عندما طُبعت مجموعة يوسف إدريس القصصية" أرخص ليالي" في خمسينيات القرن الماضي، فوجئ صاحبها بتصحيح مصحح دار النشر لعنوانها، حيث حذف الياء وطبعت بعنوان" أرخص ليالٍ" وهو الأصح لغويا ونحويا، فما كان من إدريس الذي غضب بشدة إلا أن توجه إلى المطبعة ومزق بنفسه كل أغلفة الكتاب بلا استثناء، وقال لأصدقائه: ألغيت الغلاف كله، وفرضت العنوان الذي كتبته بيدي. أنا كتبت العنوان: "أرخص ليالي". المصحح شال الياء، وزاد فوضع تحت اللام كسرتين. يفهمها القارئ النص نص في مصر إزاي، وأنا أخاطب بقصصي هذا القارئ النص نص بالذات!.
هذه الحكاية وغيرها يجدها القارئ بين صفحات كتاب "ألاعيب الذاكرة" الذي صدر بعد رحيل مؤلفه الكاتب الكبير الراحل سليمان فياض (1928-2015) بثلاث سنوات، بدلا من أن يطويه النسيان وغبار السنين ويضيع بين صفحات المجلات والصحف. كان الكتاب في الأصل مجموعة من البورتريهات لكتاب وفنانين ربطت الصداقة والزمالة بينه وبينهم، ونُشرت متفرقة بين عامي 2002 و2013، وعكفت على جمعها وإعدادها للنشر سمر إبراهيم وصدرت أخيرا في سلسلة الإصدارات الخاصة من هيئة قصور الثقافة.
وعلى الرغم من أن فياض استمد وجوده في الحياة الأدبية من ذلك العدد الكبير من الروايات والمجموعات القصصية، إلا أن رسم البورتريهات لأصدقائه وزملائه استهواه منذ وقت مبكر، بل هو الكاتب الوحيد في جيله الذي أصدر ثلاثة كتب من هذا النوع هي "المثقفون ..وجوه من الذاكرة" 1992 و"نبلاء وأوباش" 1996 و"المساكين" 2001 وأخيرا هذا الكتاب الذي صدر بعد رحيله بثلاث سنوات.
وإذا كان كتاب ذلك الجيل الذي ينتمي إليه فياض اشتهروا بالمعارك الطاحنة بين بعضهم البعض وتبادل الاتهامات بالحق والباطل، إلا أن فياض في بورتريهاته يقطر رقة وحنانا دون أن يغفل في الوقت نفسه الجوانب السلبية. وفي البورترية الذي رسمه ليوسف إدريس مثلا يحكي عن المعارك لتي خاضها ووصلت إلى حد الاشتباك بالأيدي في المقاهي، كما يحكي أيضا عن المظاهرة التي تصدى لقيادتها، بل وهو الذي نظمها، عندما اغتال الموساد الإسرائيلي الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت في سبعينيات القرن الماضي، وكان إدريس هو الداعي لها وساهم في جمع قروش قليلة لشراء أقلام وأوراق وكتابة اللافتات، التي حملها عشرات الكتاب والفنانون في المظاهرة الصامتة التي انطلقت من مقهى ريش وطافت شوارع وسط البلد. كتب فياض:
"عند نقابة الصحفيين توقفنا، وسحب ضباط الأمن من بيننا يوسف إدريس إلى داخل النقابة. لم يتردد يوسف في أن يعلن للأمن أنه هو وحده منظم المظاهرة والداعي لها. ولا أعرف ما الذي قاله أيضا لرجال الأمن، وهو يعلم أن المظاهرات محظورة."
أما البورتريه الذي رسمه عن الشاعر الراحل أمل دنقل، فيحكي فيه عن صداقتهما التي بدأت مبكرة عام 1962 في الإسكندرية. كان أمل لا يشاهد قبل عصر كل يوم، ويمضي الليل بكامله حتى طلوع النهار في شوارع ومقاهي القاهرة. يحكي عن عدوانيته تجاه الآخرين والتي كانت بمثابة خط دفاع يدافع به عن نفسه ولا يسمح لأحد بالاقتراب منه. وينهي البورتريه عن أمل بعد إصابته بالسرطان قائلا: "وعشنا مع أمل أيام فارس يحتضر ببطء، ويتلقى وحده ضربات المرض الخفية بصبر، مصرًا أن يحيا حتى آخر قطرة للحياة في بدنه، وأن يختار لحظة وداعه للدنيا، في شرفة غرفة، ينتظر أن يرى مثل إخناتون لحظة شروق الشمس، ليغمض عينيه على شعاعها"
وهكذا يمضي الراحل سليمان فياض يكتب عن راحلين مثل إبراهيم أصلان والمستشار مصطفى عبدالعزيز بالرقة ذاتها، والمحبة التي ينبض بها كتابه.
هذه الحكاية وغيرها يجدها القارئ بين صفحات كتاب "ألاعيب الذاكرة" الذي صدر بعد رحيل مؤلفه الكاتب الكبير الراحل سليمان فياض (1928-2015) بثلاث سنوات، بدلا من أن يطويه النسيان وغبار السنين ويضيع بين صفحات المجلات والصحف. كان الكتاب في الأصل مجموعة من البورتريهات لكتاب وفنانين ربطت الصداقة والزمالة بينه وبينهم، ونُشرت متفرقة بين عامي 2002 و2013، وعكفت على جمعها وإعدادها للنشر سمر إبراهيم وصدرت أخيرا في سلسلة الإصدارات الخاصة من هيئة قصور الثقافة.
وعلى الرغم من أن فياض استمد وجوده في الحياة الأدبية من ذلك العدد الكبير من الروايات والمجموعات القصصية، إلا أن رسم البورتريهات لأصدقائه وزملائه استهواه منذ وقت مبكر، بل هو الكاتب الوحيد في جيله الذي أصدر ثلاثة كتب من هذا النوع هي "المثقفون ..وجوه من الذاكرة" 1992 و"نبلاء وأوباش" 1996 و"المساكين" 2001 وأخيرا هذا الكتاب الذي صدر بعد رحيله بثلاث سنوات.
وإذا كان كتاب ذلك الجيل الذي ينتمي إليه فياض اشتهروا بالمعارك الطاحنة بين بعضهم البعض وتبادل الاتهامات بالحق والباطل، إلا أن فياض في بورتريهاته يقطر رقة وحنانا دون أن يغفل في الوقت نفسه الجوانب السلبية. وفي البورترية الذي رسمه ليوسف إدريس مثلا يحكي عن المعارك لتي خاضها ووصلت إلى حد الاشتباك بالأيدي في المقاهي، كما يحكي أيضا عن المظاهرة التي تصدى لقيادتها، بل وهو الذي نظمها، عندما اغتال الموساد الإسرائيلي الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت في سبعينيات القرن الماضي، وكان إدريس هو الداعي لها وساهم في جمع قروش قليلة لشراء أقلام وأوراق وكتابة اللافتات، التي حملها عشرات الكتاب والفنانون في المظاهرة الصامتة التي انطلقت من مقهى ريش وطافت شوارع وسط البلد. كتب فياض:
"عند نقابة الصحفيين توقفنا، وسحب ضباط الأمن من بيننا يوسف إدريس إلى داخل النقابة. لم يتردد يوسف في أن يعلن للأمن أنه هو وحده منظم المظاهرة والداعي لها. ولا أعرف ما الذي قاله أيضا لرجال الأمن، وهو يعلم أن المظاهرات محظورة."
أما البورتريه الذي رسمه عن الشاعر الراحل أمل دنقل، فيحكي فيه عن صداقتهما التي بدأت مبكرة عام 1962 في الإسكندرية. كان أمل لا يشاهد قبل عصر كل يوم، ويمضي الليل بكامله حتى طلوع النهار في شوارع ومقاهي القاهرة. يحكي عن عدوانيته تجاه الآخرين والتي كانت بمثابة خط دفاع يدافع به عن نفسه ولا يسمح لأحد بالاقتراب منه. وينهي البورتريه عن أمل بعد إصابته بالسرطان قائلا: "وعشنا مع أمل أيام فارس يحتضر ببطء، ويتلقى وحده ضربات المرض الخفية بصبر، مصرًا أن يحيا حتى آخر قطرة للحياة في بدنه، وأن يختار لحظة وداعه للدنيا، في شرفة غرفة، ينتظر أن يرى مثل إخناتون لحظة شروق الشمس، ليغمض عينيه على شعاعها"
وهكذا يمضي الراحل سليمان فياض يكتب عن راحلين مثل إبراهيم أصلان والمستشار مصطفى عبدالعزيز بالرقة ذاتها، والمحبة التي ينبض بها كتابه.