فرغتْ علبةُ سجائري، فوجدتُني مضطرًّا للخروجِ من قوقعتي، والتوجّه نحوَ بقّالةِ الحيّ الصغيرة، حيث أبو سمير واقفٌ، وراء طاولتِه العتيقةِ، منذُ ألفيّ عامٍ أو يزيد..
ذاتُ التفاصيل، وذاتُ البضاعةِ، ونفسُ طبقةِ الغبارِ على الرفوفِ، وذاتُ الرائحةِ، حيثُ يختلطُ ما ينبعث من السردين المملّح، برائحةِ اليانسونِ والقِرفةِ والزعترِ البلديِّ والزيتِ المغشوشِ وحبِّ الحمّصِ والشّعير والمنظّفاتِ الكيميائيّةِ المزوّرة، وروائحَ أخرى من موادّ، سكنتْ هناك منذ قرونٍ، وانقرضت قبل قرونٍ أيضًا..
المسألةُ الجديدةُ كانت: ذلك الرجلَ الطويلَ، ذا الشعرِ الطويلِ والّلحيةِ الطويلةِ والأظافرِ الطويلةِ أيضًا، الواقفَ قدامِ أبي سمير، والذي أمسكَ بعنقي بأصبعين عظيمين، ورفعني، حتى صرتُ في مواجهةِ وجهِهِ الكبيرِ، وعينِهِ المغطّاةِ بجِلْدَةٍ مدوّرةٍ، خمّنتُ أنّها مُقتَطَعةٌ من بطنِ حمارٍ، أو مؤخّرةِ خنزيرٍ مقيتٍ، والذي قال باقتضاب، قبلَ أن أقولَ شيئًا: «سأمنحك سجائر» واجلسني على الرفّ، مثلَ قطِّ شوارع..
ومن على الرفّ، حيثُ يحسُّ الإنسان بالصّغر والتفاهة، رحتُ أرقبه يفعل ببقيّةِ المتسوّقين ما فعل بي، حتى امتلأت الرفوفُ بأناسٍ ذوي حاجاتٍ مختلفةٍ. وصادف أنّ السيّدة التي أُجلست جنبي، كانت جاءت تشتري نصفَ أوقيّةِ زعترٍ، على الحساب، لكن لم يبدُ عليها أيُّ استياءٍ، من جرّاءِ جلوسِها على الرفِّ عنوةً، وبدا أنّها استغلّت جلستَها تلك في الثرثرةِ، ابتهاجًا بزعترٍ مجاني، لا يقيَّدُ على دفتر البقّالِ، الذي لا يجيدُ الابتسامَ، وصاحبِ التعليقاتِ اللّاذعةِ، في حقّ زبائنِه المقترِضين، من مثلِ هذه السيّدةِ اللّدنةِ، الجالسةِ جواري باسترخاء...
سارتِ الأمورُ على هذا النحو زهاء ساعتين ونصفٍ: أناسٌ يدخلون بوابةَ المحلّ، وقبلَ أن ينطقوا بحاجتِهم، تلتقطهم أصابعُ الرجلِ الطويلِ، وتَعِدُهم بقضاء حاجاتِهم، بقدرٍ مناسبٍ من الصّلافة، ثمّ ترتّبهم على رفوفِ البقالةِ، شبهِ الفارغة. والحقّ أن أحدًا منّا لم يفعلْ شيئًا سوى الجلوس، مثلَ أيّ علبةِ لحمٍ معدنيّة...
وعندما حلّ الغروبُ، ولم يكنْ أيٌّ منا قد تململ من رفِّه، استلّ الرجل الطويلُ أبا سمير من وراء الطاولةِ، ومشى به خارجًا، ما أحدثَ فينا نوعًا من البلبلة، وبعضِ الفزعِ، لا سيّما عندما بدأنا نتقافز من أعلى، إلى أن تبرّع أحدُ السّادةِ، وكان جالسًا على الرفّ المقابلِ لي، بوقارٍ شديدٍ، غيرِ معهودٍ في رجال حيّنا، وطلب منّا أن نصطفّ في طابورٍ منظّمٍ، لنسيرَ وراء الرجلِ الطويلِ، حتّى يلبّي لنا حاجاتِنا، وبالفعل، اصطففنا، وسرنا في الشارعِ، يقودنا الرّجل الوقورُ، في أثرِ الرّجل الطّويل!!
ذاتُ التفاصيل، وذاتُ البضاعةِ، ونفسُ طبقةِ الغبارِ على الرفوفِ، وذاتُ الرائحةِ، حيثُ يختلطُ ما ينبعث من السردين المملّح، برائحةِ اليانسونِ والقِرفةِ والزعترِ البلديِّ والزيتِ المغشوشِ وحبِّ الحمّصِ والشّعير والمنظّفاتِ الكيميائيّةِ المزوّرة، وروائحَ أخرى من موادّ، سكنتْ هناك منذ قرونٍ، وانقرضت قبل قرونٍ أيضًا..
المسألةُ الجديدةُ كانت: ذلك الرجلَ الطويلَ، ذا الشعرِ الطويلِ والّلحيةِ الطويلةِ والأظافرِ الطويلةِ أيضًا، الواقفَ قدامِ أبي سمير، والذي أمسكَ بعنقي بأصبعين عظيمين، ورفعني، حتى صرتُ في مواجهةِ وجهِهِ الكبيرِ، وعينِهِ المغطّاةِ بجِلْدَةٍ مدوّرةٍ، خمّنتُ أنّها مُقتَطَعةٌ من بطنِ حمارٍ، أو مؤخّرةِ خنزيرٍ مقيتٍ، والذي قال باقتضاب، قبلَ أن أقولَ شيئًا: «سأمنحك سجائر» واجلسني على الرفّ، مثلَ قطِّ شوارع..
ومن على الرفّ، حيثُ يحسُّ الإنسان بالصّغر والتفاهة، رحتُ أرقبه يفعل ببقيّةِ المتسوّقين ما فعل بي، حتى امتلأت الرفوفُ بأناسٍ ذوي حاجاتٍ مختلفةٍ. وصادف أنّ السيّدة التي أُجلست جنبي، كانت جاءت تشتري نصفَ أوقيّةِ زعترٍ، على الحساب، لكن لم يبدُ عليها أيُّ استياءٍ، من جرّاءِ جلوسِها على الرفِّ عنوةً، وبدا أنّها استغلّت جلستَها تلك في الثرثرةِ، ابتهاجًا بزعترٍ مجاني، لا يقيَّدُ على دفتر البقّالِ، الذي لا يجيدُ الابتسامَ، وصاحبِ التعليقاتِ اللّاذعةِ، في حقّ زبائنِه المقترِضين، من مثلِ هذه السيّدةِ اللّدنةِ، الجالسةِ جواري باسترخاء...
سارتِ الأمورُ على هذا النحو زهاء ساعتين ونصفٍ: أناسٌ يدخلون بوابةَ المحلّ، وقبلَ أن ينطقوا بحاجتِهم، تلتقطهم أصابعُ الرجلِ الطويلِ، وتَعِدُهم بقضاء حاجاتِهم، بقدرٍ مناسبٍ من الصّلافة، ثمّ ترتّبهم على رفوفِ البقالةِ، شبهِ الفارغة. والحقّ أن أحدًا منّا لم يفعلْ شيئًا سوى الجلوس، مثلَ أيّ علبةِ لحمٍ معدنيّة...
وعندما حلّ الغروبُ، ولم يكنْ أيٌّ منا قد تململ من رفِّه، استلّ الرجل الطويلُ أبا سمير من وراء الطاولةِ، ومشى به خارجًا، ما أحدثَ فينا نوعًا من البلبلة، وبعضِ الفزعِ، لا سيّما عندما بدأنا نتقافز من أعلى، إلى أن تبرّع أحدُ السّادةِ، وكان جالسًا على الرفّ المقابلِ لي، بوقارٍ شديدٍ، غيرِ معهودٍ في رجال حيّنا، وطلب منّا أن نصطفّ في طابورٍ منظّمٍ، لنسيرَ وراء الرجلِ الطويلِ، حتّى يلبّي لنا حاجاتِنا، وبالفعل، اصطففنا، وسرنا في الشارعِ، يقودنا الرّجل الوقورُ، في أثرِ الرّجل الطّويل!!