بعد العصر بقليل ينزل شيحة كمالو من منزله مرتديا البدلة الكاملة متجها إلى سوق الخضر القريب ، ليعود بعد مدة متأبطا جريدة الصباح ، حزمة من الفجل البلدي ، رغيفين ، وكيس الطعمية محوجا بالسمسم .
كانت تلك وجبته اليومية المفضلة ، وهو مدرس الفلسفة الأول الذى يهابه الناس ، لكنهم لا يزوجونه بناتهم ، فصواميل عقله قد فكت ، وهو بصوته الأجش ، وكلماته النارية في شئون العالم ، ومدة سجنه السياسي في مزرعة طره رسمت للآخرين حدود تعاملهم معه .
في هذا اليوم توقف أمام المحل ، وتابع المشابك التي تناثرت من بلكونة علوية تقف فيها امرأة في منتصف العمر ، كانت تنشر غسيلها بملل وقلة اكتراث .
نظر إليها في البداية بضيق ، وكاد يعمل مشكلة ، لكن الأعين تلاقت ، عرفها وعرفته . قالت له وهى تحكم الإيشارب حول شعرها النافر : " اتفضل يا أستاذ شيحة !".
رد بمودة : " مين . ثريا ؟".
لم ينزل عينيه اللتين تعلقتا بالتلميذة المشاغبة ، سألها :" أيه يا ثريا . لسه شقية برضه ؟ " ضحكت ، وأشارت له أن يتفضل : " ما تيجى شوية ؟".
كانت الظلال قد بدأت في الامتداد أكثر ، و أسراب الحمام راحت تحوم في الفضاء الأزرق الرائق الذى يتميز به أغسطس :"مرة ثانية !".
استدارت وجاءت في الناصية الأخرى من البلكونة ، رأته يقف متسمرا، وتيار الدم الساخن قد تصاعد إلى يافـــوخه : " عايزاك في حاجة مهمة جدا . انت فاكر المنطق ؟ " .
لوى عنقه، شعر أنه محاصر بعيون المارين ، لم يضع ذلك في اعتباره ،وعدها بالزيارة : " ممكن بعد المغرب ، أخلص درسين ، وأزورك ؟ ".
ضحكت مرة ثانية ، وهى تحبك الثوب الأسود الضيق أصلا حول جسدها الفائر ، نشرت آخر قطعة كانت ممسكة بها على الحبل المشدود بين قائمين حديديين ، وهزت رأسها : " في انتظارك " .
دخلت ، وأغلقت شيش البلكونة ، أما هو فقد رأيته يتقدم نحوى ، وصوته الأجش يسبقه : " ولد يا فلفل . معلمك فين ؟ ".
قبل أن أرد ، حاولت أن أراوغ : " راح مشوار ."
حدجني بنظرة حملها رجاء لحوحا، واستعطافا خفيا : " ولد ، ممكن تجيب لي بلغة ؟"
نظرت نحوه بترقب شديد ، فهو لا يشترى منا مطلقا ، والحاج صلاح صاحب المحل المجاور ، مقصده الدائم في الشراء والبيع ، وتدبيج الشكاوى لرفع مظالم البلدية ، وإتاوات الإنارة ، وغرامات المياه ، ورسوم النظافة .
قلت متحديا :" البلغ اللي عندنا غالية . "
هز رأسه في تحد مماثل : " أنا أشتريك يا ولد ، انت ومعلمك !" .
قلت له بمكر ، وأنا أتفحصه من جديد بقامته الفارعة ، وملامح وجهه الفرعونية ، واعتداده بنفسه الذى لامثيل له : " وهل من المعقول أن تشترى منا ؟" .
صرخ في وجهى : " وأنت مالك يا مفعوص ؟ " .
صعدت ، وأحضرت البلغة : " بلغة بلقاسى أصلى . آخر جوز " .
تناولها من يدى ، ومرر ظهر كفه على الجلد السماوي ، متلمسا نعومة الملمس .
أخرج ورقة من فئة الجنيهات العشر . كانت جديدة بحيث يمكنها أن تذبح العصفور ، لوح بها في وجهى : " معك البقية ؟ " .
قلت أراوغه ، حتى يقع الفأر في المصيدة :" معي مثلها عشرات " .
كنت كاذبا ، لكن الحاج خليل كان يقول ذلك لزبائنه وليس في جيبه مليم واحد ، حتى لا يكسروا عينه . خطفت الورقة ، وطرت لأفكها في ثوان ، رأيته في العودة ، يقف على الرصيف ، يتأمل الغسيل المنشور قطعة قطعة ثم يدخل حين عدت . تطلع إلى اللمبة المطفأة أعلى المحل :" من كسرها ؟ " .
لم يكن هذا هو السؤال ، لكنني مددت يدى بالباقي من ثمن البلغة ، قلت في سرى : " سوف أراوغه ."
رددت ووجهي يخفى ضحكة مجلجلة : " الحكومة " .
تقبل إجابتى بذهن غائب ، وعاد يضع ساقا على ساق : " ولد يا فلفل . الست ثريا ؟".
رص بائع الترمس قلله في مقدمة العربة ، وبدأ مناداته التي كنت أحبها: " البليلة الطازة . الترمس المزاج " .
أطللت على البائع وكان قد تهيأ للسير : " أستاذ شيحة . تحب الترمس ؟ " .
نظر نحوى في عتاب : " وفيه حد يكرهه ".
علا صوته مناديا على البائع الذى حضر بقراطيس الترمس أسطوانية الشكل ، وبداخلها حبات البليلة ، والفول المحمر . دفع الرجل عن طيب خاطر ، عاد يسألني : " الست ثريا ؟ ".
سألته بدوري وأنا أقزقز حبات الترمس وأضعها بحرص بالغ فوق الورقة المطوية على المكتب : " مالها ؟ "
أطرق في الأرض قليلا : "أخبارها إيه؟ بيقولوا جوزها عيان ؟ "
كنت متأكدا أنه يعرف ، فالحارة لا يُبل في فمها فولة : " ده مات " .
بان التأثر عليه ، وعقب في صوت خفيض : " لا حول ولا قوة إلا بالله . وهى دلوقت عايشة مع مين ؟؟ " .
شعرت أن علىّ أن أدفع ثمن حبات الترمس ، وأحسست أن البليلة التي كنت أحب مذاقها لها طعم مر ،علقم ، لا يحتمل . كنت أريد مصارحته : " تعيش بمفردها مع أولادها الثلاثة " .
دمعت عيناه ، شعرت أنني ظلمته بظنوني ، واصلت : " أكبرهم في السادسة من عمره " .
رد فى اقتضاب :" يعنى قطط . قطط مغمضة " .
كانت عضلات وجهه ترتعش وهو يحدثني عنها هذه المرة : " تعرف يا ولد يا فلفل . ثريا دي كانت أذكى بنت عندي . وكان ممكن تطلع فيلسوفة . دماغها فيها أفكار مجنونة " .
ثم نظر إلى نفسه في المرآة ، وتحسس شعيرات بيضاء بدأت تغزو رأسه . كان يحدّث نفسه : " أنا باتكلم مع الولد المفعوص ده ليه ؟ الإنسان كائن هش حزين . والمصير الإنساني في أزمة وجود ".
نظر ناحيتي ، وحمل قرطاس الترمس والبليلة ، الممتلىء بالحبات التي لم نقزقزها كلها بعد ، رماها في الطريق : " ولد يا فلفل يا قليل العقل . بص شوف . إحنا في الكون ده زي حبات الترمس . هل لها أي قيمة أو ثمن؟ " .
صمتُّ و شعرت بالرعب ، وهو يتأمل الحبات التي بدأ المارة في دهسها بأحذيتهم .
مضى الأستاذ شيحة كمالو فى طريقه إلى منزله . وفى المساء رأيته غيرّ ملابسه ، وقد ارتدى بدلة قاتمة اللون ، وصعد يحمل أكياس الفاكهة بنفس تقطيبته الجادة المرعبة ، ونظرات عينيه الشاردتين المحملقتين في فضاء الدنيا الواسع .
سمير الفيل
كتبت 2004.
من مجموعة " صندل أحمر"..
كانت تلك وجبته اليومية المفضلة ، وهو مدرس الفلسفة الأول الذى يهابه الناس ، لكنهم لا يزوجونه بناتهم ، فصواميل عقله قد فكت ، وهو بصوته الأجش ، وكلماته النارية في شئون العالم ، ومدة سجنه السياسي في مزرعة طره رسمت للآخرين حدود تعاملهم معه .
في هذا اليوم توقف أمام المحل ، وتابع المشابك التي تناثرت من بلكونة علوية تقف فيها امرأة في منتصف العمر ، كانت تنشر غسيلها بملل وقلة اكتراث .
نظر إليها في البداية بضيق ، وكاد يعمل مشكلة ، لكن الأعين تلاقت ، عرفها وعرفته . قالت له وهى تحكم الإيشارب حول شعرها النافر : " اتفضل يا أستاذ شيحة !".
رد بمودة : " مين . ثريا ؟".
لم ينزل عينيه اللتين تعلقتا بالتلميذة المشاغبة ، سألها :" أيه يا ثريا . لسه شقية برضه ؟ " ضحكت ، وأشارت له أن يتفضل : " ما تيجى شوية ؟".
كانت الظلال قد بدأت في الامتداد أكثر ، و أسراب الحمام راحت تحوم في الفضاء الأزرق الرائق الذى يتميز به أغسطس :"مرة ثانية !".
استدارت وجاءت في الناصية الأخرى من البلكونة ، رأته يقف متسمرا، وتيار الدم الساخن قد تصاعد إلى يافـــوخه : " عايزاك في حاجة مهمة جدا . انت فاكر المنطق ؟ " .
لوى عنقه، شعر أنه محاصر بعيون المارين ، لم يضع ذلك في اعتباره ،وعدها بالزيارة : " ممكن بعد المغرب ، أخلص درسين ، وأزورك ؟ ".
ضحكت مرة ثانية ، وهى تحبك الثوب الأسود الضيق أصلا حول جسدها الفائر ، نشرت آخر قطعة كانت ممسكة بها على الحبل المشدود بين قائمين حديديين ، وهزت رأسها : " في انتظارك " .
دخلت ، وأغلقت شيش البلكونة ، أما هو فقد رأيته يتقدم نحوى ، وصوته الأجش يسبقه : " ولد يا فلفل . معلمك فين ؟ ".
قبل أن أرد ، حاولت أن أراوغ : " راح مشوار ."
حدجني بنظرة حملها رجاء لحوحا، واستعطافا خفيا : " ولد ، ممكن تجيب لي بلغة ؟"
نظرت نحوه بترقب شديد ، فهو لا يشترى منا مطلقا ، والحاج صلاح صاحب المحل المجاور ، مقصده الدائم في الشراء والبيع ، وتدبيج الشكاوى لرفع مظالم البلدية ، وإتاوات الإنارة ، وغرامات المياه ، ورسوم النظافة .
قلت متحديا :" البلغ اللي عندنا غالية . "
هز رأسه في تحد مماثل : " أنا أشتريك يا ولد ، انت ومعلمك !" .
قلت له بمكر ، وأنا أتفحصه من جديد بقامته الفارعة ، وملامح وجهه الفرعونية ، واعتداده بنفسه الذى لامثيل له : " وهل من المعقول أن تشترى منا ؟" .
صرخ في وجهى : " وأنت مالك يا مفعوص ؟ " .
صعدت ، وأحضرت البلغة : " بلغة بلقاسى أصلى . آخر جوز " .
تناولها من يدى ، ومرر ظهر كفه على الجلد السماوي ، متلمسا نعومة الملمس .
أخرج ورقة من فئة الجنيهات العشر . كانت جديدة بحيث يمكنها أن تذبح العصفور ، لوح بها في وجهى : " معك البقية ؟ " .
قلت أراوغه ، حتى يقع الفأر في المصيدة :" معي مثلها عشرات " .
كنت كاذبا ، لكن الحاج خليل كان يقول ذلك لزبائنه وليس في جيبه مليم واحد ، حتى لا يكسروا عينه . خطفت الورقة ، وطرت لأفكها في ثوان ، رأيته في العودة ، يقف على الرصيف ، يتأمل الغسيل المنشور قطعة قطعة ثم يدخل حين عدت . تطلع إلى اللمبة المطفأة أعلى المحل :" من كسرها ؟ " .
لم يكن هذا هو السؤال ، لكنني مددت يدى بالباقي من ثمن البلغة ، قلت في سرى : " سوف أراوغه ."
رددت ووجهي يخفى ضحكة مجلجلة : " الحكومة " .
تقبل إجابتى بذهن غائب ، وعاد يضع ساقا على ساق : " ولد يا فلفل . الست ثريا ؟".
رص بائع الترمس قلله في مقدمة العربة ، وبدأ مناداته التي كنت أحبها: " البليلة الطازة . الترمس المزاج " .
أطللت على البائع وكان قد تهيأ للسير : " أستاذ شيحة . تحب الترمس ؟ " .
نظر نحوى في عتاب : " وفيه حد يكرهه ".
علا صوته مناديا على البائع الذى حضر بقراطيس الترمس أسطوانية الشكل ، وبداخلها حبات البليلة ، والفول المحمر . دفع الرجل عن طيب خاطر ، عاد يسألني : " الست ثريا ؟ ".
سألته بدوري وأنا أقزقز حبات الترمس وأضعها بحرص بالغ فوق الورقة المطوية على المكتب : " مالها ؟ "
أطرق في الأرض قليلا : "أخبارها إيه؟ بيقولوا جوزها عيان ؟ "
كنت متأكدا أنه يعرف ، فالحارة لا يُبل في فمها فولة : " ده مات " .
بان التأثر عليه ، وعقب في صوت خفيض : " لا حول ولا قوة إلا بالله . وهى دلوقت عايشة مع مين ؟؟ " .
شعرت أن علىّ أن أدفع ثمن حبات الترمس ، وأحسست أن البليلة التي كنت أحب مذاقها لها طعم مر ،علقم ، لا يحتمل . كنت أريد مصارحته : " تعيش بمفردها مع أولادها الثلاثة " .
دمعت عيناه ، شعرت أنني ظلمته بظنوني ، واصلت : " أكبرهم في السادسة من عمره " .
رد فى اقتضاب :" يعنى قطط . قطط مغمضة " .
كانت عضلات وجهه ترتعش وهو يحدثني عنها هذه المرة : " تعرف يا ولد يا فلفل . ثريا دي كانت أذكى بنت عندي . وكان ممكن تطلع فيلسوفة . دماغها فيها أفكار مجنونة " .
ثم نظر إلى نفسه في المرآة ، وتحسس شعيرات بيضاء بدأت تغزو رأسه . كان يحدّث نفسه : " أنا باتكلم مع الولد المفعوص ده ليه ؟ الإنسان كائن هش حزين . والمصير الإنساني في أزمة وجود ".
نظر ناحيتي ، وحمل قرطاس الترمس والبليلة ، الممتلىء بالحبات التي لم نقزقزها كلها بعد ، رماها في الطريق : " ولد يا فلفل يا قليل العقل . بص شوف . إحنا في الكون ده زي حبات الترمس . هل لها أي قيمة أو ثمن؟ " .
صمتُّ و شعرت بالرعب ، وهو يتأمل الحبات التي بدأ المارة في دهسها بأحذيتهم .
مضى الأستاذ شيحة كمالو فى طريقه إلى منزله . وفى المساء رأيته غيرّ ملابسه ، وقد ارتدى بدلة قاتمة اللون ، وصعد يحمل أكياس الفاكهة بنفس تقطيبته الجادة المرعبة ، ونظرات عينيه الشاردتين المحملقتين في فضاء الدنيا الواسع .
سمير الفيل
كتبت 2004.
من مجموعة " صندل أحمر"..