من مسافة مجهولة أعيد ترتيب هامش تحفيزي، كانت السّماءُ صافية لكنني كنت أجزمُ أن هناك كثافة في الغيوم، وللمرة الثانية كنت أجزم أن موسيقى لكورال في المحطة في حين لم يقف فوق رأسي عند مائدة العشاء غير عازف وامرأة غجرية.
العازف من صربيا والمرأة الغجرية من ريف بوخارست.
كانا قد تعارفا في "مامايا" في آخر تشردٍ لهما. مر العازف على الأوتار بمودة وحين نظر الى الغجرية ونظرت اليه مر على الأوتار بخشية وبحزن واجتمعا معا للحظات في نوبة ساكنة. بحثتُ عن الملعقة في صورة مجسمة أمامي وبحثت عن الشوكة في قارورة المياه وجاء النص في مخيلتي كما أشتهي.
لم أجد أمامي ما أكتب عليه سوى علبة سكائر فارغة وورقة كلينكس وكتبتُ "لا وسيلة للجري وراء المغيب، حين تجف الينابيع والكلاب تعوي، ولا جدوى أن أنتظر الشروقَ ووميض الأحلام في عتمة دائمة ،توقفت وأدرت علبة السكائر في حين قدِمَ النادلُ بعلبة أخرى وعلبة من المناديل الورقية، توقف القطار القادم من أوستريا في محطة قطارات بودابست، نقدت العازف بعضا منَ القطع المعدنية مع إبتسامة عجولة، ووقفت في صف المستقبلين، قبل أن أرفع يدي إرتفعت من النوافذ أياد كثيرة تُحرك أصابعها باتجاهات مختلفة، ووجد المنتظرون القادمون الذين كانوا ينتظرونهم، وبدأت أبواب القطار بالإغلاق تباعا، التفت يمنيا ويسارا، مسحت بروحي أرض المحطة وبعيني مسحت ما تبقى من آثار القادمين وخيالاتهم، ولم تأتِ إلهام. في مساحتي تلك التي أقف عليها ومستندا الى لوحة إعلانات عاد الوقت بي بتاريخ ما وزمن ما، فوق رقعتين جغرافيتين متباعدتين من بغداد شارع النهر الى إسطنبول مرمرة، المكان الذي التقيتها فيه لأول مرة، كان اللقاء مجرد دقائق معدومة أمضيت نصفها بالصمت والنصف الآخر بقضم شفاهي، ثم إلتقيتها في العام الذي تلى هذا العام في مقهى يالطا في صوفيا.
وفي عام آخر حددت لي تاريخا افتراضيا أن يكون لقاؤنا في محطة قطارات بوخارست وفي نفس اليوم والتوقيت وجدتها هناك وفي عام آخر التقيتها في ساحة أمونيا وسط العاصمة أثينا. وهكذا توزعنا في أعوام تعود لجغرافيا المسافات البعيدة، كل ذلك دون أن أقول لــ إلهام يوما (أحبك) أو تبادر وتقول لي (أحبك) كنت منصهرا في إلهام كما ينصهر الرصاص في معمل فخم لصهر الحديد، وفي كل عام تعيد إلهام سباكتي من جديد.
تيقنت هذه المرة أن إلهام لن تأتي في العام الذي تلى تلك الأعوام رغم أني شاهدتها في قسم التأشيرات في السفارة البولندية في بغداد، وحين لا تأتي إلهام هذا يعني بأنني سأكون صريع المصادفات بيني وبينها، فأنا أجهل من هي إلهام، أجهل سكنها، حياتها الخاصة، أهلها، معارفها، عملها، المهم رضيت أن أتعلق بالإسم فقط الذي كان يعني لي الكثير الكثير.
ذهبت لوارشو عبر قطار الشرق السريع وانتظرت شهرا ثم شهرين أبحث عنها في (السوم) وفي المحطات والمسارح والمتاحف والأندر جراوند، بل وذهبت الى السفارة العراقية في مناسبة الإحتفال الذي أقامته السفارة بمناسبة عيد الجيش، ولم أعثر على أي أثرٍ لإلهام، عدت الى بغداد ومن أجل إلهامي اتخذت من مقهى أم كلثوم سكنا لي أستمع لمتواليات السيدة معَ (هجرتك - كل ليلة وكل يوم - الحب كده – دليلي إحتار .. ) كان عبدالمعين صاحب مقهى السيدة يشير لي برأسه مع كل قدح شاي أو ماء. وآخرون ربما مثل حالي من الجلاس يقرأون باطني فأسرع بالخروج من المقهى مشيا على الأقدام من منطقة الميدان الى المسرح الوطني بدءا من شارع النهر فحافظ القاضي فشارع الرشيد فـ أبي نؤاس ثم أنعطف من الكرادة داخل لأصل مبتغاي.
كانت قصاصات من الورق تملأ جيبيَّ فهنا أقف لأكتب أسطرا وهناك لأكتب أسطرا أخرى وعند ذاك المكان أو في ذلك الظلام أستل البعض من القصاصات الخاوية وأكتب عليها، أكتب لإلهام وحين يمتلأ جيبيّ أخرج هذه القصاصات وأقرأها واحدة تلو الأخرى.
في تلك القصاصة كتبت "كانت السماء من ذهب .. بعدكِ من فضلات الحيوانات"، وفي قصاصة أخرى "لم أحلم بحلم.. لم يعد الطائرُ أمامي يغني" ثم أنثرها على مائدتي في شريف وحداد أو في قصر الإخضير وأعيد سباكة ذاتي من جديد بعد أن تأكدت تماما من رحيل إلهام نحو عشٍ للزوجية ذلك العش الذي أحيط بأسلاكٍ شائكة من قبل رجلٍ بنجيماتٍ ثلاث، ومنذ ذلك التاريخ الذي مضى عليه عشرون عاما وأنا انصهر كل يوم وأعيد سباكتي مع ما أكتبه اليها كل يوم ضمن جولة جديدة وأفكاري المشتتةِ التي تعبث بي عبر فراغ قاتم وليل كئيب، ولم يهدأ الحزن، لم تفارقني صورة إلهام وأشتقت الى المكان، المكان الذي رأيتها فيه في بوخارست وتحدثت معها حينا لدقائق معدومة.
إشتقت لإلهام كون أغاني السيدة لم تكن شفيعة وحزني الطويل وقررت أن أِشم روائحها في الغربة، من نافذة قطار طوروس كنت أتناوب والهذيان مع الريح والحقول والغيوم والأمطار تارة أضع رأسي بين يدي وتارة أسند رأسي على ذراعي وأحاول أن أعيد روحي إليّ أن أنحدر بزاوية حادة نحو عقلي وأنا أتساءل في كل لحظة متى أصلك بوخارست.
توقف القطار في صوفيا العاصمة البلغارية راودني شعور مفاجئ أن أستريح ليلة في محطة القطار وأنتظر قطار الصباح وأستكمل رحيلي، أدخلت ذراعيَّ في حمالتي حقيبتي وتركتها مطمئنة فوق ظهري ترجلت أسير ببطء جوار القطار، مشيت ما يقارب من 12 نافذة، وأنا أبحث تارة في الأرض وتارة في السماء عن غيمة أو عن أثر ما لإلهام، وما أن وصلت الى ما بعد النافذة 13 بأقل من مترين، سمعت نافذة تفتح وصوت لإمراة يصيح خلفيَ باللغة الدارجة "دير بالك على فلوسك" التفت صوب النافذة وإذا بــ "إلهام" تبتسم لي وتعيد علي مع صبي وابنتين مقولتها "دير بالك على فلوسك"تقدمت صوب النافذة ومسكت النافذة بقوة كي لايفر الحديد مني، إلهام قلت لها إلهام، لم ترد، قالت هذا إبني وهاتان بنتاي راوية وعطش، وصمتت، أراد الصبي أن يقول شيئا لكن إلهام غمزته بطرف عينها لكنه لم يأبه بتلك الغمزة وقال لي "إني إسمي قيس"، مددت رأسي من النافذة وقبلت قيساً حينها، قبلته بشوق وعنف وكأني أرد على معروف إلهام بهذه التسمية، انسحبت إلهام الى كابينتها في القطار بعد أن اضطربت وأحمرت وجنتاها وتبعها قيس وراوية وعطش.
حين تحرك القطار لم أجد بعد مبررا للذهاب الى أماكن الذكريات مادامت الذكريات وما أنتجته قد أتت إليّ في لحظة غير محسوبة.
في صباح اليوم التالي ركبت القطار الذي يعود الى إسطنبول، ومن إسطنبول في طريق الباص الى بغداد، وفي الباص كنت أستمع إلى "هوه صحيح الهوى غلاب معرفش أنا .."، وكانت هذه الأغنية محفزا آخر للعودة الى مقهى السيدة أم كلثوم والولوج الى دوامة الحسرة والأنين.
العازف من صربيا والمرأة الغجرية من ريف بوخارست.
كانا قد تعارفا في "مامايا" في آخر تشردٍ لهما. مر العازف على الأوتار بمودة وحين نظر الى الغجرية ونظرت اليه مر على الأوتار بخشية وبحزن واجتمعا معا للحظات في نوبة ساكنة. بحثتُ عن الملعقة في صورة مجسمة أمامي وبحثت عن الشوكة في قارورة المياه وجاء النص في مخيلتي كما أشتهي.
لم أجد أمامي ما أكتب عليه سوى علبة سكائر فارغة وورقة كلينكس وكتبتُ "لا وسيلة للجري وراء المغيب، حين تجف الينابيع والكلاب تعوي، ولا جدوى أن أنتظر الشروقَ ووميض الأحلام في عتمة دائمة ،توقفت وأدرت علبة السكائر في حين قدِمَ النادلُ بعلبة أخرى وعلبة من المناديل الورقية، توقف القطار القادم من أوستريا في محطة قطارات بودابست، نقدت العازف بعضا منَ القطع المعدنية مع إبتسامة عجولة، ووقفت في صف المستقبلين، قبل أن أرفع يدي إرتفعت من النوافذ أياد كثيرة تُحرك أصابعها باتجاهات مختلفة، ووجد المنتظرون القادمون الذين كانوا ينتظرونهم، وبدأت أبواب القطار بالإغلاق تباعا، التفت يمنيا ويسارا، مسحت بروحي أرض المحطة وبعيني مسحت ما تبقى من آثار القادمين وخيالاتهم، ولم تأتِ إلهام. في مساحتي تلك التي أقف عليها ومستندا الى لوحة إعلانات عاد الوقت بي بتاريخ ما وزمن ما، فوق رقعتين جغرافيتين متباعدتين من بغداد شارع النهر الى إسطنبول مرمرة، المكان الذي التقيتها فيه لأول مرة، كان اللقاء مجرد دقائق معدومة أمضيت نصفها بالصمت والنصف الآخر بقضم شفاهي، ثم إلتقيتها في العام الذي تلى هذا العام في مقهى يالطا في صوفيا.
وفي عام آخر حددت لي تاريخا افتراضيا أن يكون لقاؤنا في محطة قطارات بوخارست وفي نفس اليوم والتوقيت وجدتها هناك وفي عام آخر التقيتها في ساحة أمونيا وسط العاصمة أثينا. وهكذا توزعنا في أعوام تعود لجغرافيا المسافات البعيدة، كل ذلك دون أن أقول لــ إلهام يوما (أحبك) أو تبادر وتقول لي (أحبك) كنت منصهرا في إلهام كما ينصهر الرصاص في معمل فخم لصهر الحديد، وفي كل عام تعيد إلهام سباكتي من جديد.
تيقنت هذه المرة أن إلهام لن تأتي في العام الذي تلى تلك الأعوام رغم أني شاهدتها في قسم التأشيرات في السفارة البولندية في بغداد، وحين لا تأتي إلهام هذا يعني بأنني سأكون صريع المصادفات بيني وبينها، فأنا أجهل من هي إلهام، أجهل سكنها، حياتها الخاصة، أهلها، معارفها، عملها، المهم رضيت أن أتعلق بالإسم فقط الذي كان يعني لي الكثير الكثير.
ذهبت لوارشو عبر قطار الشرق السريع وانتظرت شهرا ثم شهرين أبحث عنها في (السوم) وفي المحطات والمسارح والمتاحف والأندر جراوند، بل وذهبت الى السفارة العراقية في مناسبة الإحتفال الذي أقامته السفارة بمناسبة عيد الجيش، ولم أعثر على أي أثرٍ لإلهام، عدت الى بغداد ومن أجل إلهامي اتخذت من مقهى أم كلثوم سكنا لي أستمع لمتواليات السيدة معَ (هجرتك - كل ليلة وكل يوم - الحب كده – دليلي إحتار .. ) كان عبدالمعين صاحب مقهى السيدة يشير لي برأسه مع كل قدح شاي أو ماء. وآخرون ربما مثل حالي من الجلاس يقرأون باطني فأسرع بالخروج من المقهى مشيا على الأقدام من منطقة الميدان الى المسرح الوطني بدءا من شارع النهر فحافظ القاضي فشارع الرشيد فـ أبي نؤاس ثم أنعطف من الكرادة داخل لأصل مبتغاي.
كانت قصاصات من الورق تملأ جيبيَّ فهنا أقف لأكتب أسطرا وهناك لأكتب أسطرا أخرى وعند ذاك المكان أو في ذلك الظلام أستل البعض من القصاصات الخاوية وأكتب عليها، أكتب لإلهام وحين يمتلأ جيبيّ أخرج هذه القصاصات وأقرأها واحدة تلو الأخرى.
في تلك القصاصة كتبت "كانت السماء من ذهب .. بعدكِ من فضلات الحيوانات"، وفي قصاصة أخرى "لم أحلم بحلم.. لم يعد الطائرُ أمامي يغني" ثم أنثرها على مائدتي في شريف وحداد أو في قصر الإخضير وأعيد سباكة ذاتي من جديد بعد أن تأكدت تماما من رحيل إلهام نحو عشٍ للزوجية ذلك العش الذي أحيط بأسلاكٍ شائكة من قبل رجلٍ بنجيماتٍ ثلاث، ومنذ ذلك التاريخ الذي مضى عليه عشرون عاما وأنا انصهر كل يوم وأعيد سباكتي مع ما أكتبه اليها كل يوم ضمن جولة جديدة وأفكاري المشتتةِ التي تعبث بي عبر فراغ قاتم وليل كئيب، ولم يهدأ الحزن، لم تفارقني صورة إلهام وأشتقت الى المكان، المكان الذي رأيتها فيه في بوخارست وتحدثت معها حينا لدقائق معدومة.
إشتقت لإلهام كون أغاني السيدة لم تكن شفيعة وحزني الطويل وقررت أن أِشم روائحها في الغربة، من نافذة قطار طوروس كنت أتناوب والهذيان مع الريح والحقول والغيوم والأمطار تارة أضع رأسي بين يدي وتارة أسند رأسي على ذراعي وأحاول أن أعيد روحي إليّ أن أنحدر بزاوية حادة نحو عقلي وأنا أتساءل في كل لحظة متى أصلك بوخارست.
توقف القطار في صوفيا العاصمة البلغارية راودني شعور مفاجئ أن أستريح ليلة في محطة القطار وأنتظر قطار الصباح وأستكمل رحيلي، أدخلت ذراعيَّ في حمالتي حقيبتي وتركتها مطمئنة فوق ظهري ترجلت أسير ببطء جوار القطار، مشيت ما يقارب من 12 نافذة، وأنا أبحث تارة في الأرض وتارة في السماء عن غيمة أو عن أثر ما لإلهام، وما أن وصلت الى ما بعد النافذة 13 بأقل من مترين، سمعت نافذة تفتح وصوت لإمراة يصيح خلفيَ باللغة الدارجة "دير بالك على فلوسك" التفت صوب النافذة وإذا بــ "إلهام" تبتسم لي وتعيد علي مع صبي وابنتين مقولتها "دير بالك على فلوسك"تقدمت صوب النافذة ومسكت النافذة بقوة كي لايفر الحديد مني، إلهام قلت لها إلهام، لم ترد، قالت هذا إبني وهاتان بنتاي راوية وعطش، وصمتت، أراد الصبي أن يقول شيئا لكن إلهام غمزته بطرف عينها لكنه لم يأبه بتلك الغمزة وقال لي "إني إسمي قيس"، مددت رأسي من النافذة وقبلت قيساً حينها، قبلته بشوق وعنف وكأني أرد على معروف إلهام بهذه التسمية، انسحبت إلهام الى كابينتها في القطار بعد أن اضطربت وأحمرت وجنتاها وتبعها قيس وراوية وعطش.
حين تحرك القطار لم أجد بعد مبررا للذهاب الى أماكن الذكريات مادامت الذكريات وما أنتجته قد أتت إليّ في لحظة غير محسوبة.
في صباح اليوم التالي ركبت القطار الذي يعود الى إسطنبول، ومن إسطنبول في طريق الباص الى بغداد، وفي الباص كنت أستمع إلى "هوه صحيح الهوى غلاب معرفش أنا .."، وكانت هذه الأغنية محفزا آخر للعودة الى مقهى السيدة أم كلثوم والولوج الى دوامة الحسرة والأنين.