مصطفى نصر - الحفـــار..

" ليتني ما ذهبت إليه ". هكذا ردد بيومي وهو سائر بين المصرف وشريط السكة الحديد، الطريق ضيق والسيارات – الذاهبة والآيبة – إلى رشيد ليس لها طريق سواه. أطلقت السيارة المسرعة نفيرها عاليا، فتفاداها في آخر لحظة. أشاح بذراعه عندما بصق السائق عليه من بعيد.
يعمل بيومي "حفار قبور" فى منطقة الطابية. قطعة أرض قريبة من مصنع الورق يدفنون فيها موتاهم؛ حولها أراضِ واسعة تتخذها الشركة مخازن للدشت الكثير الذى يأتيها من كل مكان طوال اليوم.
لوح أحد رجال البلدة إليه من بعيد، فلوح له بذراعه فى ضيق.
صاح الرجل بصوت مرتفع:
- زرت محمود؟
تمتم في أسى:
- ليتني ما زرته.
والده كان حفار قبور مثله. اختاره الباشا - صاحب مصنع الورق ومعظم أراضى المنطقة - من دون باقى العاملين فى مصنعه وأمره بأن يكون " تربيا " يدفن الموتى. قال والد بيومي معترضا:
- لكننى لا أعرف هذه المهنة.
سار الباشا منهيا اللقاء، وأعطاه ظهره وهو يقول:
- أجرتك فى المصنع كما هى، وستكسب كثيرا من هذه المهنة.
وَصدق قول الباشا. أغتني والد بيومي. الموتى كثيرون، أكثر مما كان يتوقع. المدافن صارت قريبة؛ كانوا في الماضي يدفنونهم فى مقابر بعيدة تطل على
خليج أبو قير، ينقلونهم بسيارات مصنع الورق. الكل يدفع الآن لوالد بيومي.
فى أول عهده بالعمل كان يخاف ويرتعش؛ وتطارده جثث الموتى طوال الليل، لكنه اعتادها بعد ذلك، وأشترى المواشى والدواجن لتربيها زوجته فى بيته القديم، هذا غير بيت اقتطعه من أرض المقابر وعاش فيه، وعندما علم الباشا قال:
- حقه.
ورث بيومي عن والده هذه المهنة، وورث البيتين والمواشي والدواجن.
كل شئ كان يسير كما يهوى لولا محمود الذى جاء إلى الطابية ليكدر حياته.
محمود كان يعيش مع زوجته الصعيدية – مثله – فى منطقة بعيدة عن الطابية، هى قريبته وقريبة الشبه به، سوداء ويابسة ودميمة، وفمها يابس مثل فمه، كأنهما أخ وأخت؛. لكن الرجل عافها وتزوج عليها امرأة بيضاء مربربة من حى بحري – حيث كان يعمل – فثارت زوجته وباقى الأسرة، وعندما أرادوا أن يجبروه على طلاق زوجته المحببة؛ حملها وجاء بها إلى منطقة الطابية وعمل خفيرا فى مصنع الورق، وترك الإسكندرية كلها. كان سعيدا بزوجته البيضاء المربربة، وفى ليالى البرد، يلتفون حول " راكية النار" فيحكى لهم عن زوجته التى تشبهه. يقول للحاضرين:
- تعرفون السيخ الرفيع الأسود الذى يخرجون به الخبز من الفرن؟
يضحكون قبل أن يكمل، فهم يعرفون إنه يقصد زوجته السابقة، فهى رفيعة وسوداء مثل " السيخ " الذى يحكى عنه، لكن المرأة البيضاء أتت بإبراهيم، ولد متخلف، عقله عقل طفل صغير.
الذى يحكى عنه بيومي – الآن – حدث منذ عهد بعيد، فالولد كبر، وشعيرات متناثرة ظهرت حول ذقنه.
ومرض محمود، وهو ودود، يزور بيومي كثيرا - مع زوجته وابنه إبراهيم - فى بيته، وزوجته تصادق زوجته، وأولاد بيومي يمازحون ابنه ويحبهم ويرتاح لهم.
ألحت زوجة بيومي – سامحها الله - :
- أذهب لزيارة محمود، فالمرض اشتد عليه.
ألحت فى ذلك كثيرا حتى ذهب. ما أن فتحت زوجة محمود الباب، ودعته للدخول حتى صاح إبراهيم:
- أخرج يا " تربى "، أخرج يا " تربى ".
ابتسم بيومي، فليس من العقل أن تعمل عقلك بعقل ولد متخلف كهذا، وسار ناحية محمود الذى ينام فى مواجهة الباب.
صاح الرجل فى ضعف شديد:
- تفضل يا بيومي.
وصاحت المرأة فى ابنها فى صوت خافت وفى عتاب رقيق:
- عيب يا إبراهيم. الرجل ضيفنا.
صاح الولد:
- لا، لقد جاء ليأخذ أبى ويدفنه فى مقابره التى يسكنها.
اقترب بيومي من الولد، ربت خده قائلا:
- لا يا حبيبي، جئت لزيارة أبيك لأنه مريض.
أشاح بيد بيومي:
- أبعد يدك التى تلامس الموتى.
ضحك بيومي بصوت مرتفع لكى يخفى غيظه منه، لم يضحك محمود ولا زوجته. أراد أن ينهى هذا اللقاء السخيف ويعود إلى بيته، ويادار ما دخلك شر. جلس على الكنبة فى مواجهة محمود، أخرج علبة سجائره قائلا:
- ألف لك سيجارة؟
سعل محمود قائلا:
- حذرني الأطباء من التدخين.
- يا رجل، لا تسمع كلام الأطباء، فهم يهولون كل شيء.
- لا. أنا هذه المرة تعبان جدا.
سمع إبراهيم من زوار والده ومن والدته، إن أباه يقترب من
الموت، حينذاك رأى بيومي أمامه بسرواله القصير والصديرية
التى تكشف عن ذراعيه وطاقيته البنية وهو ينحنى بفأسه ليحفر
المدفن للميت. طوال الوقت وإبراهيم يدعو الله إلا يضطر والده
لمقابلة بيومي هذا، وهاهو الرجل يجيء دون أن يستدعيه أحد.
سارت الزوجة لتعد الشاى للضيف، وأحس محمود بفتور فى جسده كله، فتأوه وأغمض عينيه. وإذ بإبراهيم يصيح فى بيومي:
- أبى يموت. أنت جئت لتقتله.
هب بيومي فزعا، واستيقظ محمود، وعادت المرأة من المطبخ وفى يدها علبة الثقاب، وإبراهيم يبكى:
- أنت الذى جعلته يموت.
قال بيومي مبتسما:
- أبوك عال العال. هاهو أمامك يتحرك، لم يمت.
وقال محمود بصوت خافت:
- عمك بيومي صديقنا ويحبنا.
صاح الولد متحديا:
- لابد أن يخرج " التربي " من بيتنا.
سار بيومي خطوات، لكن الأم دفعت ابنها بعيدا، وشدت بيومي إليها:
- لا تعمل عقلك بعقل ولد مثل هذا.
سار بيومي متجها إلى الباب صائحا :
- يا بخت من زار وخف.
لم يسمع بيومي ما قاله محمود. والمرأة لم تجد ما تقوله. لكنه سمع صوت إبراهيم واضحا:
- أخرج. من أجل أجرتك؛ تقتل الموتى.
أراد أن يرد عليه. لكنه لم يجد المقدرة. فقد فكر – حقا – فى أجرة دفن محمود منذ أن بلغه خبر اشتداد المرض عليه. وكثيرا ما فكر فى هذا كلما سمع عن " فلان " الذى ينام فى بيته مريضا، بل ويعد له مكانا لدفنه.
سار بيومي إلى الطريق حزينا مهموما. لم يذهب إلى البيت حيث زوجته وأولاده. سيذهب إلى بيته الملاصق للمقابر، يجلس وحده مع " الجوزة " يدخن كعادته كلما غضب من زوجته، أو أحس بالحزن.
لو ذهب إلى زوجته – الآن – وحكى لها عما حدث؛ ستضحك وتقول:
- حد يا خد على إبراهيم؟!
توقف عن المسير. سارت السيارات حوله وقوادها يسبونه ويثورون عليه.
يقضى معظم أوقاته فى البيت المجاور للمدافن وتأتيه زوجته كل يوم محملة بالخبز اليابس وعلف الماشية، تطعم المواشى وتنظف حظيرتهم، وتجمع البيض فى صفيحة صدئة معدة لذلك، ثم تضع الطعام لهم.
تجرى الدواجن بين القبور، تمرح وتحفر بجوارها وتبيض أحيانا، لكن المواشى غير مسموح لها بالاقتراب من المقابر؛ خشية أن تهدمها بحوافرها القوية، وكثيرا ما نام بيومي وحده فى ذلك البيت الذى تصر زوجته على تركه قبل المغرب بقليل، يبقى فيه وحده، يشعل النار، ويضع قوالح الذرة الملتهبة فوق الجوزة. و " يكركر" وحده.
قبل أن يصل إلى المقابر بخطوات قليلة، دهمته سيارة مسرعة، ألقت به أرضا وسارت فوقه كأنها تقصد قتله، لم ينطق بكلمة واحدة. قبل أن تخرج روحه من جسده؛ رأى الولد إبراهيم يضحك منه ساخرا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...