أمل الكردفاني- الحب القديم- مسرحية من مشهد واحد

المنظر:
(الخشبة مظلمة.. وهناك دائرة ضوء قطرها متر ونصف تقريباً تسقط من السقف إلى الأرض، يقف وسطها رجل في منتصف الخمسين من العمر..يرتدي بنطلوناً صوفياً رمادياً قديماً..وبذلة رثة بنفس اللون..وقبعة بنفس اللون..ونظارة دائرية الإطار وقديمة...)

الرجل: وماتت السيدة العجوز التي كانت تقطن في البيت الثالث من بيتنا..لازلت أشم الرائحة..(يحرك أنفه لأعلى وأسفل)...شيء محير.. والمحير أنني كنت أحبها عندما كنت طفلاً.. أشم رائحة جلدها العطرة وأتمنى ان أغوص في دفء صدرها...كبرت قليلاً وكبرت هي قليلاً أيضاً..كنت في السابعة عشر وكانت في أواخر الثلاثينيات، مع ذلك كنت أراها دسمة...كانت كالسمنة البلدية.. كانت تلهب جسدي..وظل حبي لها مكتوماً كالرمال المتحركة..وحين بلغتُ الثلاثين رأيتها تشيخ..وها أنا في الخامسة والخمسين...وهاهي رائحة جسدها تفوح بالموت...(يضع يديه خلف ظهره) .. تبدو الذكريات ضبابية للغاية..وأنا لم أعد أفهم شيئاً..لقد كنت أظن بأنني أمضي نحو الفهم.. غير أن هذا ما لا يحصل .. إننا نمضي نحو المزيد من الإرتباك .. لذلك يميل الشيوخ إلى الصمت.. إذ يدركوا أنهم لن يدركوا شيئاً وأن عليهم التأمل بصمت...تبدو كل أنشطة الصغار طائشة وعبثية.. وينسى الشيوخ ماضيهم حين كانوا يهرولون نحو أرض المصيدة.. إنني أشعر بالنعاس.. سأكمل هذا المونولوج ليوم ما...يومٌ ما...يومٌ...ما...(يخرج من دائرة الضوء).
(تمض ثوانٍ ويعود الرجل ليدخل دائرة الضوء ولكن بملابس مختلفة، مريلة نوم ملونة بالأحمر والأخضر والأزرق..الخ على جنبيها جيوب واسعة وبذات القبعة والنظارة)..
الرجل: كانت المرأة دائماً حاضرة غائبة في حقلي الوجودي، المرأة التي كانت تتنوع وتحمل ألواناً متعددة، لكنني كنت دائما أرى تلك النواة الخفية والتي تمتلكها جميع النساء مهما تعددت أشكالهن وألوانهن، كانت لكل واحدة تنويعة موسيقية، لكنها في النهاية تشترك في السر الأنثوي، أنه سر غريب، إنه وبكل اختصار: الجنون. نعم.. هذا ما لمسته في كل النساء..الجنون..قبل تسعة ايام ذهبت لتجديد نظارتي الطبية، وجدتها امرأة، ليست فيها رائحة الأنوثة، لكنها امتلكت ذلك الجنون الأنثوي، ذلك الذي يدفعك للإحساس بأن من يكلمك الآن مفتقد للعفوية تماماً..كانت تتحدث كجندي في الجيش..حاولت ممازحتها قليلا ولكن بذكاء وحرص..لكنها لم تستجب.. قررت أن أكسر ذلك الشعور بالدونية الذي يرتسم على وجهها صلفاً... فأخبرتها بأنني مريض مرض مميتاً خلال أشهر..وبالفعل..انزاح قناعها الحديدي لبرهة..لبرهة فقط..فغادرتُ بسرعة..كان ذلك كافيا تماماً لكي أرى الإنسان المهزوم داخلها...وجارتي العجوز..التي أحببتها...كانت تخون زوجها مع رجل آخر.. كانت تحملني وأنا طفل إلى منزله، وتغيب معه لساعات داخل غرفته، كان ضابطاً في الجيش..إنني أتذكر جراب مسدسه الجلدي الأسود المعلق مع بذته العسكرية على شماعة طويلة في الزاوية...لم أكن افهم أنها خيانة إلا بعد أن صرت في السابعة عشر من عمري..توفى زوجها قبل سنوات من الآن..الضابط نفسه كان قد اختفي قبل عقود من وفاة زوجها...يبدو أن علاقاتنا مرحلية جداً.. كم هذا مخيف...(يخرج علبة سجائر وينتزع منها سجارة يزرع على مؤخرتها مبسم ذهبي ثم يقبضه بشفتيه دون أن يدخن)..كم أنا خائف..روحي منقبضة جداً.. الخامسة والخمسون من العمر..بداية النهاية..أو منتصف النهاية..أي تنظير فلسفي يمكن أن يحرمنا من متعة الخوف هذه كي لا نتشبث بالحياة؟ (يدخن بتأمل عميق مقرون الجبين) عشت مع أبي حتى مات، ولم أتزوج ولم انجب، ولم أشعر يوماً بشيء ينقصني سوى النوم..مع ذلك لم تكن جثث الموتى نوماً..لا أبداً.. لم تكن نوماً..كانت موتاً فقط.. وهذا ما دفعني للتشبث بالحياة..البقاء دون أن أطلق رصاصة على دماغي..فلا أعرف شيئاً عن ذلك العالم المجهول... أو..في الحقيقة هو ليس بمجهول..بل نحن الذين نرفض أن نعترف بحقيقته..نريده مجهولاً لكي يكون هناك شيئاً وراءه ولو كان بلا ماهية..إنني أفضل رؤيتي للشمس عليه..أفضل التلوي ألما بسبب المرض..أفضل احتراق جلدي بلهيب البراكين عليه.. إن الألم نفسه هو ما يشعرني بأنني حي..لا زلت حياً أتألم...أتعذب..(يعض على أسنانه) العذاب هو ما يؤكد حياتي.. أنا أتعذب إذاً أنا حي...الإكتآب والسوداوية تمنح حياتي قيمة...لكن الموت لا..لا وألف لا... لا يا جارتي الحبيبة... لا.. لم يكن الموت يوماً أحد خياراتي..نعم اتذكر فخذيك السمراوين اللا معين أيام الشباب وأتذكرهما وهما منكمشين نحيلين قبل وفاتك بأيام حينما نظرتِ لي وغمغمتِ بفم فارغ الأسنان: (يقلد صوت العجوز) كنت تعشقهما أليس كذلك يا ولد...(يضحك) أدركتُ انكِ كنتِ تعلمين طيلة الوقت برغبتي فيك.. ولكنك لم تفصحي عن ذلك إلا بعد أن أصبحتِ بلا أمل...نظرت إليك برعب.. هل حقاً كنت أشتهيك ..اشتهي هذا الهيكل القبيح.. هل كنت أتمنى ان يغوص اللحم في اللحم والعظم في العظم....؟ كنتِ تنتظرين إجابتي بابتسامة واثقة...لكنني..عندما تخيلت ذلك.. ادرت جسدي وسقطت متقيئاً من القرف...خرجت من عندك..وتركتك تظرين إلى اللا شيء بعينين باهتتين..أدركتُ حينها أن ساعة موتك قد اقتربت...وانتشرت رائحة موتك بالفعل...كسروا باب منزلك...الجيران كلهم. الرجال والأطفال وبعض النسوة..وثلاثة من رجال الشرطة والعاملين على نقل القمامة، والفتى المثلي الذي كان يزورك كل أسبوع والذي انهار بكاءً عندما اخرجوا جثتك.. ذلك الفتى الشاذ أكثر من بكى عليك.. اكثرهم وفاء لك.. وأكثرهم نقاءً...ماذا كنتِ تفعلين له...لقد ضايقه أولاد الحي فاختفى بعد أن كان يزور منزلك كل أسبوعين أو ثلاثة..كان يدخل بمفتاح احسبك أعطيته له..ينظف المنزل..يكنس الأرض...يبخره من رائحة الموت ثم يغلقه بالمفتاح ويغادر...لكنه غادر نهائياً..علاقاتنا مرحلية..حتى لو كنا أوفياء أكثر من الكلاب...في النهاية تستمر الحياة بمن بقى فوق الأرض...(يدخن..ثم يغادر منطقة الضوء)..
(ستار)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...