غالبًا ما تتحدّد مفاهيمنا النقدية بتصوّرنا للعالم، قريبًا من موروثات غدت مسلّمات أو بعيدًا عنها، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن كيفيّة تعامل النقد مع الرواية، ومن سماتها المرونة والقدرة على التطور، ونقد نفسها، وتجديد لغتها، والاحتكاك الحي بواقع متغير ومفتوح النهايات.
ثمة اتجاهات نقدّية ثلاثة نلحظها، غير كاشفة للتحولات في التخييل السردي كما في الواقع المرجعيّ له، وعاجزة أمام تغيّر المفاهيم، واكتساب الكلمات معاني جديدة. الاتجاه الأول لا يعدو كونه عرضًا للمنجز الروائي وقراءة عَرضية لا تضيف، وغالبا ما تكون بهدف التسويق، ونتيجة صداقات وعلاقات بين الروائي والناقد. والاتجاه الثاني يكرّس قراءات نقدية تعسّفية تنطلق من أحكام قيمة أخلاقية أو إيديولوجية لتحكم على النص، فترى فيه ما يوافق منظومتها الفكرية وتدين ما لا يتوافق معها، وقد تحاكم صاحب المُنجز. والاتجاه الثالث يعتمد على قراءة منهجية ميكانيكيّة تنطلق من نظريات تسقطها على النص أو تحاول إثباتها وتأكيد مفاهيمها من خلاله، فتأتي بمقاربة غير كاشفة، تثقل النص وتصرِف القارئ عنها لصرامتها وجفاف لغتها العلميّة. لذا ينبغي إعادة النظر في هذه الأنماط النقدية المنطلقة من تنميط فكري ونمذجة تحدّ عمل الناقد، وقلّما ترصد تطوّر السرد؛ فلا نقد خارج دائرة النقد والمساءلة.
واقع يحيل إلى مفهوم النقد؛ فهل النقد إلا وليد التجارب السردية الفارقة، فيخلق منها أدواته رابطًا التجربة الأدبية بالتجربة الذاتية؟
إذن، البدء يكون بالنصّ، بوصفه تجربة فريدة تملي قراءة تقبل التعدّدية والاختلاف، تنطلق من مقولاته لاختيار ما يكشف من مصطلحات ومفاهيم ونظريات نقدية فيستثمرها، ولا يستخدمها بشكل ميكانيكي وإسقاطي. بمعنى أوضح، بات لزامًا على النقد السرديّ التخلي عن التصورات الشموليّة، في الإيديولوجيات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وفي المناهج النقدية على السواء. فالرواية جاءت نتيجة لإكراهاتها، للاحتجاج عليها وبغية تقويضها، فكيف نقرؤها استنادًا إليها؟
وقد وصف الفيلسوف والناقد الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) الخطابات التي تتمركز على افتراضاتها المسبقة وتحمل في داخلها تصوّرات شموليّة للمجتمع والثقافة والتاريخ بأنّها «سرديات كبرى»، وبوصفها لعبًا لغويًا مضلّلًا، وقوة خارجيّة خارقة تفسّر وقوع الأحداث الكبرى في تاريخ البشريّة، لعجز عن تأويل راهنيّة الحدث. وطرح سؤاله عن البدائل في ظل غياب المرجعيات المعياريّة لإطلاق أحكام القيمة على القضايا، ليعقد أهمّية على فلسفة «الفعل» المرحليّ، لإطلاق الحكم القيمي المؤقت على كل حالة على حدة، مستنبطًا مفهوم «الحدث» الذي يرصد قضايا الواقع ضمن اللحظة المعيشة، فيطرح إزاء «السرديات الكبرى» مفهوم «السرديات الصغرى».
نستعير هذين المفهومين ونرحّلهما من فلسفة التاريخ والكون وتأويلهما إلى النقد السردي؛ فالتعامل مع الواقع كما هو، بتعبير ليوتار، يحيلنا إلى التعامل مع النص بوصفه حدثًا نتجاوز معه التجريد والتنظير الماقبلي. وهو –النص السرديّ- العربيّ تحديدًا، بات في بعض اتّجاهاته، يتأثّث من الحالات الراهنة المفتوحة على التوقعات، ويرصد برامج سرديّة لحركات مطلبيّة لتجمّعات وجماعات من الحراك الشعبيّ المدنيّ تبتغي تحقيق مطالب معيّنة لا تحمل الطّابع الشمولي، ولا تنحو باتّجاه أن تتحوّل إلى إيديولوجيا ثابتة، وتاليًا، إلى سرديّة كبرى.
نحو رؤية براغماتيّة للنقد، وأكثر إنصافًا للنصوص الروائيّة
للإجابة عن تصوّر مغاير للنقد السّرديّ، نجد إدانة له إذا كان أحادي الرؤية في قراءة راسخة لا تعترف إلا بحقيقة واحدة مطلقة تملي على القارئ كيفية القراءة، أو أن يحمل عدّته الجاهزة فيطبّقها على النصوص كافّة، كأنها واحدة وتستجيب لمنهج أوحد لا شريك له، ولا بديل عنه. على النقد السردي أن يحمل تصوّرًا ضد مؤسّساتيّ، فيكون تطريسًا إبداعيّا palimseste (كتابة على الممحو من الرواية) يشكّل إضافة، ويعدّد قراءاته لكشف حقائق النصّ الإمكانية، متماهيًا بالرواية في إعادة تشكيلها الواقع لفهم الحياة والذات، لا نقده والاحتجاج عليه وحسب. لذا لا بدّ من تسجيل بعض السمات للرواية الحداثيّة التي تستند إلى مقولات السرديّات الصغرى. فقد احتفت الرواية بالتجربة الفردية التي تهتم بالجزئي والفردي الاغترابي، إنّما تتجاور تمثّلات الوعي الفرديّ السرديّة مع ما يلحظ من عودة للاحتفاء بالشأن العام، ورصد للهمّ الجماعي وتناصّات مع تحولات الواقع المرجعي للمنجز الروائي، بتفاعله مع الحدث، في عالم يتشكّل من جديد حيث الحضور اللافت لوسائط التواصل التقنيّة. فأضحت الأشكال السردية تتخذ مسار إخراج الفرد من شرنقته وعيشه في اليوميات بشكل عبثي ومستلب، ومن زمنه الخانق في مدن فاسدة، وربطه بالزمن الجمعي، يعبّر عن ذلك في مستوى الخطاب، انخراط الشخصيّات في حوار متعدّد الأطراف، وعمل جماعيين للتغيير الإيجابي، لا البقاء في دائرة السلبية.
ثمة اتجاهات نقدّية ثلاثة نلحظها، غير كاشفة للتحولات في التخييل السردي كما في الواقع المرجعيّ له، وعاجزة أمام تغيّر المفاهيم، واكتساب الكلمات معاني جديدة. الاتجاه الأول لا يعدو كونه عرضًا للمنجز الروائي وقراءة عَرضية لا تضيف، وغالبا ما تكون بهدف التسويق، ونتيجة صداقات وعلاقات بين الروائي والناقد. والاتجاه الثاني يكرّس قراءات نقدية تعسّفية تنطلق من أحكام قيمة أخلاقية أو إيديولوجية لتحكم على النص، فترى فيه ما يوافق منظومتها الفكرية وتدين ما لا يتوافق معها، وقد تحاكم صاحب المُنجز. والاتجاه الثالث يعتمد على قراءة منهجية ميكانيكيّة تنطلق من نظريات تسقطها على النص أو تحاول إثباتها وتأكيد مفاهيمها من خلاله، فتأتي بمقاربة غير كاشفة، تثقل النص وتصرِف القارئ عنها لصرامتها وجفاف لغتها العلميّة. لذا ينبغي إعادة النظر في هذه الأنماط النقدية المنطلقة من تنميط فكري ونمذجة تحدّ عمل الناقد، وقلّما ترصد تطوّر السرد؛ فلا نقد خارج دائرة النقد والمساءلة.
واقع يحيل إلى مفهوم النقد؛ فهل النقد إلا وليد التجارب السردية الفارقة، فيخلق منها أدواته رابطًا التجربة الأدبية بالتجربة الذاتية؟
إذن، البدء يكون بالنصّ، بوصفه تجربة فريدة تملي قراءة تقبل التعدّدية والاختلاف، تنطلق من مقولاته لاختيار ما يكشف من مصطلحات ومفاهيم ونظريات نقدية فيستثمرها، ولا يستخدمها بشكل ميكانيكي وإسقاطي. بمعنى أوضح، بات لزامًا على النقد السرديّ التخلي عن التصورات الشموليّة، في الإيديولوجيات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وفي المناهج النقدية على السواء. فالرواية جاءت نتيجة لإكراهاتها، للاحتجاج عليها وبغية تقويضها، فكيف نقرؤها استنادًا إليها؟
وقد وصف الفيلسوف والناقد الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) الخطابات التي تتمركز على افتراضاتها المسبقة وتحمل في داخلها تصوّرات شموليّة للمجتمع والثقافة والتاريخ بأنّها «سرديات كبرى»، وبوصفها لعبًا لغويًا مضلّلًا، وقوة خارجيّة خارقة تفسّر وقوع الأحداث الكبرى في تاريخ البشريّة، لعجز عن تأويل راهنيّة الحدث. وطرح سؤاله عن البدائل في ظل غياب المرجعيات المعياريّة لإطلاق أحكام القيمة على القضايا، ليعقد أهمّية على فلسفة «الفعل» المرحليّ، لإطلاق الحكم القيمي المؤقت على كل حالة على حدة، مستنبطًا مفهوم «الحدث» الذي يرصد قضايا الواقع ضمن اللحظة المعيشة، فيطرح إزاء «السرديات الكبرى» مفهوم «السرديات الصغرى».
نستعير هذين المفهومين ونرحّلهما من فلسفة التاريخ والكون وتأويلهما إلى النقد السردي؛ فالتعامل مع الواقع كما هو، بتعبير ليوتار، يحيلنا إلى التعامل مع النص بوصفه حدثًا نتجاوز معه التجريد والتنظير الماقبلي. وهو –النص السرديّ- العربيّ تحديدًا، بات في بعض اتّجاهاته، يتأثّث من الحالات الراهنة المفتوحة على التوقعات، ويرصد برامج سرديّة لحركات مطلبيّة لتجمّعات وجماعات من الحراك الشعبيّ المدنيّ تبتغي تحقيق مطالب معيّنة لا تحمل الطّابع الشمولي، ولا تنحو باتّجاه أن تتحوّل إلى إيديولوجيا ثابتة، وتاليًا، إلى سرديّة كبرى.
نحو رؤية براغماتيّة للنقد، وأكثر إنصافًا للنصوص الروائيّة
للإجابة عن تصوّر مغاير للنقد السّرديّ، نجد إدانة له إذا كان أحادي الرؤية في قراءة راسخة لا تعترف إلا بحقيقة واحدة مطلقة تملي على القارئ كيفية القراءة، أو أن يحمل عدّته الجاهزة فيطبّقها على النصوص كافّة، كأنها واحدة وتستجيب لمنهج أوحد لا شريك له، ولا بديل عنه. على النقد السردي أن يحمل تصوّرًا ضد مؤسّساتيّ، فيكون تطريسًا إبداعيّا palimseste (كتابة على الممحو من الرواية) يشكّل إضافة، ويعدّد قراءاته لكشف حقائق النصّ الإمكانية، متماهيًا بالرواية في إعادة تشكيلها الواقع لفهم الحياة والذات، لا نقده والاحتجاج عليه وحسب. لذا لا بدّ من تسجيل بعض السمات للرواية الحداثيّة التي تستند إلى مقولات السرديّات الصغرى. فقد احتفت الرواية بالتجربة الفردية التي تهتم بالجزئي والفردي الاغترابي، إنّما تتجاور تمثّلات الوعي الفرديّ السرديّة مع ما يلحظ من عودة للاحتفاء بالشأن العام، ورصد للهمّ الجماعي وتناصّات مع تحولات الواقع المرجعي للمنجز الروائي، بتفاعله مع الحدث، في عالم يتشكّل من جديد حيث الحضور اللافت لوسائط التواصل التقنيّة. فأضحت الأشكال السردية تتخذ مسار إخراج الفرد من شرنقته وعيشه في اليوميات بشكل عبثي ومستلب، ومن زمنه الخانق في مدن فاسدة، وربطه بالزمن الجمعي، يعبّر عن ذلك في مستوى الخطاب، انخراط الشخصيّات في حوار متعدّد الأطراف، وعمل جماعيين للتغيير الإيجابي، لا البقاء في دائرة السلبية.
Soumaya Azzam
Soumaya Azzam is on Facebook. Join Facebook to connect with Soumaya Azzam and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com