(4) اللص والكلاب ( أنت : ضمير الغضب والنقمة)
حين صدرت رواية نجيب محفوظ صغيرة الحجم " اللص والكلاب" عام 1961، بعد سلسلة من رواياته الواقعية الممتدة من القاهرة الجديدة إلى الثلاثية، لقيها النقاد بحفاوة بالغة ؛ ذلك أنهم استشعروا فيها تحوّلاً دالاًّ في فن نجيب محفوظ خصوصًا، وفن الرواية العربية على وجه العموم. ولقد عبر يحيى حقي عن رؤيته لهذا التحول في مقالته الشهيرة "الاستاتيكية والديناميكية في أدب نجيب محفوظ" ، جاعلاً من "الثلاثية" نموذجًا فذًّا لما أسماه الاستاتيكية، ومن "اللص والكلاب" نموذجًا عبقريًّا لما أسماه "الديناميكية". وكان من أخص خصائص الديناميكية التي رصدها يحيى حقي في اللص والكلاب، ذلك الانفعال الذي يتبدي في النص كله، بدءًا من عنوان الرواية، وانتهاء بالصور والمفردات والأبنية اللغوية التي ينطق بها الراوي وتنطق بها الشخصيات.
غير أن أحدًا من الكتاب والنقاد – بمن فيهم يحيى حقي نفسه – لم يلتفت إلى الدور الذي لعبه استخدام ضمير المخاطب في تجسيد ديناميكية الرواية، أي ثورة الانفعال والنقمة المختزنة في لغة هذا النص القصير نسبيًّا، مع أنهم التفتوا إلى ظواهر أسلوبية دقيقة ناجمة عن هذه النقمة الانفعالية المختزنة ذاتها، كـ"الإيقاع السريع" و"السجع غير المتكلف".. إلى آخر الظواهر الأسلوبية التي لاحظها محمود الربيعي في "مونولوجات" سعيد مهران .
تبدأ الفقرة الأولى من الرواية، شأن معظم روايات نجيب محفوظ الواقعية السابقة، على لسان راو غائب يبدو عليمًا، غير أن شيئًا جديدًا هنا يغير من مذاق السرد ولغته؛ أعني منظور البطل ونقمته التي تنضح بها اللغة المنضبطة الموقعة. يتلبس الراوي الغائب منظور البطل ومشاعره، نعم، لكنه يظل في الوقت نفسه مراقبًا من الخارج:
"مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة، هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة .."
ومع أن هذه الفقرة الافتتاحية مروية بضمير الغائب الصريح، فإنها تنطوي على مؤشرات واضحة لمخاطبة الذات ومخاطبة الآخرين، لعل أبرزها هذا التكرار اللافت لأسماء الإشارة : "ها هي"، "وها هو"، "هذه"، "وهذه". إنها نغمة المخاطبة التي ستأخذنا للفقرة التالية ولعالم الرواية كله.
من هذه النقطة، وعلى مدار الرواية كلها، ستتناوب الضمائر الثلاثة في سرد الرواية، وسنشهد قفزات متسارعة، حتى في الجملة الواحدة، من الغائب إلى المخاطب، ومن المخاطب إلى المتكلم، ومن المتكلم إلى المخاطب مرة أخرى.. لكننا سنستمع في كل الأحوال إلى صوت سعيد مهران الناقم الغاضب وهو يخاطب نفسه، ويخاطب الآخرين في الرواية وخارجها، ونادرًا ما نشعر أنه يخاطبنا نحن القراء.
ما إن تنتهي هذه الفقرة الأولى من الرواية، سيتخلى الراوي عن حذره، وتبدأ القفزات التناوبية المفاجئة بين الضمائر، ولنستمع إليه في الفقرات التالية مباشرة:
"وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدِّيًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟، أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديمًا ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر.." ص 8.
"طوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب، ينعم في ظله بالسرور المظفّر، والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟. استعن بكل ما أوتيتَ من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة ويطير في الهواء كالصقر ويتسلق الجدران كالفأر وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيتَ يا عليش كيف كنتَ تتمسّح في ساقيَّ كالكلب؟ ألم أعلمكَ الوقوف على قدمين.."ص 8.
"ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء، وعما قريب سأخبر مدى حظي من لقياكِ، عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكي العابسة، طريق الملاهي البائدة، الصاعد إلى غير رفعة، أشهد أني أكرهك. الخمارات أغلقت أبوابها ولم يبق إلا الحواري التي تحاك فيها المؤامرات، والقدم تعبر من آن لآن نقرة مستقرة في الطوار كالمكيدة، وضجيج عجلات الترام يكركر كالسبّ، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخضر، أشهد أني أكرهك.."ص 9.
"ومضى فيها يقترب من البيت ذي الأدوار الثلاثة في نهايتها وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع إليهما الطريق الأول. في هذه الزاوية البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه.." ص 10.
ولا يجب أن يخدعنا هذا التناوب للضمائر الذي سيستمر على مدار الرواية، إذ النغمة الأساسية تأتي من صوت هذا المخاطِب الذي يصرخ ناقمًا وبلغة قاطعة، وكأنه بطل تراجيدي على خشبة المسرح يوجه حديثه للجميع : " آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة" "أشهد أني أكرهك" "الويل للخونة". ولم يكن غريبًا أن يتنوع المخاطَبون داخل النص، فمرة يخاطب الراوي نفسَه: "استعن بكل ما أوتيتَ من دهاء" "فادرس طريقك"، ومرة يخاطب نبوية بهذه الجملة القاطعة:"أشهد أني أكرهك"، ومرة يخاطب ابنته سناء "لا يبتسم إلا وجهك يا سناء"، ومرة يخاطب نبوية وعليش بضمير المخاطب المثنى: "أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب"، ومرة يخاطب الجميع وبضمير المخاطب الجمع:" جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة.."، وعما قريب سيخاطب رءوف علوان بلغة أعنف وشتائم أقذع.
كلما تقدمنا مع الرواية والراوي، ستتخلى اللغة عن فصاحتها التراجيدية هذه، وتبدأ لغة الشتائم تتناثر في سرد الراوي مقترنة بياء النداء المنطوية على ضمير المخاطب: "لعلك تنظر من الشيش مستخفيًا كالنساء يا عليش" "لا داعي للتحذير يا خنفساء" "اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك" "وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب" " واجب المروءة يا ابن الأفعى"، وكلها جمل جانبية نسمعها بصوت الراوي، ولكن من وجهة نظر البطل الذي يتحدث إلى نفسه، وهي جمل موجهة إلى أشخاص مختلفين داخل الرواية، في تعقيب داخلي لا ينقطع، على ما يجري من حوار معلن في الخارج .
ضمير المخاطب في "اللص والكلاب"، جزء من دراما النقمة، وهي دراما تتجلى أكثر ما تتجلى في الحوارات المقتضبة العاصفة، التي يتشكل منها الجسم الأساسي للأحداث في الرواية. وضمير المخاطب هو النغمة الأساسية البديهية في الصراع بين أطراف متحاورة يخاطب كل منها الآخر، غير أن ظهوره على هذا النحو المكثف، وفي قلب السرد بضمير الغائب، وصل بدراما النقمة إلى قمتها.
ونحن نصل إلى هذه القمة في الفصول الثالث والرابع والخامس، حين يبدأ سعيد مهران رحلة البحث عن رءوف علوان والانتقام منه. في هذه الفصول تتوزع الصفحات شكلاً بين السرد والحوار، لكنها في الحقيقة حوار ممتد، بعضه إلى الخارج وبعضه إلى الداخل، حتى وصف الأشياء والمباني إنما يتم بمنطق مخاطبتها والحوار معها. إن سعيد مهران – كما يقول الراوي (ص 48) - يتحدث "بصوت مسموع كأنما يخاطب الظلام":
"..عليَّ أن أقابله. الشيخ أعطاني فراشًا فوق الحصيرة للنوم ولكني في حاجة إلى نقود. عليَّ أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان. أنت لا تقل عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لديَّ في هذه الحياة التي لا أمان فيها. وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف.." ص 34
"ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدًّا كهذه الحجرة. ولم يكن فيما مضى إلا محررًا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد على، ولكنها كانت صوتًا مدويًا للحرية. ترى كيف أنت اليوم يا رءوف؟. هل تغير مثلك يا نبوية؟. هل ينكرني مثلك يا سناء؟. ولكن بعدًا لأفكار السوء. هو الصديق والأستاذ، وسيف الحرية المسلول، وسيظل كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة وسكرتاريته الرفيعة. وإذا كانت هذه القلعة لن تمكني من عناقك فمن دفتر التلفيون سأعرف مسكنك.." ص 35
"هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب. أما الآخر فقد مضى كأمس او كأول يوم في التاريخ أو كحب نبوية أو كولاء عليش. أنت لاتنخدع بالمظاهر فالكلام الطيب مكر والابتسامة شفة تتقلص والجود حركة دفاع من أنامل اليد ولولا الحياء ما أُذن لك بتجاوز العتبة. تخلقني ثم ترتد، تغير ببساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل. خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكًّا ما شفيت نفسي. ترى أتقرُّ بخيانتك ولو بينك وبين نفسك أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ .." ص 47
الحقيقة أن هذا الانتقال السريع والفجائي بين الضمائر في رواية "اللص والكلاب"، هذا الانتقال المتكرر بحيث أصبح يشكل سمة من سماتها المائزة، هو الذي يبلور دراما الصراع في أصفى صورها.
إن معظم فقرات السرد بضمير المخاطب في هذه الرواية تقع بين حوارين، بحيث تتردد أصداء ضمائر الخطاب (أنت، الكاف، التاء..)، في السرد والحوار على السواء، وبحيث لايستطيع القارئ التمييز بينهما، فكأنه يستمع – حتى في السرد - إلى حوار لا يكاد ينقطع، أو كأنه يستمع - حتى في الحوار - إلى مونولوج ممتد.
بل إن تذكُّر الماضي نفسه، يتم هنا في صورة جمل حوارية متطايرة داخل عقل البطل، وبضمير المخاطب؛ فبين حوارين على مقهى الرفاق القدامي يعود سعيد مهران إلى الماضي:
يا له من سمر. ماذا يقصدون؟. لكنك شعرت أنهم يعبرون عن حالك على نحو ما. نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل. أنت أيضًا كانت لك يفاعة متوثبة. والقلب سكران برحيق الحماس. والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال. وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية. وساكن القصر رقم 19 كان على رأسهم. على رأسهم يتمرن ويمرن ويلقي بالحكم. المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران. المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك. وذات مساء سألك "سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟" ثم أجاب غير منتظر جوابك "إلى المسدس والكتاب، المسدس يتكفل بالماضي والكتاب للمستقبل، تدرب واقرأ". ووجهه وهو يقهقه في بيت الطلبة قائلاً "سرقت؟.. هل امتدت يدك إلى السرقة حقًّا، برافو، كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك". وشهد هذا الخلاء مهارتك. قالوا إنك الموت نفسه وأن طلقتك لا تخيب. وأغمض عينيه مستسلمًا للهواء النقي وإذا بيد توضع على كتفه فالتفت وراءه .." ص ص : 61-62.
إن الانتقال بين الضمائر يتم في لحظة خاطفة، في اختصار للمسافات، فبدلاً من الكلام إلى الداخل عن رءوف علوان، فليتكلم إليه سعيد مباشرة ويستحضره ويخاطبه ويسأله، وهو الأمر الطبيعي بالنسبة لمن يعيشون إلى الداخل كبطل "اللص والكلاب". وهكذا ينتقل الراوي في خطفة واحدة من الماضي إلى الحاضر، ومن الغائب إلى المخاطب:
" ولما جلسا على الأريكة نادى المعلم صبيَّه وقال له:
- بصنعة لطافة قل لنور أن تأتي..
لتأت ليرى ماذا فعل الزمان بها. التي عبثًا أرادت امتلاك قلبه. قلبك الذي كان ملكًا خالصًا للخائنة.." ص 63.
"قمة النجاح أن يُقتلا معًا، نبوية وعليش. وما فوق ذلك أن يصفي الحساب مع رءوف علوان، ثم الهرب، الهرب إلى الخارج إن أمكن. ولكن من يبقى لسناء؟. الشوكة المنغرزة في قلبي. أنت تندفع بأعصابك بلا عقل. عليك أن تنتظر طويلاً وتدبر أمرك ثم تنقض كالحدّأة.." ص 75.
حين صدرت رواية نجيب محفوظ صغيرة الحجم " اللص والكلاب" عام 1961، بعد سلسلة من رواياته الواقعية الممتدة من القاهرة الجديدة إلى الثلاثية، لقيها النقاد بحفاوة بالغة ؛ ذلك أنهم استشعروا فيها تحوّلاً دالاًّ في فن نجيب محفوظ خصوصًا، وفن الرواية العربية على وجه العموم. ولقد عبر يحيى حقي عن رؤيته لهذا التحول في مقالته الشهيرة "الاستاتيكية والديناميكية في أدب نجيب محفوظ" ، جاعلاً من "الثلاثية" نموذجًا فذًّا لما أسماه الاستاتيكية، ومن "اللص والكلاب" نموذجًا عبقريًّا لما أسماه "الديناميكية". وكان من أخص خصائص الديناميكية التي رصدها يحيى حقي في اللص والكلاب، ذلك الانفعال الذي يتبدي في النص كله، بدءًا من عنوان الرواية، وانتهاء بالصور والمفردات والأبنية اللغوية التي ينطق بها الراوي وتنطق بها الشخصيات.
غير أن أحدًا من الكتاب والنقاد – بمن فيهم يحيى حقي نفسه – لم يلتفت إلى الدور الذي لعبه استخدام ضمير المخاطب في تجسيد ديناميكية الرواية، أي ثورة الانفعال والنقمة المختزنة في لغة هذا النص القصير نسبيًّا، مع أنهم التفتوا إلى ظواهر أسلوبية دقيقة ناجمة عن هذه النقمة الانفعالية المختزنة ذاتها، كـ"الإيقاع السريع" و"السجع غير المتكلف".. إلى آخر الظواهر الأسلوبية التي لاحظها محمود الربيعي في "مونولوجات" سعيد مهران .
تبدأ الفقرة الأولى من الرواية، شأن معظم روايات نجيب محفوظ الواقعية السابقة، على لسان راو غائب يبدو عليمًا، غير أن شيئًا جديدًا هنا يغير من مذاق السرد ولغته؛ أعني منظور البطل ونقمته التي تنضح بها اللغة المنضبطة الموقعة. يتلبس الراوي الغائب منظور البطل ومشاعره، نعم، لكنه يظل في الوقت نفسه مراقبًا من الخارج:
"مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة، هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة .."
ومع أن هذه الفقرة الافتتاحية مروية بضمير الغائب الصريح، فإنها تنطوي على مؤشرات واضحة لمخاطبة الذات ومخاطبة الآخرين، لعل أبرزها هذا التكرار اللافت لأسماء الإشارة : "ها هي"، "وها هو"، "هذه"، "وهذه". إنها نغمة المخاطبة التي ستأخذنا للفقرة التالية ولعالم الرواية كله.
من هذه النقطة، وعلى مدار الرواية كلها، ستتناوب الضمائر الثلاثة في سرد الرواية، وسنشهد قفزات متسارعة، حتى في الجملة الواحدة، من الغائب إلى المخاطب، ومن المخاطب إلى المتكلم، ومن المتكلم إلى المخاطب مرة أخرى.. لكننا سنستمع في كل الأحوال إلى صوت سعيد مهران الناقم الغاضب وهو يخاطب نفسه، ويخاطب الآخرين في الرواية وخارجها، ونادرًا ما نشعر أنه يخاطبنا نحن القراء.
ما إن تنتهي هذه الفقرة الأولى من الرواية، سيتخلى الراوي عن حذره، وتبدأ القفزات التناوبية المفاجئة بين الضمائر، ولنستمع إليه في الفقرات التالية مباشرة:
"وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدِّيًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟، أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديمًا ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر.." ص 8.
"طوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب، ينعم في ظله بالسرور المظفّر، والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟. استعن بكل ما أوتيتَ من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة ويطير في الهواء كالصقر ويتسلق الجدران كالفأر وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيتَ يا عليش كيف كنتَ تتمسّح في ساقيَّ كالكلب؟ ألم أعلمكَ الوقوف على قدمين.."ص 8.
"ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء، وعما قريب سأخبر مدى حظي من لقياكِ، عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكي العابسة، طريق الملاهي البائدة، الصاعد إلى غير رفعة، أشهد أني أكرهك. الخمارات أغلقت أبوابها ولم يبق إلا الحواري التي تحاك فيها المؤامرات، والقدم تعبر من آن لآن نقرة مستقرة في الطوار كالمكيدة، وضجيج عجلات الترام يكركر كالسبّ، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخضر، أشهد أني أكرهك.."ص 9.
"ومضى فيها يقترب من البيت ذي الأدوار الثلاثة في نهايتها وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع إليهما الطريق الأول. في هذه الزاوية البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه.." ص 10.
ولا يجب أن يخدعنا هذا التناوب للضمائر الذي سيستمر على مدار الرواية، إذ النغمة الأساسية تأتي من صوت هذا المخاطِب الذي يصرخ ناقمًا وبلغة قاطعة، وكأنه بطل تراجيدي على خشبة المسرح يوجه حديثه للجميع : " آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة" "أشهد أني أكرهك" "الويل للخونة". ولم يكن غريبًا أن يتنوع المخاطَبون داخل النص، فمرة يخاطب الراوي نفسَه: "استعن بكل ما أوتيتَ من دهاء" "فادرس طريقك"، ومرة يخاطب نبوية بهذه الجملة القاطعة:"أشهد أني أكرهك"، ومرة يخاطب ابنته سناء "لا يبتسم إلا وجهك يا سناء"، ومرة يخاطب نبوية وعليش بضمير المخاطب المثنى: "أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب"، ومرة يخاطب الجميع وبضمير المخاطب الجمع:" جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة.."، وعما قريب سيخاطب رءوف علوان بلغة أعنف وشتائم أقذع.
كلما تقدمنا مع الرواية والراوي، ستتخلى اللغة عن فصاحتها التراجيدية هذه، وتبدأ لغة الشتائم تتناثر في سرد الراوي مقترنة بياء النداء المنطوية على ضمير المخاطب: "لعلك تنظر من الشيش مستخفيًا كالنساء يا عليش" "لا داعي للتحذير يا خنفساء" "اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك" "وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب" " واجب المروءة يا ابن الأفعى"، وكلها جمل جانبية نسمعها بصوت الراوي، ولكن من وجهة نظر البطل الذي يتحدث إلى نفسه، وهي جمل موجهة إلى أشخاص مختلفين داخل الرواية، في تعقيب داخلي لا ينقطع، على ما يجري من حوار معلن في الخارج .
ضمير المخاطب في "اللص والكلاب"، جزء من دراما النقمة، وهي دراما تتجلى أكثر ما تتجلى في الحوارات المقتضبة العاصفة، التي يتشكل منها الجسم الأساسي للأحداث في الرواية. وضمير المخاطب هو النغمة الأساسية البديهية في الصراع بين أطراف متحاورة يخاطب كل منها الآخر، غير أن ظهوره على هذا النحو المكثف، وفي قلب السرد بضمير الغائب، وصل بدراما النقمة إلى قمتها.
ونحن نصل إلى هذه القمة في الفصول الثالث والرابع والخامس، حين يبدأ سعيد مهران رحلة البحث عن رءوف علوان والانتقام منه. في هذه الفصول تتوزع الصفحات شكلاً بين السرد والحوار، لكنها في الحقيقة حوار ممتد، بعضه إلى الخارج وبعضه إلى الداخل، حتى وصف الأشياء والمباني إنما يتم بمنطق مخاطبتها والحوار معها. إن سعيد مهران – كما يقول الراوي (ص 48) - يتحدث "بصوت مسموع كأنما يخاطب الظلام":
"..عليَّ أن أقابله. الشيخ أعطاني فراشًا فوق الحصيرة للنوم ولكني في حاجة إلى نقود. عليَّ أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان. أنت لا تقل عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لديَّ في هذه الحياة التي لا أمان فيها. وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف.." ص 34
"ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدًّا كهذه الحجرة. ولم يكن فيما مضى إلا محررًا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد على، ولكنها كانت صوتًا مدويًا للحرية. ترى كيف أنت اليوم يا رءوف؟. هل تغير مثلك يا نبوية؟. هل ينكرني مثلك يا سناء؟. ولكن بعدًا لأفكار السوء. هو الصديق والأستاذ، وسيف الحرية المسلول، وسيظل كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة وسكرتاريته الرفيعة. وإذا كانت هذه القلعة لن تمكني من عناقك فمن دفتر التلفيون سأعرف مسكنك.." ص 35
"هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب. أما الآخر فقد مضى كأمس او كأول يوم في التاريخ أو كحب نبوية أو كولاء عليش. أنت لاتنخدع بالمظاهر فالكلام الطيب مكر والابتسامة شفة تتقلص والجود حركة دفاع من أنامل اليد ولولا الحياء ما أُذن لك بتجاوز العتبة. تخلقني ثم ترتد، تغير ببساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل. خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكًّا ما شفيت نفسي. ترى أتقرُّ بخيانتك ولو بينك وبين نفسك أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ .." ص 47
الحقيقة أن هذا الانتقال السريع والفجائي بين الضمائر في رواية "اللص والكلاب"، هذا الانتقال المتكرر بحيث أصبح يشكل سمة من سماتها المائزة، هو الذي يبلور دراما الصراع في أصفى صورها.
إن معظم فقرات السرد بضمير المخاطب في هذه الرواية تقع بين حوارين، بحيث تتردد أصداء ضمائر الخطاب (أنت، الكاف، التاء..)، في السرد والحوار على السواء، وبحيث لايستطيع القارئ التمييز بينهما، فكأنه يستمع – حتى في السرد - إلى حوار لا يكاد ينقطع، أو كأنه يستمع - حتى في الحوار - إلى مونولوج ممتد.
بل إن تذكُّر الماضي نفسه، يتم هنا في صورة جمل حوارية متطايرة داخل عقل البطل، وبضمير المخاطب؛ فبين حوارين على مقهى الرفاق القدامي يعود سعيد مهران إلى الماضي:
يا له من سمر. ماذا يقصدون؟. لكنك شعرت أنهم يعبرون عن حالك على نحو ما. نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل. أنت أيضًا كانت لك يفاعة متوثبة. والقلب سكران برحيق الحماس. والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال. وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية. وساكن القصر رقم 19 كان على رأسهم. على رأسهم يتمرن ويمرن ويلقي بالحكم. المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران. المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك. وذات مساء سألك "سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟" ثم أجاب غير منتظر جوابك "إلى المسدس والكتاب، المسدس يتكفل بالماضي والكتاب للمستقبل، تدرب واقرأ". ووجهه وهو يقهقه في بيت الطلبة قائلاً "سرقت؟.. هل امتدت يدك إلى السرقة حقًّا، برافو، كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك". وشهد هذا الخلاء مهارتك. قالوا إنك الموت نفسه وأن طلقتك لا تخيب. وأغمض عينيه مستسلمًا للهواء النقي وإذا بيد توضع على كتفه فالتفت وراءه .." ص ص : 61-62.
إن الانتقال بين الضمائر يتم في لحظة خاطفة، في اختصار للمسافات، فبدلاً من الكلام إلى الداخل عن رءوف علوان، فليتكلم إليه سعيد مباشرة ويستحضره ويخاطبه ويسأله، وهو الأمر الطبيعي بالنسبة لمن يعيشون إلى الداخل كبطل "اللص والكلاب". وهكذا ينتقل الراوي في خطفة واحدة من الماضي إلى الحاضر، ومن الغائب إلى المخاطب:
" ولما جلسا على الأريكة نادى المعلم صبيَّه وقال له:
- بصنعة لطافة قل لنور أن تأتي..
لتأت ليرى ماذا فعل الزمان بها. التي عبثًا أرادت امتلاك قلبه. قلبك الذي كان ملكًا خالصًا للخائنة.." ص 63.
"قمة النجاح أن يُقتلا معًا، نبوية وعليش. وما فوق ذلك أن يصفي الحساب مع رءوف علوان، ثم الهرب، الهرب إلى الخارج إن أمكن. ولكن من يبقى لسناء؟. الشوكة المنغرزة في قلبي. أنت تندفع بأعصابك بلا عقل. عليك أن تنتظر طويلاً وتدبر أمرك ثم تنقض كالحدّأة.." ص 75.