يمكن القول إن الحالة البرزخية الفاصلة بين الموت والحياة تمثل محور هذا الديوان، كما تمثل مأزق الذات التي ترمز لأبناء القهر أو أنصاف الموتى الذين لفظهم الموت وأخطأتهم الحياة كما يبدو من الإهداء، فنحن أمام ذات تشتهي الموت أو تستدير إليه – على نحو ما يوحي عنوان الديوان – لكنها لا تناله وفي الوقت نفسه لا تستطيع الحياة حقيقة، ومن هنا كانت رؤية الشاعرة للموت هذه الرؤية التي تتجاوز كونه فراق الروح للجسد، فصور الموت متعددة داخل الحياة ذاتها:
" فالقهر موت/ فرقة الأحباب موت/ الفقر موت/ غربة الأوطان موت"
ولهذا أصبح من حق الشاعرة أن تتساءل:
"من أي موت سوف تعبرنا الحياة ؟"
ورغم تعدد صور الموت فإن الشاعرة لا تفقد أملها في حياة أخرى مغايرة ومن هنا يتكرر دال "الباب" بوصفه مكان عبور من الضيق إلى الاتساع:
"لا لست وحدك هاهنا/ الباب متسع فمر"
ويتحول الباب إلى رمز فاصل بين حياتين تشبهان الليل والنهار؛ ولهذا يصبح من المهم أن يظل هذا الباب مشرعا استعدادا للخروج، تقول الشاعرة:
"لا تغلق الباب/ الباب متسع/ وهذا الليل فاتحة النهار"
لكنها في مفتتح الديوان ترى الموت خلاصا من الأسر تحقيقا للحرية بعد أن انتصر السراب "ولف الضباب على الضباب / وتعانقت في الريح أبواق الخراب " وأصبح "لا صوت يعلو فوق صوت الانسحاب" من الحياة الذي سوف يحقق خلاص الروح من أسر الجسد أو خلاص الإنسان نفسه من أعباء الحياة، هذه الأعباء التي تستدعي عذابات المسيح وصورة الصلب التي تتمثلها الشاعرة في قولها:
"بعض وعشرون انكسارا / والجروح الشامخات تعيد صلبي عنوة / سأظل فوق الصلب واقفة أغني / رغم انتمائي للتراب كرهت أشجار التمني"
توحي هذه السطور وغيرها بأننا أمام ثنائية دائمة الحضور تتمثل في الانكسار والمقاومة، فرغم الانكسار الذي يبلغ بعضا وعشرين عاما ورغم الصلب الذي تعيده الجروح الشامخات تظل الذات قادرة على الغناء بوصفه فعل مقاومة ويأخذ الغناء بعدا روحيا يتجاوز انتماء الشاعرة إلى التراب، وهو ما يمهد لبعض ملامح الرؤية الصوفية كما يبدو من قولها في الأبيات العمودية التالية للسطور السابقة:
"سر التراب وشهقة الأكفان / روح تراوغ قبضة الأبدان –
يامن إليك الروح تعرج وحدها / خذني إليك لعلنى ألقاني"
فالشاعرة تظل في اغتراب عن نفسها حتى تتحرر الروح من قبضة الأبدان، ورغم أن ثنائية الروح والجسد ثنائية رومانسية فإن الشاعرة تجعل منها هما إنسانيا عاما يعبر عن معاناة الإنسان في الحياة، تقول الشاعرة تعبيرا عن هذه الحالة الوجودية:
"لم لاتموت كما أموت / محرم ورد الحياة على دمي / ويداك ساقية الغياب/ لم لانفتش عن مدى للموت / يعلن جمعنا يوما / ويختصر العذاب / مازلت أحلم والخطى رهق / يساورها الجنون / والنازفون العمر في صدر الحكاية/ شاخصون إلى الفراغ "
تشيع في السطور السابقة دوال: الغياب – العذاب – الرهق – الجنون – النازفون – الفراغ
وهو مايدل على حالة وجودية ثقيلة الوطء تتمنى الشاعرة الخلاص منها وكما قالت من قبل إن الليل مفتتح النهار نراها تختتم هذه القصيدة بقولها:
"لم لا نموت جميعنا / فالموت مقتتح الحياة "
غير أن بالقصيدة أبعادا أخرى حين تتحدث الشاعرة عن "باب التاريخ" الذي يمنح سره " الكهان والسلطان " و"يحتفي بالمجرمين وبائعي الأحلام في سوق السراب" في مقابل "جموع أبناء النهار، المكبلين إلى الظلام"
مما يمنح الحياة رؤية شبحية تتمطى فيها أشباح الزحام وتصطك فيها الأشجار والأحجار ويعم الكون السكوت، ولا تجد الشاعرة مخرجا من هذا غير الدعوة إلى ما يمكن تسميته بثورة الأبواب:
"يا هذه الأبواب ثوري علنا نجد النجاة "
وفي قصيدة "لا هيت لك" تتكرر الدلالات نفسها :
الغياهب – الحلك – الظما – الرصاص – المجد الزائف – البوار
ويبدو أن هذه القصيدة والأبيات العمودية التي تليها أشبه بالقرار والجواب فإذا كانت القصيدة تعرض صورة الحياة على النحو السابق فإن الأبيات العمودية تؤكد أن العدل هو القيمة التي ترد للحياة معناها الحقيقي حين نقرأ:
"قسما بسر الله في أسمائه / وبنبض آدم فى هوى حوائه /
أنا لا أحابي النهر رغم تولهي / مادام يحرمنا عدالة مائه"
ولا شك أن قسوة الحياة تأتي من وطأة الآخرين على الذات، وهو ما يظهر في قصيدة "العابرون على دمي" التي تستدعي قصة يوسف وما فعله إخوته به:
"لا تسألوا عني القميص مضرجا فلطالما كذبت – على الذئب – الدماء"
والاستدعاء – هنا – ضمني نستطيع أن نستنتجه من الدوال المشيرة للقصة:
القميص – الذئب – الدماء
لكن الشاعرة في قصيدة "سيناء" تصرح باسم يوسف عليه السلام حين تقول:
"يا قلب يوسف من ليوسف إذ يباع بلا ثمن/ يعقوب يبكي في العريش عيالنا / وقميص يوسف يرتديه الذئب في جرح اليمن"
لقد تحول يوسف إلى رمز لمن يعانون ويقتلون في فلسطين واليمن ولهذا فإن يعقوب المعاصر لم يعد يبكي يوسف، بل يبكي عيالنا في العريش وهنا توظيف مغاير للقصة القديمة.
كما تعود الشاعرة إلى الماضي القريب حيث طفولتها في القرية، وهو ماض مغاير للحاضر حيث نجد:
إشراقة الصباح والنشوة والضوء والصهيل وتوحيد الله والشدو.
ولا تنسى الشاعرة أن تربط هذه المظاهر الطبيعية بصلاة الأم ودعائها، كما تستدعي الموروث الشعبي في تواصل الأحياء والراحلين، وتوظيف فنية الموال وتوظيف اللون حيث تتوقف أمام اللون الأبيض وتصفه بأنه لون منافق لأنه يظهر عكس ما يبطن فهو يظهر الفرح بينما يبطن الحزن حين يستدعي الكفن.
وفي قصيدة "امرأتان" توظف الشاعرة المفارقة بين المرأة التي " تشكو ألم الظهر وضعف القلب وخلخلة الأسنان" والأخرى التي " تشكو برح الشوق ونار الحب وتبريح الهجران" إنها المفارقة بين العجز عن الحياة والرغبة فيها.
هذه وقفة سريعة أمام بعض ملامح هذا الديوان الجميل للشاعرة تقى المرسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* تقى المرسي: للموت دُر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019.
" فالقهر موت/ فرقة الأحباب موت/ الفقر موت/ غربة الأوطان موت"
ولهذا أصبح من حق الشاعرة أن تتساءل:
"من أي موت سوف تعبرنا الحياة ؟"
ورغم تعدد صور الموت فإن الشاعرة لا تفقد أملها في حياة أخرى مغايرة ومن هنا يتكرر دال "الباب" بوصفه مكان عبور من الضيق إلى الاتساع:
"لا لست وحدك هاهنا/ الباب متسع فمر"
ويتحول الباب إلى رمز فاصل بين حياتين تشبهان الليل والنهار؛ ولهذا يصبح من المهم أن يظل هذا الباب مشرعا استعدادا للخروج، تقول الشاعرة:
"لا تغلق الباب/ الباب متسع/ وهذا الليل فاتحة النهار"
لكنها في مفتتح الديوان ترى الموت خلاصا من الأسر تحقيقا للحرية بعد أن انتصر السراب "ولف الضباب على الضباب / وتعانقت في الريح أبواق الخراب " وأصبح "لا صوت يعلو فوق صوت الانسحاب" من الحياة الذي سوف يحقق خلاص الروح من أسر الجسد أو خلاص الإنسان نفسه من أعباء الحياة، هذه الأعباء التي تستدعي عذابات المسيح وصورة الصلب التي تتمثلها الشاعرة في قولها:
"بعض وعشرون انكسارا / والجروح الشامخات تعيد صلبي عنوة / سأظل فوق الصلب واقفة أغني / رغم انتمائي للتراب كرهت أشجار التمني"
توحي هذه السطور وغيرها بأننا أمام ثنائية دائمة الحضور تتمثل في الانكسار والمقاومة، فرغم الانكسار الذي يبلغ بعضا وعشرين عاما ورغم الصلب الذي تعيده الجروح الشامخات تظل الذات قادرة على الغناء بوصفه فعل مقاومة ويأخذ الغناء بعدا روحيا يتجاوز انتماء الشاعرة إلى التراب، وهو ما يمهد لبعض ملامح الرؤية الصوفية كما يبدو من قولها في الأبيات العمودية التالية للسطور السابقة:
"سر التراب وشهقة الأكفان / روح تراوغ قبضة الأبدان –
يامن إليك الروح تعرج وحدها / خذني إليك لعلنى ألقاني"
فالشاعرة تظل في اغتراب عن نفسها حتى تتحرر الروح من قبضة الأبدان، ورغم أن ثنائية الروح والجسد ثنائية رومانسية فإن الشاعرة تجعل منها هما إنسانيا عاما يعبر عن معاناة الإنسان في الحياة، تقول الشاعرة تعبيرا عن هذه الحالة الوجودية:
"لم لاتموت كما أموت / محرم ورد الحياة على دمي / ويداك ساقية الغياب/ لم لانفتش عن مدى للموت / يعلن جمعنا يوما / ويختصر العذاب / مازلت أحلم والخطى رهق / يساورها الجنون / والنازفون العمر في صدر الحكاية/ شاخصون إلى الفراغ "
تشيع في السطور السابقة دوال: الغياب – العذاب – الرهق – الجنون – النازفون – الفراغ
وهو مايدل على حالة وجودية ثقيلة الوطء تتمنى الشاعرة الخلاص منها وكما قالت من قبل إن الليل مفتتح النهار نراها تختتم هذه القصيدة بقولها:
"لم لا نموت جميعنا / فالموت مقتتح الحياة "
غير أن بالقصيدة أبعادا أخرى حين تتحدث الشاعرة عن "باب التاريخ" الذي يمنح سره " الكهان والسلطان " و"يحتفي بالمجرمين وبائعي الأحلام في سوق السراب" في مقابل "جموع أبناء النهار، المكبلين إلى الظلام"
مما يمنح الحياة رؤية شبحية تتمطى فيها أشباح الزحام وتصطك فيها الأشجار والأحجار ويعم الكون السكوت، ولا تجد الشاعرة مخرجا من هذا غير الدعوة إلى ما يمكن تسميته بثورة الأبواب:
"يا هذه الأبواب ثوري علنا نجد النجاة "
وفي قصيدة "لا هيت لك" تتكرر الدلالات نفسها :
الغياهب – الحلك – الظما – الرصاص – المجد الزائف – البوار
ويبدو أن هذه القصيدة والأبيات العمودية التي تليها أشبه بالقرار والجواب فإذا كانت القصيدة تعرض صورة الحياة على النحو السابق فإن الأبيات العمودية تؤكد أن العدل هو القيمة التي ترد للحياة معناها الحقيقي حين نقرأ:
"قسما بسر الله في أسمائه / وبنبض آدم فى هوى حوائه /
أنا لا أحابي النهر رغم تولهي / مادام يحرمنا عدالة مائه"
ولا شك أن قسوة الحياة تأتي من وطأة الآخرين على الذات، وهو ما يظهر في قصيدة "العابرون على دمي" التي تستدعي قصة يوسف وما فعله إخوته به:
"لا تسألوا عني القميص مضرجا فلطالما كذبت – على الذئب – الدماء"
والاستدعاء – هنا – ضمني نستطيع أن نستنتجه من الدوال المشيرة للقصة:
القميص – الذئب – الدماء
لكن الشاعرة في قصيدة "سيناء" تصرح باسم يوسف عليه السلام حين تقول:
"يا قلب يوسف من ليوسف إذ يباع بلا ثمن/ يعقوب يبكي في العريش عيالنا / وقميص يوسف يرتديه الذئب في جرح اليمن"
لقد تحول يوسف إلى رمز لمن يعانون ويقتلون في فلسطين واليمن ولهذا فإن يعقوب المعاصر لم يعد يبكي يوسف، بل يبكي عيالنا في العريش وهنا توظيف مغاير للقصة القديمة.
كما تعود الشاعرة إلى الماضي القريب حيث طفولتها في القرية، وهو ماض مغاير للحاضر حيث نجد:
إشراقة الصباح والنشوة والضوء والصهيل وتوحيد الله والشدو.
ولا تنسى الشاعرة أن تربط هذه المظاهر الطبيعية بصلاة الأم ودعائها، كما تستدعي الموروث الشعبي في تواصل الأحياء والراحلين، وتوظيف فنية الموال وتوظيف اللون حيث تتوقف أمام اللون الأبيض وتصفه بأنه لون منافق لأنه يظهر عكس ما يبطن فهو يظهر الفرح بينما يبطن الحزن حين يستدعي الكفن.
وفي قصيدة "امرأتان" توظف الشاعرة المفارقة بين المرأة التي " تشكو ألم الظهر وضعف القلب وخلخلة الأسنان" والأخرى التي " تشكو برح الشوق ونار الحب وتبريح الهجران" إنها المفارقة بين العجز عن الحياة والرغبة فيها.
هذه وقفة سريعة أمام بعض ملامح هذا الديوان الجميل للشاعرة تقى المرسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* تقى المرسي: للموت دُر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019.