أمل الكردفاني - زعيبـــــــل.. قصة قصيرة

زعيبل في السابعة والثلاثين، أهطل قليلاً، يجلس بين ركبتي أمه فتسأله:
- عاوز تبقى شنو لما تكبر يا حبيبي؟
فيرد بصوت غليظ وبطيء:
- عاوز ابقى.... دكتوووور..
فتمسح أمه شعره وتهمس باسمة:
- حتبقى دكتور كبير..
وينام زعيبل ويستيقظ وينام ويستيقظ كما ظل يفعل منذ سبعة وثلاثين عاماً.. وتمسح له أمه شعره كل مساء، وهما فوق السرير الموضوع في الحوش تحت حائط المنزل الشرقي وتسأله:
- عاوز تبقى شنو بكرة لما تكبر؟
فيشهق وتتراقص تفاحة حنجرته ويرد بصوته الحوتي:
- عايز أبقى ..دكتووور..
ثم تمضي الأيام، صباحا ومساء، مساء وصباحاً... فيبلغ الأربعين، ثم الخمسين وتشيخ أمه وتمرض... وفجأة يجد نفسه في الحوش وحيداً على السرير تحت الحائط الشرقي. عيناه جزعتان... والجو حار وصامت... فيتذكر أمه، وسؤالها المعهود، ويشعر بطيف اصابعها يمسح شعره، فيصيح:
- دكتوووور.... دكتووور...
ولكن الليل يهبط عليه بسرعة، ويظلم المنزل، ويغرق في السكون... فيزداد خوف زعيبل... ينكمش وسط السرير وعيناه مستديرتان على اتساع محجريهما... ويصيح:
- دكتوووور...
ثم يرفع صوته أكثر:
- دكتوووور...
ينسى ملامح تلك المرأة تماماً، فيتمسك بالكلمة الوحيدة التي تربطه بذكراها:
- دكتوووور...
يزوره جاره صباحاً ويعطه طعاماً قليلاً، فالقرية كلها تعاني من شظف العيش... ثم يزوره جاره ومعه ثلاثة رجال آخرين، يخرجون زعيبل من منزل والدته المتوفية، ويلقون به في الشارع... ليطوف القرية حافياً حاسر الرأس وهو يصيح:
- دكتوووور...
تخرج امرأة وتصيح بدورها وتطلب منه عدم إزعاج الناس أثناء قيلولة النهار الحار ... فيتوقف عن الصياح، ويأتي مساء ويأتِي صباح وهو مكوَّم في أي ركن من أركان منازل القرية، وينسى الكلمة... فيلطم خديه، ويهيم على وجهه، وقد يستخدمه أي شخص في أعمال بسيطة مقابل الطعام...
- تعال شيل..
يقول والد فتاة مريضة يحاول رفع ابنته على سيارة الأجرة، يرفع زعيبل الفتاة، فتشهق الفتاة، وتهبط بسرعة وهي مذهولة... تطيب الفتاة من المرض، وتتكرر المعجزة، إذ يُشفى كل من يلمسه زعيبل.. العُمي يبصرون، الصم يسمعون، البكم يتحدثون، يتحول زعيبل لمعجزة، فيقصده الناس بمرضاهم وهم يحملون التقدمات.
يمنحونه كل ما يملكونه ليشفي لهم مرضاهم، وحين يخاف من تجمهرهم حوله، يختفي في غرفة منزله القديم الذي أعاده له جاره اللص... يتجمهر الناس حول المنزل.. ويصيحون:
- دكتووووور....
يتذكر زعيبل الكلمة.. وطيف أمه.. فيخرج لهم وهو يصيح:
- دكتوووووور.....
ثم يباركهم بلمساته المقدسة...

-----ه------
أمل الكردفاني
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

العزيز أمل الكردفاني
قرات نصك السردي وقد شدني بحبكته المحكمة ولغته المتينة واسلوبه القوي .. حيث يمثل زعيبل دور المريض الذي تداعبه أمه على كبره، مغذقة عليه حدبها وعطفها وامومتها الرؤوم .. نموذج الانسان ابو البركات كما يقولون الذي فاضت الفيوض من بين انامله ولمساته.. و الانسان الخارق الذي حبته الطبيعة بحاسة سادسة تميزه وتسلط الاضواء عليه مثل زين الطيب صالح، وقرشي عند جمال الدين علي الحاج وغيرهما

كل المحبة اخي وصديقي الغالي
 
نعم..
شكرا أستاذي نقوس
زعيبل يمثل بالنسبة لي حالة اليأس..ولا أعرف لماذا؟
الأحلام الهلامية التي لا تتحقق ولن تتحقق، داخل مسار الحياة شديد الواقعية، والحصار المضروب علينا سواء حصار القدرات أو حصار الشر، واسطورة الانفكاك من هذا الحصار...قد لا يكون زعيبل قد نال اي بركة في الواقع..
 
شكرا اخي أمل على التوضيح .. وان كان مصير البطل زعيبل قد تميز بالقدرية والاتكالية.. والذين يسوق الله اليهم رزقا سخيا من حيث لا يعلمون ..
يحيلني كلمة " زعيبل" على مفردة نستعملها بالمغرب " مزعبل، زعبل" مع بعض التحوير للدلالة على الشخص الاحمق او المتحامق و الخفيف العقل ، ولعل هذا يعود للامتداد اللغوي الذي يؤلف بين الشعوب

كل المحبة والتقدير
 
هذا التوافق بين لغة السودان واهل المغرب تحدثت عنه كثيرا..فدونا عن الدول العربية كنت اجد كلمات تستخدم في الجزائر والمغرب والسودان غير مستخدمة في الدول العربية الاخرى. ولم اجد سببا واضحا وحاسما لذلك..
 
التباعد الجغرافي لا يعني العزلة صديقي، وهذا الامر ليس بغريب بين البلاد العربية المتتاخمة، فنحن واشقاؤنا بالقطر الجزائري الشقيق نتشارك في لهجة دارجة جد متشابهة لا تغيير يشوبها ، والتاريخ المشترك يشهد على هذا الانصهار القوي بين الشعوب، و التلاقح الثقافي بين دول شمال افريفيا -مصر ودول المغرب العربي الخمس- واضح جدا ويتجلى في العمق بالامتداد الجغرافي والتاريخيا والاجتماعي والثقافي والاثني ، وقد شكلت الطرق الصوفية احدى اسس هذا التلاقي، وفي مصر ابان الفترة الفرعونية استطاع شيشونك الاول ذو الاصل الامازيغي التغلب على فرعون مصر والتربع على عرش الفراعنة، من جانب آخر فاللغة العربية المنتشرة بين أهل السودان إلى المغرب قريبة من الفصحى ، ونجد بعض الدراسات في الادب المقارن انجزها عبدالمنعم عجب الفيا والبروفيسور عبدالله الطيب تثبت بأن القرءان يتضمن العديد من مفردات اللهجة السودانية


كل التقدير
 
ما فهمته من القصة أن الإرادة هي كل شيئ، و لا ينبغي على الإنسان أن يعيش على أحلام اليقظة، لم نلحظ في القصة أن هذا الشاب ( زعيبل) الذي كانت أمه تدلله و هي تداعب شعيرات رأسه إن دخل المدرسة أم لا، حتى لو كان به داءٌ، ثم يوقف عن الدراسة بعدما اكتشف أنه "أهبل"
فجأة يكون صاحب معجزة و كأنه مبعوث من الله أو أنه المهدي المنتظر الذي يصلح الكون و بلمسة يده يشفى كل المرضى كما كان يفعل سيدنا يوسف عليه السلام و هو طفل يقاد ليباع كعبد،، نلاحظ هنا القفز الزمني للقصة، زعيبل و بلمسة سحرية أصبح "دكتور" و الذين كانوا يستفزونه و يسخرون منه أصبحوا يتوددون إليه و هذه دلالة بأن الله وحده يحدد مصير الإنسان و مستقبله،
عبارة زعيبل تعني في اللغة العربية "أبله" و نحن في الجزائر نقول عن شخص يحمل هذه الصفة بـ: مترفل"
القصة في جانبها الإجتماعي ترمز أيضا إلى دعوات الوالدين و رضاهم عن الأبناء،
 
تحليل جميل جدا..
والانسان يسأل إن كان صاحب إرادة فعلاً؟.. يبدو أن الإرادة مجموع من الممكنات...إن كان زعيب معتوها فقد انتفت الممكنات إلا قليلاً..
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...