن الإنسان حين يصل إلى درجة السعادة يحل فيه العقل الفعال. غير أنه لا يمكن أن يقبل هذا التعبير على علاته ويجب أن يحمل حملاً مجازياً. فأن صاحبه يلاحظ غير مرة أن العقل المستفاد وهو أسمى درجات الكمال الإنساني يختلف في طبيعته ووظيفته ومرتبته عن العقل الفعال. ويرى الفارابي فوق هذا أن الموجودات في تدرجها مكونة من طبقات بعضها فوق بعض؛ والله مثال الكمال المطلق، وبينه وبين الإنسان والعالم الأرضي كله فواصل متعددة. فنظريات الفارابي الميتافيزيقية والفلكية المختلفة لا تسمح بأن يتحد الخلق مع الخالق أو أن يمتزج العقل الإنساني بالعقل الفعال.
وأخيراً على كلمة اتحاد واتصال فتؤذنان بالفرق الواضح بين نظرية الحلول الحلاجية ونظرية السعادة الفارابية؛ فأن الكلمة الأولى التي تنصرف عادة إلى نظرية المتصوفة تدل على الاندماج التام بين المخلوق والخالق، في حين أن الكلمة الثانية التي تطلق على نظرية الفلاسفة تشعر فقط بمجرد علاقة بين الإنسان والعالم الروحي.
فالواجب علينا إذن أن نبحث عن منبع آخر يمكن أن تكون نظرية السعادة الفارابية في جملتها قد استقيت منه. وإذا شئنا تعرف هذا المنبع وجب علينا أن نصعد إلى أرسطو وإلى كتابه الأخلاق النيقوماخية بوجه خاص. يقول جلسون: (ليس ثمة فكرة ولا عبارة لدى أرسطو لم تنظر ولم ينتفع بها شراحه. وهذه الملاحظة صادقة على العموم في كل المشاكل التي درسها وخاصة في مشكلة العقل). ونظرية الاتصال التي نحن بصددها تؤيد هذه الملاحظة تمام التأييد، فإنها مأخوذة نصاً عن أصل أرسطي؛ وذلك أن أرسطو في شرحه للخير يقول في الكتاب العاشر من الأخلاق النيقوماخية إنه فضيلة تتكون في الوحدة وبالتأمل العقلي وتخالف الفضائل الإنسانية الأخرى المتعلقة بالجسم. هو قوة تأملية تكتفي بنفسها وتدرك الحق المطلق، وفضيلة عليا لأنه يتصل بأسمى شيء في الإنسان وهو العقل. وباختصار هو فضيلة الفضائل لأنه يصدق على الجانب القدسي حقيقة في الإنسان. ليس هناك شك في أن هذه الفقرات أساس لنظرية الفارابي في السعادة والاتصال. ففي رأيه، كما في رأي أرسطو، الحياة العقلية غاية في نفسها. ومتى جد الإنسان في الدراسة والنظر والبحث والتفكير تشبه بالله والعقول المفارقة التي هي إدراك مستمر وتأمل دائم. ومتى انقطع الإنسان إلى هذا المجهود النظري أقترب من الكائنات العلوية، وفاز بسعادة ليست وراءها سعادة. فأرسطو الواقعي مصدر الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية، و (الأديمونيا) الأرسطية عماد لنظرية السعادة الفارابية. وإذا تتبعنا كل ما وصل إلينا من كتب أرسطو لم نجد فيه إلا نصين اثنين يشعران بروح خفية وينزعان نزعة صوفية. وهما ما أشرنا إليه آنفاً في كتاب الأخلاق النيقوماخية وما جاء في كتاب النفس خاصاً بوظيفة العقل الفعال وأثره في تكوين المعلومات العامة. وكلا النصين أثر تأثيراً عميقاً في فلاسفة الإسلام وآرائهم الصوفية والنفسية. حقاً إن الفارابي ضنين بأسراره ولا يجب أن يقف قراءه على مصادر أفكاره؛ بيد أن عباراته تكفي للبرهنة على ما ذهبنا إليه. وأبن رشد الذي يعتنق نظرية الفارابي في الاتصال يقول لنا إن هذه النظرية جواب على سؤال أرسطو ولم يجب عليه. فبعد أن وضح كيف يدرك (النوس) أو العقل الحقائق المجردة قال: (سنرى فيما بعد إذا كان في مقدور العقل الإنساني - ولو أنه غير مفارق - أن يدرك أشياء مفارقة بذاتها). ولما لم يف أرسطو بوعده أخذ فلاسفة الإسلام على عاتقهم أن يتلافوا هذا النقص ويجيبوا على هذا السؤال.
غير أن أرسطو وحده لا يكفي في توضيح نظريات الفارابي التصوفية؛ ذلك لأن بينه وبين الفيلسوف العربي مدرسة الإسكندرية التي أثرت كذلك في فلاسفة الإسلام عامة وعلى رأسهم الفارابي. والاتصال الذي يقول به الفارابي لا يختلف كثيراً عن (الاكْستَاسيس) أو الجذب الذي قالت به مدرسة الإسكندرية. فالاثنان يعتمدان على التأمل والنظر وينتجان هياما وغبطه تخرج بنا من عالم الحس والمادة إلى نور الحقيقة واليقين. نعم انه يصعب علينا أن نحلل هاتين الظاهرتين تحليل نفسياً دقيقاً، ولكنا نستطيع أن نلاحظ انهما يمثلان أسمى أعمال العقل الإنساني التي ترمي إلى الخير الأعلى. ومتى وصل المرء إلى مرتبتهما أحس بسعادة تجل عن الوصف وغبطة لانهاية لها. وفي عبارات الفارابي ما يعلن عن الأصل الإسكندري الذي أعتمد عليه والذي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى كتاب الربوبية. ولنكتف بتقديم نص واحد من كل طرف يشهد بذلك. يقول الفارابي: (إن لك منك غطاء فضلاً عن لباسك من البدن، فاجتهد أن ترفع الحجاب وتتجرد، وحينئذ تلحق. فلا تسل عما تباشره، فإن ألمت فويل لك، وإن سلمت فطوبى لك. وأنت في بدنك تكون كأنك لست في بدنك، وكأنك في صقع الملكوت، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاتخذ لك عند الحق عهداً، إلى أن تأتيه فرداً). ويقول صاحب كتاب الربوبية أو أثولوجيا: (ربما خلوت أحيانا ً بنفسي وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم. فأكون داخلاً في ذاتي وراجعاً إليها وخارجاً من سائر الأشياء سواي، وأكون العلم والعالم والعلوم جميعاً. وأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى معه متعجباً، وأعلم عند ذلك أني من العالم الشريف جزء صغير. وحين أوقن بذلك أرقى بذهني إلى العالم الإلهي، ويخيل إلي كأني قطعة منه. فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه. ومن الغريب أني أشعر بأن روحي مملوءة بالنور مع أنها لم تفارق البدن). هذان النصان من غير تعليق ناطقان بالقرابة القربى والعلاقة الوثيقة بين الجذب الذي دعا إليه رجال مدرسة الإسكندرية، والاتصال الذي جد في طلبه الفارابي. وكتاب الربوبية هو المرآة التي عكست كثيراً من آراء أفلوطين وأتباعه على العالم الإسلامي.
(يتبع)