غنية الوناس - رفال

لم أكن أعرف وقتها ما معنى أن تفقد أحدا أو أن تشعر بغياب أحد حدّ الفراغ القاتل. كان النبض ينخفض قليلا فيعود طبيعيا، ذلك الخيط الرفيع الذي يسري متعرجا ومتموجا، كنت أصلي لله ألاّ يستقيم أبدا. إلهي، ماذا لو استقام الآن؟ أسميتها “رفال”؛ أول اسم خطر ببالي حين سألتني الممرضة ماذا ستطلقين كاسم على الطفلة؟ بدا لي اسما بلا معنى في حدود معرفتي، فلا أذكر أني سمعت به يوما. اخترته لها حتى لا يكون لها من اسمها نصيب ما فيما بعد. ستلومني بعد سنوات حين تكبر لأنّي لن أملك لها شرحا محددا لمعنى اسمها الغريب ذاك، لكنّها في النهاية ستشكرني لأني خلّصتها من ذنب الأسماء، ستحيا دونها ولن تهتم كثيرا بعد ذلك.

وحدي أنا كنت أعرف ذنب الأسماء وعقدة الأسماء، ومرارة الأسماء التي تلاحقنا طوال حياتنا كذنب عظيم لم نقترفه. أسمتني جدّتي “وفاء” فكانت الخيانة فجيعتي الكبرى، وكان الغدر خيبتي، كنت مسرحا تراجيديا لكلّ ما لا يرادف الوفاء في الطقس والمعنى، كان عليها أن تسميني وجعا، لربّما عرف الفرح طريقه يوما إليّ.

رفال الصغيرة حملتها أول مرّة بين ذراعي كانت كعصفور بلّله المطر والخوف، راحت ترتعش وتبكي وتفتح عينيها الصغيرتين بصعوبة كبيرة، لم أخْبر يوما التعامل مع الأطفال، وجدت نفسي دون سابق إنذار مسؤولة عن طفلة فقدت كلّ شيء ولم يتبق لها من أمل في الحياة سواي بعد الله.

اختنق الكلام في حلقي، وقفت صامتة في تلك اللحظات وهي تمسك بيدي بشدّة، كانوا يسيرون بها إلى غرفة العمليات، كنت صديقتها الوحيدة وهي الغريبة في هذه المدينة الموحشة، لم تكن تعرف أحدا، تركت أهلها في مدينة أخرى وبلد آخر.

كانوا يريدون تزويجها لرجل مسنّ رغما عنها، لم تجد أحدا يقف معها أو يساندها ليوقف ذلك الظلم بحقّها، قررت أن تترك كلّ شيء وراءها وتهرب إلى حيث لن يجدوها، وجدت نفسها وحيدة في مدينة تعجّ بوحوش لا يختلفون كثيرا عن أولئك الذين خلّفتهم في وطنها، وحيدة في زمن لا يؤتمن فيه أحد.

التقيتها صدفة في جمعية تساعد الفتيات اللائي يعانين من مشاكل اجتماعية، كانت تبدو لي بائسة يائسة لا تتحدث مطلقا، لم تكن تشارك البقية في أيّ شيء، كنت أراقبها في كلّ مرة أزور فيها المركز، شيئا فشيئا بدأت التودّد إليها، أصبحنا نتحدث قليلا ثم كثيرا، بدأت تثق بي ومع الوقت نشأت ما بيننا صداقةٌ غريبة، كأننا تعارفنا فيما مضى أو لعلّنا التقينا في زمن ما. أصبحت صديقتي وأصبحت أنا عائلتها وكلّ أهلها.

فيما بعد تزوجت من شاب كان يعمل بالمركز، بدا وكأن حياتها بدأت تمضي نحو الاستقرار، رأيت الفرح يلمع بعينيها لأول مرة منذ عرفتها، كانت نجمة سماوية تمشي على الأرض بقدمين، كانت كشمس أشرقت فجأة بعد ليل طويل.

كنت بدأت أطمئن لوضعها قبل أن يقتل زوجها في تفجير سيارة، كأنّ هول الدنيا كلّها وقع على رأسها وحدها، لم تبك يومها عاودها الذهول والصمت اللذان لازماها في بداية قدومها إلى المركز، تلبّسها ذلك الوجع القديم، حاولت أن أقنعها بالبكاء، لكن الدمع تحجّر في عينيها، كانت تحدّق في شيء ما لم أكن أفهم ما هو، استمر الأمر معها أشهرا، كان بطنها يكبر وحزنها يكبر أكثر فأكثر، لم تكن حتّى تشعر بذلك فهي كانت قد غادرت الحياة كلّها يوم قتل فؤاد.

بعد أشهر كانت في غرفة العمليات، لم تكن بوضع يسمح لها بولادة طبيعية، وكان لزاما إجراء عملية قيصرية، أمسكت بيدي ضغطت عليها بشدّة وكأنّ الوجع ما أبقى لها سوى هذه اللحظات في حضوري، قالت لي بعد أشهر من الصّمت: “وفاء سامحيني، أنا لم أعد قادرة”.

مضوا بها عبر ذلك الرواق وكلماتها ترنّ بأذني، وملمس يديها المرتجفة ما زال بيدي، دخلت إلى الغرفة لكنّها لم تخرج منها حيّة، ماتت مهى وخلّفت لي وراءها جزءا منها، وجعا منها، أملا في صورة طفلة يتيمة.

رفال: أيتها الحلم الذي جاءني على عجل، ما اعتقدت يوما أن الله يحبّني لدرجة أن يكافئني بك، هكذا دون أن أفكر في شيء كهذا، دون أن أخطط، دون أن أحلم حتّى.

وجدتني أما لملاك. كانت تحتلّ حياتي شيئا فشيئا، تسيطر على كلّ اهتماماتي وأولوياتي، أصبحت كلّ شيء وأصبح من الصعب عليّ تقبل حياتي دونها. رفال ذلك الوجع الذي خلّفته لي مهى صارت فرحا يزيّن عالمي، صارت زينة لكلّ أعيادي، وسكرا يحلّي أيامي.

كانت تكبر أمامي، أراقبها وهي تخطو خطواتها الأولى، كلماتها الأولى، عثراتها، تلعثمها في الكلام، ضحكاتها، بكاؤها صراخها حين تجوع، حركاتها. كنت أتنفس وجودها ولم أكن أحيا أو أشعر أني على قيد الحياة إلا إذا رأيتها أمامي، كانت طفلتي التي لم أنجبها، وكنت أنا أمها التي وهبها الله إياها بعد أن فقدت كلّ شيء حتّى قبل أن تبصر نور الحياة.

في ذلك المساء الأسود الكئيب، أمام باب البناية، كان القدر يهيئ لي فجيعة على مقاس لم أتخيّله يوما بتلك البشاعة. رفال زهرتي البريّة، سوسنتي النقيّة، حمامتي البيضاء تصاب برصاصة طائشة، أولئك القتلة الذين يطاردون حياة الأبرياء ، تجار الفساد والمشرفون عليه، كانوا يجهزون موتا سريعا وطازجا لأحد الصحفيّين المقيمين بالبناية نفسها.

ذلك الصحفيّ كان محظوظا جدا لأنه أنزل رأسه قليلا لالتقاط هاتفه الذي سقط منه، والرصاصة الموجهة إلى رأسه مباشرة أكملت طريقها إلى رفال التي كانت بين ذراعي على درج البناية، تلك الرصاصة العمياء أصابت صدرها الصغير، لم أعرف حتى ماذا حدث بعد ذلك، كنت أصرخ دون وعي، كنت أناديها، كنت أنادي مهى، كنت أقول كلاما كثيرا لا أذكره حتّى.

حين أفقت من حالتي تلك وجدتني في المستشفى أراقب رفال وهي بالعناية المركزة، أجلس إلى ذلك الجدار الزجاجي البارد جدا، أعدّ دقات القلب وأراقب ذلك الخط الرفيع.

رفال يا قمري، لا تغربي بعد أن أشرقت بحياتي كنجمة مضيئة أهدتني النور والحياة، فأنا قبلك لا أذكر أني قد عشت حتّى، رفال يا ملاكي الصغير، لا تتركيني أنا الوحيدة دونك، أنا الغريبة التي لم أذق طعم الانتماء لشيء سواك.
أفيقي يا طفلتي، عودي إلى الحياة وأعيديني معك فأنا لا شيء دونك يا كلّ الحياة.

كنت أهذي بكلّ هذا الكلام، هي لم تكن تسمعني لكنّ الله لابدّ يسمع، هي لا تراني لكنّ الله لابدّ يراني، الله يسمعني ويراني ولن يتركني وحيدة أبدا، يا ربّ أصلّي لك بقلبي وروحي، أصلي لك بجسدي وكلّ ذرّة من جسمي النحيل، أصلّي لك بآلامي وخوفي وحزني وضعفي ووجعي وانكساري، لا تتركني وحيدة دونها وإلاّ يا ربّ خذني معها وسامحني.إلهي سامحني.

ما بين الحلم واليقظة تلك، خطوات متسارعة، نبضٌ يشتدّ، صوتٌ ما يأتيني من بعيد، يدٌ تحطّ برفق على كتفي، رفعت رأسي لأرى من هناك، وجدت الطبيب أمامي “سيدتي انهضي أرجوك، رفال تطلبك”.

* منقول عن المجلة الثقافية الجزائرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...