كان أبو نواس قد صحب ابراهيم بن سيار النظام، رأس المعتزلة، وهو صبي، فأخذ عنه العلم ثم فارقه بعد ذلك، وعاد إليه مرة أخرى. وكان النظام يدعوه إلى مذهب المعتزلة والقول بالوعيد، وينهاه عن أفعاله، ويقول له إن الكبائر مخلدات في النار، وأن مذهب المعتزلة هو الحق، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وفارقه وهجاه، فامتنع عن مجالسته وطرده. فقال أبو نواس فى القصيدة التي تسمى الإبراهيمية:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء = وداونى بالتى كانت هى الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها = لو مسها حجر مسته سراء
وهى من أشهر الخمريات النواسية وأعذبها شعراً، ولا يزال مطلعها يتردد على كل لسان يلهج بحب الفن، إذ يؤكد حقيقة نفسية فى ضروب الغواية التى يتحول فيها اللوم إلى تحريض يستثير آلية المقاومة، ويعرض من أوصاف الراح ما أصبح مستقراً فى الذاكرة الجمعية العربية لدى الجميع من شاربين وممن لم يروا الخمر فى أعمارهم الطويلة، فهى بيت البهجة والسرور، وهى عندما تلوح فى الظلماء يتلألأ منها الضوء فتنساب من فم الإبريق حتى ليصبح مشهدها من قبيل الوسن إذا تكحلت به العيون: جفت عن الماء حتى ما تمازجه لطافة، وجفا عن شكلهما الماء فلو مزجت بها نورا لمازجها حتى تولد أنوار وأضواء وهنا يضرب أبو نواس صميم الشعر العربى، بعد أن يقدم مجموعة من الصور الشعرية التى ترسبت فى ذاكرة الأجيال، فخمره لا تمتزج إلا بالنور، وهى تستحق البكاء بدلًا من الأطلال العربية التى هجرتها النساء، فهى درة تعز على أن تبنى لها الخيام، أو ترتع فيها الحيوانات. ثم يعمد إلى هجاء أستاذه الذي خرج عليه قائلًا: فقل لمن يدعي فى العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء أى أن الشاعر ينبري لشيخ المتكلمين من سادة العقل فى الفكر الإسلامي بالحوار تفنيد الرأي، مشيراً إلى أن آفة العلم هى أنه لا يكتمل أبداً لصاحبه، وأن التضييق فى أمور الدين والعقيدة تضييع لها وإزراء بها بدلاً من التسامح فيها. ويعقب ابن منظور - صاحب لسان العرب – على هذا الخبر قائلاً:
( قال أبو حاتم السجستاني، اختلف الناس فى هذه القصيدة وقصيدة الحسين بن الضاحك التي مطلعها:
بدلت من نفحات الورد باللاء = ومن صبوحك در الإبل والشاء
قال: فلقينا أعرابياً وسألناه، فقال: أنشدوني، فأنشدناه قصيدة الحسين بن الضاحك، فلما فرغنا منها قال: أعيدوها فإن النظرة الأولى فلوت، فأعدناها عليه فاستحسنها، ثم قال هاتوا الأخرى فأنشدناه: دع عنك لومى .. فقال: هذا البيت يكفى عن القصيدة الأولى كلها، وتركنا وانصرف.)
هكذا كان العرب يمتلئون بنشوة الشعر ويسكرون بسحر البيان مهما كان موضوعه وتجربته.
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء = وداونى بالتى كانت هى الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها = لو مسها حجر مسته سراء
وهى من أشهر الخمريات النواسية وأعذبها شعراً، ولا يزال مطلعها يتردد على كل لسان يلهج بحب الفن، إذ يؤكد حقيقة نفسية فى ضروب الغواية التى يتحول فيها اللوم إلى تحريض يستثير آلية المقاومة، ويعرض من أوصاف الراح ما أصبح مستقراً فى الذاكرة الجمعية العربية لدى الجميع من شاربين وممن لم يروا الخمر فى أعمارهم الطويلة، فهى بيت البهجة والسرور، وهى عندما تلوح فى الظلماء يتلألأ منها الضوء فتنساب من فم الإبريق حتى ليصبح مشهدها من قبيل الوسن إذا تكحلت به العيون: جفت عن الماء حتى ما تمازجه لطافة، وجفا عن شكلهما الماء فلو مزجت بها نورا لمازجها حتى تولد أنوار وأضواء وهنا يضرب أبو نواس صميم الشعر العربى، بعد أن يقدم مجموعة من الصور الشعرية التى ترسبت فى ذاكرة الأجيال، فخمره لا تمتزج إلا بالنور، وهى تستحق البكاء بدلًا من الأطلال العربية التى هجرتها النساء، فهى درة تعز على أن تبنى لها الخيام، أو ترتع فيها الحيوانات. ثم يعمد إلى هجاء أستاذه الذي خرج عليه قائلًا: فقل لمن يدعي فى العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء أى أن الشاعر ينبري لشيخ المتكلمين من سادة العقل فى الفكر الإسلامي بالحوار تفنيد الرأي، مشيراً إلى أن آفة العلم هى أنه لا يكتمل أبداً لصاحبه، وأن التضييق فى أمور الدين والعقيدة تضييع لها وإزراء بها بدلاً من التسامح فيها. ويعقب ابن منظور - صاحب لسان العرب – على هذا الخبر قائلاً:
( قال أبو حاتم السجستاني، اختلف الناس فى هذه القصيدة وقصيدة الحسين بن الضاحك التي مطلعها:
بدلت من نفحات الورد باللاء = ومن صبوحك در الإبل والشاء
قال: فلقينا أعرابياً وسألناه، فقال: أنشدوني، فأنشدناه قصيدة الحسين بن الضاحك، فلما فرغنا منها قال: أعيدوها فإن النظرة الأولى فلوت، فأعدناها عليه فاستحسنها، ثم قال هاتوا الأخرى فأنشدناه: دع عنك لومى .. فقال: هذا البيت يكفى عن القصيدة الأولى كلها، وتركنا وانصرف.)
هكذا كان العرب يمتلئون بنشوة الشعر ويسكرون بسحر البيان مهما كان موضوعه وتجربته.