في صباح يوم الأربعاء 7 / 3 / 1427هـ الموافق 5 / 4 / 2006م ، انتقل إلى رحمة الله تعالى الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي بعد حياة حافلة بالمجد والشهرة والانتصارات على الصعيدين الأدبي والطبي .
لقد عشت زمنا أنهل من معين أدبه ، محاولا مطالعة كل ما سطره يراعه من شعر ونثر، فلقد كان رحمه الله ثر العطاء سخي القلم ، ترك نتاجا يضاهي نتاج المحترفين مع أنه يرى نفسه هاويا للأدب وليس محترفا !!
لم يكن رحيل الدكتور العجيلي عن دنيانا مفاجأة لي قد كنت أعرف ظروفه الصحية التي جعلته في العامين الأخيرين من حياته لا يقوى على الحركة والكتابة ؛ بل حرمته من هوايتيه الأثيرتين القراءة والأسفار .
كان العجيلي شخصية نادرة ونمطا فريدا ؛ فقد كان متعدد المواهب ، كتب القصة والرواية والشعر والمقالة والمقامة والمسرحية . وكانت المجلات الأدبية والثقافية تحرص على استكتابه ، وتعمد في بعض الأحايين إلى إعادة نشر مقالاته القديمة حينما كان يتأخر في إرسال مقالاته الجديدة ، وكان زاهدا في الشهرة والأضواء مفضلا عدم الانتماء إلى أية هيئة أو رابطة أدبية مهما كان شأنها ، وعندما اختير عام 1992م عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق أرسل كتاب اعتذار إلى الأمين العام للمجمع طالبا منه إعفائه من العضوية التي يسعى إليها الكثير من الأدباء .
عاش العجيلي 88 عاما تقريبا وهو موفور الصحة ، لم يتعرض لمرض باستثناء بعض الوعكات الصحية العارضة ، فقد كان يكتفي بوجبة واحدة في اليوم ، ويعمل عشر ساعات في جلد عجيب ، وما تبقى من ساعات اليوم ينفقه في القراءة والكتابة ، وفي الرد على الرسائل التي ترد من كل أصقاع الدنيا .
في أواخر عام 1415هـ كنت أزور الصديق الناقد الدكتور حلمي القاعود ، الذي كان يعمل في كلية إعداد المعلمين بالرياض ، وكنت وقتها عائدا لتوي من مهرجان الجنادرية في دورته العاشرة ، فكانت فرصة أن أحدثه عن المهرجان وما صاحبه من نشاطات تراثية وثقافية ، ومن ذلك الندوة الكبرى التي أقيمت في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بعنوان " شخصية ثقافية سعودية " وكانت حول الشيخ حمد الجاسر رحمه الله وجهوده العظيمة في الفكر والثقافة والصحافة .
وما كدت أفرغ من حديثي حتى سألني الدكتور القاعود إن كنت رأيت من ضمن المد عويين الدكتور عبد السلام العجيلي ، فأجبته بالنفي ، وأردفت قائلا : إنني لا أعرف العجيلي شخصيا وإن كنت قرأت له بعض الأقاصيص والمقالات في الأديب ، والدوحة ، والضاد ، والآداب ، والموقف الأدبي ، والمجلة العربية وغيرها ، وأنا بدوري سألت الدكتور القاعود إن كان يعرف الدكتور العجيلي ، فعلمت منه أنه كان يعرفه عن طريق المراسلة منذ عام 1966م ، وأنه قابله في إحدى دورات مهرجان الجنادرية ، وذلك بحضور معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر وزير المعارف الأسبق .
وأضاف وهو يتحدث عن صديقه القديم أنه أهداه منذ فترة قصيرة أحدث مؤلفاته وعنوانه " فلسطينيات عبد السلام العجيلي " فطلبت منه أن استعير هذا الكتاب على أن أعيده إليه في اليوم التالي ، وقد تكرم الأخ القاعود وأعارني الكتاب الذي قرأته في جلسة واحدة على الرغم من ضخامته ، وطرأت لي فكرة بعد أن فرغت من قراءته أن أبعث رسالة إلى مؤلفه أبثه فيها إعجابي بكتابه .
كان كتاب " فلسطينيات عبد السلام العجيلي " أول كتاب يقع في يدي من مؤلفاته التي تجاوزت أكثر من ثلاثين كتابا ، وقد أسفت لأني لا أملك شيئا من هذه الكتب القيمة ، لكني حاولت أن أعوض ما فا تني بالبحث عنها في المكتبات ، وقد استطعت الحصول على بعضها مثل : بنت الساحرة ، سبعون دقيقة حكايات ، حكاية مجانين ، أشياء شخصية ، عيادة في الريف ، أحاديث العشيات ، السيف والتابوت ، المغمورون ، حفنة من الذكريات وغيرها . والبعض الآخر حصلت عليه من المؤلف مطرزا بإهدائه الكريم .
أعود بعد هذا الاستطراد لأقول إنني دبجت رسالة طويلة إلى الدكتور العجيلي أعربت له فيها عن إعجابي بكتابه " فلسطينيات " الذي نوهت عنه في صحيفة " المسائية " المحتجبة . وفي ختام الرسالة وجهت له بعض الأسئلة طالبا منه الإجابة عليها ، أذكر منها : هل تفضل احتراف الأدب على مزاولته كهواية ؟ وما أسباب سوء توزيع الكتاب في الوطن العربي ؟ ولماذا لم تصدر مجلة طبية مثل صديقك الدكتور صبري القباني صاحب مجلة " طبيبك " ؟
كانت تلك الأسئلة برغم سذاجتها المراد منها أن أضمن الرد على رسالتي ، ولم أنتظر طويلا حتى تلقيت رسالته الرقيقة المؤرخة في 9/10 /1995م ، يقول فيها : ( شكرا لرسالتك اللطيفة التي تلقيتها اليوم وأنا على أهبة سفر إلى خارج بلادنا ؛ لذلك فإني أبادر في الرد عليها لئلا أتأخر عليك بالجواب . وشكرا كذلك للأخ الدكتور القاعود أن زاد على قراء ما أكتبه واحدا ، وقد طمأنني هذا مع معرفتي مما أوردته أنك قرأت لي كثيرا في الدوريات وليس في الكتب ، وعلى كل ما لا يدرك كله لا يترك بعضه أوجله ) .
وبعد هذه الأسطر المشجعة تفضل مشكورا وأجاب عن الأسئلة التي وجهتها إليه في رسالتي السابقة بالرغم من انشغاله بعيادته ومرضاه ، وبالأسفار التي تضطره في بعض الأحيان إلى إغلاق عيادته أثناء سفره ، إضافة إلى التزاماته بالكتابة إلى بعض الصحف والمجلات ، التي تطالبه باستمرار بإتحافها بكل جديد وطريف من مقالاته وأقاصيصه .
كانت إذا هذه الرسالة أول رسالة تصلني من الدكتور العجيلي ، وكنت أظنها ستكون الأولى والأخيرة ، لكن خابت كل ظنوني ؛ فالرسالة الأولى تلتها عشرات الرسائل حتى بلغت نحو مئة رسالة ، عدا البطاقات التي كان يبعثها إلى في بعض المناسبات كالأعياد ، وحلول شهر رمضان المبارك ، ودخول العام الهجري الجديد ، ومعظم هذه الرسائل تقع في صفحة وبعضها في صفحتين .
وقد هالني في أول الأمر أن الدكتور العجيلي يكتب رسائله بيده ولا يستعين بسكرتير يتولى الرد على رسائل القراء والمعجبين كما يفعل كبار الأدباء و المشاهير .
ومن عادة الدكتور العجيلي أن يكتب رسائله على ورق العيادة ، وفي بعض الأحايين يكتب على ورق شفاف غير مسطر، وهو كعادة معظم الأطباء لا يحفل بالاعتناء بخطه ، وأذكر أنني قرأت في إحدى الصحف خبرا فحواه أنه يموت سنويا في الولايات المتحدة الأمريكية نحو عشرة آلاف شخص بسبب رداءة خطوط الأطباء ، وقد نقلت هذا الخبر إلى الدكتور العجيلي في إحدى رسائلي إليه .
ظلت صلتي بالدكتور العجيلي صلة عميقة لم يعتريها الضعف أو الفتور ، وكان يلمس من خلال رسائلي اهتماما متزايدا بأدبه وشخصه ، وكان يبعث إلي بكتبه الجديدة وعلى كل كتاب إهداء رقيق ينم عن كرم نفسه ودماثة خلقه ، وأنا بدوري كنت أوافيه ببعض الكتب التي تصدر في المملكة ولا تصل إلى سوريا أو سواها من الأقطار العربية ، فعلى سبيل المثال وافيته بنسخة من كتاب " ذكريات باريس " للأستاذ عبد الكريم الجهيمان والصادر عام 1400هـ ، " ومن وراء الحدود " للأستاذ فهد العريفي رحمه الله ، والصادر عام 1401هـ ، فإذا برسالة رقيقة تصلني منه وفيها يستعيد بعض ذكرياته في باريس عندما زارها أول مرة عام 1952م ، وأمضى هناك ستة أشهر كاملة ، يقول في رسالته المؤرخة في 23/ كانون الثاني / 1998م : ( شكرا لك على الرسالتين الأخيرتين وعلى الكتابين اللذين وصلا في وقتهما وقرأتهما وأفدت منهما ، وهما كتابان نافعان لمن يزور لندن وباريس أول مرة بصورة خاصة . ويبدو أن الأستاذ الجهيمان زار باريس في العام الذي زرتها أنا فيه أو في العام الذي قبله ، وقد تعرف على يونس بحري الذي تعرفت عليه فيها في ذلك الوقت ، وقد كان رحمه الله شخصية غريبة عجيبة ربطتني به صداقة قوية ، وأحببته على كثرة علا ته ، وقد كتبت عنه عدة مقالات وألقيت عنه محاضرة منشورة في كتابي " حفنة من الذكريات " ، ومن المؤسف أن هذا الكتاب قد نفد ولم تعد طباعته ) .
رسائل العجيلي لا تخلو أحيانا من الحديث عن بعض أصدقائه أو معارفه من الراحلين من أمثال : بدوي الجبل ، جورج صيدح ، حمد الجاسر ، عبد الله بلخير ، عبد الله يوركي حلاق ، نزار قباني ، عادل الغضبان ، علي الطنطاوي ، عبد الرحمن بدوي ، عبد الله الشيتي ، أحمد محمد عطيه وغيرهم .
وعندما انتقل إلى رحمة الله علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر طلبت منه أن يوافيني بمقال في رثائه ، فسرعان ما استجاب لطلبي وكتب مقالا بعنوان" لقاءان بالشيخ حمد" نشر في " جريدة الريا ض " وفي " مجلة التوباد " ع (21) ربيع الأول 1421هـ .
هناك من النقاد من يشبه الدكتور العجيلي بالأديب والطبيب والرحالة الشهير سومرست موم (1874- 1966) لكن العجيلي يرى غير ذلك ، يقول في رسالته المؤرخة في 23/7/1998م : ( سومرست موم كان طبيبا حقا ، لكنه هجر ممارسة الطب وتفرغ للأدب ، وهذا ما لم أفعله أنا ، هو عاش لأدبه وهذا كذلك لا ينطبق علي ؛ أنا الذي أعتبر الأدب هواية لي ولا يستطيع أن يؤمن لي كفاية عيش إذا ما اتخذته حرفة لي ) .
تطرقنا في رسائلنا العديدة إلى بعض القضايا مثل : جشع بعض الناشرين وعدم التزامهم بما في العقود ، وظاهرة الأخطاء المطبعية ، وفقدان الرسائل في البريد ، أو تأخرها على أحسن الفروض .
والدكتور العجيلي من الأدباء الذين عانوا من هذه المشكلات ، وهو يرى أن البريد الغربي أكثر سلامة من البريد العربي ، ويستدل على ذلك بقصة حدثت له في ألمانيا ، يقول في رسالته المؤرخة في 3 / 5 / 1997م : ( كلنا نشكو من هذا في بلادنا العربية بينما يعد البريد من أكثر الو سائل سلامة وأمانا في البلاد الغربية ، وقد حدث لي في سفري الأخير إلى فرانكفورت أن أرسلت من هذه المدينة إلى مدينة ألمانيا أخرى سوارا من ذهب وضعته في مظروف عادي إلى سيدة طلب إلي في سورية أن أرسله إليها ، فتلقفته في اليوم التالي كاملا وسالما ) .
ظل الدكتور العجيلي حتى اللحظات الأخيرة من حياته المديدة يتوقع الموت دون وجل منه ، لاسيما بعد أن تقدمت به السن وفقد معظم أصدقائه ولداته ، وقد وجهت له سؤالا بمناسبة دخول الألفية الثالثة سألته إن كان يرغب العيش إلى عام 2050م ، فأجاب في رسالته المؤرخة في 29 / أيلول / 1999م : ( سؤالك عن الرغبة بالعيش إلى عام 2050م جوابه النفي ، حتى عام 2005م أراه كثيرا . قال الشاعر القديم :
أليس ورائي إن تراخت منيتي .:. لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقال الآخر :
أليس ورائي أن أدب على العصا .:. فيشمت أعدائي ويكرهني أهلي
بعد أن شرفت بمراسلة الدكتور العجيلي تاقت نفسي إلى رؤيته شخصيا ، وقد كانت نفسي تهفو دائما إلى زيارة " الرقة " لأرى عميد أدبائها ، فإذا برسالة تصلني منه مؤرخة في 4 /1 / 1999م يقول فيها : ( تلقيت دعوة لحضور احتفالات مئوية إنشاء المملكة ، وقبلتها شاكرا ، وعلى هذا فالمأمول بإذن الله أن أطير إلى الرياض في 19 من هذا الشهر الشمسي كانون الثاني ، وهو الثالث من رمضان عندكم والثاني من عندنا ، إذ أنا تأخرنا بالصباح يوما عنكم . لا أدري ما هو البرنامج الذي يعد للضيوف من أمثالي في هذه الاحتفالات ، وسأحاول أن اتصل بك تليفونيا إذا يسر الله الأمر بذلك ) .
أسعدتني هذه الرسالة كثيرا ورحت أنتظر وصول العجيلي ، وما هي إلا أيام حتى جاء موعد احتفالات المئوية ونزل الضيوف في فندق انتركونتيننتال ، فسارعت بالاتصال بالدكتور العجيلي الذي نزل بالغرفة رقم (524) ، وقد جاء صوته عبر الهاتف واهنا .
وبعد تبادل السلامات والتحيات اتفقت معه أن أزوره في المساء ، وفي الموعد المضروب التقيته وجلسنا معا أكثر من ساعة ، وقبل أن أنصرف أخبرته أني سأزوره في صباح الغد بإذن الله .
وفي اليوم التالي زرته صباحا وكان يرافقني الصديق الدكتور عبد الله الحيدري ، الذي أجرى حديثا مع الدكتور العجيلي لإذاعة الرياض ، وكانت فرصة سانحة أن نلتقط بعض الصور التذكارية .
وقد عرضت عليه أن نقوم بجولة على بعض مكتبات الكتاب المستعمل فرحب بذلك ، وقد سره رؤية تلك المكتبات التي انتشرت في العاصمة خلال السنوات الأخيرة ، وأخبرني ونحن في الطريق أنه أصبح يتحاشى دخول المكتبات حتى لا يضطر إلى شراء المزيد من الكتب التي امتلأ بها منزله ولم يعد قادرا على قراءتها أو تصفحها .
وبعد انتهاء احتفالات المئوية وعودته إلى رقته تلقيت رسالته المؤرخة في 9 /2 / 1999 م جاء فيها : ( شكرا لرسالتك الأخيرة التي تلقيتها منذ يومين وأنا آسف على أن الارتباطات الكثيرة في الأيام التي قضيتها في الرياض لم تسمح لي بأكثر من اللقاءين اللذين اجتمعنا فيهما معا . وعلى كل ، أنا مسرور ؛ لأني أتيحت لي فرصة اللقاء الشخصي بك ) .
في عام 1422هـ وبمناسبة مرور 20 عاما على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمة الله مقاليد الحكم في المملكة ، تلقى الدكتور العجيلي دعوة لحضور المؤتمر العالمي الذي عقد بهذه المناسبة في فندق انتركونتيننتال ، وفور وصوله إلى الرياض حاول الاتصال بي غير مرة لكن لم تتح له فرصة مها تفتي ، وبينما كنت أهم بفتح بريدي فإذا بي أفاجأ برسالة منه من الرياض لا من الرقة مؤرخة في 13 / 11 / 2001م يقول فيها : ( أنا هنا من ثلاثة أيام ، وقد سعيت إلى الاتصال بك بكل وسيلة فلم أفلح . أنا مسافر غدا لأداء العمرة وسأرجع بعد غد إلى الرياض لأسافر إن شاء الله إلى دمشق بعد الجمعة ، وأنا آسف على أني لم استطع رؤيتك في هذه المرة ) .
في العام المنصرم وفي حفل كبير قلد الدكتور العجيلي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة ، وبهذه المناسبة أجريت معه حديثا لمجلة " الحرس الوطني " ، وبعد نشره تلقيت منه هذه الرسالة المؤرخة في 11 / آيار / 2005م يقول فيها : ( شكرا لرسالتك الأخيرة ولعدد الحرس الوطني الذي حوى الحديث الذي دار بيني وبينك ، إخراج الحديث ممتاز مع الصورة الجيدة ، التي لا أدري ممن حصلت عليها ، هل أرسلتها أنا ؟! ) .
أما أخر رسالة تسلمتها من الراحل الكبير فهي مؤرخة في 18 / حزيران / 2005م ، وفيها يزف إلي نبأ تحسن حالته الصحية ، ويعتذر عن الإيجاز في الكلام طالبا مني الدعاء له بالشفاء العاجل .
بعد ذلك انقطعت أخباره عني وكذا رسائله مع أنني كتبت له أكثر من مرة ؛ للاطمئنان على صحته لكنه آثر الصمت ولازم منزله متحملا آلام المرض والشيخوخة والوحدة ، حتى فاضت روحه في صباح السابع من ربيع الأول 1427هـ الخامس من أبريل 2006م عن 88 عاما ، ودفن في مسقط رأسه الرقة .
رحم الله العجيلي رحمة الأبرار وأكرم نزله ، وألهم أهله وأصدقائه الصبر والسلوان ، وعوض الأمة في فقده خيرا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
لقد عشت زمنا أنهل من معين أدبه ، محاولا مطالعة كل ما سطره يراعه من شعر ونثر، فلقد كان رحمه الله ثر العطاء سخي القلم ، ترك نتاجا يضاهي نتاج المحترفين مع أنه يرى نفسه هاويا للأدب وليس محترفا !!
لم يكن رحيل الدكتور العجيلي عن دنيانا مفاجأة لي قد كنت أعرف ظروفه الصحية التي جعلته في العامين الأخيرين من حياته لا يقوى على الحركة والكتابة ؛ بل حرمته من هوايتيه الأثيرتين القراءة والأسفار .
كان العجيلي شخصية نادرة ونمطا فريدا ؛ فقد كان متعدد المواهب ، كتب القصة والرواية والشعر والمقالة والمقامة والمسرحية . وكانت المجلات الأدبية والثقافية تحرص على استكتابه ، وتعمد في بعض الأحايين إلى إعادة نشر مقالاته القديمة حينما كان يتأخر في إرسال مقالاته الجديدة ، وكان زاهدا في الشهرة والأضواء مفضلا عدم الانتماء إلى أية هيئة أو رابطة أدبية مهما كان شأنها ، وعندما اختير عام 1992م عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق أرسل كتاب اعتذار إلى الأمين العام للمجمع طالبا منه إعفائه من العضوية التي يسعى إليها الكثير من الأدباء .
عاش العجيلي 88 عاما تقريبا وهو موفور الصحة ، لم يتعرض لمرض باستثناء بعض الوعكات الصحية العارضة ، فقد كان يكتفي بوجبة واحدة في اليوم ، ويعمل عشر ساعات في جلد عجيب ، وما تبقى من ساعات اليوم ينفقه في القراءة والكتابة ، وفي الرد على الرسائل التي ترد من كل أصقاع الدنيا .
في أواخر عام 1415هـ كنت أزور الصديق الناقد الدكتور حلمي القاعود ، الذي كان يعمل في كلية إعداد المعلمين بالرياض ، وكنت وقتها عائدا لتوي من مهرجان الجنادرية في دورته العاشرة ، فكانت فرصة أن أحدثه عن المهرجان وما صاحبه من نشاطات تراثية وثقافية ، ومن ذلك الندوة الكبرى التي أقيمت في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بعنوان " شخصية ثقافية سعودية " وكانت حول الشيخ حمد الجاسر رحمه الله وجهوده العظيمة في الفكر والثقافة والصحافة .
وما كدت أفرغ من حديثي حتى سألني الدكتور القاعود إن كنت رأيت من ضمن المد عويين الدكتور عبد السلام العجيلي ، فأجبته بالنفي ، وأردفت قائلا : إنني لا أعرف العجيلي شخصيا وإن كنت قرأت له بعض الأقاصيص والمقالات في الأديب ، والدوحة ، والضاد ، والآداب ، والموقف الأدبي ، والمجلة العربية وغيرها ، وأنا بدوري سألت الدكتور القاعود إن كان يعرف الدكتور العجيلي ، فعلمت منه أنه كان يعرفه عن طريق المراسلة منذ عام 1966م ، وأنه قابله في إحدى دورات مهرجان الجنادرية ، وذلك بحضور معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر وزير المعارف الأسبق .
وأضاف وهو يتحدث عن صديقه القديم أنه أهداه منذ فترة قصيرة أحدث مؤلفاته وعنوانه " فلسطينيات عبد السلام العجيلي " فطلبت منه أن استعير هذا الكتاب على أن أعيده إليه في اليوم التالي ، وقد تكرم الأخ القاعود وأعارني الكتاب الذي قرأته في جلسة واحدة على الرغم من ضخامته ، وطرأت لي فكرة بعد أن فرغت من قراءته أن أبعث رسالة إلى مؤلفه أبثه فيها إعجابي بكتابه .
كان كتاب " فلسطينيات عبد السلام العجيلي " أول كتاب يقع في يدي من مؤلفاته التي تجاوزت أكثر من ثلاثين كتابا ، وقد أسفت لأني لا أملك شيئا من هذه الكتب القيمة ، لكني حاولت أن أعوض ما فا تني بالبحث عنها في المكتبات ، وقد استطعت الحصول على بعضها مثل : بنت الساحرة ، سبعون دقيقة حكايات ، حكاية مجانين ، أشياء شخصية ، عيادة في الريف ، أحاديث العشيات ، السيف والتابوت ، المغمورون ، حفنة من الذكريات وغيرها . والبعض الآخر حصلت عليه من المؤلف مطرزا بإهدائه الكريم .
أعود بعد هذا الاستطراد لأقول إنني دبجت رسالة طويلة إلى الدكتور العجيلي أعربت له فيها عن إعجابي بكتابه " فلسطينيات " الذي نوهت عنه في صحيفة " المسائية " المحتجبة . وفي ختام الرسالة وجهت له بعض الأسئلة طالبا منه الإجابة عليها ، أذكر منها : هل تفضل احتراف الأدب على مزاولته كهواية ؟ وما أسباب سوء توزيع الكتاب في الوطن العربي ؟ ولماذا لم تصدر مجلة طبية مثل صديقك الدكتور صبري القباني صاحب مجلة " طبيبك " ؟
كانت تلك الأسئلة برغم سذاجتها المراد منها أن أضمن الرد على رسالتي ، ولم أنتظر طويلا حتى تلقيت رسالته الرقيقة المؤرخة في 9/10 /1995م ، يقول فيها : ( شكرا لرسالتك اللطيفة التي تلقيتها اليوم وأنا على أهبة سفر إلى خارج بلادنا ؛ لذلك فإني أبادر في الرد عليها لئلا أتأخر عليك بالجواب . وشكرا كذلك للأخ الدكتور القاعود أن زاد على قراء ما أكتبه واحدا ، وقد طمأنني هذا مع معرفتي مما أوردته أنك قرأت لي كثيرا في الدوريات وليس في الكتب ، وعلى كل ما لا يدرك كله لا يترك بعضه أوجله ) .
وبعد هذه الأسطر المشجعة تفضل مشكورا وأجاب عن الأسئلة التي وجهتها إليه في رسالتي السابقة بالرغم من انشغاله بعيادته ومرضاه ، وبالأسفار التي تضطره في بعض الأحيان إلى إغلاق عيادته أثناء سفره ، إضافة إلى التزاماته بالكتابة إلى بعض الصحف والمجلات ، التي تطالبه باستمرار بإتحافها بكل جديد وطريف من مقالاته وأقاصيصه .
كانت إذا هذه الرسالة أول رسالة تصلني من الدكتور العجيلي ، وكنت أظنها ستكون الأولى والأخيرة ، لكن خابت كل ظنوني ؛ فالرسالة الأولى تلتها عشرات الرسائل حتى بلغت نحو مئة رسالة ، عدا البطاقات التي كان يبعثها إلى في بعض المناسبات كالأعياد ، وحلول شهر رمضان المبارك ، ودخول العام الهجري الجديد ، ومعظم هذه الرسائل تقع في صفحة وبعضها في صفحتين .
وقد هالني في أول الأمر أن الدكتور العجيلي يكتب رسائله بيده ولا يستعين بسكرتير يتولى الرد على رسائل القراء والمعجبين كما يفعل كبار الأدباء و المشاهير .
ومن عادة الدكتور العجيلي أن يكتب رسائله على ورق العيادة ، وفي بعض الأحايين يكتب على ورق شفاف غير مسطر، وهو كعادة معظم الأطباء لا يحفل بالاعتناء بخطه ، وأذكر أنني قرأت في إحدى الصحف خبرا فحواه أنه يموت سنويا في الولايات المتحدة الأمريكية نحو عشرة آلاف شخص بسبب رداءة خطوط الأطباء ، وقد نقلت هذا الخبر إلى الدكتور العجيلي في إحدى رسائلي إليه .
ظلت صلتي بالدكتور العجيلي صلة عميقة لم يعتريها الضعف أو الفتور ، وكان يلمس من خلال رسائلي اهتماما متزايدا بأدبه وشخصه ، وكان يبعث إلي بكتبه الجديدة وعلى كل كتاب إهداء رقيق ينم عن كرم نفسه ودماثة خلقه ، وأنا بدوري كنت أوافيه ببعض الكتب التي تصدر في المملكة ولا تصل إلى سوريا أو سواها من الأقطار العربية ، فعلى سبيل المثال وافيته بنسخة من كتاب " ذكريات باريس " للأستاذ عبد الكريم الجهيمان والصادر عام 1400هـ ، " ومن وراء الحدود " للأستاذ فهد العريفي رحمه الله ، والصادر عام 1401هـ ، فإذا برسالة رقيقة تصلني منه وفيها يستعيد بعض ذكرياته في باريس عندما زارها أول مرة عام 1952م ، وأمضى هناك ستة أشهر كاملة ، يقول في رسالته المؤرخة في 23/ كانون الثاني / 1998م : ( شكرا لك على الرسالتين الأخيرتين وعلى الكتابين اللذين وصلا في وقتهما وقرأتهما وأفدت منهما ، وهما كتابان نافعان لمن يزور لندن وباريس أول مرة بصورة خاصة . ويبدو أن الأستاذ الجهيمان زار باريس في العام الذي زرتها أنا فيه أو في العام الذي قبله ، وقد تعرف على يونس بحري الذي تعرفت عليه فيها في ذلك الوقت ، وقد كان رحمه الله شخصية غريبة عجيبة ربطتني به صداقة قوية ، وأحببته على كثرة علا ته ، وقد كتبت عنه عدة مقالات وألقيت عنه محاضرة منشورة في كتابي " حفنة من الذكريات " ، ومن المؤسف أن هذا الكتاب قد نفد ولم تعد طباعته ) .
رسائل العجيلي لا تخلو أحيانا من الحديث عن بعض أصدقائه أو معارفه من الراحلين من أمثال : بدوي الجبل ، جورج صيدح ، حمد الجاسر ، عبد الله بلخير ، عبد الله يوركي حلاق ، نزار قباني ، عادل الغضبان ، علي الطنطاوي ، عبد الرحمن بدوي ، عبد الله الشيتي ، أحمد محمد عطيه وغيرهم .
وعندما انتقل إلى رحمة الله علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر طلبت منه أن يوافيني بمقال في رثائه ، فسرعان ما استجاب لطلبي وكتب مقالا بعنوان" لقاءان بالشيخ حمد" نشر في " جريدة الريا ض " وفي " مجلة التوباد " ع (21) ربيع الأول 1421هـ .
هناك من النقاد من يشبه الدكتور العجيلي بالأديب والطبيب والرحالة الشهير سومرست موم (1874- 1966) لكن العجيلي يرى غير ذلك ، يقول في رسالته المؤرخة في 23/7/1998م : ( سومرست موم كان طبيبا حقا ، لكنه هجر ممارسة الطب وتفرغ للأدب ، وهذا ما لم أفعله أنا ، هو عاش لأدبه وهذا كذلك لا ينطبق علي ؛ أنا الذي أعتبر الأدب هواية لي ولا يستطيع أن يؤمن لي كفاية عيش إذا ما اتخذته حرفة لي ) .
تطرقنا في رسائلنا العديدة إلى بعض القضايا مثل : جشع بعض الناشرين وعدم التزامهم بما في العقود ، وظاهرة الأخطاء المطبعية ، وفقدان الرسائل في البريد ، أو تأخرها على أحسن الفروض .
والدكتور العجيلي من الأدباء الذين عانوا من هذه المشكلات ، وهو يرى أن البريد الغربي أكثر سلامة من البريد العربي ، ويستدل على ذلك بقصة حدثت له في ألمانيا ، يقول في رسالته المؤرخة في 3 / 5 / 1997م : ( كلنا نشكو من هذا في بلادنا العربية بينما يعد البريد من أكثر الو سائل سلامة وأمانا في البلاد الغربية ، وقد حدث لي في سفري الأخير إلى فرانكفورت أن أرسلت من هذه المدينة إلى مدينة ألمانيا أخرى سوارا من ذهب وضعته في مظروف عادي إلى سيدة طلب إلي في سورية أن أرسله إليها ، فتلقفته في اليوم التالي كاملا وسالما ) .
ظل الدكتور العجيلي حتى اللحظات الأخيرة من حياته المديدة يتوقع الموت دون وجل منه ، لاسيما بعد أن تقدمت به السن وفقد معظم أصدقائه ولداته ، وقد وجهت له سؤالا بمناسبة دخول الألفية الثالثة سألته إن كان يرغب العيش إلى عام 2050م ، فأجاب في رسالته المؤرخة في 29 / أيلول / 1999م : ( سؤالك عن الرغبة بالعيش إلى عام 2050م جوابه النفي ، حتى عام 2005م أراه كثيرا . قال الشاعر القديم :
أليس ورائي إن تراخت منيتي .:. لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقال الآخر :
أليس ورائي أن أدب على العصا .:. فيشمت أعدائي ويكرهني أهلي
بعد أن شرفت بمراسلة الدكتور العجيلي تاقت نفسي إلى رؤيته شخصيا ، وقد كانت نفسي تهفو دائما إلى زيارة " الرقة " لأرى عميد أدبائها ، فإذا برسالة تصلني منه مؤرخة في 4 /1 / 1999م يقول فيها : ( تلقيت دعوة لحضور احتفالات مئوية إنشاء المملكة ، وقبلتها شاكرا ، وعلى هذا فالمأمول بإذن الله أن أطير إلى الرياض في 19 من هذا الشهر الشمسي كانون الثاني ، وهو الثالث من رمضان عندكم والثاني من عندنا ، إذ أنا تأخرنا بالصباح يوما عنكم . لا أدري ما هو البرنامج الذي يعد للضيوف من أمثالي في هذه الاحتفالات ، وسأحاول أن اتصل بك تليفونيا إذا يسر الله الأمر بذلك ) .
أسعدتني هذه الرسالة كثيرا ورحت أنتظر وصول العجيلي ، وما هي إلا أيام حتى جاء موعد احتفالات المئوية ونزل الضيوف في فندق انتركونتيننتال ، فسارعت بالاتصال بالدكتور العجيلي الذي نزل بالغرفة رقم (524) ، وقد جاء صوته عبر الهاتف واهنا .
وبعد تبادل السلامات والتحيات اتفقت معه أن أزوره في المساء ، وفي الموعد المضروب التقيته وجلسنا معا أكثر من ساعة ، وقبل أن أنصرف أخبرته أني سأزوره في صباح الغد بإذن الله .
وفي اليوم التالي زرته صباحا وكان يرافقني الصديق الدكتور عبد الله الحيدري ، الذي أجرى حديثا مع الدكتور العجيلي لإذاعة الرياض ، وكانت فرصة سانحة أن نلتقط بعض الصور التذكارية .
وقد عرضت عليه أن نقوم بجولة على بعض مكتبات الكتاب المستعمل فرحب بذلك ، وقد سره رؤية تلك المكتبات التي انتشرت في العاصمة خلال السنوات الأخيرة ، وأخبرني ونحن في الطريق أنه أصبح يتحاشى دخول المكتبات حتى لا يضطر إلى شراء المزيد من الكتب التي امتلأ بها منزله ولم يعد قادرا على قراءتها أو تصفحها .
وبعد انتهاء احتفالات المئوية وعودته إلى رقته تلقيت رسالته المؤرخة في 9 /2 / 1999 م جاء فيها : ( شكرا لرسالتك الأخيرة التي تلقيتها منذ يومين وأنا آسف على أن الارتباطات الكثيرة في الأيام التي قضيتها في الرياض لم تسمح لي بأكثر من اللقاءين اللذين اجتمعنا فيهما معا . وعلى كل ، أنا مسرور ؛ لأني أتيحت لي فرصة اللقاء الشخصي بك ) .
في عام 1422هـ وبمناسبة مرور 20 عاما على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمة الله مقاليد الحكم في المملكة ، تلقى الدكتور العجيلي دعوة لحضور المؤتمر العالمي الذي عقد بهذه المناسبة في فندق انتركونتيننتال ، وفور وصوله إلى الرياض حاول الاتصال بي غير مرة لكن لم تتح له فرصة مها تفتي ، وبينما كنت أهم بفتح بريدي فإذا بي أفاجأ برسالة منه من الرياض لا من الرقة مؤرخة في 13 / 11 / 2001م يقول فيها : ( أنا هنا من ثلاثة أيام ، وقد سعيت إلى الاتصال بك بكل وسيلة فلم أفلح . أنا مسافر غدا لأداء العمرة وسأرجع بعد غد إلى الرياض لأسافر إن شاء الله إلى دمشق بعد الجمعة ، وأنا آسف على أني لم استطع رؤيتك في هذه المرة ) .
في العام المنصرم وفي حفل كبير قلد الدكتور العجيلي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة ، وبهذه المناسبة أجريت معه حديثا لمجلة " الحرس الوطني " ، وبعد نشره تلقيت منه هذه الرسالة المؤرخة في 11 / آيار / 2005م يقول فيها : ( شكرا لرسالتك الأخيرة ولعدد الحرس الوطني الذي حوى الحديث الذي دار بيني وبينك ، إخراج الحديث ممتاز مع الصورة الجيدة ، التي لا أدري ممن حصلت عليها ، هل أرسلتها أنا ؟! ) .
أما أخر رسالة تسلمتها من الراحل الكبير فهي مؤرخة في 18 / حزيران / 2005م ، وفيها يزف إلي نبأ تحسن حالته الصحية ، ويعتذر عن الإيجاز في الكلام طالبا مني الدعاء له بالشفاء العاجل .
بعد ذلك انقطعت أخباره عني وكذا رسائله مع أنني كتبت له أكثر من مرة ؛ للاطمئنان على صحته لكنه آثر الصمت ولازم منزله متحملا آلام المرض والشيخوخة والوحدة ، حتى فاضت روحه في صباح السابع من ربيع الأول 1427هـ الخامس من أبريل 2006م عن 88 عاما ، ودفن في مسقط رأسه الرقة .
رحم الله العجيلي رحمة الأبرار وأكرم نزله ، وألهم أهله وأصدقائه الصبر والسلوان ، وعوض الأمة في فقده خيرا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .