آمال
أمّها أسمتها(آمال) لتحمّلها أحلامها وأمانيها وخوفها من المستقبل الذي لا يهادن امرأة زوجها عجوز،ولا أهل لها أو معين.كانت (آمال) الطّفلة المدلّلة التي تستعصي على السّنين والكبر؛لأنّ والديها يحبسانها في حنانهما ضنّاً بها على ضنك الحياة وكدّ الحياة.
اعتقلها الجنود الصّهاينة دون جناية ارتكبتها وهي في طريقها إلى مدرستها،زجّوا بها في معتقل الأسيرات الفلسطينيّات في صحراء قافلة جافّة من أيّ رحمة بعد أن صادروا كتبها ودفاترها.هناك تعلّمت أن تكبر،وأن تخلع الدّلال لتليق بأمهاتها الجديدات.
تنادت الكثير من المؤسّسات والمنظّمات الإنسانيّة العالميّة لإطلاقها من الأسر بوصفها أصغر معتقلة سياسيّة في العالم.بعد أشهر من المعاناة خرجتْ (آمال) من المعتقل حيث خلعتْ طفولتها،وارتدتْ قلباً شجاعاً لا يقبل بأقلّ من فجر أبلج قريب يحقّق آمال الوطن.
الأسير الرّضيع
لا يعرف بأيّ جناية هو مسجون في هذا المعتقل حيث الرّطوبة والعفونة والازدحام والجوع،الوجوه حوله كئيبة،ولكنّها تصمّم على الحياة،وأمّه الحنونة يكاد يجفّ حليبها حزناً ومرضاً وهزالاً.
منذ وُلد وجد الضّيق والضّنك أمامه،لم يخرج بسهولة من بطن أمّه لأنّها تزمّ فخذيها وتغلقهما بشدّة بسبب سلاسل تكبّل قدميها،وتشدّ إحداهما إلى الأخرى،حتى أنّها لم تستطع أن تحتضنه عند ولادته كأيّ أمّ؛لأنّها كانت كذلك مصفّدة اليدين،وطال جوعه قبل أن تدس حلمة صدرها في فمه لأنّها كانت تعاني من غيبوبة عميقة بسبب نزيف حادّ أصابها في ولادتها له.
هو يحبّها،ويسمع همسها في أذنيه عندما تعده قائلة:"حبيبي محمد،سنخرج في القريب من هذا المعتقل الصّهيونيّ اللّعين،عندها سترى والدكَ جابر،وأختيك،وجدتّك وأعمامك وأقاربك أجمعين".
هو يصدّقها،ويحلم مثلها بالخروج من هذا المكان الكئيب الذي تسمّيه أمّه بالمعتقل الصّهيونيّ،ويمرّن يده كي يستطيع في القريب أن يرفع إصبعين من أصابعه إشارة نصر كالتي ترفعها والدته في وجه المجنّدات الصّهيونيّات لإغاظتهنّ وتأكيد فشلهن في زعزعة صمودها،ويفخر بلقب أصغر أسير في التّاريخ،وإن كان لا يعرف تماماً معنى هذا اللّقب،لكنّه يعرف أنّه سيعرف معناه جيداً عندما يكبر،وحتى ذاك الوقت سيصدّق أمّه التي تعده بالخروج في يوم قريب من هذا المكان الكئيب المخيف.
إضراب
منذ أيام لم يعد يستطيع أن يحصيها هو مضرب عن الطّعام احتجاجاً على اعتقاله دون سبب أو محاكمة في هذا المعتقل الصّهيونيّ العفن.
جسده هزل،ولم يعد يقوى على الوقوف على قدميّه،أجبروه بضع مرّات على شرب الحليب البارد كثير السّكر عبر أنابيب بلاستيكيّة دسّوها بعنف في أنفه وصولاً إلى جوفه حتى مزّقوا مجراه التّنفسيّ،وأغرقوا معدته بالحليب البارد المغثّ.
لكنّهم الآن قرّروا أن يتركوه يموت على مهل وعذاب كأيّ أسير فلسطينيّ في معتقلاتهم،لا يعنيهم حملات منظّمات حقوق الإنسان إزاء إضرابه عن الطّعام احتجاجاً على قهره.
جلس الحارس الصّهيونيّ أمامه يأكل ما لذ وطاب من طعام افترشه أمامه ليعذّبه بالجوع،وهو يتفتّق من جلده لكثرة ما ابتلع من طعام.
يراقب الحارس الأسير الفلسطينيّ،فيغيظه أن لا يرى عذاب الجوع في عينيه،وهو من يستعرض أمامه لذة الأكل.يسأله بفضول:" ما الذي يدعوك إلى هذا الإضراب المرير عن الطّعام؟! عجباً لك".
يجيبه الأسير الجائع بكلّ هدوء:"أنت معذور في عجبك؛فأنت لا تعرف حرقة حبّ الوطن".
القصيدة
يجيد كتابة الشّعر،ولكنّه لا يستطيع أن يحفظ ولو بيتاً واحداً ممّا تفيض به قريحته،وعليه أن يحتفظ بقصائده جميعها التي يكتبها لحبيبته (خديجة)،فهو مجنون (خديجة) كما يسمّونه في المعتقل الصّهيونيّ.
ليس مسموحاً له بأن يقتني الورق أو الأقلام في المعتقل،ولذلك ينظم شعره،ويوزّعه بالإجبار على الأسرى جميعاً،كلّ منهم عليه أن يحفظ عشرة أبيات من شعره،وكي لا ينسى أحدهم بعضاً ممّا حفّظه من شعره فهو لا يفتأ يستنشدهم ما يحفظون من شعره.
لا يبالي بسخريتهم وهم ينشدون على مسمعه ما يحفظون من شعره،إنّما يعنيه أن يعرف أنّ كلّ ما نظم من شعر في حبيبته (خديجة) محفوظ في الصّدور إلى حين خروجه من المعتقل ليسكب على شفتيها كلّ ما كتب من شعر،وما ادّخر لها من قُبل.
لا أحد يجرؤ على أن يخبره بأن رصاصات المستدمرين قد اغتالت (خديجة) منذ زمن،وهو لا يملك جرأة ليقول لهم أنّه يعرف أنّها قد رحلت عن هذا العالم دون رجعة،ولن تسمع في يوم ما بيت شعر ممّا يدّخره لها قسراً في صدور الأسرى الذي يحفظون شعره رحمة بقلبه العاشق المكلوم ومدامع هواه.
دموع
على حين غرّة،ومثل مطر يغسل قحط سنين يأتي قرار الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في صفقات مبادلة متّفق عليها مع الكيان الصّهيونيّ.
في دقائق يخفق الخبر في قلوب المنتظرين،يطير الجميع لاستقبال الأسرى المُفرج عنهم،ويطير هو في مقدّمتهم لعلّ والده من المُفرج عنهم.
تتحسّس عينيه كلّ وجه من وجوه الأسرى وعيناه تبحثان عن ذويهم في الأجساد المزدحمة في الانتظار،يراقب الأجساد الملتقية تذوب احتضاناً وتقبيلاً.
يدرك أنّ والده ليس من ضمن الأسرى المُفرج عنهم،يدير ظهره قبل أن تفضحه دموعه التي يشرق بها،وتحرق حلقه حشرجة خيبة الأمل،يمسح دموعه بباطن يديه كي لا يراها أيّ أحد،فهو رجل،والرّجال لا يبكون.
سجين
كان جنديّاً صهيونيّاً مستحدثاً على كادراً الخدمة في هذا المعتقل الصّهيونيّ،كانت تعلو وجهه الأبله المفلطح المساحات زرقة الموت وهو يرى تعذيب المعتقلين الفلسطينيين.
لكنّه سرعان ما ذاق شهوة الفتك بالبشر.جسده الضّخم مثل جسد ثور هجين بتر حياة الشّاب الفلسطينيّ بنطحة واحدة منه.
الشّاب الفلسطينيّ القتيل خرج جثّة هامدة من المعتقل رغم أنفه وهو من توعّده بالسّجن طوال عمره تنكيلاً بشبابه ووسامته وشجاعته وإصراره الذي تفلَ بقرف وتقزّز في وجه بلادته.
منذ ذلك اليوم غدا هو سجين المعتقل حيث يراقب أسراب أرواح الشّهداء الفلسطينيين تحلّق نحو العلياء والخلود،وتتركه يتلوّى حبيساً في جسده الثّور البليد.
حليب
لم تتوقّع أبداً أن تجود عليها الأقدار بابنها الرّضيع (رزق الله) بعد أن فقدت الأمل في الإنجاب،وهجرها زوجان،أحدهما ابن عمّها،بسبب عقمها،ثم تزوّجت من جارها( زهدي) الذي حملت منه بابنها(رزق اللّه).
ولكن القدر جاد عليها به في حين تآمرت الظّروف عليها،فحرمتها منه عندما وجدت نفسها أسيرة في معتقل صهيونيّ في الصّحراء بعيداً عن طفلها الرّضيع هدية السّماء لها الذي تركته أمانة غالية في عهدة زوجة أخيها.
أشدّ ما يحزنها أنّ طفلها رضيع يحتاج إلى دفق حليبها الذي ينساب هارباً من حلمتي ثدييها كلّما نطقت باسمه أو حشرجتْ بدموع الاشتياق له،أو شرقت بلوعة فراقه.
هي تصدّق بالمعجزات،تخرج ثدييها من داخل ثوب سجنها الفضفاض القذر،وتفكّر بابنها الرّضيع،فيندلق الحليب من صدرها في فم ابنها على الرّغم من البعاد،فترضعه حتى يشبع وبينهما صحراء وسجن وجنود وكلاب!
أسير
أحد عشرعاماً قضاها في الأسر الصّهيونيّ بتهمة مخرّب كبير؛لأنّه أطلق بضع طلقات على معسكر جنود صهيونيّ،دخل إلى هناك طفلاً مدفوعاً بالحماس والرّغبة الطّاهرة البريئة بالشّهادة وتحرير فلسطين من قيود العبوديّة،وخرج منها عميداً من عمداء الأسرى الذين يحملون فكراً نضاليّاً يُعدّ مدرسة في التّضحية العربيّة لأجل القضيّة الفلسطينيّة.
لم يجد أحداً في انتظاره عند خروجه من المعتقل،خمّن أنّه لم يُسمح لأحد من أهله وأصدقائه بأن يدخلوا الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة كي يستقبلوه،أنتظر بحماس أن يُلقى به على حدود وطنه كي يجد المستقبلين المحتشدين في انتظار عودته الميمونة المنتصرة بالصّبر والإصرار على محاولات استعباده وهزمه.
لكنّه لم يجد أيّ بشر في انتظاره خلا حفنة من أخوته وبعض أصدقائه المقرّبين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة،تعجّب من غياب النّاس عن ملاقاة عميد الأسرى الفلسطينيين.
الطّرقات كانت تعجّ بحشود من النّاس التي تتدافع إلى مطار المدينة كي تستقبل راقصّة عربيّة عرجاء الرّوح والقدم كي تستقبلها استقبال الأبطال؛لأنّها رقصتْ شبه عارية لبعض رؤساء العالم بما فيهم زعماء الصّهاينة في قمّة رياضيّة ما،لقد رقصتْ رقصاً عربيّاً موصولاً يشبه تثنيّات أفعى تختنق بأرنب،سمعهم في الشّارع يقولون إنّ هذه الرّاقصّة الشّمطاء قد شّرفت العرب بفنّها الرّفيع،وثوبها الشّفاف الذي يقذف بلحمهما وجسدها في وجه من يقابلها.
جلس على الرّصيف المنزوي متعباً مهزوماً،وشعر أنّه مازال في الأسر.
عيد ميلاد
إنّه عيد ميلادها السّادس عشر،إنّه ناقوس حزن يدقّ في صقيع روحها الخائفة.لم ينتظرها حفل أو حلوى أو هديّة أو محتفلون بها،وليس الشّباب والجمال والحلم والفرح هم من كانوا في انتظارها،بل كان في انتظارها في بيتها القديم في مدينة النّاصرة الأسيرة نشرة ورقيّة من قانون صهيونيّ جائر يحرّم على أبناء الأسرى والأسيرات الفلسطينيين أن يزوروا آباءهم وأمهاتهم المعتقلين إن بلغوا سنّ السّادسة عشرة.
الآن ستُحرم من رؤية والدها حتى آخر لحظة في عمره،وهو المحكوم بالسّجن مدى الحياة لأنّه فلسطينيّ يحارب عدّوه لتحرير وطنه.
ترفض أن تستسلم لهذا القرار الجائر،تلبس ثوبها الجديد الأوحد الذي تدّخره للمناسبات السّعيدة النّادرة في حياتها،تشعل شمعة،وتغمض عينيها،وتتمنّى أمنية عيد ميلادها،هي أمنيتها الوحيدة،ثم تطفئها،وتشرع تنتظر أن تتحقّق أمنية عيد ميلادها،فيفتح والدها باب بيتهم،وييمّم نحوها ليبدأ الاحتفال بعيد ميلادها.
عُرِيّ
هي سليلة عائلة متديّنة عريقة،ومنذ طفولتها حفظت القرآن وتحجّبت،لم تتكشّّف في يوم لرجل أكان قريباً أم غريباً،فهي تلميذة لجدّتها لأبيها التي تدعو لها بالسّتر ليل نهار،وتترّأس طريق صوفيّة شهيرة،حتى الرّجل الوحيد الذي أمّلت نفسها بأن تتعرّى له زوجة بعد أن خطبها قد اغتالته رصاصة صهيونيّة في إحدى المظاهرات،وبذلك ظلّت جوهرة مكنونة في صدفة غائرة في أعماق بيت أسرتها.
لكنّها الآن تقف عارية تماماً أمام لجنة التّحقيق الصّهيونيّة،منذ اعتقلوها في عمليّة استشهاديّة آلتْ إلى الفشل،وهم يجرّبون فيها أصناف العذاب شتّى،وما نالوا من إصرارها واحتمالها،وأخيراً أرادوا أن يجرّبوا عليها عذاب العريّ لامرأة مسلمة خجولة أمام قطيع من الجنود الصّهاينة الخنازير،اعتقدوا أنّهم سيكسرون شوكة نفسها الأبيّة المتماسكة إن كشفوا سترها.
وقفت أمامهم عارية من الملابس مكتسية بكبريائها،وما أبهت لعيونهم الخنزيريّة التي تأكل جسدها إمعاناً في تعذيبها؛فهي لا تخجل من عريّها أمام خنازير بشريّة ترعى في أرض غير أرضها.
قلب
قرّر مدير المعتقل (الجنرال) الصّهيونيّ أن يقتل الشّاب الأسير الفلسطينيّ ليسرق قلبه السّليم المعافى؛ليهبه لأخيه الصّهيونيّ الذي يلازم سرير المرض منذ سنوات دون أمل في أن يحظى بقلب سليم،يزرعه في صدره بدل قلبه المعطوب ليستأنف به الحياة والأمل.
منذ رأى ذلك الأسير الفلسطينيّ الشّاب القادم من جبل الخليل المزهوّ بالصّحة والنّضارة والنّشاط وهو يحلم بأن ينقضّ على قلبه لينتزعه من صدره،ويزرعه في قلب أخيه (باروخ).
أخيراً حقّق حلمه،وسرق القلب الفلسطينيّ من صدر صاحبه،كما سرق من قبل وأهله فلسطين من أهلها الآمنين المسالمين.
كلّ شيء قد أُعدّت له العدّة،الشّاب الفلسطينيّ قد دُفن بمعرفة الجيش الصّهيونيّ بحجّة أنّه مخرّب،ولا يجوز تسليم جثمانه لأهله خوفاً من أيّ عمليّات فدائيّة انتقاميّة لمقتله،والكادر الطّبيّ في المستشفى الصّهيونيّ في مدينة تلّ الرّبيع التي يسمونها (تل أبيب) كان على أهبة الاستعداد لإجراء عملية زراعة القلب بعد وصول القلب المسروق.
الأمور جميعها سارت وفق خطّة (الجنرال) الصّهيونيّ السّارق،وجسد أخيه تقبّل بكلّ ترحيب القلب المسروق،وبعد أيّام كست حمرة الحياة وجنتي أخيه الذي استيقظ بعد غيبوبة قصيرة استولت عليه بعد العمليّة المعقّدة الطّويلة لاستبدال قلب الفتى الفلسطينيّ بقلبه الصّدئ المعطوب.
ابتسم (الجنرال) السّارق وكلّ من حوله للشّاب الصّهيونيّ الذي عاد إلى الحياة بقلب فلسطينيّ،فتح عينيه على الحياة بغبطة مخنوقة.
سأل (الجنرال) أخاه بقلق: "باروخ،أخي الحبيب،هل أنتَ في خير؟".
أجاب الشّاب الصّهيونيّ بدهشة واستنكار لما سمع من كلام:"أنا لستُ باروخ،أنا جميل الخليليّ.لماذا أنا هنا؟ من أنتم؟ عليّ أن أغادر هذا المكان لأذهب للصّلاة في الحرم الإبراهيميّ".
نُطفة
نطفة واحدة هي من انتصرتْ لها على الحرمان والقطيعة والبعاد والسّجون والأسوار،بفضل خطّة بوليسيّة مبتكرة دبّرها طبيبها المعالج في مستشفى التّلقيح،وأخيراً استطاعتْ أن تهرّب نطفة من زوجها الأسير الفلسطينيّ في المعتقل الصّهيونيّ.
كانت طريقة تهريب النّطفة بدائيّة تماماً،وذلك بوجود شهود من أهلها وأهله كي لا يقدح أحد في شرفها،وهي من حملتْ وزوجها غائب عنها منذ سنين في أسر المعتقل الصّحراويّ البعيد.
معظم الحيوانات المنويّة في النّطفة وصلت إلى يد الطّبيب المعالج ميّتة إلاّ نفر قليل منها قاوم الجفاف،واستلقى حيّاً ينتظر التّجميد،ثم مارس الحياة والتّخصيب في رحمها عند زرعه فيه.
وأخيراً انتصر على الموت حيوان منوي واحد شجاع همام،وصافح الحياة في رحمها،وأصبح جنينها (عمّار) الذي جاء إلى الحياة مهرّباً من المعتقل الصّهيونيّ،ليحمل اسم والده الأسير،ويعده بغدٍ لا يموت،ويهبه إصراراً على الحياة،وينذر نفسه لحمل راية والده حيث العلم الفلسطينيّ يرفرف عالياً.
الآن أمّه (سعاد)هي الأسعد في هذه الحياة،تحمله وتختال به أمام الجنود الصّهاينة السّجانين الذين أوصدوا الأبواب دون زوجها،ولكنّهم ما استطاعوا أن يحرموه من حلم الأبوّة.
تبتسم لزوجها ابتسامة نصر،وتمدّ له ابنهما (عمّار) ليطبع قبلة هوائيّة على جبينه مخترقة الفاصل الذي يبعدهما،وتؤمّله بأن يكون هذا الطّفل الرّضيع رجلاً شهماً مناضلاً قويّاً ينتظره على باب المعتقل عندما تنقضي مدّة محكوميته،ويخرج منه بعد نحو ربع قرن،فيربتْ بحنان على شيخوخته،ويعود به إلى البيت حيث الجميع في انتظاره.
[1] - بطولات فلسطينية في المعتقل الصهيوني
أمّها أسمتها(آمال) لتحمّلها أحلامها وأمانيها وخوفها من المستقبل الذي لا يهادن امرأة زوجها عجوز،ولا أهل لها أو معين.كانت (آمال) الطّفلة المدلّلة التي تستعصي على السّنين والكبر؛لأنّ والديها يحبسانها في حنانهما ضنّاً بها على ضنك الحياة وكدّ الحياة.
اعتقلها الجنود الصّهاينة دون جناية ارتكبتها وهي في طريقها إلى مدرستها،زجّوا بها في معتقل الأسيرات الفلسطينيّات في صحراء قافلة جافّة من أيّ رحمة بعد أن صادروا كتبها ودفاترها.هناك تعلّمت أن تكبر،وأن تخلع الدّلال لتليق بأمهاتها الجديدات.
تنادت الكثير من المؤسّسات والمنظّمات الإنسانيّة العالميّة لإطلاقها من الأسر بوصفها أصغر معتقلة سياسيّة في العالم.بعد أشهر من المعاناة خرجتْ (آمال) من المعتقل حيث خلعتْ طفولتها،وارتدتْ قلباً شجاعاً لا يقبل بأقلّ من فجر أبلج قريب يحقّق آمال الوطن.
الأسير الرّضيع
لا يعرف بأيّ جناية هو مسجون في هذا المعتقل حيث الرّطوبة والعفونة والازدحام والجوع،الوجوه حوله كئيبة،ولكنّها تصمّم على الحياة،وأمّه الحنونة يكاد يجفّ حليبها حزناً ومرضاً وهزالاً.
منذ وُلد وجد الضّيق والضّنك أمامه،لم يخرج بسهولة من بطن أمّه لأنّها تزمّ فخذيها وتغلقهما بشدّة بسبب سلاسل تكبّل قدميها،وتشدّ إحداهما إلى الأخرى،حتى أنّها لم تستطع أن تحتضنه عند ولادته كأيّ أمّ؛لأنّها كانت كذلك مصفّدة اليدين،وطال جوعه قبل أن تدس حلمة صدرها في فمه لأنّها كانت تعاني من غيبوبة عميقة بسبب نزيف حادّ أصابها في ولادتها له.
هو يحبّها،ويسمع همسها في أذنيه عندما تعده قائلة:"حبيبي محمد،سنخرج في القريب من هذا المعتقل الصّهيونيّ اللّعين،عندها سترى والدكَ جابر،وأختيك،وجدتّك وأعمامك وأقاربك أجمعين".
هو يصدّقها،ويحلم مثلها بالخروج من هذا المكان الكئيب الذي تسمّيه أمّه بالمعتقل الصّهيونيّ،ويمرّن يده كي يستطيع في القريب أن يرفع إصبعين من أصابعه إشارة نصر كالتي ترفعها والدته في وجه المجنّدات الصّهيونيّات لإغاظتهنّ وتأكيد فشلهن في زعزعة صمودها،ويفخر بلقب أصغر أسير في التّاريخ،وإن كان لا يعرف تماماً معنى هذا اللّقب،لكنّه يعرف أنّه سيعرف معناه جيداً عندما يكبر،وحتى ذاك الوقت سيصدّق أمّه التي تعده بالخروج في يوم قريب من هذا المكان الكئيب المخيف.
إضراب
منذ أيام لم يعد يستطيع أن يحصيها هو مضرب عن الطّعام احتجاجاً على اعتقاله دون سبب أو محاكمة في هذا المعتقل الصّهيونيّ العفن.
جسده هزل،ولم يعد يقوى على الوقوف على قدميّه،أجبروه بضع مرّات على شرب الحليب البارد كثير السّكر عبر أنابيب بلاستيكيّة دسّوها بعنف في أنفه وصولاً إلى جوفه حتى مزّقوا مجراه التّنفسيّ،وأغرقوا معدته بالحليب البارد المغثّ.
لكنّهم الآن قرّروا أن يتركوه يموت على مهل وعذاب كأيّ أسير فلسطينيّ في معتقلاتهم،لا يعنيهم حملات منظّمات حقوق الإنسان إزاء إضرابه عن الطّعام احتجاجاً على قهره.
جلس الحارس الصّهيونيّ أمامه يأكل ما لذ وطاب من طعام افترشه أمامه ليعذّبه بالجوع،وهو يتفتّق من جلده لكثرة ما ابتلع من طعام.
يراقب الحارس الأسير الفلسطينيّ،فيغيظه أن لا يرى عذاب الجوع في عينيه،وهو من يستعرض أمامه لذة الأكل.يسأله بفضول:" ما الذي يدعوك إلى هذا الإضراب المرير عن الطّعام؟! عجباً لك".
يجيبه الأسير الجائع بكلّ هدوء:"أنت معذور في عجبك؛فأنت لا تعرف حرقة حبّ الوطن".
القصيدة
يجيد كتابة الشّعر،ولكنّه لا يستطيع أن يحفظ ولو بيتاً واحداً ممّا تفيض به قريحته،وعليه أن يحتفظ بقصائده جميعها التي يكتبها لحبيبته (خديجة)،فهو مجنون (خديجة) كما يسمّونه في المعتقل الصّهيونيّ.
ليس مسموحاً له بأن يقتني الورق أو الأقلام في المعتقل،ولذلك ينظم شعره،ويوزّعه بالإجبار على الأسرى جميعاً،كلّ منهم عليه أن يحفظ عشرة أبيات من شعره،وكي لا ينسى أحدهم بعضاً ممّا حفّظه من شعره فهو لا يفتأ يستنشدهم ما يحفظون من شعره.
لا يبالي بسخريتهم وهم ينشدون على مسمعه ما يحفظون من شعره،إنّما يعنيه أن يعرف أنّ كلّ ما نظم من شعر في حبيبته (خديجة) محفوظ في الصّدور إلى حين خروجه من المعتقل ليسكب على شفتيها كلّ ما كتب من شعر،وما ادّخر لها من قُبل.
لا أحد يجرؤ على أن يخبره بأن رصاصات المستدمرين قد اغتالت (خديجة) منذ زمن،وهو لا يملك جرأة ليقول لهم أنّه يعرف أنّها قد رحلت عن هذا العالم دون رجعة،ولن تسمع في يوم ما بيت شعر ممّا يدّخره لها قسراً في صدور الأسرى الذي يحفظون شعره رحمة بقلبه العاشق المكلوم ومدامع هواه.
دموع
على حين غرّة،ومثل مطر يغسل قحط سنين يأتي قرار الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في صفقات مبادلة متّفق عليها مع الكيان الصّهيونيّ.
في دقائق يخفق الخبر في قلوب المنتظرين،يطير الجميع لاستقبال الأسرى المُفرج عنهم،ويطير هو في مقدّمتهم لعلّ والده من المُفرج عنهم.
تتحسّس عينيه كلّ وجه من وجوه الأسرى وعيناه تبحثان عن ذويهم في الأجساد المزدحمة في الانتظار،يراقب الأجساد الملتقية تذوب احتضاناً وتقبيلاً.
يدرك أنّ والده ليس من ضمن الأسرى المُفرج عنهم،يدير ظهره قبل أن تفضحه دموعه التي يشرق بها،وتحرق حلقه حشرجة خيبة الأمل،يمسح دموعه بباطن يديه كي لا يراها أيّ أحد،فهو رجل،والرّجال لا يبكون.
سجين
كان جنديّاً صهيونيّاً مستحدثاً على كادراً الخدمة في هذا المعتقل الصّهيونيّ،كانت تعلو وجهه الأبله المفلطح المساحات زرقة الموت وهو يرى تعذيب المعتقلين الفلسطينيين.
لكنّه سرعان ما ذاق شهوة الفتك بالبشر.جسده الضّخم مثل جسد ثور هجين بتر حياة الشّاب الفلسطينيّ بنطحة واحدة منه.
الشّاب الفلسطينيّ القتيل خرج جثّة هامدة من المعتقل رغم أنفه وهو من توعّده بالسّجن طوال عمره تنكيلاً بشبابه ووسامته وشجاعته وإصراره الذي تفلَ بقرف وتقزّز في وجه بلادته.
منذ ذلك اليوم غدا هو سجين المعتقل حيث يراقب أسراب أرواح الشّهداء الفلسطينيين تحلّق نحو العلياء والخلود،وتتركه يتلوّى حبيساً في جسده الثّور البليد.
حليب
لم تتوقّع أبداً أن تجود عليها الأقدار بابنها الرّضيع (رزق الله) بعد أن فقدت الأمل في الإنجاب،وهجرها زوجان،أحدهما ابن عمّها،بسبب عقمها،ثم تزوّجت من جارها( زهدي) الذي حملت منه بابنها(رزق اللّه).
ولكن القدر جاد عليها به في حين تآمرت الظّروف عليها،فحرمتها منه عندما وجدت نفسها أسيرة في معتقل صهيونيّ في الصّحراء بعيداً عن طفلها الرّضيع هدية السّماء لها الذي تركته أمانة غالية في عهدة زوجة أخيها.
أشدّ ما يحزنها أنّ طفلها رضيع يحتاج إلى دفق حليبها الذي ينساب هارباً من حلمتي ثدييها كلّما نطقت باسمه أو حشرجتْ بدموع الاشتياق له،أو شرقت بلوعة فراقه.
هي تصدّق بالمعجزات،تخرج ثدييها من داخل ثوب سجنها الفضفاض القذر،وتفكّر بابنها الرّضيع،فيندلق الحليب من صدرها في فم ابنها على الرّغم من البعاد،فترضعه حتى يشبع وبينهما صحراء وسجن وجنود وكلاب!
أسير
أحد عشرعاماً قضاها في الأسر الصّهيونيّ بتهمة مخرّب كبير؛لأنّه أطلق بضع طلقات على معسكر جنود صهيونيّ،دخل إلى هناك طفلاً مدفوعاً بالحماس والرّغبة الطّاهرة البريئة بالشّهادة وتحرير فلسطين من قيود العبوديّة،وخرج منها عميداً من عمداء الأسرى الذين يحملون فكراً نضاليّاً يُعدّ مدرسة في التّضحية العربيّة لأجل القضيّة الفلسطينيّة.
لم يجد أحداً في انتظاره عند خروجه من المعتقل،خمّن أنّه لم يُسمح لأحد من أهله وأصدقائه بأن يدخلوا الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة كي يستقبلوه،أنتظر بحماس أن يُلقى به على حدود وطنه كي يجد المستقبلين المحتشدين في انتظار عودته الميمونة المنتصرة بالصّبر والإصرار على محاولات استعباده وهزمه.
لكنّه لم يجد أيّ بشر في انتظاره خلا حفنة من أخوته وبعض أصدقائه المقرّبين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة،تعجّب من غياب النّاس عن ملاقاة عميد الأسرى الفلسطينيين.
الطّرقات كانت تعجّ بحشود من النّاس التي تتدافع إلى مطار المدينة كي تستقبل راقصّة عربيّة عرجاء الرّوح والقدم كي تستقبلها استقبال الأبطال؛لأنّها رقصتْ شبه عارية لبعض رؤساء العالم بما فيهم زعماء الصّهاينة في قمّة رياضيّة ما،لقد رقصتْ رقصاً عربيّاً موصولاً يشبه تثنيّات أفعى تختنق بأرنب،سمعهم في الشّارع يقولون إنّ هذه الرّاقصّة الشّمطاء قد شّرفت العرب بفنّها الرّفيع،وثوبها الشّفاف الذي يقذف بلحمهما وجسدها في وجه من يقابلها.
جلس على الرّصيف المنزوي متعباً مهزوماً،وشعر أنّه مازال في الأسر.
عيد ميلاد
إنّه عيد ميلادها السّادس عشر،إنّه ناقوس حزن يدقّ في صقيع روحها الخائفة.لم ينتظرها حفل أو حلوى أو هديّة أو محتفلون بها،وليس الشّباب والجمال والحلم والفرح هم من كانوا في انتظارها،بل كان في انتظارها في بيتها القديم في مدينة النّاصرة الأسيرة نشرة ورقيّة من قانون صهيونيّ جائر يحرّم على أبناء الأسرى والأسيرات الفلسطينيين أن يزوروا آباءهم وأمهاتهم المعتقلين إن بلغوا سنّ السّادسة عشرة.
الآن ستُحرم من رؤية والدها حتى آخر لحظة في عمره،وهو المحكوم بالسّجن مدى الحياة لأنّه فلسطينيّ يحارب عدّوه لتحرير وطنه.
ترفض أن تستسلم لهذا القرار الجائر،تلبس ثوبها الجديد الأوحد الذي تدّخره للمناسبات السّعيدة النّادرة في حياتها،تشعل شمعة،وتغمض عينيها،وتتمنّى أمنية عيد ميلادها،هي أمنيتها الوحيدة،ثم تطفئها،وتشرع تنتظر أن تتحقّق أمنية عيد ميلادها،فيفتح والدها باب بيتهم،وييمّم نحوها ليبدأ الاحتفال بعيد ميلادها.
عُرِيّ
هي سليلة عائلة متديّنة عريقة،ومنذ طفولتها حفظت القرآن وتحجّبت،لم تتكشّّف في يوم لرجل أكان قريباً أم غريباً،فهي تلميذة لجدّتها لأبيها التي تدعو لها بالسّتر ليل نهار،وتترّأس طريق صوفيّة شهيرة،حتى الرّجل الوحيد الذي أمّلت نفسها بأن تتعرّى له زوجة بعد أن خطبها قد اغتالته رصاصة صهيونيّة في إحدى المظاهرات،وبذلك ظلّت جوهرة مكنونة في صدفة غائرة في أعماق بيت أسرتها.
لكنّها الآن تقف عارية تماماً أمام لجنة التّحقيق الصّهيونيّة،منذ اعتقلوها في عمليّة استشهاديّة آلتْ إلى الفشل،وهم يجرّبون فيها أصناف العذاب شتّى،وما نالوا من إصرارها واحتمالها،وأخيراً أرادوا أن يجرّبوا عليها عذاب العريّ لامرأة مسلمة خجولة أمام قطيع من الجنود الصّهاينة الخنازير،اعتقدوا أنّهم سيكسرون شوكة نفسها الأبيّة المتماسكة إن كشفوا سترها.
وقفت أمامهم عارية من الملابس مكتسية بكبريائها،وما أبهت لعيونهم الخنزيريّة التي تأكل جسدها إمعاناً في تعذيبها؛فهي لا تخجل من عريّها أمام خنازير بشريّة ترعى في أرض غير أرضها.
قلب
قرّر مدير المعتقل (الجنرال) الصّهيونيّ أن يقتل الشّاب الأسير الفلسطينيّ ليسرق قلبه السّليم المعافى؛ليهبه لأخيه الصّهيونيّ الذي يلازم سرير المرض منذ سنوات دون أمل في أن يحظى بقلب سليم،يزرعه في صدره بدل قلبه المعطوب ليستأنف به الحياة والأمل.
منذ رأى ذلك الأسير الفلسطينيّ الشّاب القادم من جبل الخليل المزهوّ بالصّحة والنّضارة والنّشاط وهو يحلم بأن ينقضّ على قلبه لينتزعه من صدره،ويزرعه في قلب أخيه (باروخ).
أخيراً حقّق حلمه،وسرق القلب الفلسطينيّ من صدر صاحبه،كما سرق من قبل وأهله فلسطين من أهلها الآمنين المسالمين.
كلّ شيء قد أُعدّت له العدّة،الشّاب الفلسطينيّ قد دُفن بمعرفة الجيش الصّهيونيّ بحجّة أنّه مخرّب،ولا يجوز تسليم جثمانه لأهله خوفاً من أيّ عمليّات فدائيّة انتقاميّة لمقتله،والكادر الطّبيّ في المستشفى الصّهيونيّ في مدينة تلّ الرّبيع التي يسمونها (تل أبيب) كان على أهبة الاستعداد لإجراء عملية زراعة القلب بعد وصول القلب المسروق.
الأمور جميعها سارت وفق خطّة (الجنرال) الصّهيونيّ السّارق،وجسد أخيه تقبّل بكلّ ترحيب القلب المسروق،وبعد أيّام كست حمرة الحياة وجنتي أخيه الذي استيقظ بعد غيبوبة قصيرة استولت عليه بعد العمليّة المعقّدة الطّويلة لاستبدال قلب الفتى الفلسطينيّ بقلبه الصّدئ المعطوب.
ابتسم (الجنرال) السّارق وكلّ من حوله للشّاب الصّهيونيّ الذي عاد إلى الحياة بقلب فلسطينيّ،فتح عينيه على الحياة بغبطة مخنوقة.
سأل (الجنرال) أخاه بقلق: "باروخ،أخي الحبيب،هل أنتَ في خير؟".
أجاب الشّاب الصّهيونيّ بدهشة واستنكار لما سمع من كلام:"أنا لستُ باروخ،أنا جميل الخليليّ.لماذا أنا هنا؟ من أنتم؟ عليّ أن أغادر هذا المكان لأذهب للصّلاة في الحرم الإبراهيميّ".
نُطفة
نطفة واحدة هي من انتصرتْ لها على الحرمان والقطيعة والبعاد والسّجون والأسوار،بفضل خطّة بوليسيّة مبتكرة دبّرها طبيبها المعالج في مستشفى التّلقيح،وأخيراً استطاعتْ أن تهرّب نطفة من زوجها الأسير الفلسطينيّ في المعتقل الصّهيونيّ.
كانت طريقة تهريب النّطفة بدائيّة تماماً،وذلك بوجود شهود من أهلها وأهله كي لا يقدح أحد في شرفها،وهي من حملتْ وزوجها غائب عنها منذ سنين في أسر المعتقل الصّحراويّ البعيد.
معظم الحيوانات المنويّة في النّطفة وصلت إلى يد الطّبيب المعالج ميّتة إلاّ نفر قليل منها قاوم الجفاف،واستلقى حيّاً ينتظر التّجميد،ثم مارس الحياة والتّخصيب في رحمها عند زرعه فيه.
وأخيراً انتصر على الموت حيوان منوي واحد شجاع همام،وصافح الحياة في رحمها،وأصبح جنينها (عمّار) الذي جاء إلى الحياة مهرّباً من المعتقل الصّهيونيّ،ليحمل اسم والده الأسير،ويعده بغدٍ لا يموت،ويهبه إصراراً على الحياة،وينذر نفسه لحمل راية والده حيث العلم الفلسطينيّ يرفرف عالياً.
الآن أمّه (سعاد)هي الأسعد في هذه الحياة،تحمله وتختال به أمام الجنود الصّهاينة السّجانين الذين أوصدوا الأبواب دون زوجها،ولكنّهم ما استطاعوا أن يحرموه من حلم الأبوّة.
تبتسم لزوجها ابتسامة نصر،وتمدّ له ابنهما (عمّار) ليطبع قبلة هوائيّة على جبينه مخترقة الفاصل الذي يبعدهما،وتؤمّله بأن يكون هذا الطّفل الرّضيع رجلاً شهماً مناضلاً قويّاً ينتظره على باب المعتقل عندما تنقضي مدّة محكوميته،ويخرج منه بعد نحو ربع قرن،فيربتْ بحنان على شيخوخته،ويعود به إلى البيت حيث الجميع في انتظاره.
[1] - بطولات فلسطينية في المعتقل الصهيوني