محمد مزيد - طراوة رجل.. قصة قصيرة

بعد سنوات عديدة ، روت علياء هذه القصة الى مجموعة من النساء يفترشن دكة بيت أم غايب ، قالت ، إنها في حرب ايران ، قتلت الضابط الذي قتل أخاها التوأم عصام بمدية حادة مزقت أحشاءه وهو يهّم بمضاجعتها . علياء في ذلك الزمن ، كانت جملية ، وجهها مدور سمراء ، تحب قص شعرها مثل عصام حتى لتبدو مثله حين ترتدي ملابسه العسكرية ، وكانت تنهرها أمها وتضربها بالنعال إن تمادت ولبست ملابس أخيها . يروي لها عصام معاناته في عدم تحمله الألم في الإيفاء بكل طلبات آمر السرية الكثيرة ، حيث يعمل عنده مراسلا . كان قد أنتخبه من بين العديد من الجنود ليكون خادمه المطيع " عصام حباب بس عنده ميوعه شوية " . مات أبونا مبكرا وبقينا تحت رعاية أمنا ، تربية الأم ، كما تعرفن ، ليست مثل تربية الأب . كان أخي عصام يحب أن يرقص عندما يرتدي ملابسي في ليالي الشتاء بعيداً عن أنظار أمي ، ويقلّد سهير زكي وأنا أضحك . كان يحرك وسطه كما تفعل الراقصة المصرية الشهيرة . لكن الحرب الطاحنة أخذت أخي إليها وهو يكره طوال حياته أي ملمح للعنف ، حتى حين أخبرته بأن القصاب سمعني كلمة فيها تحرش " شلون لحم عندي لو تتذوقينه لن تتركيه أبدا " . كان يقول لي هي مجرد كلمات فلماذا ننزل الى مستواه الوضيع " كنت أحبه لبرود أعصابه على العكس من شدة أعصابي وفوران الدم في عروقي . تعّلم من أمي كيف يخبز الخبز ويطبخ لنا أجمل انواع الأطعمة ، وكان يغسل ملابسنا بنفسه . ولما ذهب الى مركز التدريب العسكري ، لم يدربوه مثل بقية الجنود بسبب تلك الميوعة وطراوة صوته وبرود أعصابه ، كنت أشعر بالغيظ من سلوكه ، وأرجع السبب الى أمي التي لم تقس عليه في حياتها قط . ولما أنتقل من مركز التدريب الى إحدى الوحدات العسكرية على جبل موت قريبا من حدود ايران ، خفق قلبي بشدة وأضطربت من سوء ما سيلاقيه من عذاب وألم وسط تلك الوحوش البشرية . كان يروي لي كلما نزل بإجازة دورية إنه في ليالٍ موحشةٍ يبكي من عدم فهم الجنود حالته . حتى جاء في أحدى الاجازات وأخبرني إنه ما عاد يطيق العمل مراسلا يطبخ للآمر ويغسل ملابسه بعيداً عن ساحة الحرب ، وإنه يريد أن يستشهد مثل الأبطال . وفي يوم من الأيام التي لا تنسى في حياتي ، أخبرني أن آمره لا يستحي ، من دون أن يتطرق الى التفاصيل . وفي إجازة آخرى قال أن الآمر ( مو بس لا يستحي .. ولا يخاف الله ) لا يحب عصام الخوض في التفاصيل كما كان شانه في كل أيام حياتنا .
وبعد أن جلبوه ملفوفاً بالعلم العراقي ، أمي ماتت فورا ، وأنا لم أبك عليه أبدا . في اليوم نفسه أخبرني المأمور الذي جاء به ، أن أخي أستشهد بطلقة مسدس صوبت الى رأسه من الخلف . ولمّح المأمور الى خلاف وقع بين المراسل عصام وآمر السرية . وعند مراجعتي لمعاملة تقاعد أخي في وحدته العسكرية ، عثرت على عنوان بيت آمر السرية . منذ مقتل أخي وأنا أغلي نارا ، حتى جاء الوقت المناسب بعد نهاية الحرب ، تعرفت على آمر السرية ، وفي فندق الشيراتون بالبصرة أتممت كل شيء ، أخذت بثأري .

تعليقات

سرد رائع فيه تركيز وتكثيف وتلميح ونقطة التنوير فى نهاية القصة.
قصة قصيرة جميلة. تحياتى لحضرتك
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...