إن كان اسمك هاشماً، وكنتَ تملك بوصلة نحاسيّة قديمة مربوطة بجيبك بخيط صوف فلا تفارقه، وكنتَ تجزمُ بأنّك ستموت في أشدّ أيام مربعنيّة(1) الشّتاء برودة، وكنتَ تدسّ يديك في غالب الأحيان في جيبي معطفك أوفي جيبي بنطالك كي لا يرى أحدٌ أصابع يديك العاريتين من الأظافر، فأنتَ بلا شكّ هاشم النتيفيّ(2). الكثيرون يعرفونه ويجهلونه في نفس الوقت، كان اسماً بلا وجه لسنوات طويلة، فطوال سنين سجنه الطّويلة في غياهب المعتقل الصّهيوني كان يذكره أفراد عائلته دون انقطاع باسم البطل، وكان يقرن اسمه دائماً بجملة” فكّ الله أسره” كان يتجسّد في مخيلتي حينها على شكل فارس أسطوريّ قامته ممتدة حتى السّماء، ويداه مغروستان في الأرض على شكل زيتونة ألفيّة، وعيونه مسكونة بأسراب الحمام البريّ البغداديّ، كان nفي نفسي-أكبر من أنّ أتمنّى أن ألقاه، وبقيت أرفض أن أصدّق أنّ الحاجة “وطفة” المتكوّمة في ثوب فلسطينيّ أزرق قديم فيه آثار دارسة لقصب، والمتلفّعة بشالٍ كان أبيض في يومٍ قد نسي متى كان هي أمّه التي ولدته، وحملته تسعاً في أحشائها قبل أن يسرقه العدّو الصّهيونيّ من حضنها صبياً صغيراً، ويزّج به في غياهب المعتقلات بتهمة الشّروع في قتل مستوطن استولى على زيتوناته، وشرع يخلع الواحدة تلو الأخرى بذنب أنّ زارعها فلسطينيّ!
كنتُ أضنّ عليه بأيّ أمٍّ، وأرى أنّ أمّاً أسطوريّة هي من تليق به، فهذا البطل الغائب الذي سمعتُ عن شجاعته الكثير من القصص لا تليق به إلاّ أمّاً كالزّباء أو أمِّ سيف بن ذي يزن، أمّا الحاجّة “وطفة” المختزلة في نحو خمسين كيلو غرام وفي مئات خطوط الكبر في وجهها أنّى لها أن تلد كائناً أسطوريّاً مثل هاشم؟!
يوم قيل لنا إنّ هاشماً قد خرج أخيراً من المعتقل شعرت بحزن أنانيّ عميق، فبعد أن يخرج من المعتقل من سيكون بطليّ العائلي المأسور الذي أفاخر به الصّديقات والمعارف، وعندما قيل لنا إنّه قد وصل إلى الأردن، وسوف تقيم له العائلة استقبالاً عائليّاًً حاشداً في ديوانها الاجتماعي كدتُ أتقيّأ من شدّة الانفعال ثم أصابني صداع نصفي لساعاتٍ طويلة، ثم تورّطت في لعبة الانتظار مجهولة الأسباب.
وكان الحفل الأسريّ الحاشد بعد أيام قليلة تواترت عليها أخبار شتّى عن تفاصيل عودة هاشم، فعرفنا أنّه عاد وحيداً عبر معبر الجسر إلى الأردن، وانتحبنا طويلاً عندما عرفنا أنّ الحاجة وطفة الضّريرة عرفته من رائحته قبل أن يقول أيّ كلمة، وخجلنا من بخلنا عليه عندما عرفنا أنّه اشترى بدنانيره القليلة التي يملكها من حطام الدّنيا مترين من قماش الحبر لأمه التي لطالما سمعها في طفولته تسبّ أخوته إن شاكسوها بقولها: يا أولاد الكلب، هل اشتريتم لي ثوب الحبر كي تذلونني هكذا؟! فخمّن أنّ غاية ما تحلم أمّه به هو أن تملك ثوب حبر مطرّزاً بالحرير الأحمر المونّس(3)، ولكنّ نقوده قصّرت دون أن يشتري لها “طبب”(4) الحرير المطلوبة.
كنتُ أعتقد أنّني سأرى فارساً ورديّاً يجرّ بحبله نمراً مسلوخاً، خمّنت أنّ أرض ديوان العائلة ستميد بخطواته الضّاربة في الأرض التي ألفت أن تسخر من ثقل أغلالها الوقحة التي تنحاز إلى المعتدي ضدّ صاحب الأرض والحق، أغمضت عيني للحظة كي أفتحهما استعداداً لدخوله بصحبة رجالات العائلة، ثم فتحتهما، ولم أرَ فارسنا الأسديّ العائد، وإنّما رأيت رجلاً مهدوماً في معطفي شتوي قديمّ بلحية بيضاء وشعرٍ أجعد خاروفي، يسير بثقةٍ مقصودة تكابر عرجٍ بادٍ في قدمه اليسرى، ويحرص على أن يدسّ يديه في جيبي معطفه، كدّتُ أخون لحظة استقباله، وأهرب من المكان، وطفقت أنتظر الفرصة المناسبة للهرب خارجاً، ولكنّ صوته هو من أخجلني من خيانتي المزمعة، فوحده صوته من جاء على قدر الأمنية، كان صوتاً فيه أرث كامل من الحكايا والنّضال والشّهداء والأوجاع، صوته غابة من الرّوائح والكلمات والوجلات والتنهّدات والصّرخات والإغفاءات واللّمسات، من يستطيع أن يهرب من صوت ابتلع معتقلاً بكلّ مافيه من جنود غواشم وكلاب عادية وأغلالٍ وسياطٍ وآلات تعذيب، صوته مقبرة للشّهداء، وآيةٌ للبداية والنّهاية.
تكلّم طويلاً عن تجربته في المعتقل، لم يستخدم ولامرة واحدة كلمة أنا، دائماً كان يقول نحن، كلماته نقلتنا إلى المعتقل، هناك عرفنا أبطالنا اسماً اسماً، ووجهاً وجهاً، وقصة قصة، كنّا نسأله عنه، فيجيبنا عنهم، كنّا نكلّمه عن هنا، فيحدّثنا عن هناك، كنّا جميعاً غائبون، وهو وحده الحاضر. يومها صمّمتُ على أن أكون في أقرب مسافة من هذا الرّجل ذي الصّوت السّماويّ، ودفنت صورته المتخيّلة في أبعد نقطة خارج ذاكرتي، فما حاجتي إلى الصّور الباذخة التمنّي، وأمامي الحقيقة وافرة الصّدق؟!
لم أكن الوحيدة التي أرادت أن تكون في أقرب مسافاتها من هاشم، فهناك الكثير من أفراد العائلة الذين أرادوا أن يقتربوا من هذا الرّجل المثقل بالصّمت على الرّغم من موهبته الفطريّة في البوح الآسر المؤثّر، ولكنّني كنتُ الأكثر حظّاً في نصيبي من الاستماع إليه، وفي مرافقته في كثير من الدّعوات العائليّة والمحافل الشّعبيّة التي استضافته بفضولٍ مجلوب مفتعل لتزيد من رصيدها الشّعبي وتعرّض قائمة جمهورها غير العريض في غالب الأحيان، ثم نسيته تماماً بعد أن حقّقت هدفها الإعلاميّ منه.
وأخيراً خلى لي وجه هاشم ووقته واهتمامه، ولكنّه عندها كان وجهاً كسيفاً فيه خرائط حزنٍ بائدة لا تضاريس جبال شمّاء كما هي نفسه الأبيّة العصّية على الكسر أو الصّهر أو الاستلاب، قدّر سريعاً بحسّه المرهف أنّ الجمع قد انفضّ من حوله، وخلّوا بينه وبين أحزانه ليجرع منها ما شاء، فقد نفِدَ نصيبه من الاهتمام المجتلب المصنوع، أحدٌ لم يسأله عن حاضره أو مستقبله، قليل من عرفوا عن وحدته وخواء جيبه من أيّ قرش، وشخصان أو ثلاثة هم من سألوه عن سرّ بوصلته النّحاسيّة أو أظافره المنزوعة من أصابعه.
أمّا أنا فتحوّلت أقداري من امرأة حالمة بفارسٍ أسطوريّ تفكّر في خبثٍ بأن تحصل منه على مادة شيّقة لتقرير صحفي يصلح لأن ينشر في عامود بارز في صحيفة يومية مشهورة إلى صديقةٍ تحرص على أن تسمع بطلاً قرّر الجميع في خضمّ صخب حيواتهم على أن يسرقوا فمه منه، ليعتقلونه في صمت خبيث. كلُّ حكايا هاشم كانت بوصلة لا تشير إلاّ إلى الوطن فلسطين وإلى العودة، كانت كلّ طُرقه تقود إلى دربٍ واحد، وهو درب العودة إلى بيت نتيف، كان حريصاً في كلّ مكان يذهب إليه على أن يمدّ أصابعه العارية من الأظافر إلى جيبه ليخرج بوصلته النّحاسيّة القديمة، ويفتحها ليرقب إبرة المؤشّر تشير إلى اتجاه فلسطين، وكأنّه في مسير مستعجل نحو العودة، كان يقول لي دائماً إنّه عائد في القريب إلى قريته، وهناك سيعيش في بيت العائلة في الحارة التحتى(5)، وسيتزوّج من بنات عائلة أبو حلاوة(6)، لأنّهنّ الأشدّ جمالاً وخصوبة في نساء القرية، وسيعيش وأولاده العشر الذين يريد أن ينجبهم من ريع الأرض، فهو فلاّح ابن فلاّح، ولا يتقن إلاّ أن يكون إلاّ كذلك. وعندها يشتاط انفعالاً، فتغلب الحُمرة على خدّيه، وكأنّ الحياة ردّت إليه فجأة بعد رحيل وهو يرفل في أمنياته، كان يحرّر يديه من سجنهما الجيب، ويشرع يستنطقهما في حركاته وهو يتكلّم بإسهاب أخضر مورق بالسّعادة عن أدق التّفاصيل عن بيت نتيف، فيطوّف بي على كلّ عائلات حاراتها الثلاثة، ويعدّد أسماء ساداتها ويتتبّع أنسابها، ويؤكّد في كلّ مرّة أنّ كثيراً من أفخاذ عائلاتها كادت تنقرض في تصّديها الشجاع لعصابات اليهود الواغلة في أراضيهم في عام 1984، ثم يطوّف بي على قاعة السّحلة والمالحة وبير الصفصاف وخربة أم الذّياب وخربة أم الرّوس وجسر الأربعين ومراح أبو جهنّم وسهل حمّادة(7).
وعندما يحين وقت المساء يصمّم على أن يعود إلى بيته راجلاً بحجّة رغبته في بعض الرياضة، وأنا أعلم علم اليقين أنّه لايملك ثمن أجرة حافلة تنقله إلى بيته، فأصمت رحمة بحاجته الأبيّة على الشّكوى.
لم تطل صحبتي مع هاشم، فقد ألّبت خيبات الأمل الأمراض عليه، وكان سهلاً عليها أن تتحالف ضدّ نفسه المفطورة على الإباء حتى أمام الألم، كنتُ كلّما عرضتُ عليه أن أصحبه إلى الطّبيب، يؤجّل ذلك قائلاً: سأذهب فيما إلى حكيم الوكالة(8) ليكشف عليّ، لا تخافي، لن أموت أبداً في الصّيف، أنا لن أموت إلاّ في مربعنية الشّتاء، وأدفن في ليلة ماطرة كلّها زخّ من الرّب.
فأضحك عندها، ويضحك، ونتكلّم في أيّ موضوعٍ إلاّ في أظافر يديه المنزوعة بالكامل تعذيباً في المعتقل الصّهيوني التي أؤجّل السّؤال عنها إلى وقت آخر، دون أن أعرف أنّ لا مزيد من الوقت الآخر أمامي، بل أمامه، فقد مات هاشم بهدوء وحيداً في بيته الغرفة في المخيّم وأمّه تحقّق حلمها بأن تزور البيت الحرام قبل أن ترحل إلى العالم الآخر، مات هاشم وفي كفّه بوصلته، وعلى شفتيه ابتسامة صافية كروحه المهر التي لا تبالي بأن تفارق جسده في ليلة صيفيّة أفل فيها المطر، مادامت تحلّق طليقة نحو وطنه فلسطين حيث سيخلد إلى الأبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)أيام المربعنيّة هي عند العامة الأيام الأربعون الأشدّ برودة في فصل الشّتاء.
(2) نسبة إلى قرية بيت نتيف: تقع إلى الشّمال الغربي من مدينة الخليل، وتبعد عنها 21 كم، وترتفع عن سطح البحر 425م، وتقوم على قمه جبل في المنطقة الغربية من جبال الخليل . تبلغ مساحة أراضيها 44587 دونما. وقدر عدد سكانها عام 1922 حوالي (1112) نسمة، وفي عام 1945 (2150) نسمة، وفي عام 1948 (2499) نسمة. قامت المنظمات الصّهيونيّة المسلّحة بهدم القرية، وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 1948 (2499) نسمه، وكان ذلك في21/10/ 1948/، ويبلغ مجموع اللاجئين من هذه القرية في عام 1998 حوالي ( 18995)نسمة. وأقاموا عليها مستعمرة (نتيف هلامدة) 1949، ومستعمرة (افيعيزر) 1958 ومستعمرة (روجيلت) 1958، ومستعمرة (نفي مخائيل) 1958. وتعدّ القرية ذات موقع أثري يحتوي على خربة أم الروس وخربة أم الحاج والنبي بولس واليرموك والعبد وجداريا والشيخ غازي والتبانة وغرابة وملكتها.
(3) الحرير المونّس: أيّ يتكوّن من درجتين من اللّون ذاته.
(4) طبب الحرير: كرات الحرير.
(5) التحتى أيّ الجنوبية، إذ كانت تتكون قرية بيت نتيف قبل هدمها من ثلاثة حارات رئيسية.
(6) “أبو حلاوة” إحدى عائلات قرية بيت نتيف.
(7) أسماء أماكن جغرافية في قرية بيت نتيف.
(8) طبيب عيادة وكالة الغوث الصّحيّة.
كنتُ أضنّ عليه بأيّ أمٍّ، وأرى أنّ أمّاً أسطوريّة هي من تليق به، فهذا البطل الغائب الذي سمعتُ عن شجاعته الكثير من القصص لا تليق به إلاّ أمّاً كالزّباء أو أمِّ سيف بن ذي يزن، أمّا الحاجّة “وطفة” المختزلة في نحو خمسين كيلو غرام وفي مئات خطوط الكبر في وجهها أنّى لها أن تلد كائناً أسطوريّاً مثل هاشم؟!
يوم قيل لنا إنّ هاشماً قد خرج أخيراً من المعتقل شعرت بحزن أنانيّ عميق، فبعد أن يخرج من المعتقل من سيكون بطليّ العائلي المأسور الذي أفاخر به الصّديقات والمعارف، وعندما قيل لنا إنّه قد وصل إلى الأردن، وسوف تقيم له العائلة استقبالاً عائليّاًً حاشداً في ديوانها الاجتماعي كدتُ أتقيّأ من شدّة الانفعال ثم أصابني صداع نصفي لساعاتٍ طويلة، ثم تورّطت في لعبة الانتظار مجهولة الأسباب.
وكان الحفل الأسريّ الحاشد بعد أيام قليلة تواترت عليها أخبار شتّى عن تفاصيل عودة هاشم، فعرفنا أنّه عاد وحيداً عبر معبر الجسر إلى الأردن، وانتحبنا طويلاً عندما عرفنا أنّ الحاجة وطفة الضّريرة عرفته من رائحته قبل أن يقول أيّ كلمة، وخجلنا من بخلنا عليه عندما عرفنا أنّه اشترى بدنانيره القليلة التي يملكها من حطام الدّنيا مترين من قماش الحبر لأمه التي لطالما سمعها في طفولته تسبّ أخوته إن شاكسوها بقولها: يا أولاد الكلب، هل اشتريتم لي ثوب الحبر كي تذلونني هكذا؟! فخمّن أنّ غاية ما تحلم أمّه به هو أن تملك ثوب حبر مطرّزاً بالحرير الأحمر المونّس(3)، ولكنّ نقوده قصّرت دون أن يشتري لها “طبب”(4) الحرير المطلوبة.
كنتُ أعتقد أنّني سأرى فارساً ورديّاً يجرّ بحبله نمراً مسلوخاً، خمّنت أنّ أرض ديوان العائلة ستميد بخطواته الضّاربة في الأرض التي ألفت أن تسخر من ثقل أغلالها الوقحة التي تنحاز إلى المعتدي ضدّ صاحب الأرض والحق، أغمضت عيني للحظة كي أفتحهما استعداداً لدخوله بصحبة رجالات العائلة، ثم فتحتهما، ولم أرَ فارسنا الأسديّ العائد، وإنّما رأيت رجلاً مهدوماً في معطفي شتوي قديمّ بلحية بيضاء وشعرٍ أجعد خاروفي، يسير بثقةٍ مقصودة تكابر عرجٍ بادٍ في قدمه اليسرى، ويحرص على أن يدسّ يديه في جيبي معطفه، كدّتُ أخون لحظة استقباله، وأهرب من المكان، وطفقت أنتظر الفرصة المناسبة للهرب خارجاً، ولكنّ صوته هو من أخجلني من خيانتي المزمعة، فوحده صوته من جاء على قدر الأمنية، كان صوتاً فيه أرث كامل من الحكايا والنّضال والشّهداء والأوجاع، صوته غابة من الرّوائح والكلمات والوجلات والتنهّدات والصّرخات والإغفاءات واللّمسات، من يستطيع أن يهرب من صوت ابتلع معتقلاً بكلّ مافيه من جنود غواشم وكلاب عادية وأغلالٍ وسياطٍ وآلات تعذيب، صوته مقبرة للشّهداء، وآيةٌ للبداية والنّهاية.
تكلّم طويلاً عن تجربته في المعتقل، لم يستخدم ولامرة واحدة كلمة أنا، دائماً كان يقول نحن، كلماته نقلتنا إلى المعتقل، هناك عرفنا أبطالنا اسماً اسماً، ووجهاً وجهاً، وقصة قصة، كنّا نسأله عنه، فيجيبنا عنهم، كنّا نكلّمه عن هنا، فيحدّثنا عن هناك، كنّا جميعاً غائبون، وهو وحده الحاضر. يومها صمّمتُ على أن أكون في أقرب مسافة من هذا الرّجل ذي الصّوت السّماويّ، ودفنت صورته المتخيّلة في أبعد نقطة خارج ذاكرتي، فما حاجتي إلى الصّور الباذخة التمنّي، وأمامي الحقيقة وافرة الصّدق؟!
لم أكن الوحيدة التي أرادت أن تكون في أقرب مسافاتها من هاشم، فهناك الكثير من أفراد العائلة الذين أرادوا أن يقتربوا من هذا الرّجل المثقل بالصّمت على الرّغم من موهبته الفطريّة في البوح الآسر المؤثّر، ولكنّني كنتُ الأكثر حظّاً في نصيبي من الاستماع إليه، وفي مرافقته في كثير من الدّعوات العائليّة والمحافل الشّعبيّة التي استضافته بفضولٍ مجلوب مفتعل لتزيد من رصيدها الشّعبي وتعرّض قائمة جمهورها غير العريض في غالب الأحيان، ثم نسيته تماماً بعد أن حقّقت هدفها الإعلاميّ منه.
وأخيراً خلى لي وجه هاشم ووقته واهتمامه، ولكنّه عندها كان وجهاً كسيفاً فيه خرائط حزنٍ بائدة لا تضاريس جبال شمّاء كما هي نفسه الأبيّة العصّية على الكسر أو الصّهر أو الاستلاب، قدّر سريعاً بحسّه المرهف أنّ الجمع قد انفضّ من حوله، وخلّوا بينه وبين أحزانه ليجرع منها ما شاء، فقد نفِدَ نصيبه من الاهتمام المجتلب المصنوع، أحدٌ لم يسأله عن حاضره أو مستقبله، قليل من عرفوا عن وحدته وخواء جيبه من أيّ قرش، وشخصان أو ثلاثة هم من سألوه عن سرّ بوصلته النّحاسيّة أو أظافره المنزوعة من أصابعه.
أمّا أنا فتحوّلت أقداري من امرأة حالمة بفارسٍ أسطوريّ تفكّر في خبثٍ بأن تحصل منه على مادة شيّقة لتقرير صحفي يصلح لأن ينشر في عامود بارز في صحيفة يومية مشهورة إلى صديقةٍ تحرص على أن تسمع بطلاً قرّر الجميع في خضمّ صخب حيواتهم على أن يسرقوا فمه منه، ليعتقلونه في صمت خبيث. كلُّ حكايا هاشم كانت بوصلة لا تشير إلاّ إلى الوطن فلسطين وإلى العودة، كانت كلّ طُرقه تقود إلى دربٍ واحد، وهو درب العودة إلى بيت نتيف، كان حريصاً في كلّ مكان يذهب إليه على أن يمدّ أصابعه العارية من الأظافر إلى جيبه ليخرج بوصلته النّحاسيّة القديمة، ويفتحها ليرقب إبرة المؤشّر تشير إلى اتجاه فلسطين، وكأنّه في مسير مستعجل نحو العودة، كان يقول لي دائماً إنّه عائد في القريب إلى قريته، وهناك سيعيش في بيت العائلة في الحارة التحتى(5)، وسيتزوّج من بنات عائلة أبو حلاوة(6)، لأنّهنّ الأشدّ جمالاً وخصوبة في نساء القرية، وسيعيش وأولاده العشر الذين يريد أن ينجبهم من ريع الأرض، فهو فلاّح ابن فلاّح، ولا يتقن إلاّ أن يكون إلاّ كذلك. وعندها يشتاط انفعالاً، فتغلب الحُمرة على خدّيه، وكأنّ الحياة ردّت إليه فجأة بعد رحيل وهو يرفل في أمنياته، كان يحرّر يديه من سجنهما الجيب، ويشرع يستنطقهما في حركاته وهو يتكلّم بإسهاب أخضر مورق بالسّعادة عن أدق التّفاصيل عن بيت نتيف، فيطوّف بي على كلّ عائلات حاراتها الثلاثة، ويعدّد أسماء ساداتها ويتتبّع أنسابها، ويؤكّد في كلّ مرّة أنّ كثيراً من أفخاذ عائلاتها كادت تنقرض في تصّديها الشجاع لعصابات اليهود الواغلة في أراضيهم في عام 1984، ثم يطوّف بي على قاعة السّحلة والمالحة وبير الصفصاف وخربة أم الذّياب وخربة أم الرّوس وجسر الأربعين ومراح أبو جهنّم وسهل حمّادة(7).
وعندما يحين وقت المساء يصمّم على أن يعود إلى بيته راجلاً بحجّة رغبته في بعض الرياضة، وأنا أعلم علم اليقين أنّه لايملك ثمن أجرة حافلة تنقله إلى بيته، فأصمت رحمة بحاجته الأبيّة على الشّكوى.
لم تطل صحبتي مع هاشم، فقد ألّبت خيبات الأمل الأمراض عليه، وكان سهلاً عليها أن تتحالف ضدّ نفسه المفطورة على الإباء حتى أمام الألم، كنتُ كلّما عرضتُ عليه أن أصحبه إلى الطّبيب، يؤجّل ذلك قائلاً: سأذهب فيما إلى حكيم الوكالة(8) ليكشف عليّ، لا تخافي، لن أموت أبداً في الصّيف، أنا لن أموت إلاّ في مربعنية الشّتاء، وأدفن في ليلة ماطرة كلّها زخّ من الرّب.
فأضحك عندها، ويضحك، ونتكلّم في أيّ موضوعٍ إلاّ في أظافر يديه المنزوعة بالكامل تعذيباً في المعتقل الصّهيوني التي أؤجّل السّؤال عنها إلى وقت آخر، دون أن أعرف أنّ لا مزيد من الوقت الآخر أمامي، بل أمامه، فقد مات هاشم بهدوء وحيداً في بيته الغرفة في المخيّم وأمّه تحقّق حلمها بأن تزور البيت الحرام قبل أن ترحل إلى العالم الآخر، مات هاشم وفي كفّه بوصلته، وعلى شفتيه ابتسامة صافية كروحه المهر التي لا تبالي بأن تفارق جسده في ليلة صيفيّة أفل فيها المطر، مادامت تحلّق طليقة نحو وطنه فلسطين حيث سيخلد إلى الأبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)أيام المربعنيّة هي عند العامة الأيام الأربعون الأشدّ برودة في فصل الشّتاء.
(2) نسبة إلى قرية بيت نتيف: تقع إلى الشّمال الغربي من مدينة الخليل، وتبعد عنها 21 كم، وترتفع عن سطح البحر 425م، وتقوم على قمه جبل في المنطقة الغربية من جبال الخليل . تبلغ مساحة أراضيها 44587 دونما. وقدر عدد سكانها عام 1922 حوالي (1112) نسمة، وفي عام 1945 (2150) نسمة، وفي عام 1948 (2499) نسمة. قامت المنظمات الصّهيونيّة المسلّحة بهدم القرية، وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 1948 (2499) نسمه، وكان ذلك في21/10/ 1948/، ويبلغ مجموع اللاجئين من هذه القرية في عام 1998 حوالي ( 18995)نسمة. وأقاموا عليها مستعمرة (نتيف هلامدة) 1949، ومستعمرة (افيعيزر) 1958 ومستعمرة (روجيلت) 1958، ومستعمرة (نفي مخائيل) 1958. وتعدّ القرية ذات موقع أثري يحتوي على خربة أم الروس وخربة أم الحاج والنبي بولس واليرموك والعبد وجداريا والشيخ غازي والتبانة وغرابة وملكتها.
(3) الحرير المونّس: أيّ يتكوّن من درجتين من اللّون ذاته.
(4) طبب الحرير: كرات الحرير.
(5) التحتى أيّ الجنوبية، إذ كانت تتكون قرية بيت نتيف قبل هدمها من ثلاثة حارات رئيسية.
(6) “أبو حلاوة” إحدى عائلات قرية بيت نتيف.
(7) أسماء أماكن جغرافية في قرية بيت نتيف.
(8) طبيب عيادة وكالة الغوث الصّحيّة.