بعد رائعتيه الجميلتين "وليمة لأعشاب البحر" و"مرايا النار"، تأتي شموس الغجر ثالثة الأثافيّ في موقد حيدر حيدر الإبداعي الجديد.
ربما صح أنّ لينين قال: "الحزب الثوري في بلد متخلف لا يكون إلاّ متخلفاً".
وربما لأسباب لا ندرك كنهها تماماً عزف ماركس عن التعمق في دراسة نمط الإنتاج الأسيوي الدراسة العميقة والدقيقة التي فنّد فيها أساليب تطور وتناقضات النظام الرأسمالي، إذ اعتبر بلدان آسيا ـ أو أغلبها ـ متعددة أنماط الإنتاج، ولم يتبلور التمايز الطبقي فيها بعد.
من مثل هذه الأساسيات وسواها ربما انطلق حيدر حيدر في بناء روايته "شموس الغجر".
ليعذرني حيدر إذ أخالف تقنياته الروائية، وأعود فأرتّب أحداث الرواية ترتيباً متسلسلاً مبسطاً زمانياً ومكانياً وأحداثاً، كي أبسط مضمون الرواية أمام من لم يقرأها تسهيلاً للفهم والدراية.
أولاً: المضمون:
تبدأ أحداث "شموس الغجر" من كفر حمام البلدة التي تربعت فوق هضبة منبسطة في سهل الروج، ومن بيت سعيد نبهان المالك الكبير لأراضي كفر حمام وأهلها وحيواناتها وما جاورها، والشريك في ثلاثة مصانع للنسيج والممول لشركات تجارية وطنية وعربية وأجنبية، سليل أسرة آل نبهان التي ذاع صيتها من اسكندرون في الشمال إلى طرابلس الشام.
تزوج سعيد نبهان من ابنة عمه دريّة نبهان التي تسري في عروقها دماء آل نبهان الحارة، وقد ورثت عزة النفس وقوة الإرادة والعنفوان من أمجاد الأسرة الحافلة بالمآثر والأمجاد.
تقول الرواية: "في النصف الثاني من الخمسينات تراجع القطاع العام وتُرك الحبل على الغارب أمام القطاع الخاص ليستعيد بناء الوطن على نحو خلاّق لا مثيل له في الدمار عبر تاريخ الشرق".
تنامت شكوك الزوجة حول مضاربات وشراكات زوجها، وإذ أفصحت أمام الزوج "نبّ في وجهها لأول مرة:
ـ في هذه الأمور الخاصة أنت لا تفهمين شيئاً.
ـ أنت السيد وابن العم، لكن دريّة ليست أمة في بيتك"
وكانت بداية تنامي الخصام، ومرة بعد مرة ازداد إهمال الرجل للبيت بعد أن ذاق طعم أجساد نساء العاصمة.
كان سعيد نبهان قد رزق من ابنة عمه بنات وولداً ذكراً، هو بدر الدين نبهان "وريث سلالة آل نبهان العصية على الانقراض".
بعد ليلة خصام وشجار وتبادل اتهامات وبذاءات بعلاقات جنسية كانت تصل الفتى عبر الجدار، خشي أن ينتهي الأمر بإطلاق النار... ولكن الطلقة التي حصلت كانت أقسى من الرصاصة: "أنت طالقة".
أصابت الطلقة قلب الفتى ابن الثامنة عشرة لتعتمل في صدره كراهية عنيفة للأب وانحياز متمرد إلى جانب الأم.
في صباح اليوم التالي يغادر الفتى مرابع النعمة والغنى مصطحباً أمّه ليتركها وديعة لدى أخته في مدينة بعيدة عن كفر حمام وليّمّم وجهه شطر بيروت بحثاً عن عمل يصون كرامته وكرامة أمه.
"سأجوع وأعرق وأعرى، لكننا لن نركع على عتباته، لتذهب ثروته وأملاكه إلى جهنم الحمرا".
في لبنان بعد ضياع أسبوع كامل يوفّق بالعمل في مزرعة للتفاح في جرود المتن، يعاني فيها وحشة الغربة وحرقة الحنين مدة عامين، ثم ينزل إلى بيروت ليحرس مستودعاً ضخماً، المستودع المعهد الذي بدّل وعيه وحياته.
وبعد سنتين تسوقه دروب الحياة ليعمل مرابعاً في سهول الساحل السوري، بعد أن كان تعرّف على زوجته "أمينة" وتزوجها "وهو لا يملك قميصاً للعرس".
بوضع القرش على القرش، والكد والتعب اشترى أرضاً في السهل الساحلي قرب شاطئ البحر قدام بلدة عيون الريم وبنى بيتاً كبيراً، وأنشأ أسرة قوامها ثلاث بنات وولدان، إضافة إلى الأم.
تفيد الرواية بأنّ بدر الدين نبهان ربّ الأسرة الريفية الكادحة، وبعد أن نما وعيه بقراءة الكتب الماركسية والروايات الواقعية، قد انتمى إلى الحزب الشيوعي السوري، وكانت غرفة فوق سطح بيته مكاناً سرياً للاجتماع برفاقه، وبعد أن كان ربّى أولاده الحرية المسؤولة والفكر، وهيأ للاستقلال شخصياتهم، ونمّاها من الداخل ضارباً عرض الحائط بالعادات والتقاليد وتقولات الناس، وبعد أن وصلت "راوية" البنت الكبرى إلى الجامعة و"نذير" على أبواب الكلية العسكرية، بعد هذا تفاجأ الأسرة في إحدى الليالي باعتقال الأب ليغيب في غياهب السجن أربعة أشهر.
يخرج بعدها منكسراً منكفئاً على نفسه متحولاً من رجل المبادئ الرافض إلى التمسك بالخرافات والأساطير والعادات البالية والأفكار المنحطة والتي لا تزال تستطيع أن تطل برؤوسها من أقبية وكهوف التاريخ.
التحول الذي حدث للأب أحدث صدمة زلزلت كيان "راوية" وقناعاتها. هي التي تدرس علم النفس كيف يمكن أن تصدق أن يحدث ما حدث، وهذا ما أوقعها في خصام مع أبيها ومع أخيها، وكان قد تخرج ضابطاً، وأصبح سيّد البيت وطاووسه، بعد أن انكفأ الأب في تجلياته الصوفية وفروض طاعته وأطلق يد "الدب" في البيت يفعل ما يشاء.
انتهت الشجارات في الأسرة مرة بعد مرة بإطلاق رصاصة من مسدس الملازم "نذير" لتكاد تلامس رأس راوية، وكانت طلقة التحول.
كانت راوية أثناء الجامعة قد تعرفت على "ماجد زهوان" الشاب الفلسطيني المتمرد، والذي يدرس التاريخ، وكانت بينهما مودة وتفاهم وصداقة قائمة على وعي متنام ومتحرر. كان قد تخرج قبلها بعام ليلتحق بمكاتب منظمة التحرير في قبرص. وإذ تسدّ السبل في وجه راوية، تسائله إن كان لديه مكان يتسع لصبية لم يعد لها مكان في الدنيا، ويأتي الجواب حميماً وأليفاً ومطمئناً، فتأخذ "راوية" دربها شطر قبرص قاطعة حبل السرة مثلما كان حدث مع أبيها منذ ثلاثين عاماً..
يموت "سعيد نبهان" بعد أن كان زاره "بدر" ليقدم فروض المعذرة، ويطلب المغفرة والمباركة ويفوز بهما.
يموت سعيد معدماً تقريباً بعد أن تلاعب بثرواته السماسرة واللصوص.
ويبدو أنّ قدر الفلسطيني المنفى أو الموت، فما يلبث "ماجد زهوان" أن يفجّر نفسه في السفارة الإسرائيلية في قبرص انتقاماً لمقتل الشهيد الفلسطيني "ماجد أبو شرار".
"قال الذهول الزائغ: والآن إلى أين يا راوية".
"وأنا ملقاة كجثة فوق فراشنا المشترك، مهجورة في غياهب الزمن تحت أجراس الموت، رفرفت فراشتي الزرقاء حولي، قالت: تعّدي من شرانق الحنين الحريرية. وادخلي فضاءات البحر".
ثانياً: في المضمون:
جاءت "وليمة لأعشاب البحر" كشفاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً يوضح انكسار التحولات الثورية في كل من العراق والجزائر، وما شابههما وسوف يشابههما من انكسارات وتحّولات.
وجاءت "مرايا النار" بياناً وجدانياً مأزوماً بحرقة الجسد والروح تحت وطأة القهر السياسي والاجتماعي والمعرفي.
أما "شموس الغجر" فهي شاهد على انكفاء النظم والأحزاب التقدمية وزلزالها في نهايات القرن العشرين، ونكوصها وارتدادها إلى عبادة الطوطم وعقلية بدايات التاريخ.
الرواية تطرح تساؤلات:
ـ ما الذي أحدثه في شعوب العالم، وشعوب العالم الثالث خاصة، الزلزال المدمر في الاتحاد السوفيتي، وما الذي يمكن أن يحدثه لاحقاً؟
"ما كان والدي بدر الدين نبهان وحيداً في تحوّلاته وارتداده إلى الأب ـ الأصل، آلاف البدور كانت تدخل الخرافات خسوفها وظلماتها عائدة إلى الجذور الأولى. بدا العالم ينقلب ليسير على رأسه في أعقاب الهزة الكونية التي زلزلت النظام الاشتراكي وحطمته. لأنّ النظام الاشتراكي كان تحوّل إلى ما يشبه كنيسة بابوية".
ـ نكوص الحركات الثورية والأحزاب التقدمية في العالم وتخليها عن مبادئها وثوابتها؟
ـ تحوّل جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً من الاشتراكية إلى التعصب الديني والمذهبي وبعضها إلى التعصب العرقي والعنصري؟
ـ بعد هذا ماذا عن أقدار الشعوب ومصائرها. ماذا عن الإنسان؟
ـ ارتداد الثورة الفلسطينية وانكفاؤها عبر تاريخها وعلاقاتها بالأنظمة العربية بعد أوسلو ووادي عربة ووادي بلانتيش؟!
ـ الحرية بمعناها العام تحت سلطة الخليفة الإمام رجل الدنيا والدين ظلّ الله على الأرض؟!
ـ أكيد هناك أسئلة أخرى مكملة ولا تقل أهمية عما سبق.
ثالثاً: في الأسلوب:
1 ـ في البناء الروائي: قلت إنني خالفت حيدر في إعادة ترتيب أحداث ووقائع الرواية ترتيباً متسلسلاً زمانياً ومكانياً، لأنّ الذي ارتآه حيدر جاء خلاف ذلك.
الرواية تبدأ من منتصفها تقريباً ثم تنداح تارة نحو الماضي وتارة نحو الحاضر فالمستقبل.
جاءت الرواية بضمير المتكلم على لسان بطلتها راوية بكر بدر الدين نبهان، بعد أن كان قد أقام بيتاً في فضاء السهل الساحلي حدّ تخوم البحر وحدّ أقدام بلدة عيون الريم الغنية بمياهها واخضرارها.
"لأمر ما يدخل في نطاق المصادفة أو اللامعقول، جاء مخاض أمي على تخوم الأرض.. وسنروي فيما بعد برنين احتفالي وامتنان مؤلم كيف ولدتني فوق الحشائش الخضراء، كما لو أنني أرنب أو عنز مجلل بالدم والخلائط المشيمية وسوائل الرحم".
أما القابلة مولدة راوية فكانت بيلار الغجرية التي قطعت حبل السرة بمقص لجز الأغنام، ومن هنا سميت راوية ابنة الغجر، ومنها جاء عنوان الرواية.
قلت جاءت الرواية بضمير المتكلم على لسان راوية، هكذا:
"لا بدّ أنّها حكاية غريبة، ومفجعة في آن، هذه الحكاية التي أرويها هنا وفي هذا الزمن. زماننا المضطرب والمتحوّل، هي في النهاية شهادتي عن مجرى حياتي، ولكنّها في منظور آخر ربما كانت حكايتنا جميعاً. مسرى حياة في بلاد الشرق العربي تلك التي رويت في ألف ليلة وليلة... ثم تناسلت عبر الأجيال داخل ألوان وأطياف، وفي مدارات من أقمار وكواكب ومجرّات ما تزال تدور حول هيولاها الأولى".
إلاّ أنّ ضمير المتكلم لا يماشي الرواية طويلاً إذ سرعان ما ينقلب إلى خطاب وحوار أو غائب بالضمائر جميعاً دون قصد مسبق.
لأنّ استدارات الرواية بأحداثها والتفافاتها والتنقل السريع بين الحاضر والماضي والمستقبل واستشرافات الرؤى، كل هذه تخضع الضمير المناسب لحاجتها.
أنت تستطيع أن تستشف خاتمة الرواية من بدايتها أو وسطها وتستطيع النهاية أن تعيدك إلى البداية، أو إلى أي فصل في الوسط أو ما قبل الوسط أو ما بعده. فتدوير الزمان والمكان سمة هامة من سمات السرد الروائي لاعب به حيدر الأحداث والشخصيات والفكر. ومن هنا ابتعد السرد مدىّ عن السرد الروائي التقليدي المعروف شاقاً لنفسه طرقاً لولبية حلزونية لا يمكن التكهن بطرائق بنائها مسبقاً.
ومن هنا أخمن بأنّ حيدر سوّد الرواية بأسلوب تقليدي أول مرة. ثم ترك لخياله العنان فتلاعب بزمانها ومكانها وأساليب خطابها تلاعباً فنياً يثير الدهشة..
اللولبية والحلزونية هي شكل تنامي أحداث ووقائع الرواية، إلاّ أنّ خيطاً واحداً لم يفلت من يد اللاعب البارع. والقارئ لا يحس أبداً بزمان حدث أو مكانه أو منحاه. فالتنقل الزماني الحدثي سمة بارزة رشيقة وسريعة في البناء الروائي. هكذا كما دوائر الماء يتداخل بعضها في بعض وينفصل بعضها عن بعض ويتلاشى بعضها ويرتسم آخر ليرتسم المتلاشي ويتلاشى المرتسم. هكذا في حركة دؤوب لا تدخلها استفاضة أو قصور، ولا يعتريها ملل.
2 ـ أسلوب التعبير: هناك تعبير عن الفكرة باللغة. وهناك تعبير عن الفكرة بالصورة. وهناك تعبير عن الفكرة بالرمز وربما ـ أحياناً ـ بالإيحاء، وهناك أساليب أخرى ربما كثيرة.
لغة الخطاب الضاجة الصاخبة رافقت مجرى الحدث السياسي في "وليمة لأعشاب" البحر. والتعبير بالصورة ماشى الحدث الوصفي. ولغة الشعور والوجدان رافقت المآسي والفواجع والعشق. ولغة الرمز جاءت مع ما هو أسطوري، والإيحاء رفرف مع العبارات الدالة الموحية التي تحمل أبعد من معناها المتداول. وكانت هناك لغة صادقة تتساوق مع ما هو فكر. في "مرايا النار" هناك قصيدة وجدانية تمتح دم القلب وعصارة الروح ترافق أعماق الذات في تقلصها وتمددها وتمحورها وانكسارها. لغة هي الشعر المركب المتدخل الانفعالات. أما أساليب التعبير في "شموس الغجر" فتختلف اختلافاً بيناً عما هي عليه في الروايتين السابقتين لأنّها ـ ربما ـ تجمع كل تلك الأساليب وتنثرها وفق الحالة الشعورية المرافقة ووفق رهبة الحدث ولا معقوليته أو إدهاشه. ثم تضيف عليها أسلوباً خاصاً مستقى من الأسطورة دون أن يكون رمزاً أو تناصاً. أنت تشتم رائحة التعبير في الأساطير ولا أساطير، لغة مزيج من التراث والحداثة والأساطير عجنت كالصلصال وشكلت خلقاً جديداً شديد الإفصاح.
"داخل الحلم المشتهى في غمرة النوم واليقظة آن يكون الشفاء في خطر تخطف الروح داخله مدارات جنونها العذب، توغل عميقاً في فجوات جحيمها الخاص. خارجة من تعاليم الأسر.. من الأوامر والوصايا ويرقات الفضيلة الكاذبة". "ايفالونا" حواء القمر أو قمر الحياة الطفلة الشاردة من شرط الولادة والدم، والمقذوفة كنيزك في فضاءات معتمة داخل كون غامض بلا أمل".
لغة من بيادر شاسعة خصبة وغنية ومتنوعة لملم حيدر حصياتها، مفردات الأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع والجغرافيا وعلم الفضاء وعلم الطبيعة والأحياء والأسطورة والدين والتابوات والمحافل السرية والتاريخ. شكلها حيدر خلقاً ناطقاً يشبه كل شيء ولا شيء. هو الزخم المعرفي وأمداء قاموس حيدر حيدر اللغوي.
3 ـ الزمان: لغز الحياة وسرها وأحجيتها وأسّها ومحركها ومبديها ومعيدها ومفنيها هو الزمان.
وجمالية "شموس الغجر" تترقرق كقطرة الندى على تويجات الزمن المرفرفة المضطربة في كل بعد وكل منحى وكل اتجاه.
من أية نقطة بدأت الرواية أنت لا تعرف. في أي صفحة من صفحات الكتاب انتهت أو ابتدأت أو استمرت أنت لا تعرف. هي دورات للزمن متداخلات. يفنى معها الزمن بعضه في بعض فلا ماضٍ ولا مستقبل ولا قبل ولا بعد.
إنّه تكور الزمن وتدوره وتدويره على أصابع جنيّ ساحر مسحور منجذب إلى نجم قطبي لا شكل له.
إلاّ أنّ أسرار انسحار الزمان لدى حيدر بسيطة جداً ساحرة جداً. فمفردات الزمان صباح. مساء. ظهراً. بعد. قبل. سين الاستقبال. عندما. حين. يوم. ليلة. مرة. ساعة. دقيقة. لحظة وغيرها. ومصادره: انخطاف. استباق. انجذاب. تجاوز. تراجع. ارتياب. قدر. زمن. موجودة كلها وبحضور باهق في قاموس حيدر الروائي. هي موجودة وما كان أمام حيدر إلاّ أن ينفتح فيها لتكون أزمنة في زمان واحد كلي الحضور، كلي الإقناع والتأثير.
سين الاستقبال فعلت فعلها النيزكي في الانتقال من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، لتجعل من الحدث كلاً متراكباً لا يتصدع ولا يتجزأ: "في الذاكرة سيبدو ماجد زهوان علامة استفهام في حياتي، وسنفترق بلا أمل أو ميثاق سوى الصداقة الحميمة". "ستروي لي أمي فيما بعد". "سيقولون عني فيما بعد، أو سأباغت حالتي في جلسة سرية".
"حين سأسال رجل الهجرات والمنافي.. سيكون جوابه حاسماً".
ثم يأتي الانتقال من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل على جناح عبارات من مثل: في الأزمنة القادمة. في الزمن الآتي.
وفي الارتداد من الحاضر إلى الماضي تأتي كان المرافقة للتداعيات والاستذكارات: "كنت مأخوذة أو شبه منوّمة في تلك الأزمنة، زمن لا كالأزمنة التي أعرفها هو ذا يطوف بنا ويطوّفنا".
كما تأتي: أتذكر، تذكرت، في ذلك الزمن، في تلك الأزمنة، في الذاكرة الطفولية.. وما إلى ذلك: "كما كان المشهد بعيداً وهو يستعاد الآن عن مشهد زمن ملوك الطوائف... بينما العدو على الأبواب".
يتماهى الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر: "وما أشبه الليلة بالبارحة".
4 ـ في المكان: اقتصد حيدر حيدر في رسم معالم المكان إلاّ فيما يعنيه على إضاءة الحدث وكشف نوازع الشخصيات من خلال اضطرابها في البيئة المكانية التي لا بد أن تترك ظلالها على أساليب التفكير وشكل العلاقات بين الناس.
بيئة سعيد نبهان الرجل الخطير المهاب بيئة زراعية بعلاقات ريفية زراعية، لكننا لم نلمح سوى القصر الكبير فوق الرابية المطلة، وما كدنا نلمح منه إلاّ البهو الفسيح / المضافة المشرعة الأبواب ليلاً نهاراً توزع منها أكؤس الشاي والزوفا. دلالة على مكانة صاحبها ووجاهته وقدره المبجل بين الناس جميعاً. أما عيون الريم فغائمة الملامح تقريباً تعرفنا فيها على مياهها وبحرها وشاطئها وبعض زراعاتها. والعمل الزراعي لأسرة بدر الدين نبهان. إلاّ أنّ العلاقات الزراعية لم تتوضح بين الناس.
وقف حيدر متأنياً أمام البيئة الجدية في نيقوسيا عاصمة قبرص مدينة النعاس الأزرق كما سمتها الرواية.
وقد جاء وصف بعض شوارعها وأشجارها وأمطارها وشكل لياليها وباراتها وحرية الناس فيها، ربما ليمكن إجراء مقارنة شفيفة بين ما نحن عليه وما هم عليه، وربما ليتضح حجم الضياع الفلسطيني في الوطن وفي الشتات.
"بعد أن ننهي بيرتنا سنعود إلى مخيمنا المنصوب على شاطئ لارنكا قرب عراء مطعم الرومانسو.
قبل العودة تجولنا عبر ساحة مضيئة، حولها آثار يونانية وفينيقية قديمة، داخل كهوفها أشعت مصابيح ملونة..
شباب وفتيات من كل أنحاء العالم جاؤوا ليقضوا عطلاتهم الصيفية، هم الآن يستريحون، يطلقون في هذه الفضاءات الصاخبة طيور الروح والجسد والمرح النفسي حتى الأقاصي".
5 ـ في الشخصيات: حيدر حيدر الكاتب لم يتقمص أحد من شخصياته ولا كان بديلاً ولا أحلّ أفكاره فيها. جاءت شخصيات روايته حرة مقنعة واقعية تفكر على قدّها وفق ما يتاح لها. يتنامى وعيها من خلال صدامها مع واقع الحياة وشجونها. إلاّ أنّه أصر وبإصرار مسبق ـ ربما ـ لنماذج أو أنماط بشرية أو شرائح حاول أن تكوّن مجتمعاً.
سعيد نبهان الإقطاعي المتغطرس صاحب الجاه والثروة والنفوذ تستبد به حمى المال والثروة فيطلق وتر الشهوة إلى أقصى مداه، ضارباً بمشاعر كل من حوله عرض الحائط، لا يثنيه عن مبتغاه شيء. شخصية أتقن حيدر رسمها من خلال أسلوب تفكيرها وعلاقات المضاربة والسمسرة والشراكات، ومن خلال السماح لها بالتعبير عن مكنوناتها من خلال التداعيات والمواقف:
"بين أصدقائه من المسئولين وعملائه من السماسرة والتجار كان يمضي أياماً من القصف والسكر مع النساء في بيوتات خاصة بعيدة عن الرقابة والكشف".
"في أعماقه ما كان يرى في ذلك فعلاً خارجاً عن سياق الحياة والمتعة لرجل الدين والدنيا... على العكس بدا له هذا السلوك غير الخطر أو المؤذي لأحد، ملاذاً خصوصياً وحميمياً. يقيم في داخله نوعاً من التوازن والانسجام بينه وبين العالم الخارجي".
ولا ننسى أنّه هو الذي يؤم المصلين في الصلاة، ويوزع زكاة ماله في الأسواق، ويولم الفقراء. وهو مصدر الفتاوى والشورى في من هم تحت سلطته.
درية نبهان المرأة الاستثناء التي لم تخضع لذكورية الرجل وغطرسته لأنّ دم آل نبهان يجري في عروقها. المرأة التي قبلت الطلاق ولم تقبل بالعودة. والتي صانت شرفها وكرامتها كاتمة الغيظ. مثال للأنفة وعزة النفس.
"درية نبهان ربما كانت استثناء في ذلك المكان الريفي الخانع بدا الاستثناء عبر سطوح تشكيلاته الخارجية وراثياً. حالة غريبة من العنفوان والشموخ العائلي".
عندما بذلت وساطات لرأب الصدع ولم الشم أجابت: "أعود ولكن بشرطين: أن يطلق امرأته الجديدة، وأن يعتذر علناً أمام الجميع". وهي تعرف أنّ الشرطين مستحيلان. وبذا تكون قد قبلت حياة الفقر محل الغنى والجاه والسلطة والثروة، انتقاماً لكبريائها.
بدر الدين نبهان الذي وصلته رصاصة الطلاق عبر الجدار الفاصل بين غرفته وغرفة الأبوين يصعد في حلقه كل الحقد والكراهية للأب المتغطرس المستبد. وينحاز إلى طرف أمه مقطوعاً من صخرة ضارباً بالهناءة والنعيم، عازفاً عن الثروة والدلال، مكابراً ومقامراً بعمره، فداء لأم مهانة. "اخترقت الطلقة الجدار وأصابت القلب. أدرك على نحو ضبابي في ذلك الصباح المضطرب بأنّ حياته شردت منه وتناثرت في فضاء الريح". "سيحمل هذا المساء الحزين أمداً طويلاً في دمه وأسفاره بعد أن يغادر وأمه بيت العائلة إلى غير رجعة".
إذا كان في الرواية ثلاث شخصيات مهمة في حمل الأفكار ودفع الأحداث فهي شخصيات سكونية مغلولة بأسلاب الماضي وميراث العصور القديمة متمثلة بالأب سعيد نبهان والأم درية نبهان رغم عنفوانها وإبائها ـ وعليّة القادمة من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي لتفرح بأن تصبح امرأة للفراش والإنجاب والمطبخ، مستسلمة لقدرها لإرادة الرجل كما تقرّه الأعراف والدين.
أما الشخصيات الفاعلة المتنامية بوعيها وغنى تفكيرها فكانت ثلاثاً أيضاً: بدر الدين وابنته راوية وماجد زهوان الشاب الفلسطيني الممتلئ بوعي وإدراك حال العرب والفلسطينيين والعالم.
بدر الدين نبهان يبدأ وعيه على نحو ضبابي كما مرّ، إلاّ أنّ غربته وعزلته في جرود المتن صقلت روحه وفتحت وعيه من خلال تحمل مسؤولية نفسه ومسؤولية أمه.
"وحدة الإنسان في العراء تصقل الروح. ما كنت أختلف عن ذئب في الليالي. لكم آنسني عواء الثعالب في وحشتي".
ثم يعين حارساً لمستودع ضخم للكتب يتعرف فيه على الكتب الماركسية والاشتراكية من كتب وروايات تنفذ إلى وعيه وترتقي بمداركه عمقاً. وأرى أنّ هذا الأسلوب في الوعي من كلاسيكيات الواقعية الاشتراكية. "لولا ذلك المستودع المعهد لما كنت أكثر من حمار أعمى". وكان قد تأثر أيضاً بعلاقات مع رجال الثورة الفلسطينية في بيروت.
ثم تأتي تجربة الارتداد ونكوص الوعي ودمار الشخصية بعد الاعتقال لينكفئ إلى التراث الديني المذهبي إلى الكتب العتيقة الصفراء إلى ما قبل تحرر العقل، إلى طفولة العقل البشري الأولى. "في أوقات خاصة وسرية كان يتحدث بهمس عن مسائل خطيرة طائفية ومذهبية. ظهورات خرافية لا معقولة مستقاة من عصور ما قبل العقل حول التجسيد الإلهي على الأرض وبداية الكون من آدم شمس العالم وحواء قمر الظلمة".
"من أين انبثقت هذه الأطوار البدائية واللوثات الصوفية التي تذكر بإنسان الكهوف والتيه في الصحارى".
إنّها مرحلة انكسار الوعي وقوى الأحياء.
راوية الراوية التي جاءت الرواية على لسانها عزت تمردها بداية للولادة شبه الأسطورية في الحقل على يد الغجرية بيلار: "تلك البداية شبه الأسطورية، ستنعكس على حياتي مولدة في أعماقي شوقاً غريباً للبراري والحرية".
ثم يأتي مناخ الحرية الذي مدّه بدر الدين نبهان واسعاً في أسرته ليعمق استقلال الشخصية ونموها نمواً متوازناً بطيئاً ولكن خلاقاً يمكن الذات من استلام زمام مصيرها وقدرها. "وعبر نمو وعيه سيخلق في البيت مناخاً صحياً وتنويرياً، حالة ديموقراطية ومستقبلية لعلاقة الآباء بالأبناء أساسها الحرية الداخلية والاستقلال الشخصي".
"كنا صغاراً حين بدأنا نرضع من كلماته وسلوكه حليب الحرية والخروج على التقاليد الموروثة والأزمنة البالية".
"قبل أن يذهب إلى قراءاته وتأملاته يشير في إرشاداته المضيئة إلى الفرق بين الحرية والفوضى، بين الانطلاق الواعي والشذوذ غير المسئول ، وضرورة التوازن بين الفردي والجماعي".
هكذا كانت بدايات الوعي لدى راوية. ثم تأتي سنوات الجامعة ودراستها لعلم النفس وعلاقاتها بأساتذتها وزملائها لتثري مداركها وتصقل وعيها رويداً رويداً".
إلاّ أنّ المحطة الأهم في مرحلة الجامعة هي اللقاء بماجد زهوان الشاب الفلسطيني المتمرد المتحمس القادر بوعيه على التحليل والتركيب، وقراءة حال العرب والعالم ومشكلات الحرية والوجود والتقدم والتخلف، كانت صدمة اللقاء بسيطة:
"حين سأسأل رجل الهجرات والمنافي الذي اخترته واختاره القدر صديقاً وحبيباً: أهناك أقدار محتومة في نهاية المطاف؟ لا بد أنّ سؤالي كان استفساراً مبلبلاً.."
ثم يبدأ بتعويدها على قراءة الكتب السياسية والأدبية: "هو وأبي عوداني على قراءة الكتب".
ثم يهديها رواية أفالونا لإيزابيل الليندي ـ لترى في مصير بطلتها شبيهاً بمصيرها وتتأثر خطاها على ما يبدو في رحلة الوعي والتمرد. بعدها يأتي دور القراءة في تمتين الوعي وإدراك التمايز الاجتماعي والتفاوت الطبقي: "في أزمنة قادمة، وأنا أنمو وأقرأ وأسمع، في صمت القلب والتأمل الداخلي، سأدرك قيمة البشر الهامشيين والبسطاء.. هؤلاء الأبرياء الذين يشكلون جوهر العالم في عصور الطغيان والخراب".
وأخيراً تأتي تحولات الأب وانكساراته وارتداده لتوقد اللهب في فضاء الروح وحنايا القلب.
"في الأزمنة القادمة كطفل دائرة الطباشير القوقازية، سأنقسم بين أبوين: ابنة الرحم والميراث، وابنة الوعي والحرية".
"في الأشهر التي بدأت فيها أعراض تحولاته نحو الإيمان اجتاحتني كوابيس واحتقانات، حالات عصبية، وحصر نفسي، أوصلتني معه إلى حواف الصدام والإهانة".
"بعد أن قرأت رواية الأم لمكسيم غوركي عرفت كم الفرق كبير بين أم مكسيم وأمي".
وتبقى شخصية رواية هي الشخصية المحورية في الرواية يتنامى وعيها ودفعها بالأحداث وفق ما أريد لها.
ماجد زهوان بدأ ممتلئاً. ممتلئ بجرحه الفلسطيني ومنفاه وانتكاسات شعبه وثورته والتردي العربي الذي يتدهور عاماً فعاماً، ممتلئ بالمرارة والرفض والتحدي. الوعي الفلسطيني المتجذر الشمولي، والإدراك الرياضي لمعادلات الصراع الفلسطيني الفلسطيني. والفلسطيني الصهيوني، والفلسطيني العربي، والعربي الصهيوني.
هذا الوعي الرائع البارق هو الذي دفع صاحبه بإصرار وسبق تصميم إلى تفجير نفسه والسفارة الإسرائيلية في قبرص معه.
شخصية ماجد زهوان لها حضور طاغ في فضاء الرواية، شخصية مزيج من الأصالة والثبات والبعد المعرفي والوعي التركيبي الصعب. شخصية الصدق والرفض والمعاناة التي تركت آثارها واضحة فيمن عايشوها وبخاصة راوية. وهو كما وصفته راوية: "كان مأخوذاً بالتيارات اليسارية في العالم، مزيج من باكونين، بلانكي، تشي غيفارا، تروتسكي، ثورة اليعاقبة في الثورة الفرنسية، دانتون، روبسبير".
"سألته في سياق الحوار العاصف: وفي التاريخ العربي من مثالك؟!
ـ الحسن بن علي وصقر قريش والقرامطة والحسن الصباح.
ـ لماذا...؟!..
ـ لأنّهم عصاة السلطة والخارجون عليها".
إنّ ماجد زهوان هو ضمير كل فلسطيني فلسطيني وضمير كل عربي عربي.
نسيت أن أعرج على شخصية كان لها دور في دفع الأحداث وفجائيتها، وهي شخصية الملازم نذير.
"هذا الديك الرومي سيتحول مع الزمن ومن خلال السلطة التي منحها من الأب إلى طاغية الأسرة".
"كانت الفكرة تؤرقني في أعقاب صداماتي مع هذا الدب المغرور كما اتفقنا على تسميته سراً".
الملازم نذير نتاج التربية العسكرية على ما يبدو والتي كأنّها تقول لمن يعايشها: من هم فوقك يظلمونك ويضطهدونك، فاظلم من هم تحتك واضطهدهم. هكذا يبدو قانون العلاقة، وزاد في الأمر سوءاً أن يعطى سلطة مطلقة من الوالد في البيت. غطرسة الطاووس التي كادت تودي بحياة راوية، والتي دفعتها إلى اختيار درب الهروب ، درب ماجد زهوان.
"لكنّها بنت شاذة فوضوية خليلة فلسطيني شيوعي سافل".
هذه الشخصية النموذج لسكونية الوعي وربما انعدامه.
وأخيراً:
وفي إطلالة خاطفة على فضاء حيدر حيدر الروائي تتبدى ملامح مسيرته الروائية في خط بياني متصاعد عمقاً وكشفاً:
"الفهد" تمجيد للبطولة الفردية في وجه الطغيان والظلم.
و"الزمن الموحش" تسجيل لبدايات تحالف العسكر مع التجار والسماسرة وطغمة المال لإحداث اروع التبدلات في الدمار والتخريب.
"وليمة لأعشاب البحر" تأكيد على تعهّر الثورات والأحزاب التقدمية بقياداتها وحرفها عن المسار الثوري.
"مرايا النار" نزف داخلي لجرح إنساني تغتال معه الحرية والقدرة على الاختيار.
أما "شموس الغجر" فهي الشاهد على عفن العالم في هذا الزمن الذي يمشي على رأسه. شاهد على الدمار والخلل فيما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وأثره على الحركات والشعوب والإنسان وبخاصة العربي والفلسطيني.
إنني بهذا الاختزال والتجزيء الذي سبقه قد أكون أسأت إلى فنية حيدر حيدر، فليعذرني فلم يكن في اليد إلاّ أن أنشب قلمي في صدر روايته.
مجدلون البستان ـ سوريا
أنيس إبراهيم
شموس الغجر ـ رواية ـ حيدر حيدر ـ كاتب وأديب معروف ـ طرطوس ـ سوريا
أنيس إبراهيم: كاتب قصة قصيرة، وناقد أدبي حاز على العديد من الجوائز العربية ـ طرطوس ـ سوريا
ربما صح أنّ لينين قال: "الحزب الثوري في بلد متخلف لا يكون إلاّ متخلفاً".
وربما لأسباب لا ندرك كنهها تماماً عزف ماركس عن التعمق في دراسة نمط الإنتاج الأسيوي الدراسة العميقة والدقيقة التي فنّد فيها أساليب تطور وتناقضات النظام الرأسمالي، إذ اعتبر بلدان آسيا ـ أو أغلبها ـ متعددة أنماط الإنتاج، ولم يتبلور التمايز الطبقي فيها بعد.
من مثل هذه الأساسيات وسواها ربما انطلق حيدر حيدر في بناء روايته "شموس الغجر".
ليعذرني حيدر إذ أخالف تقنياته الروائية، وأعود فأرتّب أحداث الرواية ترتيباً متسلسلاً مبسطاً زمانياً ومكانياً وأحداثاً، كي أبسط مضمون الرواية أمام من لم يقرأها تسهيلاً للفهم والدراية.
أولاً: المضمون:
تبدأ أحداث "شموس الغجر" من كفر حمام البلدة التي تربعت فوق هضبة منبسطة في سهل الروج، ومن بيت سعيد نبهان المالك الكبير لأراضي كفر حمام وأهلها وحيواناتها وما جاورها، والشريك في ثلاثة مصانع للنسيج والممول لشركات تجارية وطنية وعربية وأجنبية، سليل أسرة آل نبهان التي ذاع صيتها من اسكندرون في الشمال إلى طرابلس الشام.
تزوج سعيد نبهان من ابنة عمه دريّة نبهان التي تسري في عروقها دماء آل نبهان الحارة، وقد ورثت عزة النفس وقوة الإرادة والعنفوان من أمجاد الأسرة الحافلة بالمآثر والأمجاد.
تقول الرواية: "في النصف الثاني من الخمسينات تراجع القطاع العام وتُرك الحبل على الغارب أمام القطاع الخاص ليستعيد بناء الوطن على نحو خلاّق لا مثيل له في الدمار عبر تاريخ الشرق".
تنامت شكوك الزوجة حول مضاربات وشراكات زوجها، وإذ أفصحت أمام الزوج "نبّ في وجهها لأول مرة:
ـ في هذه الأمور الخاصة أنت لا تفهمين شيئاً.
ـ أنت السيد وابن العم، لكن دريّة ليست أمة في بيتك"
وكانت بداية تنامي الخصام، ومرة بعد مرة ازداد إهمال الرجل للبيت بعد أن ذاق طعم أجساد نساء العاصمة.
كان سعيد نبهان قد رزق من ابنة عمه بنات وولداً ذكراً، هو بدر الدين نبهان "وريث سلالة آل نبهان العصية على الانقراض".
بعد ليلة خصام وشجار وتبادل اتهامات وبذاءات بعلاقات جنسية كانت تصل الفتى عبر الجدار، خشي أن ينتهي الأمر بإطلاق النار... ولكن الطلقة التي حصلت كانت أقسى من الرصاصة: "أنت طالقة".
أصابت الطلقة قلب الفتى ابن الثامنة عشرة لتعتمل في صدره كراهية عنيفة للأب وانحياز متمرد إلى جانب الأم.
في صباح اليوم التالي يغادر الفتى مرابع النعمة والغنى مصطحباً أمّه ليتركها وديعة لدى أخته في مدينة بعيدة عن كفر حمام وليّمّم وجهه شطر بيروت بحثاً عن عمل يصون كرامته وكرامة أمه.
"سأجوع وأعرق وأعرى، لكننا لن نركع على عتباته، لتذهب ثروته وأملاكه إلى جهنم الحمرا".
في لبنان بعد ضياع أسبوع كامل يوفّق بالعمل في مزرعة للتفاح في جرود المتن، يعاني فيها وحشة الغربة وحرقة الحنين مدة عامين، ثم ينزل إلى بيروت ليحرس مستودعاً ضخماً، المستودع المعهد الذي بدّل وعيه وحياته.
وبعد سنتين تسوقه دروب الحياة ليعمل مرابعاً في سهول الساحل السوري، بعد أن كان تعرّف على زوجته "أمينة" وتزوجها "وهو لا يملك قميصاً للعرس".
بوضع القرش على القرش، والكد والتعب اشترى أرضاً في السهل الساحلي قرب شاطئ البحر قدام بلدة عيون الريم وبنى بيتاً كبيراً، وأنشأ أسرة قوامها ثلاث بنات وولدان، إضافة إلى الأم.
تفيد الرواية بأنّ بدر الدين نبهان ربّ الأسرة الريفية الكادحة، وبعد أن نما وعيه بقراءة الكتب الماركسية والروايات الواقعية، قد انتمى إلى الحزب الشيوعي السوري، وكانت غرفة فوق سطح بيته مكاناً سرياً للاجتماع برفاقه، وبعد أن كان ربّى أولاده الحرية المسؤولة والفكر، وهيأ للاستقلال شخصياتهم، ونمّاها من الداخل ضارباً عرض الحائط بالعادات والتقاليد وتقولات الناس، وبعد أن وصلت "راوية" البنت الكبرى إلى الجامعة و"نذير" على أبواب الكلية العسكرية، بعد هذا تفاجأ الأسرة في إحدى الليالي باعتقال الأب ليغيب في غياهب السجن أربعة أشهر.
يخرج بعدها منكسراً منكفئاً على نفسه متحولاً من رجل المبادئ الرافض إلى التمسك بالخرافات والأساطير والعادات البالية والأفكار المنحطة والتي لا تزال تستطيع أن تطل برؤوسها من أقبية وكهوف التاريخ.
التحول الذي حدث للأب أحدث صدمة زلزلت كيان "راوية" وقناعاتها. هي التي تدرس علم النفس كيف يمكن أن تصدق أن يحدث ما حدث، وهذا ما أوقعها في خصام مع أبيها ومع أخيها، وكان قد تخرج ضابطاً، وأصبح سيّد البيت وطاووسه، بعد أن انكفأ الأب في تجلياته الصوفية وفروض طاعته وأطلق يد "الدب" في البيت يفعل ما يشاء.
انتهت الشجارات في الأسرة مرة بعد مرة بإطلاق رصاصة من مسدس الملازم "نذير" لتكاد تلامس رأس راوية، وكانت طلقة التحول.
كانت راوية أثناء الجامعة قد تعرفت على "ماجد زهوان" الشاب الفلسطيني المتمرد، والذي يدرس التاريخ، وكانت بينهما مودة وتفاهم وصداقة قائمة على وعي متنام ومتحرر. كان قد تخرج قبلها بعام ليلتحق بمكاتب منظمة التحرير في قبرص. وإذ تسدّ السبل في وجه راوية، تسائله إن كان لديه مكان يتسع لصبية لم يعد لها مكان في الدنيا، ويأتي الجواب حميماً وأليفاً ومطمئناً، فتأخذ "راوية" دربها شطر قبرص قاطعة حبل السرة مثلما كان حدث مع أبيها منذ ثلاثين عاماً..
يموت "سعيد نبهان" بعد أن كان زاره "بدر" ليقدم فروض المعذرة، ويطلب المغفرة والمباركة ويفوز بهما.
يموت سعيد معدماً تقريباً بعد أن تلاعب بثرواته السماسرة واللصوص.
ويبدو أنّ قدر الفلسطيني المنفى أو الموت، فما يلبث "ماجد زهوان" أن يفجّر نفسه في السفارة الإسرائيلية في قبرص انتقاماً لمقتل الشهيد الفلسطيني "ماجد أبو شرار".
"قال الذهول الزائغ: والآن إلى أين يا راوية".
"وأنا ملقاة كجثة فوق فراشنا المشترك، مهجورة في غياهب الزمن تحت أجراس الموت، رفرفت فراشتي الزرقاء حولي، قالت: تعّدي من شرانق الحنين الحريرية. وادخلي فضاءات البحر".
ثانياً: في المضمون:
جاءت "وليمة لأعشاب البحر" كشفاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً يوضح انكسار التحولات الثورية في كل من العراق والجزائر، وما شابههما وسوف يشابههما من انكسارات وتحّولات.
وجاءت "مرايا النار" بياناً وجدانياً مأزوماً بحرقة الجسد والروح تحت وطأة القهر السياسي والاجتماعي والمعرفي.
أما "شموس الغجر" فهي شاهد على انكفاء النظم والأحزاب التقدمية وزلزالها في نهايات القرن العشرين، ونكوصها وارتدادها إلى عبادة الطوطم وعقلية بدايات التاريخ.
الرواية تطرح تساؤلات:
ـ ما الذي أحدثه في شعوب العالم، وشعوب العالم الثالث خاصة، الزلزال المدمر في الاتحاد السوفيتي، وما الذي يمكن أن يحدثه لاحقاً؟
"ما كان والدي بدر الدين نبهان وحيداً في تحوّلاته وارتداده إلى الأب ـ الأصل، آلاف البدور كانت تدخل الخرافات خسوفها وظلماتها عائدة إلى الجذور الأولى. بدا العالم ينقلب ليسير على رأسه في أعقاب الهزة الكونية التي زلزلت النظام الاشتراكي وحطمته. لأنّ النظام الاشتراكي كان تحوّل إلى ما يشبه كنيسة بابوية".
ـ نكوص الحركات الثورية والأحزاب التقدمية في العالم وتخليها عن مبادئها وثوابتها؟
ـ تحوّل جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً من الاشتراكية إلى التعصب الديني والمذهبي وبعضها إلى التعصب العرقي والعنصري؟
ـ بعد هذا ماذا عن أقدار الشعوب ومصائرها. ماذا عن الإنسان؟
ـ ارتداد الثورة الفلسطينية وانكفاؤها عبر تاريخها وعلاقاتها بالأنظمة العربية بعد أوسلو ووادي عربة ووادي بلانتيش؟!
ـ الحرية بمعناها العام تحت سلطة الخليفة الإمام رجل الدنيا والدين ظلّ الله على الأرض؟!
ـ أكيد هناك أسئلة أخرى مكملة ولا تقل أهمية عما سبق.
ثالثاً: في الأسلوب:
1 ـ في البناء الروائي: قلت إنني خالفت حيدر في إعادة ترتيب أحداث ووقائع الرواية ترتيباً متسلسلاً زمانياً ومكانياً، لأنّ الذي ارتآه حيدر جاء خلاف ذلك.
الرواية تبدأ من منتصفها تقريباً ثم تنداح تارة نحو الماضي وتارة نحو الحاضر فالمستقبل.
جاءت الرواية بضمير المتكلم على لسان بطلتها راوية بكر بدر الدين نبهان، بعد أن كان قد أقام بيتاً في فضاء السهل الساحلي حدّ تخوم البحر وحدّ أقدام بلدة عيون الريم الغنية بمياهها واخضرارها.
"لأمر ما يدخل في نطاق المصادفة أو اللامعقول، جاء مخاض أمي على تخوم الأرض.. وسنروي فيما بعد برنين احتفالي وامتنان مؤلم كيف ولدتني فوق الحشائش الخضراء، كما لو أنني أرنب أو عنز مجلل بالدم والخلائط المشيمية وسوائل الرحم".
أما القابلة مولدة راوية فكانت بيلار الغجرية التي قطعت حبل السرة بمقص لجز الأغنام، ومن هنا سميت راوية ابنة الغجر، ومنها جاء عنوان الرواية.
قلت جاءت الرواية بضمير المتكلم على لسان راوية، هكذا:
"لا بدّ أنّها حكاية غريبة، ومفجعة في آن، هذه الحكاية التي أرويها هنا وفي هذا الزمن. زماننا المضطرب والمتحوّل، هي في النهاية شهادتي عن مجرى حياتي، ولكنّها في منظور آخر ربما كانت حكايتنا جميعاً. مسرى حياة في بلاد الشرق العربي تلك التي رويت في ألف ليلة وليلة... ثم تناسلت عبر الأجيال داخل ألوان وأطياف، وفي مدارات من أقمار وكواكب ومجرّات ما تزال تدور حول هيولاها الأولى".
إلاّ أنّ ضمير المتكلم لا يماشي الرواية طويلاً إذ سرعان ما ينقلب إلى خطاب وحوار أو غائب بالضمائر جميعاً دون قصد مسبق.
لأنّ استدارات الرواية بأحداثها والتفافاتها والتنقل السريع بين الحاضر والماضي والمستقبل واستشرافات الرؤى، كل هذه تخضع الضمير المناسب لحاجتها.
أنت تستطيع أن تستشف خاتمة الرواية من بدايتها أو وسطها وتستطيع النهاية أن تعيدك إلى البداية، أو إلى أي فصل في الوسط أو ما قبل الوسط أو ما بعده. فتدوير الزمان والمكان سمة هامة من سمات السرد الروائي لاعب به حيدر الأحداث والشخصيات والفكر. ومن هنا ابتعد السرد مدىّ عن السرد الروائي التقليدي المعروف شاقاً لنفسه طرقاً لولبية حلزونية لا يمكن التكهن بطرائق بنائها مسبقاً.
ومن هنا أخمن بأنّ حيدر سوّد الرواية بأسلوب تقليدي أول مرة. ثم ترك لخياله العنان فتلاعب بزمانها ومكانها وأساليب خطابها تلاعباً فنياً يثير الدهشة..
اللولبية والحلزونية هي شكل تنامي أحداث ووقائع الرواية، إلاّ أنّ خيطاً واحداً لم يفلت من يد اللاعب البارع. والقارئ لا يحس أبداً بزمان حدث أو مكانه أو منحاه. فالتنقل الزماني الحدثي سمة بارزة رشيقة وسريعة في البناء الروائي. هكذا كما دوائر الماء يتداخل بعضها في بعض وينفصل بعضها عن بعض ويتلاشى بعضها ويرتسم آخر ليرتسم المتلاشي ويتلاشى المرتسم. هكذا في حركة دؤوب لا تدخلها استفاضة أو قصور، ولا يعتريها ملل.
2 ـ أسلوب التعبير: هناك تعبير عن الفكرة باللغة. وهناك تعبير عن الفكرة بالصورة. وهناك تعبير عن الفكرة بالرمز وربما ـ أحياناً ـ بالإيحاء، وهناك أساليب أخرى ربما كثيرة.
لغة الخطاب الضاجة الصاخبة رافقت مجرى الحدث السياسي في "وليمة لأعشاب" البحر. والتعبير بالصورة ماشى الحدث الوصفي. ولغة الشعور والوجدان رافقت المآسي والفواجع والعشق. ولغة الرمز جاءت مع ما هو أسطوري، والإيحاء رفرف مع العبارات الدالة الموحية التي تحمل أبعد من معناها المتداول. وكانت هناك لغة صادقة تتساوق مع ما هو فكر. في "مرايا النار" هناك قصيدة وجدانية تمتح دم القلب وعصارة الروح ترافق أعماق الذات في تقلصها وتمددها وتمحورها وانكسارها. لغة هي الشعر المركب المتدخل الانفعالات. أما أساليب التعبير في "شموس الغجر" فتختلف اختلافاً بيناً عما هي عليه في الروايتين السابقتين لأنّها ـ ربما ـ تجمع كل تلك الأساليب وتنثرها وفق الحالة الشعورية المرافقة ووفق رهبة الحدث ولا معقوليته أو إدهاشه. ثم تضيف عليها أسلوباً خاصاً مستقى من الأسطورة دون أن يكون رمزاً أو تناصاً. أنت تشتم رائحة التعبير في الأساطير ولا أساطير، لغة مزيج من التراث والحداثة والأساطير عجنت كالصلصال وشكلت خلقاً جديداً شديد الإفصاح.
"داخل الحلم المشتهى في غمرة النوم واليقظة آن يكون الشفاء في خطر تخطف الروح داخله مدارات جنونها العذب، توغل عميقاً في فجوات جحيمها الخاص. خارجة من تعاليم الأسر.. من الأوامر والوصايا ويرقات الفضيلة الكاذبة". "ايفالونا" حواء القمر أو قمر الحياة الطفلة الشاردة من شرط الولادة والدم، والمقذوفة كنيزك في فضاءات معتمة داخل كون غامض بلا أمل".
لغة من بيادر شاسعة خصبة وغنية ومتنوعة لملم حيدر حصياتها، مفردات الأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع والجغرافيا وعلم الفضاء وعلم الطبيعة والأحياء والأسطورة والدين والتابوات والمحافل السرية والتاريخ. شكلها حيدر خلقاً ناطقاً يشبه كل شيء ولا شيء. هو الزخم المعرفي وأمداء قاموس حيدر حيدر اللغوي.
3 ـ الزمان: لغز الحياة وسرها وأحجيتها وأسّها ومحركها ومبديها ومعيدها ومفنيها هو الزمان.
وجمالية "شموس الغجر" تترقرق كقطرة الندى على تويجات الزمن المرفرفة المضطربة في كل بعد وكل منحى وكل اتجاه.
من أية نقطة بدأت الرواية أنت لا تعرف. في أي صفحة من صفحات الكتاب انتهت أو ابتدأت أو استمرت أنت لا تعرف. هي دورات للزمن متداخلات. يفنى معها الزمن بعضه في بعض فلا ماضٍ ولا مستقبل ولا قبل ولا بعد.
إنّه تكور الزمن وتدوره وتدويره على أصابع جنيّ ساحر مسحور منجذب إلى نجم قطبي لا شكل له.
إلاّ أنّ أسرار انسحار الزمان لدى حيدر بسيطة جداً ساحرة جداً. فمفردات الزمان صباح. مساء. ظهراً. بعد. قبل. سين الاستقبال. عندما. حين. يوم. ليلة. مرة. ساعة. دقيقة. لحظة وغيرها. ومصادره: انخطاف. استباق. انجذاب. تجاوز. تراجع. ارتياب. قدر. زمن. موجودة كلها وبحضور باهق في قاموس حيدر الروائي. هي موجودة وما كان أمام حيدر إلاّ أن ينفتح فيها لتكون أزمنة في زمان واحد كلي الحضور، كلي الإقناع والتأثير.
سين الاستقبال فعلت فعلها النيزكي في الانتقال من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، لتجعل من الحدث كلاً متراكباً لا يتصدع ولا يتجزأ: "في الذاكرة سيبدو ماجد زهوان علامة استفهام في حياتي، وسنفترق بلا أمل أو ميثاق سوى الصداقة الحميمة". "ستروي لي أمي فيما بعد". "سيقولون عني فيما بعد، أو سأباغت حالتي في جلسة سرية".
"حين سأسال رجل الهجرات والمنافي.. سيكون جوابه حاسماً".
ثم يأتي الانتقال من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل على جناح عبارات من مثل: في الأزمنة القادمة. في الزمن الآتي.
وفي الارتداد من الحاضر إلى الماضي تأتي كان المرافقة للتداعيات والاستذكارات: "كنت مأخوذة أو شبه منوّمة في تلك الأزمنة، زمن لا كالأزمنة التي أعرفها هو ذا يطوف بنا ويطوّفنا".
كما تأتي: أتذكر، تذكرت، في ذلك الزمن، في تلك الأزمنة، في الذاكرة الطفولية.. وما إلى ذلك: "كما كان المشهد بعيداً وهو يستعاد الآن عن مشهد زمن ملوك الطوائف... بينما العدو على الأبواب".
يتماهى الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر: "وما أشبه الليلة بالبارحة".
4 ـ في المكان: اقتصد حيدر حيدر في رسم معالم المكان إلاّ فيما يعنيه على إضاءة الحدث وكشف نوازع الشخصيات من خلال اضطرابها في البيئة المكانية التي لا بد أن تترك ظلالها على أساليب التفكير وشكل العلاقات بين الناس.
بيئة سعيد نبهان الرجل الخطير المهاب بيئة زراعية بعلاقات ريفية زراعية، لكننا لم نلمح سوى القصر الكبير فوق الرابية المطلة، وما كدنا نلمح منه إلاّ البهو الفسيح / المضافة المشرعة الأبواب ليلاً نهاراً توزع منها أكؤس الشاي والزوفا. دلالة على مكانة صاحبها ووجاهته وقدره المبجل بين الناس جميعاً. أما عيون الريم فغائمة الملامح تقريباً تعرفنا فيها على مياهها وبحرها وشاطئها وبعض زراعاتها. والعمل الزراعي لأسرة بدر الدين نبهان. إلاّ أنّ العلاقات الزراعية لم تتوضح بين الناس.
وقف حيدر متأنياً أمام البيئة الجدية في نيقوسيا عاصمة قبرص مدينة النعاس الأزرق كما سمتها الرواية.
وقد جاء وصف بعض شوارعها وأشجارها وأمطارها وشكل لياليها وباراتها وحرية الناس فيها، ربما ليمكن إجراء مقارنة شفيفة بين ما نحن عليه وما هم عليه، وربما ليتضح حجم الضياع الفلسطيني في الوطن وفي الشتات.
"بعد أن ننهي بيرتنا سنعود إلى مخيمنا المنصوب على شاطئ لارنكا قرب عراء مطعم الرومانسو.
قبل العودة تجولنا عبر ساحة مضيئة، حولها آثار يونانية وفينيقية قديمة، داخل كهوفها أشعت مصابيح ملونة..
شباب وفتيات من كل أنحاء العالم جاؤوا ليقضوا عطلاتهم الصيفية، هم الآن يستريحون، يطلقون في هذه الفضاءات الصاخبة طيور الروح والجسد والمرح النفسي حتى الأقاصي".
5 ـ في الشخصيات: حيدر حيدر الكاتب لم يتقمص أحد من شخصياته ولا كان بديلاً ولا أحلّ أفكاره فيها. جاءت شخصيات روايته حرة مقنعة واقعية تفكر على قدّها وفق ما يتاح لها. يتنامى وعيها من خلال صدامها مع واقع الحياة وشجونها. إلاّ أنّه أصر وبإصرار مسبق ـ ربما ـ لنماذج أو أنماط بشرية أو شرائح حاول أن تكوّن مجتمعاً.
سعيد نبهان الإقطاعي المتغطرس صاحب الجاه والثروة والنفوذ تستبد به حمى المال والثروة فيطلق وتر الشهوة إلى أقصى مداه، ضارباً بمشاعر كل من حوله عرض الحائط، لا يثنيه عن مبتغاه شيء. شخصية أتقن حيدر رسمها من خلال أسلوب تفكيرها وعلاقات المضاربة والسمسرة والشراكات، ومن خلال السماح لها بالتعبير عن مكنوناتها من خلال التداعيات والمواقف:
"بين أصدقائه من المسئولين وعملائه من السماسرة والتجار كان يمضي أياماً من القصف والسكر مع النساء في بيوتات خاصة بعيدة عن الرقابة والكشف".
"في أعماقه ما كان يرى في ذلك فعلاً خارجاً عن سياق الحياة والمتعة لرجل الدين والدنيا... على العكس بدا له هذا السلوك غير الخطر أو المؤذي لأحد، ملاذاً خصوصياً وحميمياً. يقيم في داخله نوعاً من التوازن والانسجام بينه وبين العالم الخارجي".
ولا ننسى أنّه هو الذي يؤم المصلين في الصلاة، ويوزع زكاة ماله في الأسواق، ويولم الفقراء. وهو مصدر الفتاوى والشورى في من هم تحت سلطته.
درية نبهان المرأة الاستثناء التي لم تخضع لذكورية الرجل وغطرسته لأنّ دم آل نبهان يجري في عروقها. المرأة التي قبلت الطلاق ولم تقبل بالعودة. والتي صانت شرفها وكرامتها كاتمة الغيظ. مثال للأنفة وعزة النفس.
"درية نبهان ربما كانت استثناء في ذلك المكان الريفي الخانع بدا الاستثناء عبر سطوح تشكيلاته الخارجية وراثياً. حالة غريبة من العنفوان والشموخ العائلي".
عندما بذلت وساطات لرأب الصدع ولم الشم أجابت: "أعود ولكن بشرطين: أن يطلق امرأته الجديدة، وأن يعتذر علناً أمام الجميع". وهي تعرف أنّ الشرطين مستحيلان. وبذا تكون قد قبلت حياة الفقر محل الغنى والجاه والسلطة والثروة، انتقاماً لكبريائها.
بدر الدين نبهان الذي وصلته رصاصة الطلاق عبر الجدار الفاصل بين غرفته وغرفة الأبوين يصعد في حلقه كل الحقد والكراهية للأب المتغطرس المستبد. وينحاز إلى طرف أمه مقطوعاً من صخرة ضارباً بالهناءة والنعيم، عازفاً عن الثروة والدلال، مكابراً ومقامراً بعمره، فداء لأم مهانة. "اخترقت الطلقة الجدار وأصابت القلب. أدرك على نحو ضبابي في ذلك الصباح المضطرب بأنّ حياته شردت منه وتناثرت في فضاء الريح". "سيحمل هذا المساء الحزين أمداً طويلاً في دمه وأسفاره بعد أن يغادر وأمه بيت العائلة إلى غير رجعة".
إذا كان في الرواية ثلاث شخصيات مهمة في حمل الأفكار ودفع الأحداث فهي شخصيات سكونية مغلولة بأسلاب الماضي وميراث العصور القديمة متمثلة بالأب سعيد نبهان والأم درية نبهان رغم عنفوانها وإبائها ـ وعليّة القادمة من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي لتفرح بأن تصبح امرأة للفراش والإنجاب والمطبخ، مستسلمة لقدرها لإرادة الرجل كما تقرّه الأعراف والدين.
أما الشخصيات الفاعلة المتنامية بوعيها وغنى تفكيرها فكانت ثلاثاً أيضاً: بدر الدين وابنته راوية وماجد زهوان الشاب الفلسطيني الممتلئ بوعي وإدراك حال العرب والفلسطينيين والعالم.
بدر الدين نبهان يبدأ وعيه على نحو ضبابي كما مرّ، إلاّ أنّ غربته وعزلته في جرود المتن صقلت روحه وفتحت وعيه من خلال تحمل مسؤولية نفسه ومسؤولية أمه.
"وحدة الإنسان في العراء تصقل الروح. ما كنت أختلف عن ذئب في الليالي. لكم آنسني عواء الثعالب في وحشتي".
ثم يعين حارساً لمستودع ضخم للكتب يتعرف فيه على الكتب الماركسية والاشتراكية من كتب وروايات تنفذ إلى وعيه وترتقي بمداركه عمقاً. وأرى أنّ هذا الأسلوب في الوعي من كلاسيكيات الواقعية الاشتراكية. "لولا ذلك المستودع المعهد لما كنت أكثر من حمار أعمى". وكان قد تأثر أيضاً بعلاقات مع رجال الثورة الفلسطينية في بيروت.
ثم تأتي تجربة الارتداد ونكوص الوعي ودمار الشخصية بعد الاعتقال لينكفئ إلى التراث الديني المذهبي إلى الكتب العتيقة الصفراء إلى ما قبل تحرر العقل، إلى طفولة العقل البشري الأولى. "في أوقات خاصة وسرية كان يتحدث بهمس عن مسائل خطيرة طائفية ومذهبية. ظهورات خرافية لا معقولة مستقاة من عصور ما قبل العقل حول التجسيد الإلهي على الأرض وبداية الكون من آدم شمس العالم وحواء قمر الظلمة".
"من أين انبثقت هذه الأطوار البدائية واللوثات الصوفية التي تذكر بإنسان الكهوف والتيه في الصحارى".
إنّها مرحلة انكسار الوعي وقوى الأحياء.
راوية الراوية التي جاءت الرواية على لسانها عزت تمردها بداية للولادة شبه الأسطورية في الحقل على يد الغجرية بيلار: "تلك البداية شبه الأسطورية، ستنعكس على حياتي مولدة في أعماقي شوقاً غريباً للبراري والحرية".
ثم يأتي مناخ الحرية الذي مدّه بدر الدين نبهان واسعاً في أسرته ليعمق استقلال الشخصية ونموها نمواً متوازناً بطيئاً ولكن خلاقاً يمكن الذات من استلام زمام مصيرها وقدرها. "وعبر نمو وعيه سيخلق في البيت مناخاً صحياً وتنويرياً، حالة ديموقراطية ومستقبلية لعلاقة الآباء بالأبناء أساسها الحرية الداخلية والاستقلال الشخصي".
"كنا صغاراً حين بدأنا نرضع من كلماته وسلوكه حليب الحرية والخروج على التقاليد الموروثة والأزمنة البالية".
"قبل أن يذهب إلى قراءاته وتأملاته يشير في إرشاداته المضيئة إلى الفرق بين الحرية والفوضى، بين الانطلاق الواعي والشذوذ غير المسئول ، وضرورة التوازن بين الفردي والجماعي".
هكذا كانت بدايات الوعي لدى راوية. ثم تأتي سنوات الجامعة ودراستها لعلم النفس وعلاقاتها بأساتذتها وزملائها لتثري مداركها وتصقل وعيها رويداً رويداً".
إلاّ أنّ المحطة الأهم في مرحلة الجامعة هي اللقاء بماجد زهوان الشاب الفلسطيني المتمرد المتحمس القادر بوعيه على التحليل والتركيب، وقراءة حال العرب والعالم ومشكلات الحرية والوجود والتقدم والتخلف، كانت صدمة اللقاء بسيطة:
"حين سأسأل رجل الهجرات والمنافي الذي اخترته واختاره القدر صديقاً وحبيباً: أهناك أقدار محتومة في نهاية المطاف؟ لا بد أنّ سؤالي كان استفساراً مبلبلاً.."
ثم يبدأ بتعويدها على قراءة الكتب السياسية والأدبية: "هو وأبي عوداني على قراءة الكتب".
ثم يهديها رواية أفالونا لإيزابيل الليندي ـ لترى في مصير بطلتها شبيهاً بمصيرها وتتأثر خطاها على ما يبدو في رحلة الوعي والتمرد. بعدها يأتي دور القراءة في تمتين الوعي وإدراك التمايز الاجتماعي والتفاوت الطبقي: "في أزمنة قادمة، وأنا أنمو وأقرأ وأسمع، في صمت القلب والتأمل الداخلي، سأدرك قيمة البشر الهامشيين والبسطاء.. هؤلاء الأبرياء الذين يشكلون جوهر العالم في عصور الطغيان والخراب".
وأخيراً تأتي تحولات الأب وانكساراته وارتداده لتوقد اللهب في فضاء الروح وحنايا القلب.
"في الأزمنة القادمة كطفل دائرة الطباشير القوقازية، سأنقسم بين أبوين: ابنة الرحم والميراث، وابنة الوعي والحرية".
"في الأشهر التي بدأت فيها أعراض تحولاته نحو الإيمان اجتاحتني كوابيس واحتقانات، حالات عصبية، وحصر نفسي، أوصلتني معه إلى حواف الصدام والإهانة".
"بعد أن قرأت رواية الأم لمكسيم غوركي عرفت كم الفرق كبير بين أم مكسيم وأمي".
وتبقى شخصية رواية هي الشخصية المحورية في الرواية يتنامى وعيها ودفعها بالأحداث وفق ما أريد لها.
ماجد زهوان بدأ ممتلئاً. ممتلئ بجرحه الفلسطيني ومنفاه وانتكاسات شعبه وثورته والتردي العربي الذي يتدهور عاماً فعاماً، ممتلئ بالمرارة والرفض والتحدي. الوعي الفلسطيني المتجذر الشمولي، والإدراك الرياضي لمعادلات الصراع الفلسطيني الفلسطيني. والفلسطيني الصهيوني، والفلسطيني العربي، والعربي الصهيوني.
هذا الوعي الرائع البارق هو الذي دفع صاحبه بإصرار وسبق تصميم إلى تفجير نفسه والسفارة الإسرائيلية في قبرص معه.
شخصية ماجد زهوان لها حضور طاغ في فضاء الرواية، شخصية مزيج من الأصالة والثبات والبعد المعرفي والوعي التركيبي الصعب. شخصية الصدق والرفض والمعاناة التي تركت آثارها واضحة فيمن عايشوها وبخاصة راوية. وهو كما وصفته راوية: "كان مأخوذاً بالتيارات اليسارية في العالم، مزيج من باكونين، بلانكي، تشي غيفارا، تروتسكي، ثورة اليعاقبة في الثورة الفرنسية، دانتون، روبسبير".
"سألته في سياق الحوار العاصف: وفي التاريخ العربي من مثالك؟!
ـ الحسن بن علي وصقر قريش والقرامطة والحسن الصباح.
ـ لماذا...؟!..
ـ لأنّهم عصاة السلطة والخارجون عليها".
إنّ ماجد زهوان هو ضمير كل فلسطيني فلسطيني وضمير كل عربي عربي.
نسيت أن أعرج على شخصية كان لها دور في دفع الأحداث وفجائيتها، وهي شخصية الملازم نذير.
"هذا الديك الرومي سيتحول مع الزمن ومن خلال السلطة التي منحها من الأب إلى طاغية الأسرة".
"كانت الفكرة تؤرقني في أعقاب صداماتي مع هذا الدب المغرور كما اتفقنا على تسميته سراً".
الملازم نذير نتاج التربية العسكرية على ما يبدو والتي كأنّها تقول لمن يعايشها: من هم فوقك يظلمونك ويضطهدونك، فاظلم من هم تحتك واضطهدهم. هكذا يبدو قانون العلاقة، وزاد في الأمر سوءاً أن يعطى سلطة مطلقة من الوالد في البيت. غطرسة الطاووس التي كادت تودي بحياة راوية، والتي دفعتها إلى اختيار درب الهروب ، درب ماجد زهوان.
"لكنّها بنت شاذة فوضوية خليلة فلسطيني شيوعي سافل".
هذه الشخصية النموذج لسكونية الوعي وربما انعدامه.
وأخيراً:
وفي إطلالة خاطفة على فضاء حيدر حيدر الروائي تتبدى ملامح مسيرته الروائية في خط بياني متصاعد عمقاً وكشفاً:
"الفهد" تمجيد للبطولة الفردية في وجه الطغيان والظلم.
و"الزمن الموحش" تسجيل لبدايات تحالف العسكر مع التجار والسماسرة وطغمة المال لإحداث اروع التبدلات في الدمار والتخريب.
"وليمة لأعشاب البحر" تأكيد على تعهّر الثورات والأحزاب التقدمية بقياداتها وحرفها عن المسار الثوري.
"مرايا النار" نزف داخلي لجرح إنساني تغتال معه الحرية والقدرة على الاختيار.
أما "شموس الغجر" فهي الشاهد على عفن العالم في هذا الزمن الذي يمشي على رأسه. شاهد على الدمار والخلل فيما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وأثره على الحركات والشعوب والإنسان وبخاصة العربي والفلسطيني.
إنني بهذا الاختزال والتجزيء الذي سبقه قد أكون أسأت إلى فنية حيدر حيدر، فليعذرني فلم يكن في اليد إلاّ أن أنشب قلمي في صدر روايته.
مجدلون البستان ـ سوريا
أنيس إبراهيم
شموس الغجر ـ رواية ـ حيدر حيدر ـ كاتب وأديب معروف ـ طرطوس ـ سوريا
أنيس إبراهيم: كاتب قصة قصيرة، وناقد أدبي حاز على العديد من الجوائز العربية ـ طرطوس ـ سوريا
القصة السورية - شموس الغجر
أدبي ثقافي متخصص في القصة العربية بشكل عام والقصة السورية بشكل خاص. أسسه ويرأس تحريره الأديب: يحيى الصوفي عام 2005 أدب - ثقافة - رواية - قصة - شعر - مسرح - مقالة - دراسات ومنوعات أدبية - تراث – ترجمات
www.syrianstory.com