- I -
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي شاءت الشاعرة العراقية نازك الملائكة الانخراط في معركة معايير الشعر (وكان الموزون، سواء قام على عمود أو على تشكيلة تفاعيل، هو وحده الشعر عندها)، وخوض معركة التسميات (إذْ رفضت مصطلح "قصيدة النثر" جملة وتفصيلاً، كما أبت على الناقد والروائي والشاعر جبرا إبراهيم جبرا استخدام مصطلح "الشعر الحرّ" بديلاً عن "قصيدة النثر"، ليس لأنّ جبرا ينتحل المصطلح الذي اعتبرت الملائكة أنها نحتته خصيصاً لوصف شعر التفعيلة فحسب، بل لأنّ المسمّى ـ الشعر المنثور ـ لا يستحقّ صفة الشعر أساساً). اللافت أنّ النصّ الشعري الذي ركزت عليه في إدارة السجال لم يكن من أنسي الحاج أو يوسف الخال أو أدونيس (وهم أقطاب قصيدة النثر آنذاك، في مستوى الكتابة الشعرية ومستوى التنظير على حدّ سواء)، بل اختارت قصائد الشاعر السوري محمد الماغوط، وتحديداً مجموعته "حزن في ضوء القمر" التي صدرت سنة 1959 عن منشورات دار مجلة "شعر".(1) وفي هذا الصدد، من الجدير بالذكر أنّ هيئة تحرير المجلة كانت، في أحد ردودها السجالية على الملائكة، قد تبنّت التسمية التي أطلقها جبرا على شعر الماغوط، أي: "الشعر الحرّ".
كذلك كان من اللافت أنّ نصّ الإعلان التجاري الترويجي لهذه المجموعة، والذي واظبت على نشره مجلة "شعر" باعتبارها الناشر، وقد يكون رئيس التحرير يوسف الخال هو شخصياً كاتب الإعلان، شدّد على حداثة "الأداء" في شعر الماغوط من جهة، وعلى قبوله الحسن لدى الشعراء والقرّاء من جهة ثانية: "هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي". ولم يكن "الأداء" الشعري هو الخصيصة التي توقف عندها التحرير في إطراء مجموعات شعرية أخرى صدرت عن الدار ذاتها، وتعتمد أيضاً شكل قصيدة النثر، الأمر الذي كان بمثابة إقرار مبكّر بأنّ للماغوط أسلوبيته المنفردة المميّزة ذات الصلة بما يتولاه النصّ الشعري ـ وليس الشكل وحده ـ من وظائف أدائية، يُراد بها أساساً تلك العلاقة الإشكالية شبه الغائبة، وربما غير المولودة بعد أو عسيرة الولادة، بين قصيدة النثر والقارئ العريض.
تلفت الإنتباه، كذلك، صفة "الفذّ" التي أطلقها الإعلان على شاعر كان آنذاك في الخامسة والعشرين من العمر، ولم يكن في عداد أبرز نجوم "خميس مجلة شعر"، اللقاء الأسبوعي الذي كان عادة يضمّ أمثال أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي ونذير العظمة وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وجورج صيدح وحليم بركات وفؤاد الخشن وطلال حيدر وصلاح ستيتية، كما ضمّ في مناسبة وأخرى أمثال بدر شاكر السياب ونزار قباني وجورج شحادة ونازك الملائكة وبلند الحيدري وفدوى طوقان... صحيح أنّ الماغوط لم يكن في صفّ "الكومبارس"، وهو التعبير الطريف الذي اختاره رياض نجيب الريس لنفسه في "الخميس"، لكنه في كلّ حال لم يكن في عداد النجوم أو أهل "السلطة" في الحركة، والتعبير للريس هنا أيضاً.(2)
ورغم أنّ الماغوط كان عصاميّ الثقافة، لم يدرس في كمبردج أو أوكسفورد أو السوربون، ولم يمتلك ناصية لغة أجنبية يقرأ بها (كما كانت حال الغالبية الساحقة من أفراد حركة مجلة "شعر")، فإنّ من المدهش أن جبرا إبراهيم جبرا لم يتردد في ضمّه إلى صفّ التيار الأنغلو ـ سكسوني من شعراء قصيدة النثر العرب (إلى جانب توفيق صايغ ويوسف الخال وإبراهيم شكر الله وجبرا نفسه)، الذي يقابله تيّار فرنكوفوني يضمّ أدونيس وأنسي الحاج. وإذْ أخذ على أدونيس ولعه بـ "الوحش الأكبر في الشعر"، أي التكثيف اللفظي الذهنيّ المفتقر إلى الحسّ والفكر، والتناقض بين تموزيته وإسلاميته، تاريخيته ومعاصرته، سرياليته ووعيه المقصود... فإنّ جبرا امتدح نصّ الماغوط على نحو لافت تماماً، فاعتبره "أبرع مَن يستخدم المونتاج بسخاء تلقائي، كأنه لا يستطيع كبح صوره المتعاقبة"، وضرب مثالاً هذا المقطع من قصيدة الماغوط "القتل"، من مجموعته الأولى:
كانوا يكدحون طيلة الليل
المومسات وذوو الأحذية المدببة
يعطّرون شعورهم
ينتظرون القطار العائد من الحرب،
قطار هائل وطويل
كنهر من الزنوج
يئنّ في أحشاء الصقيع المتراكم
على جثث القياصرة والموسيقيين
ينقل في ذيله سوقاً كاملاً من الوحل والثياب المهلهلة
ذلك الوحل الذي يغمر الزنزانات
والمساجد الكئيبة في الشمال
الطائر الذي يغنّي، يُزجّ في المطابخ
الساقية التي تضحك بغزارة
يُربّى فيها الدود
ها نحن نندفع كالذباب المسنن
نلوّح بمعاطفنا وأقدامنا...
وكان المونتاج عند جبرا هو "تعاقب الصور على نحو خاص مستهدفاً نتيجة عاطفية معينة، وهذا ما يفعله الشاعر المعاصر ، إذ يلحق الصورة بالصورة، أحياناً على نهج سريالي، والسرياليون تعلموا الكثير من المونتاج السينمائي". والمونتاج الذي في ذهنه كان، كما أوضح، على غرار ما فعله المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين، أواسط عشرينيات القرن الماضي، في شريطه الملحمي "البارجة بوتومكين" وخصوصاً سياقه الشهير عن "أدراج أوديسا".(3)
هذه الوقائع، وسواها كثير، علائم بيّنة على المكانة الرفيعة التي حظيت بها قصيدة الماغوط منذ أطوارها الأبكر، ليس على في صفّ شعراء قصيدة النثر إجمالاً وحركة مجلة "شعر" بصفة خاصة فحسب، بل كذلك ـ وهو الأهمّ والجوهري ـ على صعيد الذائقة العامّة، في تلك المراحل الحافلة بالتعطّش إلى التجديد، والتبدّلات القلقة في الحساسيات والأساليب والأشكال والحساسيات، والصعود الخاطف مثل الأفول السريع لحداثات متلاطمة متصارعة، بعضها أصيل ومعظمها زائف. إلى جانب تلك العلائم، الإيجابية التي تسير عموماً في صالح نصّ الماغوط، توفّرت مواقف أخرى تضع قصيدة الماغوط ضمن سلسلة من الإشكاليات التعبيرية واللغوية والجمالية، وحتى الفكرية الثقافية، التي تدنيها في قليل أو كثير عن سوية القصائد التي كان يكتبها "النجوم"، في العودة إلى تعبير رياض الريس، من أمثال أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال.
وعلى سبيل المثال، في عام 1959 وعلى صفحات مجلة "شعر" اللبنانية دون سواها، كانت خزامى صبري (التي سيتضح، فيما بعد، أنها الاسم المستعار للناقدة السورية خالدة سعيد) قد كتبت مراجعة لمجموعة الماغوط "حزن في ضوء القمر". وهذه المراجعة تظلّ لافتة اليوم أيضاً، ليس لأنّ صبري/ سعيد كانت سبّاقة إلى استكشاف النصّ الماغوطي وتسجيل إشارات نقدية مبكرة ولامعة تماماً حول خصائص شعره فحسب، بل لأنّها امتدحت فيه كلّ خصيصة... ما عدا الشعرية! وبعد أن اعتبرت "هذا النثر الشعري شعراً"، استقرّت دون إبطاء على أنّ قصيدة الماغوط "عقد من الصور، ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين"؛ وأنّ "الصورة قوام التعبير الشعري عند محمد الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من المجموعة"؛ وأنّ الشاعر "يعرف جيداً من أين يغرف مادة صورته (أو لعله لا يعرف)"، وأنّ "صوره لا تكشف غالباً عن علائق جديدة تتخطى العلائق الشكلية"، وهي "تبقى باردة" لأنها إنما "تنقل الواقع أو العلاقات الحسية المنطقية"...
كذلك فإنّ الصورة الماغوطية هذه "مسطحة لا عمق لها، لأنّ العمق أو البعد الثالث في الصورة ينبع من العلاقة المعنوية التي توحي بما هو أبعد من الأشكال المحسوسة التي تمرّ في خيال القارئ ساحبة وراءها نهراً من الرؤى والخواطر والمواقف". وتضيف صبري/سعيد، في ما يشبه تجريد الماغوط من صفة الشاعر بعد منحه صفة المصوّر السطحي: "ولو كان محمد الماغوط متمكناً من فنّ الشعر لاستفاد كثيراً وحوّل هذا التخلخل [الناجم في نظرها عن عدم اعتماد الماغوط "الخطّ المستقيم أو أسلوب السرد القديم"، ولا "الأسلوب الدائري الحديث"] إلى أسلوب خاصّ". ثمّ تذهب أبعد فتقول: "إنّ شعر الماغوط يفتقر إلى الحركة الداخلية، لأنّ الصوت في القصيدة يكاد يقتصر على النداءات والأوصاف. الانفعالات في القصيدة تتموّج تموّجاً خفيفاً يكاد لا يبدو، مما يضفي عليها صفة الرتابة والتكرار، لأنه مهما كان الانفعال متوتراً عالياً سينتهي في نفس القارئ إلى البرود إذا لم يتموّج بعنف مماثل. شعر محمد الماغوط بحاجة إلى روافد جديدة من الأساليب والصور".(4)
صحيح أنّ الزمن، والتطوّرات الكبرى في النظرية النقدية حول البنية الشعورية للصورة الشعرية والصوت والهوية والحركة الداخلية في القصيدة، قد تكفّلت بتصويب أحكام صبري/ سعيد القاسية المغلوطة تلك، إلا أنّ عدداً من السمات التي اعتبرتها الناقدة بين مثالب النصّ الشعري الماغوطي كانت ـ للمفارقة ـ تتصدّر الأسباب التي أكسبت شعره كلّ تلك الشعبية في تلك الحقبة، وجعلته شاعر مجموعة "شعر" الأعلى حظوة بالإجماع على شعريته الفريدة، والأفضل استقبالاً عند القارئ العادي والقارئ النخبوي معاً، والأوسع انتشاراً خارج الدائرة الشامية اللبنانية ـ السورية.
ومما له دلالة خاصة، في صدد الحصيلة الختامية لعلاقة الماغوط بمجلة "شعر"، أنه انسحب منها أواخر العام 1961 (مثلما فعل أدونيس وخالدة سعيد في الواقع، ولكن لأسباب مختلفة تماماً)، بل شنّ عليها هجوماً عنيفاً، ذا مضمون جمالي وسياسي وسوسيولوجي ـ ثقافي في آن معاً، بلغ حدّ التنازل الطوعي عن أية ميّزات شعرية منحتها له المجلة أو شعراؤها. ففي مقال بعنوان "نخبة مجلة ’شعر‘"، نشره في صحيفة "الأنوار" اللبنانية (ولم يكن بغير مغزى خاصّ أنّ مجلة "الآداب"، الخصم الإيديولوجي لمجلة "شعر"، أعادت نشره)، كتب الماغوط يصف "جماعة هذه المجلة" بأنهم "ضحلو الموهبة، غير قادرين على دخول المعركة من باب الشعر الأصيل المنزّه، فراحوا يحاولون فتح أنفاق عديدة تحت الأرض للطم التاريخ العربي بأسره، ليخوضوا المعركة خارج ميداننا ضدّ وهم كبير يسمّونه بكلّ رعونة ’الجمهور الأمّي‘ والغوغاء. والدليل على ذلك أنّ حكمهم النهائي على نجاح القصيدة هو أن يرفضها هذا الجمهور، أن يسخر منها ويشمئز. وهناك وقائع عديدة عن هذه الظاهرة وقفت عليها شخصياً عندما كنت عضواً عاملاً ومخدوعاً بينهم طوال ثلاث سنوات ونيف". ثمّ أضاف الماغوط تلك الجملة القاتلة، التي ستذهب مثلاً بليغاً عند خصوم "شعر" على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم: "قلْ لأحدهم ثلاث مرّات: المتنبي، يسقط مغشياً عليه. بينما قلْ له على مسافة كيلومتر: جاك بريفير، فينتصب، أو يقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع. لماذا؟ الجواب بسيط: لأنّ هذا غربي، وذاك عربي!".(5)
- II -
لعلّ من المفيد التوقف، مجدداً، عند رأي خزامى صبري/ خالدة سعيد في الصورة الماغوطية، وما إذا كانت بالفعل نقطة ضعف في شعره، أم العكس: الميّزة الأبرز والأشدّ فاعلية والأعلى جاذبية. والحال أنّ الصورة، أو بالأحرى تلك الشبكات التشكيلية الأقرب إلى صناعة "الصورة العميقة" كما نعرفها عند كبار الشعراء المصوِّرين، كانت في طليعة العدّة التعبيرية الجبّارة التي يسّرت صعود نصّ الماغوط وعبوره إلى شرائح واسعة من القرّاء، وبالتالي أتاحت تكريس هذه الشعرية الجديدة الطازجة النضرة غير المألوفة. وهذه الصورة هي، أوّلاً، نقيض صورة السطح ذات العناصر المألوفة والمعطيات المتآلفة والعلاقات غير الصادمة بصرياً، كما حين يتحدّث الماغوط عن روح "ترقد في علياء الكون/ كما ترقد الفراشة في أذن الطفل"، أو "تحت غيوم الكستناء الزرقاء/ بين عواء الزنوج/ وصرير النهود البرّية". وهي استطراداً صورة حسية ملموسة، أكثر ممّا هي ذهنية مجرّدة، يتوجب أن تخلق نطاقاً شعورياً عميقاً وجليّاً في آن، كفيل بخلخلة كلّ ما هو راسخ مسبقاً من معنى ومدلول، كما في قول الماغوط: "أيتها النسور المهلهلة/ هل أطليكِ بالمراهم؟"، أو قوله: "مئة عام تربض على شواربنا المدماة/ مئة عام والمطر الحزين يحشرج بين أقدامنا".
وكانت براعة الماغوط في اقتناص الصورة العميقة من باطن المألوف الدارج هي في طليعة المهارات التي أسبغت شرعية عالية على قصائده الأولى، تلك "المقطوعات النثرية"، كما أسماها بنفسه، فلقيت قبولاً واسعاً مدهشاً آنذاك، على نحو لم يكن من نصيب قصائد توفيق صايغ وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وتيريز عواد وجبرا إبراهيم جبرا. كان الماغوط يقول:
أنا طائر من الريف
الكلمة عندي أوزة بيضاء
والأغنية بستان من الفستق الأخضر
فيدخل الحسّي الطبيعيّ في فضاء مفتوح من ترجيح العلاقات الشعورية والبصرية وحتى الصوتية، دون أن تخامر القارئ المنخرط في هذا الفضاء التخييلي أيّ أحاسيس بأنّ شيئاً من عناصر التصوير قديم عنده أو مرّ في ذاكرته، والأرجح أنه بذلك لن يشعر برتابة من أيّ نوع. وكان الماغوط يقول:
يا قلبي الجريح الخائن
أنا مزمار الشتاء البارد
ووردة العار الكبيرة
فتضرب هذه النبرة الغنائية الطافحة في جذور عميقة من وجدان الندب الذاتي العربيّ، وتستفيق انفعالات جامحة ليست بمنأى عن تراث الحزن التلقائي الدائم الأشبه بطبيعة ثانية، وتتحفّز الذات المتأهبة أصلاً للجرح النرجسي، فكيف إذا كانت مترادفات هذه السطور تجمع ما يُجمع عادة دون كيمياء مزج شعرية ـ شعورية عالية البراءة!
ثمّ يقول الماغوط:
مَن رأى ياسمينة فارعة خلف أقدامي؟
مَن رأى شريطة حمراء بين دفاتري؟
إنني هنا فناء عميق
وذراع حديدية خضراء
تخبط أمام الدكاكين
والساحات الممتلئة بالنحيب واللذة
إنني أكثر من نجمة صغيرة في الأفق
أسير بقدمين جريحتين
والفرح ينبض في مفاصلي
إنني أسير على قلب أمّة.
فتنكسر كلّ محظورات المنطق الدلالي الذي لا يُبقي الشريطة الحمراء محض شريطة حمراء، ويطلقها بالتالي في ما كلّ يحلو للقارئ أن يستولده من حقول استدلال؛ ولا يجعل زجّ الآدمي في صورة الفناء العميق يمرّ في الذهن دون مضاعفات متعددة، بصرية ومادية ومجازية؛ والأرجح أنه يهزّ بصيرة القارىء، ويلامس انفعالاته غير المسطحة أبداً، فيعيد ترسيم صورة السير على قلب أمّة، ولكن ليس دون أن يدخل البصيرة في استكشافٍ نشط لما يمكن أن يتحفّز في الباصرة بدورها.
وإذا كان البعض، على مثال خزامى صبري/ خالدة سعيد، قد اعتبر أنّ الصوت في قصيدة الماغوط "يكاد يقتصر على النداءات والأوصاف"، (رغم وجود فارق كبير بين النداء والوصف ومن الصعب أن يترادفا ضمن مأخذ واحد)، فإنّ مزاج النداء كان بدوره أحد الأسلحة الجبّارة (ولا أقول أبداً: الخفية!) التي جعلت شعر الماغوط، وربما النصّ الماغوطي عموماً، قريباً إلى نفوس القرّاء (على اختلاف مستوياتهم، للتذكير ثانية)، وقادراً ربما على استدراج الذائقة وتطويعها، عن طريق مناشدتها بوسيلة أحرف النداء تارة، أو استمالتها بأدوات التمنّي طوراً. ومن المعروف أنّ قصيدة من الماغوط يندر أن تخلو من أدوات وأحرف مشبهة بالفعل، مثل "يا"، "أيها"، "أيتها"، و"ليتني"، الأمر الذي نبع أوّلاً من حقيقة أنّ هذا المزاج الصعلوكي الشريد الهامشي، وتلك الروحية النقيضة للبطل وللسوبرمان وللأسطورة، نزيلة الشوارع والأزقة والسعال والقرفصاء... عناصر لا تملك رفاه التنازل عن النداء والمناشدة، ولا ترغب في ذلك أصلاً.
بل إنّ مزيجاً، حادّاً بالفعل وعنيفاً، من هذا كلّه جعل الماغوط يقارب في بعض النماذج مستوى في نكران الذات لا يشبه أيّ طراز سلبي من الخيانة الطوعية للهوية، لأنه في الواقع كان يبدو أشبه بمَن يزمع احتضان العالم بأسره كما كان فرانز فانون يقول، من جهة؛ وكان، من جهة ثانية، يبدو مازوشياً على نحو ما، قريباً من جلد الذات، ساعياً إلى التطهّر عن طريق القسوة؛ ولكنه، من جهة ثالثة، ظلّ إنسانياً على نحو كوني وكوزموبوليتي صارخ، مشحون، عالي التأثير، وأخاذ، كما في قصيدته "الخطوات الذهبية":
آه كم أودّ أن أكون عبداً حقيقياً
بلا حبّ ولا وطن
لي ضفيرة في مؤخرة الرأس
وأقراط لامعة في أذنيّ
أعدو وراء القوافل
وأسرج الجياد في الليالي الممطرة
وعلى جلدي الأسود العاري
يقطر دهن اللوز الأحمر
وتنثني ركب الجواري الصغيرات
إنني أسمع نواح أشجار بعيدة
أرى جيوشاً صفراء
تجري فوق ضلوعي.
وحول مسألة الصورة، هذه السمة الفنية العالية في شعر الماغوط، كان الشاعر والناقد اللبناني ـ الكندي جان عصفور قد عقد مقارنة مثيرة للانتباه بين الماغوط والشاعر الأمريكي التصويري وليام كارلوس وليامز. وكتب يقول: "إذا تعيّن أن ينتمي الماغوط إلى أية نظرية شعرية محددة، فإنها لا ريب ستكون تعريف وليامز للمهمّة الشعرية، كما صاغها في قصيدته الشهيرة "بيترسون": سعي الشاعر إلى "العثور على صورة واسعة بما يكفي لاستيعاب سائر العالم القابل للمعرفة من حولي... والكتابة عن أناس قريبين منّي... عن بياض أعينهم، وعن روائحهم ذاتها. هذه هي مهنة الشاعر. إنها ليست الكلام عن المقولات المبهمة بل كتابة المحدد، تماماً كما يعمل الطبيب إزاء جسد المريض، إزاء الشيء الذي أمامه، بغية اكتشاف الكونيّ فيه بصفة خاصة".(6)
لكنّ عصفور لا يُخرج شعر الماغوط عن سياقاته العربية التراثية، فيعتبر أنّ نموذج "البطل المضادّ" الذي يهيمن على القصائد هو في الآن ذاته نموذج مضادّ لفكرة "الشاعر ـ النبيّ"، كما أنّ "ضمير المتكلّم الصعلوكي" يهزّ صورة الشاعر النمطية في حدّ ذاتها، من حيث تعاليه وتساميه وتحليقه، الأمر الذي لم يشهده الشعر العربيّ بهذه الحدّة إلا عند الحطيئة وأبي نواس: "إنّ ضمير المتكلم عند الماغوط ليس الأنا المتعالية الساكنة في برج عاجي، بل هو قاطن الشوارع، والفنّان ذو الأذواق الهابطة غير المألوفة وغير القابلة للتقويم". غير أنّ سخريته المريرة تتكشف عن "تكتيكات صادمة لتعرية الحقائق المؤلمة في العالم العربي، هذه التي يرفض رفعها إلى مصافّ النبل والمثال. اليأس يكتنف النبرة التهكمية، والغرض الشعري تؤججه هموم العالم المباشر والمادي والمعروف والمستحب، وليس أي مستقبل أفضل متخيَّل، أو أيّ ماض متخيَّل على غراره".(7)
- III -
إنصاف شعرية الماغوط يقتضي، في يقيننا، البدء من إنصاف وسيط القول (لكي لا نقول: جنس الكلام) الذي استقرّ عليه في صياغة تلك الشعرية، أي النثر، وذلك من خلال طرح سؤال مزدوج قد يبدو مدرسياً للوهلة الأولى، ولكنّ وظيفته المنهجية لا تفرض ضرورة مقاربته فحسب، بل تساهم إلى حدّ كبير في إنصاف شعرية هذا الطراز من النثر عموماً، وشعرية الماغوط بصفة خاصة: أيّ نثر هو هذا النثر الماغوطي، بادئ ذي بدء؟ ولماذا نجح في استقطاب الذائقة الشعرية العربية أواسط خمسينيات القرن الماضي، بالقياس إلى تجارب شعرية ـ نثرية أخرى فشلت أو لم تحقق نجاحاً مماثلاً؟
أولى خصائص هذا النثر، وأولى نقاط جاذبيته الشعرية في عبارة أخرى، أنه لم يكن يعيد ترجيع أصداء (أي خطابات، ونبرات، وتشكيلات، وعمارات، ومعاجم...) ثلاثة منابع لغوية ـ أدبية أساسية لعبت هذا الدور أو ذاك في "شَعْرَنة" النثر: القرآن الكريم، والسور القصار بصفة خاصة؛ مختلف أنماط ما عُرف باسم "النثر الفنّي" على امتداد الكتابة العربية، وعلى رأسها النصوص الصوفية؛ وأخيراً، تجارب "الشعر المنثور" كما توالت منذ مطلع القرن العشرين، عند جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميّ زيادة وسواهم. والحال أنّ الماغوط، منذ قصائده المبكرة التي نشرها في "المجلة"، قبل صدور "شعر"، شدّ الذائقة إلى نثر جديد تماماً، طازج على نحو غير مألوف، لا تذكّر شعريته بأيّ مجاز نثري مُشَعْرَن آخر، فضلاً عن خصائصه التصويرية الجبّارة التي لم تخدم موضوعات القصائد بشكل ممتاز الفاعلية فحسب، بل أطلقت حساسية جديدة في استقبال صورة الشاعر ـ الرجيم، سرعان ما استقطبت الجمهور العريض، فترسخت واستقرّت.
وكيف، بالفعل، كان يمكن لأية حساسية مدرّبة على التقاط النصّ الشعريّ الأصيل، أن لا تقابل بأشدّ الترحاب مثل هذا النصّ الفاتن الأخّاذ، والجديد الفتيّ في آن معاً:
أريد أن أهزّ جسدي كالسلك
في إحدى المقابر النائية
أن أسقط في بئر عميق
من الوحوش والأمهات والأساور
لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملح
نسيت ضوء القمر ورائحة الأطفال
إن أحشائي مليئة بالقهوة الباردة
والمياه العمياء
وحنجرتي مفعمة بقصاصات الورق وشرائح الثلج
أيها الماء القديم
أيها الماء النَيّء... كم أحبّك.
ثانية خصائص النثر الماغوطي، ونقاط جاذبيته هنا أيضاً، أنه لم يكن محاكاة أخرى لما عُرف آنذاك باسم "القصيدة الرؤيا"، تلك التي انقلبت إلى ما يشبه الإنجيل عند عدد كبير من الشعراء الذين سوف يتنبّون شكل قصيدة النثر، ويتصدّون للدفاع عنها نظرياً. ولأسباب تخصّ أوّلاً طبيعة موهبته الذاتية، وأخرى ذات صلة بتربيته الشخصية الجمالية والثقافية والبيئية أيضاً، لم يكن من الممكن لشاعر مثل محمد الماغوط أن يكتب قصيدة تمنع عنه الرؤية (وهو الرائي بامتياز) لصالح الرؤيا المرتهنة بإشراقة صوفية هنا، وبشطحة ميتافيزيقية هناك، حيث "الشعر الحديث رؤيا، والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفاهيم القائمة" و"تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها" كما عبّر أدونيس، وحيث لا بدّ للشاعر من النأي عن الواقع والحياة اليومية إلى مقامات أخرى يكون فيها الشعر "تجربة كيانية فريدة" كما عبّر يوسف الخال.(8)
ومن المتفق عليه أنّ إصرار شعراء "قصيدة الرؤيا" على امتداح هذا الخيار بالذات، وبالتالي الإفراط في كتابة نماذجه إمعاناً في البرهنة على صوابيته وجودته وأحقية استئثاره بمفهوم الحداثة، وتعثّر معظم هذه النماذج في تكوين حساسية عامة من نوع ما، تسوّغ الإكثار من هذه القصيدة... كانت سلسلة عوامل أسفرت عن عزوف جماهيري واسع النطاق من جانب أوّل، وشكّلت من جانب ثانٍ عوامل امتياز سهّلت تذوّق وصعود شعبية النموذج الموازي الأهمّ آنذاك، وشبه الوحيد ربما، أي قصيدة الماغوط. وغنيّ عن القول، في وصف الحال ذاتها أنّ البون كان شاسعاً تماماً بين قرّاء الشعر وشروط قصيدة الرؤيا كما حدّدها ماجد فخري مثلاً:
"أتيح للفنان أن يساهم في فعل الخلق المتواصل الذي يصير العالم من جرائه موجوداً بالفعل دوماً. وهو يفعل ذلك متى استطاع أن ينفذ، من خلال عالم المرئيات الماثل بين يديه، إلى عالم الغيب الذي يفصح عنه هذا العالم إفصاحاً ويرمز إليه رمزاً، إذ يتمكن عندها من جلاء ما كان خافياً من نواحي الوجود الخصب الذي يعمر به ذلك العالم، ولا يفصح عنه عالمنا إلا بقدر. ولو قصدنا الدقة في التعبير، لوجب أن نقول إن الشاعر لا يخلق شيئاً بل ينفذ ببصيرته الحادة إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معاني وأشكال فيقتنصها ويكشف نقاب الحسّ عنها: وبذلك يفتح عيوننا على ما في الأشياء المرئية من روعة وفتنة ومعنى، قد نكون غافلين عنها لضعف في بصرنا أو قصور في إدراكنا. وهكذا يكون الشعر الأصيل ضرباً من الرؤية الثاقبة، أو إذا شئت، ضرباً من الرؤيا. ولعلّ في التمييز بين الرؤية والرؤيا مفتاح السرّ الذي نبحث عنه".(9)
ثالثة خصائص نثر الماغوط أنه في الواقع لم يكن وحيداً منفرداً في خوض حروب استدراج الذائقة، على الساحة العربية المشرقية عموماً، والسورية تحديداً. ورغم وجود تجارب عديدة في قصيدة النثر السورية، عند علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي وسليمان عواد(10)، فإنّ شريك الماغوط الحقّ الماهر كان قاصاً في الواقع: زكريا تامر. ففي أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، لم يكن مألوفاً (وبالتالي كان جديداً صادماً ينطوي على مغامرة ومجازفة) أن يختار الشاعر الشابّ محمد الماغوط عنواناً لقصيدته يسير هكذا: "جنازة النسر"، في اتكاء على صورة برّية تماماً، عالية الانتهاك لشيفرات التصوير المعتادة، منسرحة التخييل، متنافرة الطرفين (الجنازة/ النسر)، وشاعرية آسرة لافتة في آن. ولم يكن مألوفاً، ضمن اعتبارات عديدة جمالية وثقافية وحتى تاريخية وسوسيولوجية، أن تبدأ القصيدة ذاتها هكذا:
أظنها من الوطن
هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين
أظنها من دمشق
هذه الطفلة المقرونة الحواجب
هذه العيون الأكثر صفاءً
من نيران زرقاء بين السفن.
أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعّد
الرصيفُ الحاملُ طفلَه الأشقر
يسأل عن وردة أو أسير،
عن سفينة وغيمة من الوطن...
في الفترة الزمنية ذاتها، وضمن سياقات متماثلة تقريباً من الصدم والمغامرة والمجازفة، لم يكن مألوفاً أن يطلق القاصّ الشابّ زكريا تامر، بدوره، اسم "الأغنية الزرقاء الخشنة" على قصة قصيرة لا يتجاوز حجمها ستّ صفحات من القطع المتوسط، وأن تبدأ فقرتها الأولى هكذا: "نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضغط ضغطاً جيداً في قالب جيد. وتعرّج النهر عبر الأزقة البيضاء وبين المنازل الطينية المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصديد جراح أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاط مبعثرة بمهارة، مختبئة في قاع المدينة، فصبّ فيها حثالته الباقية".(11)
وعلى أيدي الماغوط وتامر كان النثر السوري يعيش طوراً استثنائياً من التحوّل والتحويل والانقلاب الجذري، ليس فقط على صعيد مختلف طرائق "شَعْرَنة" ما نُدرجه تحت تصنيف نثر الحياة اليومية (وتلك سيرورة كانت قائمة على هذا النحو أو ذاك في كلّ حال)، بل كذلك في ترقية هذه الخيارات التجريبية إلى مستوى المختبر المفتوح الموضوع على محكّ القراءة من خلال نتاج شعري وقصصي سوف يتواصل ويتنامى ويتراكم، متجاوزاً روحية التجريب العابرة الطيّارة.
وفي مناسبة سابقة، بصدد أدب زكريا تامر تحديداً، وبوصفه مختبراً تعبيرياً فريداً في تجريب النثر، أتيحت لي فرصة تثمين ذلك الطور الذي عاشه النثر السوريّ وانطوى على سيرورة مدهشة من التجاوز الدائم (الأقرب إلى الترقية العضوية) للنظام التجريدي ذاته الذي تميل اللغة إلى اعتماده في إنشائها للعالم ولدلالات ومدلولات العالم. ذلك النثر كان يضعنا أمام كتابة هي، في واقعها القرائي كما في أدواتها التعبيرية العاملة فوق وتحت سقوف النوع الأدبي، عمليات قلب راديكالي للمنطق ذاته الذي يحكم اتصال وانفصال الوظيفتين الشعرية (التي تتوسل الشعر) والخطابية (ذات الصلة بمعاجم الحياة اليومية) في اللغة، الأمر الذي كان يسفر عن كيمياء شعرية استثنائية فذة، انتزعت لنفسها حقّ استدخال الكابوس (الكوني) في الحلم (الفردي)، وحقّ مزج المعاناة الإنسانية الشاملة بأيّ مقدار من العذاب العبقري الذي يجتاح هذه النفس البشرية الفردية أو تلك.(12)
ما ينطبق على نثر زكريا تامر، ينطبق على نثر الماغوط أيضاً، أي يصف شعره استطراداً. وليس تفصيلاً غريباً، أو ظاهرة بحاجة إلى تبصّر إضافي أو تنظير من أيّ نوع، أنّ الكائن البشري حامل تلك الشيفرات النثرية الاستثنائية لم يكن البتة استثنائياً أو خارقاً أو بطولياً أو أسطورياً، تموزياً صانع النماء أو سيزيفياً حامل الصخرة، بل كان أبسط بكثير، أو بالأحرى كان نقائض هذا كلّه على وجه الدقة: كان الشريد والصعلوك، والكائن الصغير الخائف، والكسير الأسير. وهذا يفسّر طبائع استقبال نثر الماغوط وتامر في تلك الأيام، حيث امتزج بعض الإعراض الابتدائي بالكثير من الدهشة والانبهار والإعجاب والتعاطف، دون أن يغيب كذلك قسط من الحيرة إزاء هذا الزخم الشعري العالي الذي تحمله مدوّنة نثرية. ولقد تضافرت مجمل الاستجابات المتضاربة هذه، وتعايشت، وظلّت في حال من الشدّ والجذب رغم أنّ مناخات الحداثة والتحديث كانت على قدم وساق آنذاك؛ وكان النصّ الأدبي العربي، شعراً ونثراً، يدخل في مطحنة لا تتوقف رحاها عن تبديل الأساليب وتحويل الأشكال.
- IV -
الخصائص التي تبرّر تثمين هذا النثر الماغوطي، هي ذاتها التي تبرّر القول بأنه الرائد الحقّ في إعلاء شأن ما نسمّيه اليوم "قصيدة النثر" العربية، والرائد الأشدّ جاذبية رغم أنه لم يكن شاعر النماذج الأولى والأبكر في هذا الشكل من الكتابة الشعرية (وهو شرف قد يصحّ أنّ الكثيرين يتنازعونه، من مصر إلى سورية إلى لبنان...)، وذلك في مستويات ثلاثة، تنضمّ إلى ما جاء من خصائص في السطور السابقة، فضلاً عن اعتبارات أخرى ليست أقلّ أهمية.
المستوى الأوّل أنّ الماغوط كان المعلّم الأمهر في تفجير الطاقات الإيحائية والتعبيرية الهائلة التي ينطوي عليها النثر، بوصفه نثراً أوّلاً وأساساً، ثم في انقلاباته واستقلاباته الشعرية بعدئذ. وكانت فطرة الماغوط في هذا، هي فطرة الشعر الخالص، والشعر الطبيعي، والشعر الأعجوبة البسيطة التي لا يضلّ القارئ طريقه إلى عبقريتها. تلك، في الآن ذاته، كانت فطرة معمارية تركيبية تخصّ البنية ولا تسقط اعتبارات الشكل، خصوصاً حين يتمّ تقطيع المادة النثرية إلى سطور توحي بالأبيات الشعرية، وهي غير موزونة. وبين أكثر خصائص نثر الماغوط إثارة للاهتمام في جوانبه البنائية، من حيث صياغة الجملة وإيقاعات التنويع في تركيبها النحوي أنه كان نثراً متماسك المعمار رهيف التناسب حسّاس الموازين، يستعصي استطراداً على محاولات تفكيك معماره وإعادة تقطيعه في سطور تامة مدوّرة تصنع فقرة نثرية متكاملة (الأمر الذي لم يتوفر في الكثير من نماذج مجايليه شعراء قصيدة النثر).
ورغم أنّ الماغوط لم يكن مصاباً بأيّ من "فيروسات" الشعر الفرنسي التي أصيب بها مجايلوه من شعراء قصيدة النثر العربية أواسط الخمسينيات، فإنّ نثره كان بحقّ "نثر الحياة اليومية"، تماماً كما حلم به الشاعر الفرنسي بودلير منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكان قاموس القصيدة يبدو في السطح متقشفاً، أو حتى محدوداً، في المقياس الكمّي الأقصى الذي تتطلبه قصائد قصيرة أو متوسطة غالباً، تغطي حلقات عيش هذا البطل المضادّ الصعلوك الشريد، ودوائر وجوده، وأحزانه، ومراثيه، وأحلامه، وأفراحه القليلة وأتراحه الكثيرة. وأمّا في بنيته الداخلية الأعمق، وفي قوانينه التصويرية الطليقة، وفي اقتناصه توتراً دلالياً إثر آخر، وغوصه في أغوار شعورية خلف أخرى، واختراقه هذا المسلّم المجازي أو ذاك الـ "كليشيه" الاستعاري... فقد كان نثر الماغوط يراكم ـ علانية وإفصاحاً غالباً، وعلى نحو مموّه خفيّ أحياناً ـ شعرية تلقائية، فطرية، عالية الجاذبية، وجبّارة التأثير.
المستوى الثاني أنّ الماغوط تكفّل بنقل موضوعات قصيدة النثر العربية الخمسينية من الذهني والميتافيزيقي والتأملي الصرف، وهي الموضوعات التي كانت قد تسللت وهيمنت من خلال التأثر الطاغي بقصيدة النثر الفرنسية أكثر من سواها، إلى شؤون الصعلكة والتسكع والحرمان والحزن، والرعب من رجل الأمن ومن رموز االمحرّم والمقدّس سواء بسواء. ولسنا نعرف شاعر قصيدة نثر غاص إلى قاع الشارع، ونقل هواجس وأحلام ومخاوف وآمال مواطن الشارع، كما فعل الماغوط في ذلك العهد. كما لا نعرف أنّ رائداً سواه نال مثوبته الكبرى في إقبال قارئ الشارع على قصيدته، واستقبال فنّه الجديد بترحاب وإعجاب، دون جوازات مرور تنظرية حداثية أو طليعية مسبقة الأحكام، ودونما حاجة إلى وسائط بين النصّ الشعري والذائقة.
وفي المستوى الثالث كان الماغوط رائداً في الانتماء إلى حقبة الحديث والحداثيّ، وفي تجسيد طراز من الحداثة مركّب ومتعدد وتعددي ومستقلّ، فضلاً عن انطوائه على حسّ ما بعد حداثي مبكر، في آن معاً. وأما الفضيلة الكبرى لتلك الحداثة فهي أنها لم تكن بالضرورة مطابقة لأيّ من "الحداثات" الغربية الشائهة المشوَّهة أو الناقصة المنتقَصة، التي شاع ابتسارها وتقليدها وتكريسها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ففي هذا المقطع من قصيدة الماغوط الشهيرة "أغنية لباب توما":
ليتني حصاة ملوّنة على الرصيف
أو أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الأملس (...)
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء (...)
أشتهي أن أقبّل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين،
تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه،
فأنا ما زلت وحيداً وقاسياً
أنا غريب يا أمّي.
ثمّة نصّ ينتمي إلى ذهنية الحقبة الحديثة في أنه يلتقط حالة اغتراب الوجدان عن العصر، مردّها ـ بين عوامل أخرى ـ طغيان العقل وتراجع الروح وحيرة الكائن في ذلك كله؛ وينتمي إلى الحداثة في ثورته الشكلية واللغوية والاستعارية؛ كما ينتمي إلى الرومانتيكية (خصم الحداثة!) في أنّ نبرته الإجمالية تنهض على حنين إلى الإنصهار في عناصر الطبيعة، وعلى توجع حزين ومرهف يخصّ الذات وفي أغوار الذات.
وطيلة العقود التي شهدت صمت الماغوط الشاعر لصالح الماغوط المسرحيّ وكاتب المقالة الصحفية، لم يكن مدهشاً أنّ تأثير الشاعر على أجيال متعاقبة من شعراء قصيدة النثر ظلّ عظيماً ومتعاظماً وفريداً، وعابراً للجدل المحتدم حول موضوعات هذه القصيدة، وجمالياتها وأساليب كتابتها، أو حتى حول ما إذا كان من المشروع اصطلاحياً تسميتها هكذا. كانت معادلة الماغوط مختلفة عن معادلات سائر مجايليه من شعراء قصيدة النثر، بمعنى أنّ الإجماع على شعريته العالية كان شبه مطلق، وكان الإقرار بريادته أشبه بتحصيل حاصل، فضلاً عن اعتراف ضمني طيّ هذه الجدلية بأسرها: أنه كان الشاعر ـ المعلّم... نسيج وحده!
إشارات:
(1) أنظر، بصفة خاصة، كتاب نازك الملائكة الكلاسيكي "قضايا الشعر المعاصر"، الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الآداب، بيروت 1962.
(2) يكتب رياض نجيب الريس: "كنت في صفّ الكومبارس وأمامي صفّ النجوم. كنت في الصالة، وكانوا في البلكون (...) كنت أجلس في صالون ’خميس‘ هذا المسرح العظيم وأمامي هؤلاء النجوم الذين يصنعون الشعر ويغيّرون من مسار تاريخه. صحيح أنني كنت ’كومبارس‘، إنما كنت ’كومبارس‘ قريباً من السلطة. ولم تكن السلطة سوى يوسف الخال". أنظر: "ثلاثة شعراء وصحافي"، رياض الريس للكتب والنشر، لندن 1996. ص 191.
(3) جبرا إبراهيم جبرا: "المونولوغ، المونتاج، التضمين"، مجلة "الآداب"، السنة 14، العدد 2، آذار. ص 42.
(4) خزامى صبري: "حزن في ضوء القمر، لمحمد الماغوط"، مجلة "شعر"، 11، صيف 1959. ص ص. 94 ـ 100.
(5) محمد الماغوط: "نخبة مجلة ’شعر‘"، مجلة "الآداب"، السنة 10، العدد 1، كانون الثاني 1962. ص 58.
(6) The Autobiography of William Carlos Williams, Random House, New York 1951, p. 391.
كما يقتبسه جون عصفور:
John Asfour, «Adonis and Muhammad al-Maghout: Two Voices in a Burning Land,» Journal of Arabic Literature, vol xx, March 1989, p. 21.
(7) المرجع السابق، ص 22.
(8) أنظر، على التوالي، أدونيس: "محاولة في تعريف الشعر الحديث"، مجلة "شعر"، 11، السنة الثالثة، صيف 1959، ص 79؛ ويوسف الخال: افتتاحية "شعر"، العدد 4، السنة الأولى، خريف 1957، ص 3.
(9) ماجد فخري: "مادة الشعر"، مجلة "شعر"، العدد 3، السنة الأولى، صيف 1957, ص 91,
(10) هنا أيضاً كان للتنظير المرافق للشعر سلسلة آثار سلبية في عزوف القارئ عن بعض، او معظم، هذه التجارب. أنظر، مثلاً، ما كتبه أورخان ميسر في تقديم "سريال"، المجموعة التي أصدرها سنة 1947 مع علي الناصر: "والصورة لا بدّ أن تحدث في المجموعات العصبية العليا استجابة خاصة يبقى فيها أثرها وانطباعها واضحين بينما تبقى الصورة ذاتها، في حدودها التكوينية، اشكالاً غير واضحة. فإذا جاء صاحبها ليسجلها، بالرسم أو بالكتابة ـو بأية طريقة أخرى، لم يجد لكيانها الخطوط الهندسية ـ من ألفاظ أو أشكال أو ألوان ـ مع أن الأثر والانطباع اللذين تركتهما في مجموعاته العصبية العليا حالة واضحة كلّ الوضوح".
(11) قصيدة "جنازة النسر" من مجموعة محمد الماغوط "حزن في ضوء القمر"، 1959؛ وقصة زكريا تامر "الأغنية الزرقاء الخشنة" من مجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض"، 1960.
(12) نصّ على الغلاف الأخير لمجموعة زكريا تامر "الرعد"، الطبعة الثالثة، دار رياض الريس، لندن 1994.
(13) جميع الاقتباسات من "ديوان محمد الماغوط"، الذي ضمّ المجموعات الشعرية الثلاث، ومسرحيتَي "العصفور الأحدب" و"المهرّج". دار العودة، بيروت 1981. وتبقى إشارة إلى أنّ معظم الاقتباسات الشعرية السابقة هي من مجموعة الماغوط الأولى، "حزن في ضوء القمر"، 1959، وذلك لأنها كانت فاتحته الشعرية الأهمّ في تقديري، وتظلّ بالتالي الأرشيف الأفضل لتثمين شعريته. كذلك كانت سماتها البدئية، في الموضوعات واللغة والشكل، أكثر إشكالية ـ أي: أكثر ثراءً وحيوية ـ في إطلاق السجال حول شعرية النثر وشرعية ما سيستقرّ بعدئذ تحت تسمية "قصيدة النثر"، من مجموعتيه التاليتين: "غرفة بملايين الجدران" 1960، و"الفرح ليس مهنتي" 1970.
ملف الأزمنة الأسبوعي
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي شاءت الشاعرة العراقية نازك الملائكة الانخراط في معركة معايير الشعر (وكان الموزون، سواء قام على عمود أو على تشكيلة تفاعيل، هو وحده الشعر عندها)، وخوض معركة التسميات (إذْ رفضت مصطلح "قصيدة النثر" جملة وتفصيلاً، كما أبت على الناقد والروائي والشاعر جبرا إبراهيم جبرا استخدام مصطلح "الشعر الحرّ" بديلاً عن "قصيدة النثر"، ليس لأنّ جبرا ينتحل المصطلح الذي اعتبرت الملائكة أنها نحتته خصيصاً لوصف شعر التفعيلة فحسب، بل لأنّ المسمّى ـ الشعر المنثور ـ لا يستحقّ صفة الشعر أساساً). اللافت أنّ النصّ الشعري الذي ركزت عليه في إدارة السجال لم يكن من أنسي الحاج أو يوسف الخال أو أدونيس (وهم أقطاب قصيدة النثر آنذاك، في مستوى الكتابة الشعرية ومستوى التنظير على حدّ سواء)، بل اختارت قصائد الشاعر السوري محمد الماغوط، وتحديداً مجموعته "حزن في ضوء القمر" التي صدرت سنة 1959 عن منشورات دار مجلة "شعر".(1) وفي هذا الصدد، من الجدير بالذكر أنّ هيئة تحرير المجلة كانت، في أحد ردودها السجالية على الملائكة، قد تبنّت التسمية التي أطلقها جبرا على شعر الماغوط، أي: "الشعر الحرّ".
كذلك كان من اللافت أنّ نصّ الإعلان التجاري الترويجي لهذه المجموعة، والذي واظبت على نشره مجلة "شعر" باعتبارها الناشر، وقد يكون رئيس التحرير يوسف الخال هو شخصياً كاتب الإعلان، شدّد على حداثة "الأداء" في شعر الماغوط من جهة، وعلى قبوله الحسن لدى الشعراء والقرّاء من جهة ثانية: "هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي". ولم يكن "الأداء" الشعري هو الخصيصة التي توقف عندها التحرير في إطراء مجموعات شعرية أخرى صدرت عن الدار ذاتها، وتعتمد أيضاً شكل قصيدة النثر، الأمر الذي كان بمثابة إقرار مبكّر بأنّ للماغوط أسلوبيته المنفردة المميّزة ذات الصلة بما يتولاه النصّ الشعري ـ وليس الشكل وحده ـ من وظائف أدائية، يُراد بها أساساً تلك العلاقة الإشكالية شبه الغائبة، وربما غير المولودة بعد أو عسيرة الولادة، بين قصيدة النثر والقارئ العريض.
تلفت الإنتباه، كذلك، صفة "الفذّ" التي أطلقها الإعلان على شاعر كان آنذاك في الخامسة والعشرين من العمر، ولم يكن في عداد أبرز نجوم "خميس مجلة شعر"، اللقاء الأسبوعي الذي كان عادة يضمّ أمثال أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي ونذير العظمة وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وجورج صيدح وحليم بركات وفؤاد الخشن وطلال حيدر وصلاح ستيتية، كما ضمّ في مناسبة وأخرى أمثال بدر شاكر السياب ونزار قباني وجورج شحادة ونازك الملائكة وبلند الحيدري وفدوى طوقان... صحيح أنّ الماغوط لم يكن في صفّ "الكومبارس"، وهو التعبير الطريف الذي اختاره رياض نجيب الريس لنفسه في "الخميس"، لكنه في كلّ حال لم يكن في عداد النجوم أو أهل "السلطة" في الحركة، والتعبير للريس هنا أيضاً.(2)
ورغم أنّ الماغوط كان عصاميّ الثقافة، لم يدرس في كمبردج أو أوكسفورد أو السوربون، ولم يمتلك ناصية لغة أجنبية يقرأ بها (كما كانت حال الغالبية الساحقة من أفراد حركة مجلة "شعر")، فإنّ من المدهش أن جبرا إبراهيم جبرا لم يتردد في ضمّه إلى صفّ التيار الأنغلو ـ سكسوني من شعراء قصيدة النثر العرب (إلى جانب توفيق صايغ ويوسف الخال وإبراهيم شكر الله وجبرا نفسه)، الذي يقابله تيّار فرنكوفوني يضمّ أدونيس وأنسي الحاج. وإذْ أخذ على أدونيس ولعه بـ "الوحش الأكبر في الشعر"، أي التكثيف اللفظي الذهنيّ المفتقر إلى الحسّ والفكر، والتناقض بين تموزيته وإسلاميته، تاريخيته ومعاصرته، سرياليته ووعيه المقصود... فإنّ جبرا امتدح نصّ الماغوط على نحو لافت تماماً، فاعتبره "أبرع مَن يستخدم المونتاج بسخاء تلقائي، كأنه لا يستطيع كبح صوره المتعاقبة"، وضرب مثالاً هذا المقطع من قصيدة الماغوط "القتل"، من مجموعته الأولى:
كانوا يكدحون طيلة الليل
المومسات وذوو الأحذية المدببة
يعطّرون شعورهم
ينتظرون القطار العائد من الحرب،
قطار هائل وطويل
كنهر من الزنوج
يئنّ في أحشاء الصقيع المتراكم
على جثث القياصرة والموسيقيين
ينقل في ذيله سوقاً كاملاً من الوحل والثياب المهلهلة
ذلك الوحل الذي يغمر الزنزانات
والمساجد الكئيبة في الشمال
الطائر الذي يغنّي، يُزجّ في المطابخ
الساقية التي تضحك بغزارة
يُربّى فيها الدود
ها نحن نندفع كالذباب المسنن
نلوّح بمعاطفنا وأقدامنا...
وكان المونتاج عند جبرا هو "تعاقب الصور على نحو خاص مستهدفاً نتيجة عاطفية معينة، وهذا ما يفعله الشاعر المعاصر ، إذ يلحق الصورة بالصورة، أحياناً على نهج سريالي، والسرياليون تعلموا الكثير من المونتاج السينمائي". والمونتاج الذي في ذهنه كان، كما أوضح، على غرار ما فعله المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين، أواسط عشرينيات القرن الماضي، في شريطه الملحمي "البارجة بوتومكين" وخصوصاً سياقه الشهير عن "أدراج أوديسا".(3)
هذه الوقائع، وسواها كثير، علائم بيّنة على المكانة الرفيعة التي حظيت بها قصيدة الماغوط منذ أطوارها الأبكر، ليس على في صفّ شعراء قصيدة النثر إجمالاً وحركة مجلة "شعر" بصفة خاصة فحسب، بل كذلك ـ وهو الأهمّ والجوهري ـ على صعيد الذائقة العامّة، في تلك المراحل الحافلة بالتعطّش إلى التجديد، والتبدّلات القلقة في الحساسيات والأساليب والأشكال والحساسيات، والصعود الخاطف مثل الأفول السريع لحداثات متلاطمة متصارعة، بعضها أصيل ومعظمها زائف. إلى جانب تلك العلائم، الإيجابية التي تسير عموماً في صالح نصّ الماغوط، توفّرت مواقف أخرى تضع قصيدة الماغوط ضمن سلسلة من الإشكاليات التعبيرية واللغوية والجمالية، وحتى الفكرية الثقافية، التي تدنيها في قليل أو كثير عن سوية القصائد التي كان يكتبها "النجوم"، في العودة إلى تعبير رياض الريس، من أمثال أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال.
وعلى سبيل المثال، في عام 1959 وعلى صفحات مجلة "شعر" اللبنانية دون سواها، كانت خزامى صبري (التي سيتضح، فيما بعد، أنها الاسم المستعار للناقدة السورية خالدة سعيد) قد كتبت مراجعة لمجموعة الماغوط "حزن في ضوء القمر". وهذه المراجعة تظلّ لافتة اليوم أيضاً، ليس لأنّ صبري/ سعيد كانت سبّاقة إلى استكشاف النصّ الماغوطي وتسجيل إشارات نقدية مبكرة ولامعة تماماً حول خصائص شعره فحسب، بل لأنّها امتدحت فيه كلّ خصيصة... ما عدا الشعرية! وبعد أن اعتبرت "هذا النثر الشعري شعراً"، استقرّت دون إبطاء على أنّ قصيدة الماغوط "عقد من الصور، ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين"؛ وأنّ "الصورة قوام التعبير الشعري عند محمد الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من المجموعة"؛ وأنّ الشاعر "يعرف جيداً من أين يغرف مادة صورته (أو لعله لا يعرف)"، وأنّ "صوره لا تكشف غالباً عن علائق جديدة تتخطى العلائق الشكلية"، وهي "تبقى باردة" لأنها إنما "تنقل الواقع أو العلاقات الحسية المنطقية"...
كذلك فإنّ الصورة الماغوطية هذه "مسطحة لا عمق لها، لأنّ العمق أو البعد الثالث في الصورة ينبع من العلاقة المعنوية التي توحي بما هو أبعد من الأشكال المحسوسة التي تمرّ في خيال القارئ ساحبة وراءها نهراً من الرؤى والخواطر والمواقف". وتضيف صبري/سعيد، في ما يشبه تجريد الماغوط من صفة الشاعر بعد منحه صفة المصوّر السطحي: "ولو كان محمد الماغوط متمكناً من فنّ الشعر لاستفاد كثيراً وحوّل هذا التخلخل [الناجم في نظرها عن عدم اعتماد الماغوط "الخطّ المستقيم أو أسلوب السرد القديم"، ولا "الأسلوب الدائري الحديث"] إلى أسلوب خاصّ". ثمّ تذهب أبعد فتقول: "إنّ شعر الماغوط يفتقر إلى الحركة الداخلية، لأنّ الصوت في القصيدة يكاد يقتصر على النداءات والأوصاف. الانفعالات في القصيدة تتموّج تموّجاً خفيفاً يكاد لا يبدو، مما يضفي عليها صفة الرتابة والتكرار، لأنه مهما كان الانفعال متوتراً عالياً سينتهي في نفس القارئ إلى البرود إذا لم يتموّج بعنف مماثل. شعر محمد الماغوط بحاجة إلى روافد جديدة من الأساليب والصور".(4)
صحيح أنّ الزمن، والتطوّرات الكبرى في النظرية النقدية حول البنية الشعورية للصورة الشعرية والصوت والهوية والحركة الداخلية في القصيدة، قد تكفّلت بتصويب أحكام صبري/ سعيد القاسية المغلوطة تلك، إلا أنّ عدداً من السمات التي اعتبرتها الناقدة بين مثالب النصّ الشعري الماغوطي كانت ـ للمفارقة ـ تتصدّر الأسباب التي أكسبت شعره كلّ تلك الشعبية في تلك الحقبة، وجعلته شاعر مجموعة "شعر" الأعلى حظوة بالإجماع على شعريته الفريدة، والأفضل استقبالاً عند القارئ العادي والقارئ النخبوي معاً، والأوسع انتشاراً خارج الدائرة الشامية اللبنانية ـ السورية.
ومما له دلالة خاصة، في صدد الحصيلة الختامية لعلاقة الماغوط بمجلة "شعر"، أنه انسحب منها أواخر العام 1961 (مثلما فعل أدونيس وخالدة سعيد في الواقع، ولكن لأسباب مختلفة تماماً)، بل شنّ عليها هجوماً عنيفاً، ذا مضمون جمالي وسياسي وسوسيولوجي ـ ثقافي في آن معاً، بلغ حدّ التنازل الطوعي عن أية ميّزات شعرية منحتها له المجلة أو شعراؤها. ففي مقال بعنوان "نخبة مجلة ’شعر‘"، نشره في صحيفة "الأنوار" اللبنانية (ولم يكن بغير مغزى خاصّ أنّ مجلة "الآداب"، الخصم الإيديولوجي لمجلة "شعر"، أعادت نشره)، كتب الماغوط يصف "جماعة هذه المجلة" بأنهم "ضحلو الموهبة، غير قادرين على دخول المعركة من باب الشعر الأصيل المنزّه، فراحوا يحاولون فتح أنفاق عديدة تحت الأرض للطم التاريخ العربي بأسره، ليخوضوا المعركة خارج ميداننا ضدّ وهم كبير يسمّونه بكلّ رعونة ’الجمهور الأمّي‘ والغوغاء. والدليل على ذلك أنّ حكمهم النهائي على نجاح القصيدة هو أن يرفضها هذا الجمهور، أن يسخر منها ويشمئز. وهناك وقائع عديدة عن هذه الظاهرة وقفت عليها شخصياً عندما كنت عضواً عاملاً ومخدوعاً بينهم طوال ثلاث سنوات ونيف". ثمّ أضاف الماغوط تلك الجملة القاتلة، التي ستذهب مثلاً بليغاً عند خصوم "شعر" على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم: "قلْ لأحدهم ثلاث مرّات: المتنبي، يسقط مغشياً عليه. بينما قلْ له على مسافة كيلومتر: جاك بريفير، فينتصب، أو يقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع. لماذا؟ الجواب بسيط: لأنّ هذا غربي، وذاك عربي!".(5)
- II -
لعلّ من المفيد التوقف، مجدداً، عند رأي خزامى صبري/ خالدة سعيد في الصورة الماغوطية، وما إذا كانت بالفعل نقطة ضعف في شعره، أم العكس: الميّزة الأبرز والأشدّ فاعلية والأعلى جاذبية. والحال أنّ الصورة، أو بالأحرى تلك الشبكات التشكيلية الأقرب إلى صناعة "الصورة العميقة" كما نعرفها عند كبار الشعراء المصوِّرين، كانت في طليعة العدّة التعبيرية الجبّارة التي يسّرت صعود نصّ الماغوط وعبوره إلى شرائح واسعة من القرّاء، وبالتالي أتاحت تكريس هذه الشعرية الجديدة الطازجة النضرة غير المألوفة. وهذه الصورة هي، أوّلاً، نقيض صورة السطح ذات العناصر المألوفة والمعطيات المتآلفة والعلاقات غير الصادمة بصرياً، كما حين يتحدّث الماغوط عن روح "ترقد في علياء الكون/ كما ترقد الفراشة في أذن الطفل"، أو "تحت غيوم الكستناء الزرقاء/ بين عواء الزنوج/ وصرير النهود البرّية". وهي استطراداً صورة حسية ملموسة، أكثر ممّا هي ذهنية مجرّدة، يتوجب أن تخلق نطاقاً شعورياً عميقاً وجليّاً في آن، كفيل بخلخلة كلّ ما هو راسخ مسبقاً من معنى ومدلول، كما في قول الماغوط: "أيتها النسور المهلهلة/ هل أطليكِ بالمراهم؟"، أو قوله: "مئة عام تربض على شواربنا المدماة/ مئة عام والمطر الحزين يحشرج بين أقدامنا".
وكانت براعة الماغوط في اقتناص الصورة العميقة من باطن المألوف الدارج هي في طليعة المهارات التي أسبغت شرعية عالية على قصائده الأولى، تلك "المقطوعات النثرية"، كما أسماها بنفسه، فلقيت قبولاً واسعاً مدهشاً آنذاك، على نحو لم يكن من نصيب قصائد توفيق صايغ وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وتيريز عواد وجبرا إبراهيم جبرا. كان الماغوط يقول:
أنا طائر من الريف
الكلمة عندي أوزة بيضاء
والأغنية بستان من الفستق الأخضر
فيدخل الحسّي الطبيعيّ في فضاء مفتوح من ترجيح العلاقات الشعورية والبصرية وحتى الصوتية، دون أن تخامر القارئ المنخرط في هذا الفضاء التخييلي أيّ أحاسيس بأنّ شيئاً من عناصر التصوير قديم عنده أو مرّ في ذاكرته، والأرجح أنه بذلك لن يشعر برتابة من أيّ نوع. وكان الماغوط يقول:
يا قلبي الجريح الخائن
أنا مزمار الشتاء البارد
ووردة العار الكبيرة
فتضرب هذه النبرة الغنائية الطافحة في جذور عميقة من وجدان الندب الذاتي العربيّ، وتستفيق انفعالات جامحة ليست بمنأى عن تراث الحزن التلقائي الدائم الأشبه بطبيعة ثانية، وتتحفّز الذات المتأهبة أصلاً للجرح النرجسي، فكيف إذا كانت مترادفات هذه السطور تجمع ما يُجمع عادة دون كيمياء مزج شعرية ـ شعورية عالية البراءة!
ثمّ يقول الماغوط:
مَن رأى ياسمينة فارعة خلف أقدامي؟
مَن رأى شريطة حمراء بين دفاتري؟
إنني هنا فناء عميق
وذراع حديدية خضراء
تخبط أمام الدكاكين
والساحات الممتلئة بالنحيب واللذة
إنني أكثر من نجمة صغيرة في الأفق
أسير بقدمين جريحتين
والفرح ينبض في مفاصلي
إنني أسير على قلب أمّة.
فتنكسر كلّ محظورات المنطق الدلالي الذي لا يُبقي الشريطة الحمراء محض شريطة حمراء، ويطلقها بالتالي في ما كلّ يحلو للقارئ أن يستولده من حقول استدلال؛ ولا يجعل زجّ الآدمي في صورة الفناء العميق يمرّ في الذهن دون مضاعفات متعددة، بصرية ومادية ومجازية؛ والأرجح أنه يهزّ بصيرة القارىء، ويلامس انفعالاته غير المسطحة أبداً، فيعيد ترسيم صورة السير على قلب أمّة، ولكن ليس دون أن يدخل البصيرة في استكشافٍ نشط لما يمكن أن يتحفّز في الباصرة بدورها.
وإذا كان البعض، على مثال خزامى صبري/ خالدة سعيد، قد اعتبر أنّ الصوت في قصيدة الماغوط "يكاد يقتصر على النداءات والأوصاف"، (رغم وجود فارق كبير بين النداء والوصف ومن الصعب أن يترادفا ضمن مأخذ واحد)، فإنّ مزاج النداء كان بدوره أحد الأسلحة الجبّارة (ولا أقول أبداً: الخفية!) التي جعلت شعر الماغوط، وربما النصّ الماغوطي عموماً، قريباً إلى نفوس القرّاء (على اختلاف مستوياتهم، للتذكير ثانية)، وقادراً ربما على استدراج الذائقة وتطويعها، عن طريق مناشدتها بوسيلة أحرف النداء تارة، أو استمالتها بأدوات التمنّي طوراً. ومن المعروف أنّ قصيدة من الماغوط يندر أن تخلو من أدوات وأحرف مشبهة بالفعل، مثل "يا"، "أيها"، "أيتها"، و"ليتني"، الأمر الذي نبع أوّلاً من حقيقة أنّ هذا المزاج الصعلوكي الشريد الهامشي، وتلك الروحية النقيضة للبطل وللسوبرمان وللأسطورة، نزيلة الشوارع والأزقة والسعال والقرفصاء... عناصر لا تملك رفاه التنازل عن النداء والمناشدة، ولا ترغب في ذلك أصلاً.
بل إنّ مزيجاً، حادّاً بالفعل وعنيفاً، من هذا كلّه جعل الماغوط يقارب في بعض النماذج مستوى في نكران الذات لا يشبه أيّ طراز سلبي من الخيانة الطوعية للهوية، لأنه في الواقع كان يبدو أشبه بمَن يزمع احتضان العالم بأسره كما كان فرانز فانون يقول، من جهة؛ وكان، من جهة ثانية، يبدو مازوشياً على نحو ما، قريباً من جلد الذات، ساعياً إلى التطهّر عن طريق القسوة؛ ولكنه، من جهة ثالثة، ظلّ إنسانياً على نحو كوني وكوزموبوليتي صارخ، مشحون، عالي التأثير، وأخاذ، كما في قصيدته "الخطوات الذهبية":
آه كم أودّ أن أكون عبداً حقيقياً
بلا حبّ ولا وطن
لي ضفيرة في مؤخرة الرأس
وأقراط لامعة في أذنيّ
أعدو وراء القوافل
وأسرج الجياد في الليالي الممطرة
وعلى جلدي الأسود العاري
يقطر دهن اللوز الأحمر
وتنثني ركب الجواري الصغيرات
إنني أسمع نواح أشجار بعيدة
أرى جيوشاً صفراء
تجري فوق ضلوعي.
وحول مسألة الصورة، هذه السمة الفنية العالية في شعر الماغوط، كان الشاعر والناقد اللبناني ـ الكندي جان عصفور قد عقد مقارنة مثيرة للانتباه بين الماغوط والشاعر الأمريكي التصويري وليام كارلوس وليامز. وكتب يقول: "إذا تعيّن أن ينتمي الماغوط إلى أية نظرية شعرية محددة، فإنها لا ريب ستكون تعريف وليامز للمهمّة الشعرية، كما صاغها في قصيدته الشهيرة "بيترسون": سعي الشاعر إلى "العثور على صورة واسعة بما يكفي لاستيعاب سائر العالم القابل للمعرفة من حولي... والكتابة عن أناس قريبين منّي... عن بياض أعينهم، وعن روائحهم ذاتها. هذه هي مهنة الشاعر. إنها ليست الكلام عن المقولات المبهمة بل كتابة المحدد، تماماً كما يعمل الطبيب إزاء جسد المريض، إزاء الشيء الذي أمامه، بغية اكتشاف الكونيّ فيه بصفة خاصة".(6)
لكنّ عصفور لا يُخرج شعر الماغوط عن سياقاته العربية التراثية، فيعتبر أنّ نموذج "البطل المضادّ" الذي يهيمن على القصائد هو في الآن ذاته نموذج مضادّ لفكرة "الشاعر ـ النبيّ"، كما أنّ "ضمير المتكلّم الصعلوكي" يهزّ صورة الشاعر النمطية في حدّ ذاتها، من حيث تعاليه وتساميه وتحليقه، الأمر الذي لم يشهده الشعر العربيّ بهذه الحدّة إلا عند الحطيئة وأبي نواس: "إنّ ضمير المتكلم عند الماغوط ليس الأنا المتعالية الساكنة في برج عاجي، بل هو قاطن الشوارع، والفنّان ذو الأذواق الهابطة غير المألوفة وغير القابلة للتقويم". غير أنّ سخريته المريرة تتكشف عن "تكتيكات صادمة لتعرية الحقائق المؤلمة في العالم العربي، هذه التي يرفض رفعها إلى مصافّ النبل والمثال. اليأس يكتنف النبرة التهكمية، والغرض الشعري تؤججه هموم العالم المباشر والمادي والمعروف والمستحب، وليس أي مستقبل أفضل متخيَّل، أو أيّ ماض متخيَّل على غراره".(7)
- III -
إنصاف شعرية الماغوط يقتضي، في يقيننا، البدء من إنصاف وسيط القول (لكي لا نقول: جنس الكلام) الذي استقرّ عليه في صياغة تلك الشعرية، أي النثر، وذلك من خلال طرح سؤال مزدوج قد يبدو مدرسياً للوهلة الأولى، ولكنّ وظيفته المنهجية لا تفرض ضرورة مقاربته فحسب، بل تساهم إلى حدّ كبير في إنصاف شعرية هذا الطراز من النثر عموماً، وشعرية الماغوط بصفة خاصة: أيّ نثر هو هذا النثر الماغوطي، بادئ ذي بدء؟ ولماذا نجح في استقطاب الذائقة الشعرية العربية أواسط خمسينيات القرن الماضي، بالقياس إلى تجارب شعرية ـ نثرية أخرى فشلت أو لم تحقق نجاحاً مماثلاً؟
أولى خصائص هذا النثر، وأولى نقاط جاذبيته الشعرية في عبارة أخرى، أنه لم يكن يعيد ترجيع أصداء (أي خطابات، ونبرات، وتشكيلات، وعمارات، ومعاجم...) ثلاثة منابع لغوية ـ أدبية أساسية لعبت هذا الدور أو ذاك في "شَعْرَنة" النثر: القرآن الكريم، والسور القصار بصفة خاصة؛ مختلف أنماط ما عُرف باسم "النثر الفنّي" على امتداد الكتابة العربية، وعلى رأسها النصوص الصوفية؛ وأخيراً، تجارب "الشعر المنثور" كما توالت منذ مطلع القرن العشرين، عند جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميّ زيادة وسواهم. والحال أنّ الماغوط، منذ قصائده المبكرة التي نشرها في "المجلة"، قبل صدور "شعر"، شدّ الذائقة إلى نثر جديد تماماً، طازج على نحو غير مألوف، لا تذكّر شعريته بأيّ مجاز نثري مُشَعْرَن آخر، فضلاً عن خصائصه التصويرية الجبّارة التي لم تخدم موضوعات القصائد بشكل ممتاز الفاعلية فحسب، بل أطلقت حساسية جديدة في استقبال صورة الشاعر ـ الرجيم، سرعان ما استقطبت الجمهور العريض، فترسخت واستقرّت.
وكيف، بالفعل، كان يمكن لأية حساسية مدرّبة على التقاط النصّ الشعريّ الأصيل، أن لا تقابل بأشدّ الترحاب مثل هذا النصّ الفاتن الأخّاذ، والجديد الفتيّ في آن معاً:
أريد أن أهزّ جسدي كالسلك
في إحدى المقابر النائية
أن أسقط في بئر عميق
من الوحوش والأمهات والأساور
لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملح
نسيت ضوء القمر ورائحة الأطفال
إن أحشائي مليئة بالقهوة الباردة
والمياه العمياء
وحنجرتي مفعمة بقصاصات الورق وشرائح الثلج
أيها الماء القديم
أيها الماء النَيّء... كم أحبّك.
ثانية خصائص النثر الماغوطي، ونقاط جاذبيته هنا أيضاً، أنه لم يكن محاكاة أخرى لما عُرف آنذاك باسم "القصيدة الرؤيا"، تلك التي انقلبت إلى ما يشبه الإنجيل عند عدد كبير من الشعراء الذين سوف يتنبّون شكل قصيدة النثر، ويتصدّون للدفاع عنها نظرياً. ولأسباب تخصّ أوّلاً طبيعة موهبته الذاتية، وأخرى ذات صلة بتربيته الشخصية الجمالية والثقافية والبيئية أيضاً، لم يكن من الممكن لشاعر مثل محمد الماغوط أن يكتب قصيدة تمنع عنه الرؤية (وهو الرائي بامتياز) لصالح الرؤيا المرتهنة بإشراقة صوفية هنا، وبشطحة ميتافيزيقية هناك، حيث "الشعر الحديث رؤيا، والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفاهيم القائمة" و"تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها" كما عبّر أدونيس، وحيث لا بدّ للشاعر من النأي عن الواقع والحياة اليومية إلى مقامات أخرى يكون فيها الشعر "تجربة كيانية فريدة" كما عبّر يوسف الخال.(8)
ومن المتفق عليه أنّ إصرار شعراء "قصيدة الرؤيا" على امتداح هذا الخيار بالذات، وبالتالي الإفراط في كتابة نماذجه إمعاناً في البرهنة على صوابيته وجودته وأحقية استئثاره بمفهوم الحداثة، وتعثّر معظم هذه النماذج في تكوين حساسية عامة من نوع ما، تسوّغ الإكثار من هذه القصيدة... كانت سلسلة عوامل أسفرت عن عزوف جماهيري واسع النطاق من جانب أوّل، وشكّلت من جانب ثانٍ عوامل امتياز سهّلت تذوّق وصعود شعبية النموذج الموازي الأهمّ آنذاك، وشبه الوحيد ربما، أي قصيدة الماغوط. وغنيّ عن القول، في وصف الحال ذاتها أنّ البون كان شاسعاً تماماً بين قرّاء الشعر وشروط قصيدة الرؤيا كما حدّدها ماجد فخري مثلاً:
"أتيح للفنان أن يساهم في فعل الخلق المتواصل الذي يصير العالم من جرائه موجوداً بالفعل دوماً. وهو يفعل ذلك متى استطاع أن ينفذ، من خلال عالم المرئيات الماثل بين يديه، إلى عالم الغيب الذي يفصح عنه هذا العالم إفصاحاً ويرمز إليه رمزاً، إذ يتمكن عندها من جلاء ما كان خافياً من نواحي الوجود الخصب الذي يعمر به ذلك العالم، ولا يفصح عنه عالمنا إلا بقدر. ولو قصدنا الدقة في التعبير، لوجب أن نقول إن الشاعر لا يخلق شيئاً بل ينفذ ببصيرته الحادة إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معاني وأشكال فيقتنصها ويكشف نقاب الحسّ عنها: وبذلك يفتح عيوننا على ما في الأشياء المرئية من روعة وفتنة ومعنى، قد نكون غافلين عنها لضعف في بصرنا أو قصور في إدراكنا. وهكذا يكون الشعر الأصيل ضرباً من الرؤية الثاقبة، أو إذا شئت، ضرباً من الرؤيا. ولعلّ في التمييز بين الرؤية والرؤيا مفتاح السرّ الذي نبحث عنه".(9)
ثالثة خصائص نثر الماغوط أنه في الواقع لم يكن وحيداً منفرداً في خوض حروب استدراج الذائقة، على الساحة العربية المشرقية عموماً، والسورية تحديداً. ورغم وجود تجارب عديدة في قصيدة النثر السورية، عند علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي وسليمان عواد(10)، فإنّ شريك الماغوط الحقّ الماهر كان قاصاً في الواقع: زكريا تامر. ففي أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، لم يكن مألوفاً (وبالتالي كان جديداً صادماً ينطوي على مغامرة ومجازفة) أن يختار الشاعر الشابّ محمد الماغوط عنواناً لقصيدته يسير هكذا: "جنازة النسر"، في اتكاء على صورة برّية تماماً، عالية الانتهاك لشيفرات التصوير المعتادة، منسرحة التخييل، متنافرة الطرفين (الجنازة/ النسر)، وشاعرية آسرة لافتة في آن. ولم يكن مألوفاً، ضمن اعتبارات عديدة جمالية وثقافية وحتى تاريخية وسوسيولوجية، أن تبدأ القصيدة ذاتها هكذا:
أظنها من الوطن
هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين
أظنها من دمشق
هذه الطفلة المقرونة الحواجب
هذه العيون الأكثر صفاءً
من نيران زرقاء بين السفن.
أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعّد
الرصيفُ الحاملُ طفلَه الأشقر
يسأل عن وردة أو أسير،
عن سفينة وغيمة من الوطن...
في الفترة الزمنية ذاتها، وضمن سياقات متماثلة تقريباً من الصدم والمغامرة والمجازفة، لم يكن مألوفاً أن يطلق القاصّ الشابّ زكريا تامر، بدوره، اسم "الأغنية الزرقاء الخشنة" على قصة قصيرة لا يتجاوز حجمها ستّ صفحات من القطع المتوسط، وأن تبدأ فقرتها الأولى هكذا: "نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضغط ضغطاً جيداً في قالب جيد. وتعرّج النهر عبر الأزقة البيضاء وبين المنازل الطينية المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصديد جراح أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاط مبعثرة بمهارة، مختبئة في قاع المدينة، فصبّ فيها حثالته الباقية".(11)
وعلى أيدي الماغوط وتامر كان النثر السوري يعيش طوراً استثنائياً من التحوّل والتحويل والانقلاب الجذري، ليس فقط على صعيد مختلف طرائق "شَعْرَنة" ما نُدرجه تحت تصنيف نثر الحياة اليومية (وتلك سيرورة كانت قائمة على هذا النحو أو ذاك في كلّ حال)، بل كذلك في ترقية هذه الخيارات التجريبية إلى مستوى المختبر المفتوح الموضوع على محكّ القراءة من خلال نتاج شعري وقصصي سوف يتواصل ويتنامى ويتراكم، متجاوزاً روحية التجريب العابرة الطيّارة.
وفي مناسبة سابقة، بصدد أدب زكريا تامر تحديداً، وبوصفه مختبراً تعبيرياً فريداً في تجريب النثر، أتيحت لي فرصة تثمين ذلك الطور الذي عاشه النثر السوريّ وانطوى على سيرورة مدهشة من التجاوز الدائم (الأقرب إلى الترقية العضوية) للنظام التجريدي ذاته الذي تميل اللغة إلى اعتماده في إنشائها للعالم ولدلالات ومدلولات العالم. ذلك النثر كان يضعنا أمام كتابة هي، في واقعها القرائي كما في أدواتها التعبيرية العاملة فوق وتحت سقوف النوع الأدبي، عمليات قلب راديكالي للمنطق ذاته الذي يحكم اتصال وانفصال الوظيفتين الشعرية (التي تتوسل الشعر) والخطابية (ذات الصلة بمعاجم الحياة اليومية) في اللغة، الأمر الذي كان يسفر عن كيمياء شعرية استثنائية فذة، انتزعت لنفسها حقّ استدخال الكابوس (الكوني) في الحلم (الفردي)، وحقّ مزج المعاناة الإنسانية الشاملة بأيّ مقدار من العذاب العبقري الذي يجتاح هذه النفس البشرية الفردية أو تلك.(12)
ما ينطبق على نثر زكريا تامر، ينطبق على نثر الماغوط أيضاً، أي يصف شعره استطراداً. وليس تفصيلاً غريباً، أو ظاهرة بحاجة إلى تبصّر إضافي أو تنظير من أيّ نوع، أنّ الكائن البشري حامل تلك الشيفرات النثرية الاستثنائية لم يكن البتة استثنائياً أو خارقاً أو بطولياً أو أسطورياً، تموزياً صانع النماء أو سيزيفياً حامل الصخرة، بل كان أبسط بكثير، أو بالأحرى كان نقائض هذا كلّه على وجه الدقة: كان الشريد والصعلوك، والكائن الصغير الخائف، والكسير الأسير. وهذا يفسّر طبائع استقبال نثر الماغوط وتامر في تلك الأيام، حيث امتزج بعض الإعراض الابتدائي بالكثير من الدهشة والانبهار والإعجاب والتعاطف، دون أن يغيب كذلك قسط من الحيرة إزاء هذا الزخم الشعري العالي الذي تحمله مدوّنة نثرية. ولقد تضافرت مجمل الاستجابات المتضاربة هذه، وتعايشت، وظلّت في حال من الشدّ والجذب رغم أنّ مناخات الحداثة والتحديث كانت على قدم وساق آنذاك؛ وكان النصّ الأدبي العربي، شعراً ونثراً، يدخل في مطحنة لا تتوقف رحاها عن تبديل الأساليب وتحويل الأشكال.
- IV -
الخصائص التي تبرّر تثمين هذا النثر الماغوطي، هي ذاتها التي تبرّر القول بأنه الرائد الحقّ في إعلاء شأن ما نسمّيه اليوم "قصيدة النثر" العربية، والرائد الأشدّ جاذبية رغم أنه لم يكن شاعر النماذج الأولى والأبكر في هذا الشكل من الكتابة الشعرية (وهو شرف قد يصحّ أنّ الكثيرين يتنازعونه، من مصر إلى سورية إلى لبنان...)، وذلك في مستويات ثلاثة، تنضمّ إلى ما جاء من خصائص في السطور السابقة، فضلاً عن اعتبارات أخرى ليست أقلّ أهمية.
المستوى الأوّل أنّ الماغوط كان المعلّم الأمهر في تفجير الطاقات الإيحائية والتعبيرية الهائلة التي ينطوي عليها النثر، بوصفه نثراً أوّلاً وأساساً، ثم في انقلاباته واستقلاباته الشعرية بعدئذ. وكانت فطرة الماغوط في هذا، هي فطرة الشعر الخالص، والشعر الطبيعي، والشعر الأعجوبة البسيطة التي لا يضلّ القارئ طريقه إلى عبقريتها. تلك، في الآن ذاته، كانت فطرة معمارية تركيبية تخصّ البنية ولا تسقط اعتبارات الشكل، خصوصاً حين يتمّ تقطيع المادة النثرية إلى سطور توحي بالأبيات الشعرية، وهي غير موزونة. وبين أكثر خصائص نثر الماغوط إثارة للاهتمام في جوانبه البنائية، من حيث صياغة الجملة وإيقاعات التنويع في تركيبها النحوي أنه كان نثراً متماسك المعمار رهيف التناسب حسّاس الموازين، يستعصي استطراداً على محاولات تفكيك معماره وإعادة تقطيعه في سطور تامة مدوّرة تصنع فقرة نثرية متكاملة (الأمر الذي لم يتوفر في الكثير من نماذج مجايليه شعراء قصيدة النثر).
ورغم أنّ الماغوط لم يكن مصاباً بأيّ من "فيروسات" الشعر الفرنسي التي أصيب بها مجايلوه من شعراء قصيدة النثر العربية أواسط الخمسينيات، فإنّ نثره كان بحقّ "نثر الحياة اليومية"، تماماً كما حلم به الشاعر الفرنسي بودلير منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكان قاموس القصيدة يبدو في السطح متقشفاً، أو حتى محدوداً، في المقياس الكمّي الأقصى الذي تتطلبه قصائد قصيرة أو متوسطة غالباً، تغطي حلقات عيش هذا البطل المضادّ الصعلوك الشريد، ودوائر وجوده، وأحزانه، ومراثيه، وأحلامه، وأفراحه القليلة وأتراحه الكثيرة. وأمّا في بنيته الداخلية الأعمق، وفي قوانينه التصويرية الطليقة، وفي اقتناصه توتراً دلالياً إثر آخر، وغوصه في أغوار شعورية خلف أخرى، واختراقه هذا المسلّم المجازي أو ذاك الـ "كليشيه" الاستعاري... فقد كان نثر الماغوط يراكم ـ علانية وإفصاحاً غالباً، وعلى نحو مموّه خفيّ أحياناً ـ شعرية تلقائية، فطرية، عالية الجاذبية، وجبّارة التأثير.
المستوى الثاني أنّ الماغوط تكفّل بنقل موضوعات قصيدة النثر العربية الخمسينية من الذهني والميتافيزيقي والتأملي الصرف، وهي الموضوعات التي كانت قد تسللت وهيمنت من خلال التأثر الطاغي بقصيدة النثر الفرنسية أكثر من سواها، إلى شؤون الصعلكة والتسكع والحرمان والحزن، والرعب من رجل الأمن ومن رموز االمحرّم والمقدّس سواء بسواء. ولسنا نعرف شاعر قصيدة نثر غاص إلى قاع الشارع، ونقل هواجس وأحلام ومخاوف وآمال مواطن الشارع، كما فعل الماغوط في ذلك العهد. كما لا نعرف أنّ رائداً سواه نال مثوبته الكبرى في إقبال قارئ الشارع على قصيدته، واستقبال فنّه الجديد بترحاب وإعجاب، دون جوازات مرور تنظرية حداثية أو طليعية مسبقة الأحكام، ودونما حاجة إلى وسائط بين النصّ الشعري والذائقة.
وفي المستوى الثالث كان الماغوط رائداً في الانتماء إلى حقبة الحديث والحداثيّ، وفي تجسيد طراز من الحداثة مركّب ومتعدد وتعددي ومستقلّ، فضلاً عن انطوائه على حسّ ما بعد حداثي مبكر، في آن معاً. وأما الفضيلة الكبرى لتلك الحداثة فهي أنها لم تكن بالضرورة مطابقة لأيّ من "الحداثات" الغربية الشائهة المشوَّهة أو الناقصة المنتقَصة، التي شاع ابتسارها وتقليدها وتكريسها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ففي هذا المقطع من قصيدة الماغوط الشهيرة "أغنية لباب توما":
ليتني حصاة ملوّنة على الرصيف
أو أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الأملس (...)
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء (...)
أشتهي أن أقبّل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين،
تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه،
فأنا ما زلت وحيداً وقاسياً
أنا غريب يا أمّي.
ثمّة نصّ ينتمي إلى ذهنية الحقبة الحديثة في أنه يلتقط حالة اغتراب الوجدان عن العصر، مردّها ـ بين عوامل أخرى ـ طغيان العقل وتراجع الروح وحيرة الكائن في ذلك كله؛ وينتمي إلى الحداثة في ثورته الشكلية واللغوية والاستعارية؛ كما ينتمي إلى الرومانتيكية (خصم الحداثة!) في أنّ نبرته الإجمالية تنهض على حنين إلى الإنصهار في عناصر الطبيعة، وعلى توجع حزين ومرهف يخصّ الذات وفي أغوار الذات.
وطيلة العقود التي شهدت صمت الماغوط الشاعر لصالح الماغوط المسرحيّ وكاتب المقالة الصحفية، لم يكن مدهشاً أنّ تأثير الشاعر على أجيال متعاقبة من شعراء قصيدة النثر ظلّ عظيماً ومتعاظماً وفريداً، وعابراً للجدل المحتدم حول موضوعات هذه القصيدة، وجمالياتها وأساليب كتابتها، أو حتى حول ما إذا كان من المشروع اصطلاحياً تسميتها هكذا. كانت معادلة الماغوط مختلفة عن معادلات سائر مجايليه من شعراء قصيدة النثر، بمعنى أنّ الإجماع على شعريته العالية كان شبه مطلق، وكان الإقرار بريادته أشبه بتحصيل حاصل، فضلاً عن اعتراف ضمني طيّ هذه الجدلية بأسرها: أنه كان الشاعر ـ المعلّم... نسيج وحده!
إشارات:
(1) أنظر، بصفة خاصة، كتاب نازك الملائكة الكلاسيكي "قضايا الشعر المعاصر"، الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الآداب، بيروت 1962.
(2) يكتب رياض نجيب الريس: "كنت في صفّ الكومبارس وأمامي صفّ النجوم. كنت في الصالة، وكانوا في البلكون (...) كنت أجلس في صالون ’خميس‘ هذا المسرح العظيم وأمامي هؤلاء النجوم الذين يصنعون الشعر ويغيّرون من مسار تاريخه. صحيح أنني كنت ’كومبارس‘، إنما كنت ’كومبارس‘ قريباً من السلطة. ولم تكن السلطة سوى يوسف الخال". أنظر: "ثلاثة شعراء وصحافي"، رياض الريس للكتب والنشر، لندن 1996. ص 191.
(3) جبرا إبراهيم جبرا: "المونولوغ، المونتاج، التضمين"، مجلة "الآداب"، السنة 14، العدد 2، آذار. ص 42.
(4) خزامى صبري: "حزن في ضوء القمر، لمحمد الماغوط"، مجلة "شعر"، 11، صيف 1959. ص ص. 94 ـ 100.
(5) محمد الماغوط: "نخبة مجلة ’شعر‘"، مجلة "الآداب"، السنة 10، العدد 1، كانون الثاني 1962. ص 58.
(6) The Autobiography of William Carlos Williams, Random House, New York 1951, p. 391.
كما يقتبسه جون عصفور:
John Asfour, «Adonis and Muhammad al-Maghout: Two Voices in a Burning Land,» Journal of Arabic Literature, vol xx, March 1989, p. 21.
(7) المرجع السابق، ص 22.
(8) أنظر، على التوالي، أدونيس: "محاولة في تعريف الشعر الحديث"، مجلة "شعر"، 11، السنة الثالثة، صيف 1959، ص 79؛ ويوسف الخال: افتتاحية "شعر"، العدد 4، السنة الأولى، خريف 1957، ص 3.
(9) ماجد فخري: "مادة الشعر"، مجلة "شعر"، العدد 3، السنة الأولى، صيف 1957, ص 91,
(10) هنا أيضاً كان للتنظير المرافق للشعر سلسلة آثار سلبية في عزوف القارئ عن بعض، او معظم، هذه التجارب. أنظر، مثلاً، ما كتبه أورخان ميسر في تقديم "سريال"، المجموعة التي أصدرها سنة 1947 مع علي الناصر: "والصورة لا بدّ أن تحدث في المجموعات العصبية العليا استجابة خاصة يبقى فيها أثرها وانطباعها واضحين بينما تبقى الصورة ذاتها، في حدودها التكوينية، اشكالاً غير واضحة. فإذا جاء صاحبها ليسجلها، بالرسم أو بالكتابة ـو بأية طريقة أخرى، لم يجد لكيانها الخطوط الهندسية ـ من ألفاظ أو أشكال أو ألوان ـ مع أن الأثر والانطباع اللذين تركتهما في مجموعاته العصبية العليا حالة واضحة كلّ الوضوح".
(11) قصيدة "جنازة النسر" من مجموعة محمد الماغوط "حزن في ضوء القمر"، 1959؛ وقصة زكريا تامر "الأغنية الزرقاء الخشنة" من مجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض"، 1960.
(12) نصّ على الغلاف الأخير لمجموعة زكريا تامر "الرعد"، الطبعة الثالثة، دار رياض الريس، لندن 1994.
(13) جميع الاقتباسات من "ديوان محمد الماغوط"، الذي ضمّ المجموعات الشعرية الثلاث، ومسرحيتَي "العصفور الأحدب" و"المهرّج". دار العودة، بيروت 1981. وتبقى إشارة إلى أنّ معظم الاقتباسات الشعرية السابقة هي من مجموعة الماغوط الأولى، "حزن في ضوء القمر"، 1959، وذلك لأنها كانت فاتحته الشعرية الأهمّ في تقديري، وتظلّ بالتالي الأرشيف الأفضل لتثمين شعريته. كذلك كانت سماتها البدئية، في الموضوعات واللغة والشكل، أكثر إشكالية ـ أي: أكثر ثراءً وحيوية ـ في إطلاق السجال حول شعرية النثر وشرعية ما سيستقرّ بعدئذ تحت تسمية "قصيدة النثر"، من مجموعتيه التاليتين: "غرفة بملايين الجدران" 1960، و"الفرح ليس مهنتي" 1970.
ملف الأزمنة الأسبوعي