فضلا عن الحقيقة التي ترسخت منذ قرون حول أهمية الثقافة وفاعليتها في تحقيق النهضة المنشودة، فإن الجديد الذي بدأ يفرض نفسه في السنوات الأخيرة، هو تزايد الاقتناع بأن الثقافة المطلوبة، هي تلك التي يجب أن تهيء الفرد والمجتمع لمواجهة تحديات العصر الجديد، عصر الثورة التكنولوجية والانفتاح الإعلامي، عصر التحاور الثقافي والاتجاه نحو وحدة الثقافة الإنسانية.
إذا كانت هذه هي الصورة المصغرة للتحديات الكبرى التيبدأت كل الثقافات تواجهها وتعمل على تجاوزها بتعديل طرق تفكيرها وأساليب إبداعاتها وأدوات اشتغالها، فإن الأسئلة التي ستستأثر باهتمامنا في هذه الدراسة هي التالية:
ما هي مكانة الثقافة العربية من هذه التحديات؟ ما هي مظاهرها وخصائصها البارزة؟ وما هي شروط تحديثها وإجراءات تطويرها؟، وهي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال التركيز على مجموعة من الوقائع والأفكار التي رأينا ضرورة توزيعها تبعا للمحورين التاليين:
2.1.1. مظاهر الثقافة العربية وخصائصها البارزة
قد لا نجانب الصواب، إذا اعتبرنا أن الحديث عن مظاهر الثقافة العربية وخصائصها البارزة، هو في الآن نفسه حديث عن بنية هذه الثقافة بجميع محدداتها ومكوناتها، بكل مصادرها ومرجعياتها، بمختلف ثوابتها ومتغيراتها. فهذه مسألة لا يمكن لأي كان أن يجادل فيها، لأن المظاهر والخصائص المقصودة تشكل، وبدون منازع، الانعكاس الطبيعي لمصادر الثقافة العربية ومحدداتها الأساسية. وتفاديا لأي ترحال عبر المحطات المختلفة التي قطعتها هذه الثقافة منذ ظهورها إلى اليوم، وهو أمر لا بستدعيه الهدف المرسوم لهذا الفصل،نرى ضرورة التركيز على ثلاث مسائل فقط، نفترض فيها إمكانية الإحاطة بالمظاهر المقصودة، وبالتالي إمكانية توضيح ما المقصود بالقضية المطروحة:
2.1.1.1. التأرجح بين الماضي والحاضر
يشكل القرن الرابع الهجري،المحطة لتاريخية البارزة التي عاشت فيها الثقافة العربية الإسلامية، قمة عطائها وأوج ازدهارها على مختلف الأصعدة: الفلسفية، الأدبية، العلمية...الخ. فهذه واحدة من الخلاصات الأساسية التي يمكن الخروج بها من الاستنطاق الموضوعي لتاريخ الثقافة العربية. وما أعتقد أن هناك من المثقفين العرب المعاصرين، من سيخامره الشك في مصداقية هذه الحقيقة؛ إذ أن الجميع يدرك حق الإدراك أن الثقافة العربية لم تشهد بعد تلك المحطة أي نشاط ثقافي مماثل. وهذا ما كان له وقعه الكبير على مسار هذه الثقافة في محطاتها اللاحقة, وترتبت عنه نتائج شتى أهمها:
أ- تغليب منطق المواجهة الثقافية على منطق الانفتاح الثقافي، وذلك بفعل المواجهة التاريخية القديمة والحديثة التي خاضتها وتخوضها المجتمعات العربية ضد المجتمعات الغربية، والتي تجسدت في أشكال وصور متنوعة مثل: العرب ضد الغرب، الإسلام ضد المسيحية، والثقافة العربية الإسلامية ضد الثقافة الغربية المسيحية. وقد كانت لهذه الوضعية، التي تميزت فيها الثقافة العربية بتغليب منطق المواجهة مع الثقافات الأوروبية والغربية بشكل عام، آثارها العميقة في توجهات المثقفين العرب ومواقفهم الثقافية كما سنوضح ذلك في المسألة الموالية.
ب- ضرورة، بل لزوم اتخاذ الماضي الثقافي "الخالد" إطارا مرجعيا أساسيا لبناء الحاضر والمستقبل الثقافيين المنشودين. فبدون الرجوع إلى هذا الماضي وإلى إرثه الثقافي الحافل، لا يمكن النجاح في تجاوز مظاهر انحطاط ثقافة الحاضر وركودها، وبالتالي لا يمكن المراهنة على بناء ثقافة المستقبل التي هي بالتحديد ثقافة الماضي في أوج ازدهارها وعطائها. والحقيقة أن ما يميز هذه النظرة هو طابعها "النكوصي" نحو ثقافة الماضي لبناء ثقافة الحاضر والمستقبل، وهي نظرة مناقضة للنظرة المتداولة، والتي ترى التاريخ الثقافي تطورا مستقيما من ماض منحط إلى مستقبل راق([1]).
ج- مواجهة الثقافة المعاصرة بمقولاتنا الفكرية والثقافية القديمة. فرغم التقائنا بالثقافة الغربية منذ ما يزيد عن قرن ونصف، فإن ثقافتنا ماتزال ترزح تحت عبء التراث الثقافي القديم وفي مواجهة التراث الثقافي الغربي المعاصر. فهي تعيش أزمة تحقيق الوحدة بين القديم والجديد، وبالتالي أزمة تحقيق الوحدة الثقافية([2]). ويعني هذا أن الثقافة العربية، وباتفاق جل الباحثين، أضحت تشكل نسقا واسعا تتعايش بداخله، وبشكل تقاطعي، شبكة من النزعات والاتجاهات التي يسودها الاختلاف ويعوزها الائتلاف. فهناك الثقافة العربية الكلاسيكية التي تمجد الماضي وتقدسه، وترى فيه منفذ الخلاص. وهناك الثقافة العربية الحديثة التي، وبفعل ازدواجيتها، تعيش في ضياع شبه تام لأن زمنها الثقافي بعيد كل البعد عن ذاتية الفكر العربي وخصوصياته الحضارية والثقافية. وبفعل هذه التلونات والمفارقات، أصبحت هذه الثقافة موطنا لخليط من التوجهات المتباينة، تسعى إلى تحقيق كل شيء وهي في الواقع لا تحقق أي شيء. فباسم الأصالة والمعاصرة، نجدها تخلط بين أزمة ثقافية وممارسات فكرية لا تزيدها إلا الغموض والضياع، حيث تنكص تارة إلى الماضي وتنشد تارة إلى السلف لإحياء التراث، وتتطلع تارة أخرى إلى المستقبل لتتشبث بإنتاج الغرب عساها تحقق التقدم الثقافي ولو عن طريق التقليد والتبعية([3]).
2.1.1.2. التأرجح بين الأصالة والمعاصرة
منذ عدة عقود والنقاش الدائر حول الثقافة العربية يهيمن عليه هاجس الاستعمال غير الدقيق لدلالة ألفاظ من قبيل: أصالة، معاصرة. فبفعل الغموض الذي رافق توظيف هذين اللفظين، بقي النقاش مفتوحا ومستمرا، ينتعش يوما بعد يوم، وينعم بمقعد الشرف فيتحليلات العديد من المثقفين العرب دون التوصل إلى إمكانية البت النهائي في محاوره أو الحسم التام في القضايا التي يطرحها. وهكذا، وفي غياب التفاهم الكامل بين مختلف المسؤولين والمثقفين حول المسائل المرتبطة بطرفي هذه الإشكالية، أعني إشكالية الأصالة والمعاصرة، أضحت المنظومة الثقافية العربية مسرحا لآراء وتحليلات متباينة في الأسلوب والنهج، رغم أن الهدف واحد ألا وهو بناء الثقافة العربية المنشودة. وهي التحليلات والآراء التي تؤطرها وتحكمها مواقف معددة وعلى رأسها الموقفين التاليين:
الأول، قوامه أن تحديث الثقافة العربيةيجب أن يتم عبر العودة اللامشروطة إلى ماضيها الحافل وتراثها الخالد وإرثها الزاهر؛ وبالتالي فمن العبث المراهنة على تأسيس ثقافة عربية بالمعنى المعاصر، إلا إذا كانت في مقامها الأول شبيهة المستوى بلغته الثقافية العربية القديمة أيام ازدهارها، وفي مقامها الثاني متميزة عن ثقافات الشعوب الأخرى، وبشكل خاص تلك التي تدعي ثقافة كونية زائفة. والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى أبعاد هذا الموقف، أعني موقف دعاة الأصالة، في حدودها القصوى، أي إذا اعتبرنا أن تحديث الثقافة العربية، يعني أساسا جعلها تماثل أو تضاهي ثقافة الأمس وتتميز عن ثقافة الشعوب الأخرى، "فإن هذا الموقف يعود وسيلة رفض الاقتباسات من الخارج، حتى الصالحة منها والمفيدة, بدعوى أنها معارضة لما يطمح إليه العرب من تمييز ومغايرة، إن لم نقل من تفوق. وكلما قل الاقتباس من الخارج والتفاعل معه، تقوت حظوظ المحافظة على التشكيلة الاجتماعية، وعلى نفوذ النخبة التقليدية فيها. هذا رغم استيراد منتجات استهلاكية ترفيهية لا تمس في شيء المثل والرموز الموروثة"([4]).
الثاني، مفاده أن تحديث الثقافة العربية وتخليصها من أوضاعها المتردية يستوجب تقليد الثقافة الغربية جملة وتفصيلا، وبالتالي الهروب إلى الأمام عوض الركون إلى الوراء. بمعنى التطلع إلى كل ما هو جديد ومعاصر عوض التشبث بكل ما هو قديم وتراث. فالتأسيس الفعلي للثقافة العربية يستدعي من منظور دعاة هذا الموقف، أعني دعاة المعاصرة، ضرورة حرق المراحل واختصار الطريق لاستدراك ما ضاع واللحاق بركب الثقافة العالمية المعاصرة التي لا تولي أية أهمية لما هو متجذر في أعماق التراث وإنجازات الماضي.
2.1.1.3. التأرجح بين الثوابت والمتغيرات
إذا أخذنا بالتعريف القائل: "الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء"([5])، بمعنى أن ما يبقى هو الثابت وما ينسى هو المتغي، فإن السؤال الوارد هنا هو: ماذا تغير في الثقافة العربية وماذا بقي ثابتا منذ ظهورها إلى اليوم؟
بالتأكيد أن أشياء كثيرة لم تتغير في بنية الثقافة العربية، بدليل أن الثوابت التي تشكل منطقها الذاتي، أعني: اللغة، السلوك، الخيال، الإبداع، النظرة إلى الكون...الخ, بقيت هي هي، لم يلحقها أي تحريف أو تغيير. وكما أن مضامينها المعرفية بقيت كما كانت وكما حددت بشكل شبه كامل منذ عصر التدوين، وهو عصر بناء الثقافة العربية الإسلامية([6]). وقد كانت لهذه الوضعية ولأسبابها آثارها العميقة في مسار الثقافة العربية ومنجزاتها اللاحقة، يحددها أحد المفكرين في عدة مظاهر أهمها([7]):
-هناك تداخل في الأزمنة الثقافية العربية، إذ لا يمكن إقامة حدود فاصلة بين العصور الثقافية العربية منذ الجاهلية إلى اليوم. إن الظاهرة السائدة هي حضور القديم في جوف الجديد يغنيه ويؤصله، بل حضوره معه جنبا إلى جنب ينافسه ويكبله.
-هناك انفصال بين الزمان والمكان في التاريخ الثقافي العربي، انفصالا يجعل الزمن الثقافي العربي، متداخلا ومتموجا طولانيا وعرضانيا في نفس الوقت.
-توقف العلوم العربية الإسلامية عن النمو بمجرد ميلادها بسبب من ذات موضوعاتها ثم بقاء العلوم الرياضية والطبيعية خارج الصراع الفكري في الثقافة العربية الإسلامية، مما جعلها تعيش على الهامش، لا تؤثر ولا تتأثر إلا بصورة ضعيفة جدا.
2.1.2. شورط تحديث الثقافة العربية وإجراءات تطويرها.
لا مناص من أن مسألة تحديث الثقافة العربية أضحت من الأمور الملحة التي تفرض نفسها على المجتمع العربي المعاصر، وذلك لاعتبارين اثنين: أولهما ذاتي صرف يهم تاريخ العرب أنفسهم، وقوامه أنه على الثقافة العربية المعاصرة أن تحتل بين الثقافات الأخرى نفس المكانة التي احتلتها الثقافة العربية القديمة في عصور ازدهارها وإشعاعها. وثانيهما موضوعي محض، مفاده أن الواقع الجديد الذي بدأ يفرض نفسه في السنوات الأخيرة، كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا الفصل، هو تزايد الاقتناع بأن الثقافة المطلوبة يجب أن تكون في مستوى تحديات العصر الجديد، عصر الثورة التكنولوجية والانفتاح الثقافي.
ما هي إذن سبل الاستجابة لهذين الاعتبارين؟ بمعنى ما هي الشروط والإجراءات الواجب اعتمادها في تحديث الثقافة العربية حتى تصبح في المستوى الذي يؤهلها لمواجهة تحديات العصر الجديد؟ وبالتالي المساهمة الفعلية في صنع الثقافة الإنسانية المأمولة؟. الواقع أن تحقيق المرامي والغايات التي تحملعليها هذه الأسئلة يقتضي توفير عدة شروط وإجراءات أهمها:
2.1.2.1. النظرة الجديدة إلى التراث وذلك بهدف الاقتصاد في المجهود وتفادي تبديد الطاقة وضياع الوقت في أمور هامشية لا تخدم الثقافة المعاصرة في أي جانب من الجوانب. وهذا يعني أن العودة إلى التراث القديم قصد إحياء بعض مضامينه الثقافية المشرقة أمر واجب، خاصة إذا كان الغرض هو الدفع بعملية الإبداع الثقافي العربي نحو الأمام من خلال تحديث وتحيين تلك المضامين، ولكن شريطة أن يتم ذلك عبر التوظيف الممنهج لمبتكرات العلم المعاصر وتقنياته الجديدة، وفي مقدمتها: الإعلاميات بهدف التنظيم والحفظ والإبستمولوجيا بهدف التمييز بين الكم والكيف. وهذه مسألة ينص عليها العروي بقوله: "لا حاجة لنا في طبع آلاف الصفحات, من الحديث أو السنن أو الدواوين الشعرية إذا كانت الفروق بين المؤلفات ضعيفة. يجب خزنها في الناظمات الإلكترونية والرجوع إليها عند الحاجة وبهدف المقارنة... في الإنتاج التقليدي قد نجد عشرات، بل مئات المؤلفات في موضوع واحد، داخل إشكالية واحدة. فتعود الاختلافات في الجزئيات غير مهمة مادامت الإشكالية تحدد مسبقا جميع الأجوبة الممكنة. هذا ما تدلنا عليه الإبستمولوجيا الحديثة. فالتخصص في تلك الجزئيات قد لا يغني الوضع الثقافي العام عندنا"([8]).
2.1.2.2. النظرة الجديدة إلى اللغة العربية قصد بناء ثقافة عصرية تستجيب في مقامها الأول لمطامح العرب الآنية وتطلعاتهم المستقبلية، وتتماشى في مقامها الثاني ومواصفات الثقافات المتقدمة. وهذا مطمح لا يمكن بلوغه إلا عن طريق تطوير اللغة العربية، التي تشكل، بدون منازع، خزان الثقافة العربية، بمعنى تحديث مضامينها وقوانينها لتصبح في مصاف اللغات المتقدمة، قادرة في الآن نفسه على استيعاب منجزات ومبتكرات الثقافات الأخرى وعلى تصدير ونشر منجزات وإبداعات ثقافتها الأصلية. والحقيقة أن عملية التطوير هاته أضحت من الأمور الملحة التي يفرضها منطق العصر ويعيها كل مثقف وكل مسؤول عربي؛ إذ بدونها لا يمكن المراهنة على بناء ثقافة عربية عصرية واعية بهويتها القومية وذاتيتها الحضارية، ومتأهبة للمساهمة في صنع الثقافة الإنسانية الكونية.
2.1.2.2. النظرة الجديدة إلى الإبداع
لماذا نجد الثقافة العربية الحالية تتأرجح بين موقفين: أولهما يدعو إلى تحديثها بالعودة إلى كل ما هو أصيل وخالد في التراث العربي القديم، وثانيهما يدعو إلى تأصيلها بتقليد الغرب وحرق المراحل للحاق بركب الثقافات المعاصرة. أكيد أن هذا التأرجح وراءه سر ما؟ ما هو إذن هذا السر؟ إنه ببساطة تامة إدراك دعاة كل موقف من الموقفين أن الثقافة العربية الراهنة هي ثقافة مسالمة لا تحب المغامرة، تعودت على الأخذ دون العطاء وعلى الاستهلاك دون الإنتاج. فهي ثقافة جامدة، عاجزة عن الابتكار والإبداع. وإن إخراجها من هذه الوضعية "المأزومة" والانتقال بها إلى وضعية تؤهلها لمجاراة الثقافات المعاصرة ومحاورتها يشترط أحد الأمرين: إما الركون بها إلى الوراء، إلى ماضيها الثقافي المجيد لتنهل من مصادره ومنجزاته الثقافية، وإما الهروب بها إلى الأمام، إلى واقع الثقافة الغربية لتستلهم من تراكماته ومبتكراته الإبداعية.
رغم ما قد يبدو من وجاهة على المبررات التي يقدمها دعاة كل موقف من هذين الموقفين؛ إذ أن الهدف واحد هو بناء ثقافة عربية عصرية، قوامها الإبداع والابتكار والعطاء والإضافية، إلا أن الشيء الذي لا يمكن استساغته أو قبوله هو الاعتقاد أن استحضار منجزات الماضي الثقافي العربي، أو تقليد منجزات الحاضر الثقافي الغربي، سيضمن شرط الإبداع الثقافي المأمول، المشبع بروح العقل والعلم والخيال، أو على الأحرى سيفك رقبة الثقافة العربية الراهنة من وضعية تأزمها وانحطاطها. نقول هذا لأننا ندرك حق الإدراك أن كل من يعتقد في استحضار التراث الثقافي القديم أو تقليد النموذج الثقافي الغربي، إمكانية تحقيق الإبداع الثقافي العربي المنشود، إنما يعتقد في تحقيق وهم زائف أو سراب خادع. فالإبداع الثقافي الحقيقي لا يتحقق إلا بتوفير شروطه اللازمة، والتي تتحدد أساسا في نهج سياسة ثقافية محكمة، قوامها الحرية في الاجتهاد والبحث والواقعية في توظيف العقل ومبتكراته العلمية والفلسفية والأدبية والفنية.
2.1.2.4. بلورة ثقافة قومية-إنسانية
الواقع أن التأسيس الفعلي لثقافة عربية متشبعة بروح العصر ومنطقه الجديد لا يمكنه أن يتحقق إلا في إطار المزاوجة بين ما هو خصوصي-قومي وما هو كوني-إنساني. فهذه مسألة لا أحد يجادل فيها؛ إذ أنه لم يعد هناك أي مبرر واقعي يسمح لثقافة من الثقافات بالتقوقع على نفسها أو بالانغلاق على ذاتها، لأنه حتى وإن أرادت ذلك فإن مستجدات العصر الجديد، عصر التقدم التكنولوجي والانفتاح الإعلامي والتحاور الثقافي، لن تتوارى في إخضاعها لمنطق الانفتاح الثقافي، وبالتالي الأخذ بالكونية الثقافية ومضمونها الإنساني عوض البقاء عند حدود التهافت والبحث عن أنجع الوسائل للمحافظة على الخصوصية الثقافية وبعدها القومي. وهذا يعني أنه إذا كانت هوية الثقافة العربية الراهنة تتخذ من خصوصيات الحضارة العربية إطارها المرجعي الرئيسي، فإن مستقبل هذه الثقافة يبقى رهين مدى استعدادها للمساهمة في بناء الثقافة الإنسانية ذات الطابع الكوني. فالحقيقة أنه "لا وجود اليوم لثقافة قومية مكتفية بذاتها، وإنما هي ثقافة قومية-إنسانية... إلا أن إضافة الإنساني إلى ثقافتنا يجب ألا يكون مجرد تلفيق لشعار أو مجرد إلصاق "لافتة" جديدة على "بضاعة" قديمة"([9]).
وفي النهاية أشير إلى أن الغرض من وضع خاتمة لهذا الدراسة لا يعني إضافة أشياء جديدة أو استحضار أبرز الأفكار المعتمدة في صياغة مضامينها. فكل ما في الأمر هو أن الثقافة العربية، التي أتينا على تشخيص بعض مظاهرها واقتراح بعض شروط تحديثها، أصبحت في وضعية لا تحسد عليها. فهي ثقافة مسالمة، لا تحب المغامرة، لأنها تعودت على الأخذ دون العطاء وعلى الاستهلاك دون الإنتاج. فهي ثقافة جامدة، عاجزة عن الإبداع والابتكار. لهذا فإن مراجعة وضعيتها "المأزومة" هاته، باتت من الأمور الضرورية والملحة. وأي تهاون في هذا النطاق سيؤدي حتما إلى تقوية وتعزيز حظوظ انحطاطها وانكماشها أكثر فأكثر.
[1]العروي، عبد الله العروي، (1983). ثقافتنا في ضوء التاريخ، دار التنوير للطباعة والنشر، ص. 197-198.
[2]حنفي، حسن، (1981). في فكرنا المعاصر، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، ص. 62.
[3]أحرشاو، الغالي، (1993). "الشباب العربي والممارسة الثقافية المأمولة"، شؤون عربية، العدد 75، ص.133.
[4]العروي، عبد الله، المرجع نفسه، ص. 199-200
[5]حسب محمد عابد الجابري، إن هذا التعريف ينسب أصلا لإدهارد هيريوط المؤرخ والسياسي الفرنسي المتوفى سنة 1957.
[6]الجابري، محمد عابد، (1981). "الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم"، مجلة أقلام، العدد 53، ص. 6.
[7]المرجع نفسه، ص. 13-19.
[8]العروي، عبد الله، المرجع نفسه، ص. 178.
[9]شيا، محمد، (1993). "الثقافة العربية والتحولات العالمية الراهنة"، شؤون عربية، العدد 75، ص. 97.
د. الغالي أحرشاو
إذا كانت هذه هي الصورة المصغرة للتحديات الكبرى التيبدأت كل الثقافات تواجهها وتعمل على تجاوزها بتعديل طرق تفكيرها وأساليب إبداعاتها وأدوات اشتغالها، فإن الأسئلة التي ستستأثر باهتمامنا في هذه الدراسة هي التالية:
ما هي مكانة الثقافة العربية من هذه التحديات؟ ما هي مظاهرها وخصائصها البارزة؟ وما هي شروط تحديثها وإجراءات تطويرها؟، وهي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال التركيز على مجموعة من الوقائع والأفكار التي رأينا ضرورة توزيعها تبعا للمحورين التاليين:
2.1.1. مظاهر الثقافة العربية وخصائصها البارزة
قد لا نجانب الصواب، إذا اعتبرنا أن الحديث عن مظاهر الثقافة العربية وخصائصها البارزة، هو في الآن نفسه حديث عن بنية هذه الثقافة بجميع محدداتها ومكوناتها، بكل مصادرها ومرجعياتها، بمختلف ثوابتها ومتغيراتها. فهذه مسألة لا يمكن لأي كان أن يجادل فيها، لأن المظاهر والخصائص المقصودة تشكل، وبدون منازع، الانعكاس الطبيعي لمصادر الثقافة العربية ومحدداتها الأساسية. وتفاديا لأي ترحال عبر المحطات المختلفة التي قطعتها هذه الثقافة منذ ظهورها إلى اليوم، وهو أمر لا بستدعيه الهدف المرسوم لهذا الفصل،نرى ضرورة التركيز على ثلاث مسائل فقط، نفترض فيها إمكانية الإحاطة بالمظاهر المقصودة، وبالتالي إمكانية توضيح ما المقصود بالقضية المطروحة:
2.1.1.1. التأرجح بين الماضي والحاضر
يشكل القرن الرابع الهجري،المحطة لتاريخية البارزة التي عاشت فيها الثقافة العربية الإسلامية، قمة عطائها وأوج ازدهارها على مختلف الأصعدة: الفلسفية، الأدبية، العلمية...الخ. فهذه واحدة من الخلاصات الأساسية التي يمكن الخروج بها من الاستنطاق الموضوعي لتاريخ الثقافة العربية. وما أعتقد أن هناك من المثقفين العرب المعاصرين، من سيخامره الشك في مصداقية هذه الحقيقة؛ إذ أن الجميع يدرك حق الإدراك أن الثقافة العربية لم تشهد بعد تلك المحطة أي نشاط ثقافي مماثل. وهذا ما كان له وقعه الكبير على مسار هذه الثقافة في محطاتها اللاحقة, وترتبت عنه نتائج شتى أهمها:
أ- تغليب منطق المواجهة الثقافية على منطق الانفتاح الثقافي، وذلك بفعل المواجهة التاريخية القديمة والحديثة التي خاضتها وتخوضها المجتمعات العربية ضد المجتمعات الغربية، والتي تجسدت في أشكال وصور متنوعة مثل: العرب ضد الغرب، الإسلام ضد المسيحية، والثقافة العربية الإسلامية ضد الثقافة الغربية المسيحية. وقد كانت لهذه الوضعية، التي تميزت فيها الثقافة العربية بتغليب منطق المواجهة مع الثقافات الأوروبية والغربية بشكل عام، آثارها العميقة في توجهات المثقفين العرب ومواقفهم الثقافية كما سنوضح ذلك في المسألة الموالية.
ب- ضرورة، بل لزوم اتخاذ الماضي الثقافي "الخالد" إطارا مرجعيا أساسيا لبناء الحاضر والمستقبل الثقافيين المنشودين. فبدون الرجوع إلى هذا الماضي وإلى إرثه الثقافي الحافل، لا يمكن النجاح في تجاوز مظاهر انحطاط ثقافة الحاضر وركودها، وبالتالي لا يمكن المراهنة على بناء ثقافة المستقبل التي هي بالتحديد ثقافة الماضي في أوج ازدهارها وعطائها. والحقيقة أن ما يميز هذه النظرة هو طابعها "النكوصي" نحو ثقافة الماضي لبناء ثقافة الحاضر والمستقبل، وهي نظرة مناقضة للنظرة المتداولة، والتي ترى التاريخ الثقافي تطورا مستقيما من ماض منحط إلى مستقبل راق([1]).
ج- مواجهة الثقافة المعاصرة بمقولاتنا الفكرية والثقافية القديمة. فرغم التقائنا بالثقافة الغربية منذ ما يزيد عن قرن ونصف، فإن ثقافتنا ماتزال ترزح تحت عبء التراث الثقافي القديم وفي مواجهة التراث الثقافي الغربي المعاصر. فهي تعيش أزمة تحقيق الوحدة بين القديم والجديد، وبالتالي أزمة تحقيق الوحدة الثقافية([2]). ويعني هذا أن الثقافة العربية، وباتفاق جل الباحثين، أضحت تشكل نسقا واسعا تتعايش بداخله، وبشكل تقاطعي، شبكة من النزعات والاتجاهات التي يسودها الاختلاف ويعوزها الائتلاف. فهناك الثقافة العربية الكلاسيكية التي تمجد الماضي وتقدسه، وترى فيه منفذ الخلاص. وهناك الثقافة العربية الحديثة التي، وبفعل ازدواجيتها، تعيش في ضياع شبه تام لأن زمنها الثقافي بعيد كل البعد عن ذاتية الفكر العربي وخصوصياته الحضارية والثقافية. وبفعل هذه التلونات والمفارقات، أصبحت هذه الثقافة موطنا لخليط من التوجهات المتباينة، تسعى إلى تحقيق كل شيء وهي في الواقع لا تحقق أي شيء. فباسم الأصالة والمعاصرة، نجدها تخلط بين أزمة ثقافية وممارسات فكرية لا تزيدها إلا الغموض والضياع، حيث تنكص تارة إلى الماضي وتنشد تارة إلى السلف لإحياء التراث، وتتطلع تارة أخرى إلى المستقبل لتتشبث بإنتاج الغرب عساها تحقق التقدم الثقافي ولو عن طريق التقليد والتبعية([3]).
2.1.1.2. التأرجح بين الأصالة والمعاصرة
منذ عدة عقود والنقاش الدائر حول الثقافة العربية يهيمن عليه هاجس الاستعمال غير الدقيق لدلالة ألفاظ من قبيل: أصالة، معاصرة. فبفعل الغموض الذي رافق توظيف هذين اللفظين، بقي النقاش مفتوحا ومستمرا، ينتعش يوما بعد يوم، وينعم بمقعد الشرف فيتحليلات العديد من المثقفين العرب دون التوصل إلى إمكانية البت النهائي في محاوره أو الحسم التام في القضايا التي يطرحها. وهكذا، وفي غياب التفاهم الكامل بين مختلف المسؤولين والمثقفين حول المسائل المرتبطة بطرفي هذه الإشكالية، أعني إشكالية الأصالة والمعاصرة، أضحت المنظومة الثقافية العربية مسرحا لآراء وتحليلات متباينة في الأسلوب والنهج، رغم أن الهدف واحد ألا وهو بناء الثقافة العربية المنشودة. وهي التحليلات والآراء التي تؤطرها وتحكمها مواقف معددة وعلى رأسها الموقفين التاليين:
الأول، قوامه أن تحديث الثقافة العربيةيجب أن يتم عبر العودة اللامشروطة إلى ماضيها الحافل وتراثها الخالد وإرثها الزاهر؛ وبالتالي فمن العبث المراهنة على تأسيس ثقافة عربية بالمعنى المعاصر، إلا إذا كانت في مقامها الأول شبيهة المستوى بلغته الثقافية العربية القديمة أيام ازدهارها، وفي مقامها الثاني متميزة عن ثقافات الشعوب الأخرى، وبشكل خاص تلك التي تدعي ثقافة كونية زائفة. والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى أبعاد هذا الموقف، أعني موقف دعاة الأصالة، في حدودها القصوى، أي إذا اعتبرنا أن تحديث الثقافة العربية، يعني أساسا جعلها تماثل أو تضاهي ثقافة الأمس وتتميز عن ثقافة الشعوب الأخرى، "فإن هذا الموقف يعود وسيلة رفض الاقتباسات من الخارج، حتى الصالحة منها والمفيدة, بدعوى أنها معارضة لما يطمح إليه العرب من تمييز ومغايرة، إن لم نقل من تفوق. وكلما قل الاقتباس من الخارج والتفاعل معه، تقوت حظوظ المحافظة على التشكيلة الاجتماعية، وعلى نفوذ النخبة التقليدية فيها. هذا رغم استيراد منتجات استهلاكية ترفيهية لا تمس في شيء المثل والرموز الموروثة"([4]).
الثاني، مفاده أن تحديث الثقافة العربية وتخليصها من أوضاعها المتردية يستوجب تقليد الثقافة الغربية جملة وتفصيلا، وبالتالي الهروب إلى الأمام عوض الركون إلى الوراء. بمعنى التطلع إلى كل ما هو جديد ومعاصر عوض التشبث بكل ما هو قديم وتراث. فالتأسيس الفعلي للثقافة العربية يستدعي من منظور دعاة هذا الموقف، أعني دعاة المعاصرة، ضرورة حرق المراحل واختصار الطريق لاستدراك ما ضاع واللحاق بركب الثقافة العالمية المعاصرة التي لا تولي أية أهمية لما هو متجذر في أعماق التراث وإنجازات الماضي.
2.1.1.3. التأرجح بين الثوابت والمتغيرات
إذا أخذنا بالتعريف القائل: "الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء"([5])، بمعنى أن ما يبقى هو الثابت وما ينسى هو المتغي، فإن السؤال الوارد هنا هو: ماذا تغير في الثقافة العربية وماذا بقي ثابتا منذ ظهورها إلى اليوم؟
بالتأكيد أن أشياء كثيرة لم تتغير في بنية الثقافة العربية، بدليل أن الثوابت التي تشكل منطقها الذاتي، أعني: اللغة، السلوك، الخيال، الإبداع، النظرة إلى الكون...الخ, بقيت هي هي، لم يلحقها أي تحريف أو تغيير. وكما أن مضامينها المعرفية بقيت كما كانت وكما حددت بشكل شبه كامل منذ عصر التدوين، وهو عصر بناء الثقافة العربية الإسلامية([6]). وقد كانت لهذه الوضعية ولأسبابها آثارها العميقة في مسار الثقافة العربية ومنجزاتها اللاحقة، يحددها أحد المفكرين في عدة مظاهر أهمها([7]):
-هناك تداخل في الأزمنة الثقافية العربية، إذ لا يمكن إقامة حدود فاصلة بين العصور الثقافية العربية منذ الجاهلية إلى اليوم. إن الظاهرة السائدة هي حضور القديم في جوف الجديد يغنيه ويؤصله، بل حضوره معه جنبا إلى جنب ينافسه ويكبله.
-هناك انفصال بين الزمان والمكان في التاريخ الثقافي العربي، انفصالا يجعل الزمن الثقافي العربي، متداخلا ومتموجا طولانيا وعرضانيا في نفس الوقت.
-توقف العلوم العربية الإسلامية عن النمو بمجرد ميلادها بسبب من ذات موضوعاتها ثم بقاء العلوم الرياضية والطبيعية خارج الصراع الفكري في الثقافة العربية الإسلامية، مما جعلها تعيش على الهامش، لا تؤثر ولا تتأثر إلا بصورة ضعيفة جدا.
2.1.2. شورط تحديث الثقافة العربية وإجراءات تطويرها.
لا مناص من أن مسألة تحديث الثقافة العربية أضحت من الأمور الملحة التي تفرض نفسها على المجتمع العربي المعاصر، وذلك لاعتبارين اثنين: أولهما ذاتي صرف يهم تاريخ العرب أنفسهم، وقوامه أنه على الثقافة العربية المعاصرة أن تحتل بين الثقافات الأخرى نفس المكانة التي احتلتها الثقافة العربية القديمة في عصور ازدهارها وإشعاعها. وثانيهما موضوعي محض، مفاده أن الواقع الجديد الذي بدأ يفرض نفسه في السنوات الأخيرة، كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا الفصل، هو تزايد الاقتناع بأن الثقافة المطلوبة يجب أن تكون في مستوى تحديات العصر الجديد، عصر الثورة التكنولوجية والانفتاح الثقافي.
ما هي إذن سبل الاستجابة لهذين الاعتبارين؟ بمعنى ما هي الشروط والإجراءات الواجب اعتمادها في تحديث الثقافة العربية حتى تصبح في المستوى الذي يؤهلها لمواجهة تحديات العصر الجديد؟ وبالتالي المساهمة الفعلية في صنع الثقافة الإنسانية المأمولة؟. الواقع أن تحقيق المرامي والغايات التي تحملعليها هذه الأسئلة يقتضي توفير عدة شروط وإجراءات أهمها:
2.1.2.1. النظرة الجديدة إلى التراث وذلك بهدف الاقتصاد في المجهود وتفادي تبديد الطاقة وضياع الوقت في أمور هامشية لا تخدم الثقافة المعاصرة في أي جانب من الجوانب. وهذا يعني أن العودة إلى التراث القديم قصد إحياء بعض مضامينه الثقافية المشرقة أمر واجب، خاصة إذا كان الغرض هو الدفع بعملية الإبداع الثقافي العربي نحو الأمام من خلال تحديث وتحيين تلك المضامين، ولكن شريطة أن يتم ذلك عبر التوظيف الممنهج لمبتكرات العلم المعاصر وتقنياته الجديدة، وفي مقدمتها: الإعلاميات بهدف التنظيم والحفظ والإبستمولوجيا بهدف التمييز بين الكم والكيف. وهذه مسألة ينص عليها العروي بقوله: "لا حاجة لنا في طبع آلاف الصفحات, من الحديث أو السنن أو الدواوين الشعرية إذا كانت الفروق بين المؤلفات ضعيفة. يجب خزنها في الناظمات الإلكترونية والرجوع إليها عند الحاجة وبهدف المقارنة... في الإنتاج التقليدي قد نجد عشرات، بل مئات المؤلفات في موضوع واحد، داخل إشكالية واحدة. فتعود الاختلافات في الجزئيات غير مهمة مادامت الإشكالية تحدد مسبقا جميع الأجوبة الممكنة. هذا ما تدلنا عليه الإبستمولوجيا الحديثة. فالتخصص في تلك الجزئيات قد لا يغني الوضع الثقافي العام عندنا"([8]).
2.1.2.2. النظرة الجديدة إلى اللغة العربية قصد بناء ثقافة عصرية تستجيب في مقامها الأول لمطامح العرب الآنية وتطلعاتهم المستقبلية، وتتماشى في مقامها الثاني ومواصفات الثقافات المتقدمة. وهذا مطمح لا يمكن بلوغه إلا عن طريق تطوير اللغة العربية، التي تشكل، بدون منازع، خزان الثقافة العربية، بمعنى تحديث مضامينها وقوانينها لتصبح في مصاف اللغات المتقدمة، قادرة في الآن نفسه على استيعاب منجزات ومبتكرات الثقافات الأخرى وعلى تصدير ونشر منجزات وإبداعات ثقافتها الأصلية. والحقيقة أن عملية التطوير هاته أضحت من الأمور الملحة التي يفرضها منطق العصر ويعيها كل مثقف وكل مسؤول عربي؛ إذ بدونها لا يمكن المراهنة على بناء ثقافة عربية عصرية واعية بهويتها القومية وذاتيتها الحضارية، ومتأهبة للمساهمة في صنع الثقافة الإنسانية الكونية.
2.1.2.2. النظرة الجديدة إلى الإبداع
لماذا نجد الثقافة العربية الحالية تتأرجح بين موقفين: أولهما يدعو إلى تحديثها بالعودة إلى كل ما هو أصيل وخالد في التراث العربي القديم، وثانيهما يدعو إلى تأصيلها بتقليد الغرب وحرق المراحل للحاق بركب الثقافات المعاصرة. أكيد أن هذا التأرجح وراءه سر ما؟ ما هو إذن هذا السر؟ إنه ببساطة تامة إدراك دعاة كل موقف من الموقفين أن الثقافة العربية الراهنة هي ثقافة مسالمة لا تحب المغامرة، تعودت على الأخذ دون العطاء وعلى الاستهلاك دون الإنتاج. فهي ثقافة جامدة، عاجزة عن الابتكار والإبداع. وإن إخراجها من هذه الوضعية "المأزومة" والانتقال بها إلى وضعية تؤهلها لمجاراة الثقافات المعاصرة ومحاورتها يشترط أحد الأمرين: إما الركون بها إلى الوراء، إلى ماضيها الثقافي المجيد لتنهل من مصادره ومنجزاته الثقافية، وإما الهروب بها إلى الأمام، إلى واقع الثقافة الغربية لتستلهم من تراكماته ومبتكراته الإبداعية.
رغم ما قد يبدو من وجاهة على المبررات التي يقدمها دعاة كل موقف من هذين الموقفين؛ إذ أن الهدف واحد هو بناء ثقافة عربية عصرية، قوامها الإبداع والابتكار والعطاء والإضافية، إلا أن الشيء الذي لا يمكن استساغته أو قبوله هو الاعتقاد أن استحضار منجزات الماضي الثقافي العربي، أو تقليد منجزات الحاضر الثقافي الغربي، سيضمن شرط الإبداع الثقافي المأمول، المشبع بروح العقل والعلم والخيال، أو على الأحرى سيفك رقبة الثقافة العربية الراهنة من وضعية تأزمها وانحطاطها. نقول هذا لأننا ندرك حق الإدراك أن كل من يعتقد في استحضار التراث الثقافي القديم أو تقليد النموذج الثقافي الغربي، إمكانية تحقيق الإبداع الثقافي العربي المنشود، إنما يعتقد في تحقيق وهم زائف أو سراب خادع. فالإبداع الثقافي الحقيقي لا يتحقق إلا بتوفير شروطه اللازمة، والتي تتحدد أساسا في نهج سياسة ثقافية محكمة، قوامها الحرية في الاجتهاد والبحث والواقعية في توظيف العقل ومبتكراته العلمية والفلسفية والأدبية والفنية.
2.1.2.4. بلورة ثقافة قومية-إنسانية
الواقع أن التأسيس الفعلي لثقافة عربية متشبعة بروح العصر ومنطقه الجديد لا يمكنه أن يتحقق إلا في إطار المزاوجة بين ما هو خصوصي-قومي وما هو كوني-إنساني. فهذه مسألة لا أحد يجادل فيها؛ إذ أنه لم يعد هناك أي مبرر واقعي يسمح لثقافة من الثقافات بالتقوقع على نفسها أو بالانغلاق على ذاتها، لأنه حتى وإن أرادت ذلك فإن مستجدات العصر الجديد، عصر التقدم التكنولوجي والانفتاح الإعلامي والتحاور الثقافي، لن تتوارى في إخضاعها لمنطق الانفتاح الثقافي، وبالتالي الأخذ بالكونية الثقافية ومضمونها الإنساني عوض البقاء عند حدود التهافت والبحث عن أنجع الوسائل للمحافظة على الخصوصية الثقافية وبعدها القومي. وهذا يعني أنه إذا كانت هوية الثقافة العربية الراهنة تتخذ من خصوصيات الحضارة العربية إطارها المرجعي الرئيسي، فإن مستقبل هذه الثقافة يبقى رهين مدى استعدادها للمساهمة في بناء الثقافة الإنسانية ذات الطابع الكوني. فالحقيقة أنه "لا وجود اليوم لثقافة قومية مكتفية بذاتها، وإنما هي ثقافة قومية-إنسانية... إلا أن إضافة الإنساني إلى ثقافتنا يجب ألا يكون مجرد تلفيق لشعار أو مجرد إلصاق "لافتة" جديدة على "بضاعة" قديمة"([9]).
وفي النهاية أشير إلى أن الغرض من وضع خاتمة لهذا الدراسة لا يعني إضافة أشياء جديدة أو استحضار أبرز الأفكار المعتمدة في صياغة مضامينها. فكل ما في الأمر هو أن الثقافة العربية، التي أتينا على تشخيص بعض مظاهرها واقتراح بعض شروط تحديثها، أصبحت في وضعية لا تحسد عليها. فهي ثقافة مسالمة، لا تحب المغامرة، لأنها تعودت على الأخذ دون العطاء وعلى الاستهلاك دون الإنتاج. فهي ثقافة جامدة، عاجزة عن الإبداع والابتكار. لهذا فإن مراجعة وضعيتها "المأزومة" هاته، باتت من الأمور الضرورية والملحة. وأي تهاون في هذا النطاق سيؤدي حتما إلى تقوية وتعزيز حظوظ انحطاطها وانكماشها أكثر فأكثر.
[1]العروي، عبد الله العروي، (1983). ثقافتنا في ضوء التاريخ، دار التنوير للطباعة والنشر، ص. 197-198.
[2]حنفي، حسن، (1981). في فكرنا المعاصر، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، ص. 62.
[3]أحرشاو، الغالي، (1993). "الشباب العربي والممارسة الثقافية المأمولة"، شؤون عربية، العدد 75، ص.133.
[4]العروي، عبد الله، المرجع نفسه، ص. 199-200
[5]حسب محمد عابد الجابري، إن هذا التعريف ينسب أصلا لإدهارد هيريوط المؤرخ والسياسي الفرنسي المتوفى سنة 1957.
[6]الجابري، محمد عابد، (1981). "الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم"، مجلة أقلام، العدد 53، ص. 6.
[7]المرجع نفسه، ص. 13-19.
[8]العروي، عبد الله، المرجع نفسه، ص. 178.
[9]شيا، محمد، (1993). "الثقافة العربية والتحولات العالمية الراهنة"، شؤون عربية، العدد 75، ص. 97.
د. الغالي أحرشاو