في كتابه (الخوف والارتعاد) [1] ، الذي نشره سنة (1843)، طرح كيركغارد سؤالاً فلسفيّاً غير مسبوق حول "الإيمان". على خلاف كانط، لم يعد الرهان الفلسفي متعلّقاً بالبقاء في حدود مجرّد "العقل"؛ بل أكثر من ذلك: إنّ الفيلسوف مدعوّ إلى طرح السؤال عن الإيمان هذه المرة باعتباره "مفارقة" أو إيماناً مستحيلاً؛ ومعنى الاستحالة أنّه تجربة لا يمكن فهمها. ومن ثَمّ إنّ تقليد "فلسفة الدين" عليه أن يمرّ من طريق آخر.
إنّ العصر، في تقدير كيركغارد، يشبه أن يكون مقدماً على نوع من تصفية التركة الروحية للإنسانية التقليدية؛ وكلّ سؤال عن مغزى هذا المزاد سوف يبدو "مخالفاً للعصر" أو "لا راهناً"(ص1)[2]. لكنّ ما يزعج حقّاً في هذا المشهد أنّه «في أيّامنا لم يعد أحد يقف عند الإيمان؛ إنّ المرء يذهب فيما هو أبعد من ذلك.. لم يكن الأمر كذلك في الزمن السابق؛ كان الإيمان عندئذٍ مهمّة موكلة إلى الحياة بأكملها»(ص4). هذا الذهاب فيما هو أبعد من الإيمان يبدو، بحسب كيركغارد، خطوةً لا تعرف مقصدها. إنّها تشبه الخروج من المفهوم التقليدي للحياة نفسها. وكلّ من يريد أن يبدأ اليوم التفكيرَ في الإيمان عليه أن ينطلق من هذا المشهد.
ولكن أيّ نوع من التفكير؟
ينبّهنا كيركغارد بسرعة مثيرة إلى أنّ «المؤلف هنا أقلّ الناس ادّعاءً لصفة الفيلسوف؛ بل هو، poetice et eleganter)) بكلّ شاعريّة وأناقة، كاتبٌ هاوٍ، لا يكتب نسقاً ولا وعوداً بالنسق.. بل الكتابة عنده ترفٌ ما فتئ يزداد حسناً وبياناً بقدر ما يقلّ عدد الناس الذين يشترون أو يقرؤون إنتاجاته»(ص5). من الواضح أنّ المقصود هنا هو عدم التشبّه بهيغل في التفكير. كما أنّ إنكار صفة أو لقب الفيلسوف هو أدب لياقة منتشر بين الفلاسفة، وسوف يدّعيه هايدغر من بعده أو فوكو. لكنّ أهمّ سمة علينا الاحتفاظ بها هنا أنّ كيركغارد يدعونا إلى متابعة تفكير حرّ تخلّى حتى عن صفة الفلسفة من فرط تهيّبه من معركة السؤال عن معنى الإيمان. وهو مستعدّ لجرعة التشاؤم المناسبة لتهيّبٍ كهذا: «أن يمرّ مرور الكرام» دون أن يتفطّن له أحد من "المعاصرين"؛ أي من "المواربين النسقيين"؛ وبدلاً من الوعد الزائف بإقامة "برج" يكتفي كيركغارد بوعد متواضع حول التفكير؛ إنّه لا يعدو أن يكون مجرّد (omnibus) عربة عامة للإنسان الحديث. وكانت تلك أيضاً تهنئة "فلسفية" للدنماركيين بقدوم هذه العربات العامة إليهم منذ سنة (1840) (ص6).
ولكن هل كان من الضروري، لمن يستعدّ لخوض تفكير حقيقي حول الإيمان، أن ينتحر فلسفيّاً؟ ما يقصده كيركغارد أنّنا لا نفكّر في الإيمان لأسباب فلسفية أو لأغراض نسقية؛ بل إنّ "جوّاً عائليّاً" مخصوصاً هو الذي يقود أرواحاً معيّنة نحو الشعور بالحاجة الحادّة إلى طرح مسائل الإيمان. ولذلك كان عنوان المقطع الأوّل من الكتاب هو "جوّ عائلي"، "بيئة شخصية"، "محيط"، "سياق" (atmosphère)... (ص7). وهذا الجوّ العائلي سرديٌّ دوماً وليس مفهوميّاً.
قال: «كان ثمّة، في يوم من الأيام، إنسانٌ قد سمع في طفولته القصة الجميلة عن إبراهيم الذي وضعه الله في امتحان، والذي انتصر على الغواية، وحافظ على الإيمان، وحصل، على خلاف كلّ التوقعات، على ابنه للمرة الثانية» (نفسه). أمّا صيغتها الأصلية في سفر التكوين (22: 1-2) فهي: «وامتحن الله إبراهيم وقال له: "خذ ابنك وحيدك، إسحاق الذي تحبّه، وانطلق إلى أرض المُرِيّا وقدّمه مُحرقةً على أحد الجبال الذي أهديك إليه"» (ص8-9).
يقدّم كيركغارد هذه القصة في مقام محدّد: أنّ "نفس" هذا الإنسان «لم تكن لها أيّة رغبة إلا أن ترى إبراهيم، وليس لها من أسف سوى أنّها لم تكن شاهدة على هذا الحدث»(ص7). ولكن مع تأكيد أنّ «هذا الإنسان لم يكن مفكّراً؛ وهو لا يشعر بأيّ حاجة إلى أن يذهب أبعد من الإيمان... هذا الإنسان لم يكن عالماً مفسّراً، وهو لا يعرف العبرية؛ ولو أمكن له أن يقرأه لكان بلا ريب قد فهم قصة إبراهيم بكل يسر»(ص8).
يضع كيركغارد هوّة مثيرة هنا بين الإنسان الحديث وإبراهيم من جهة أنّه لم يعد ممكناً له أن "يراه"، أو أن يكون "شاهداً" على "الحدث"؛ ومن جهة أنّ "التفكير" أو المعرفة أو التفسير الصحيح لن يكون أمراً حاسماً هنا. هي هوّة بين القصة وبيننا لا يمكن أن يقطعها إلا نوع من الإيمان الذي لا يحتاج إلى التفكير أو إلى التفسير أو إلى معرفة اللغة الأصلية. وهكذا، إنّ "تقريض إبراهيم" الوحيد الممكن "بالنسبة إلينا" (أي المحدثين) هو إعادة تنزيل قصّة إبراهيم في أفق الإنسانية؛ إذ يفترض كيركغارد أنّ ما يبرّر اهتمامنا بإبراهيم ليس صحّة قصّته؛ بل "الوعي الأبدي" الذي يستمدّ منه الإنسان هويته. قال: «لو أنّ الإنسان لم يكن له وعيٌ أبدي، ... لو أنّ الإنسانية لم يكن لها رابط مقدّس، لو أنّ الأجيال كانت تتجدّد مثل أوراق الغابات، وتنطفئ الواحد بعد الآخر مثل تغريد العصافير فوق الشجر...فأيّ شيء باطل وأيّ خراب كانت لتكون الحياة!»(ص 15).
يقترح كيركغارد هنا مقاماً جديداً للقاء مع إبراهيم؛ إنّه مقام غير لاهوتي تماماً، فهو لا يحتاج إلى أيّ معرفة دينية. ما نحتاج إليه فقط هو إنسانيتنا. ولكن ليس الإنسانية "الحديثة"؛ بل الإنسانية في نواتها الأقدم عهداً، حين كان التقابل ناصعاً بين "الله" وبين "الشعراء"؛ الأوّل يخلق والثاني يتغنّى بذلك الخلق. إنّ المقام المناسب للقاء مع قصة إبراهيم إذاً ليس الدين بل الشعر. ولكن لماذا الشعراء؟
يقول: «إنّ الشاعر هو عبقريّة الذكرى؛ هو لا يستطيع شيئاً سوى أن يذكّر، هو لا يستطيع شيئاً سوى أن يحبّ ما تمّ خلقه؛ هو لا يستمدّ شيئاً من مخزونه، لكنّه غيور من الأمانة التي كُلّف بحراستها»(ص16).
يفترض كيركغارد أنّ الله خلق العالم، لكنّ هذا الخبر الذي تقادم في وعي الإنسانية صار يحتاج إلى "مذكّر"، والشاعر هو تحديداً من جعل ذكرى الخلق حرفته أو عبقريّته الخاصة. وإذا كان ثمّة من معنى للبطل فهو، بحسب كيركغارد، أن يكون أفضل ما في كينونة الشاعر. «الشاعر هو، بوجهٍ ما، أفضل كينونة ممكنة للبطل» (نفسه). ثمّة بطولة ما إذاً في أن نتذكّر منْ خلق العالم. وليس مثلَ الشعراء أبطالٌ في هذا المضمار. بيد أنّه لا يكفي أن نكتب الشعر حتى ندخل في أفق إبراهيم؛ أي حتى ندخل في عداد أولئك الذين لا تستطيع الإنسانية أن تنساهم من فرط "عظمتهم"؛ ثمّة عظمة معيّنة تؤهّل بعض البشر كي يبقوا طويلاً في ذاكرة الإنسانية، وفي تقدير كيركغارد، ليس ثمّة عظمة يمكنها أن تؤمّن هذا النوع من الخلود البشري سوى الإقدام على علاقة بطوليّة مع الله. ولكن ما هو مقياس البطولة عندئذ؟
يفترض كيركغارد أنّ البطولة تتأسس على نوع من "الرجاء"؛ كلّ عظمة إنسان تُقاس «بحسب ما كان يرجوه» من نفسه. قد يكون عظيماً من كان يرجو "الممكن"، وقد يكون عظيماً من كان يرجو "شيئاً أبدياً"؛ لكنّ الأعظم من كل واحد منهم، بحسب كيركغارد، هو «من كان أمله معقوداً على المستحيل»(ص17). ولذلك لا يخلو الرجاء من "جهاد" ما:
«إنّ العظام سوف يبقون في الذاكرة، لكنّ كلّ واحد منهم قد كان عظيماً بحسب جسامة ما كان يجاهده. فمن كان يصارع ضدّ العالم كان عظيماً بالانتصار على العالم، ومن كان يصارع ضدّ نفسه كان عظيماً بانتصاره على نفسه؛ أمّا من كان يصارع ضدّ الله فإنّه كان الأعظم من الجميع» (نفسه).
إنّ الرجاء يقتضي نوعاً خاصاً تماماً من الجهاد، ومن ثم نوعاً خاصاً تماماً من البطولة؛ والخصوصية تكمن تحديداً في كون المعركة لم تعد تدور على صعيد البشر؛ هي لم تعد معركة أفقية حول هذا العالم. ومن ثم هي معركة مستحيلة، أو حول نوع من المستحيل. ومن ثمّ هي تُقاس بأمرٍ يتجاوز أيّ انفعال بشري حول الممكن. إلا أنّ كيركغارد سرعان ما يفاجئنا بأنّ معارك المستحيل لا تعني بالضرورة أنّ الإنسان يمتلك القدرة على النصر. هو يعرف أنّ طبيعته غير مؤهّلة لهذا النوع من الادّعاء. ولذلك هو لا يرى، من مقياس آخر للتجربة، إلّا "الرجاء". كلّ ما يتخطّى الممكن يدخل في ميدان الرجاء. والمجال الوحيد لأيّ إيمان هو الرجاء؛ أي هذا النوع من الأمل الذي صار موضوعه يتعلق بالمستحيل. ولكن ما معنى أنّ الرجاء يفترض نوعاً معيّناً من الجهاد أو الصراع مع المستحيل؟ وما معنى عندئذٍ أن نصارع الله؟
يقدّم كيركغارد قصة إبراهيم بأنّها معركة مع الله بوسائل بشرية. وعلينا أن نقرأها كقصيدة من نوع عالٍ؛ قصيدة البطولة العليا والوحيدة لأيّ بشريٍّ يطرح مسألة الإيمان على نفسه. والعنوان المثير لقصيدة كهذه سوف يكون من هذا القبيل: كيف أنّ إبراهيم قد جاهد ما طلبه الله منه (أي ذبح ابنه الوحيد) بالاعتماد على ضعفه البشري فحسب:
«لقد كان إبراهيم أعظم الناس جميعاً؛ عظيماً بطاقته التي لم تكن لها من قوّة غير الضعف، وعظيماً بالحكمة التي لم يكن لها من سرّ سوى الجنون، وعظيماً بالأمل الذي لم يكن له من شكل سوى الحماقة، وعظيماً بالمحبة التي كانت كراهية لنفسه... إنّ الإيمان هو الذي دفع إبراهيم إلى ترك موطن آبائه وأن يصير غريباً في أرض موعودة. كان ترك شيئاً هو عقله الأرضي، وأخذ شيئاً آخر هو الإيمان...» (ص18).
ما وجده كيركغارد في قصة إبراهيم هو برادايم الإيمان عامةً؛ وجد رسماً رائعاً عن ذلك التقابل الحاد والناصع بين الحياة العادية وبين التحوّل إلى مؤمن. تجربة إبراهيم هي البنية المحضة أو القبلية لأيّ نوع من الإيمان؛ هي استعمال الضعف البشري (من جنون وحماقة وكراهية) باعتباره عدّة القتال الوحيدة والفريدة التي يمتلكها الفانون ضدّ حقل التعالي الذي يفتحه الرجاء كعلاقة استثنائية بالمستحيل. وكيركغارد جازم هنا: ليس هناك إيمان يمرّ عن طريق "العقل الأرضي"؛ وكلّ عقل عنده هو عقل "أرضي"؛ أي ملكة سببيّة. والحال أنّ الإيمان يقع على صعيد آخر من العلاقة بأنفسنا. رحيل إبراهيم عن موطن آبائه كان علامة على ترك العقل الأرضي والخروج من طريق السببية بلا رجعة. الإيمان يفترض عظمة مجنونة أو حمقاء أو كارهة لنفسها؛ أي عظمة ليس لها من أساس سوى قدرتها على "الوعد"، ومن ثمّة على "الغربة". كلّ أرض موعودة هي أرض غربة، حيث لا أحد في وطنه. وهذا يعني أنّ الإيمان هو تجربة غربة منذ أول أمره لأنّه وعدٌ بما لا يمكن لأيّ عقل أرضي (عقل غير مجنون وغير أحمق وغير كارهٍ لبشريته) أن يَعِدَ به.
كيف نَعِدَ أحدا بالغربة بوصفها وطناً؟ لا يفعل الإيمان غير ذلك. وُعِد إبراهيم بأرضٍ حيث يتحقق وعدٌ آخر: «الوعد بأنّ كلّ الأمم في الأرض سوف تحمل بركته من بعده» (ص19). الإيمان وعد بوعد، أو وعد مكرّر. وهذا ما يجعله علاقة مزعجة بالمستحيل. لكنّ فرادة إبراهيم أنّه صدّق بالوعد من دون أن يعوّل على العقل الأرضي كي ينبّهه إلى التناقض المرعب بين الأمر بحرق ابنه والوعد له بأن يكون من نسله أمم كثيرة.
لا يهتمّ كيركغارد بالمحتوى الديني لهذه القصة؛ بل إنّ ما يهمّه هو بنية الإشكال الذي يطرحه الإيمان باعتباره رجاءً موضوعُه المستحيل. ما يثيره خاصةً أنّ إبراهيم قد "آمن" بذلك الوعد، وتحوّل بشكل لا رجعة فيه إلى "وريث الوعد" (ص20). ولكن ما معنى أن يكون المرء وريثاً لوعد مستحيل؟
تكمن طرافة تخريج كيركغارد لتجربة إبراهيم في كونه يقدّم "تاريخ البطركية" الإبراهيمية بوصفه تاريخ ضربٍ مخصوصٍ واستثنائيٍّ من "القلق" (l’angoisse) (ص34). لا ينفصل الإيمان المستحيل عن تجربة القلق، حيث يلتقي ما هو "أخلاقي" وما هو "ديني" دون أن يرى أحدهما الآخر:
«فمن وجهة نظر أخلاقية، يعبّر سلوك إبراهيم عن نفسه بالقول إنّه أراد أن يقتل إسحاق[3]، ومن وجهة نظر دينية، أراد أن يضحّي به قرباناً؛ إنّه في صلب هذا التناقض إنّما يكمن القلق الذي يدفع على الأرق، والذي من دونه لن يكون إبراهيم الإنسان الذي كان» (ص37).
الفارق بين الأخلاق والدين هو ذاك الذي بين القتل والتضحية، بين الذبح والقربان. ومكمن القلق أنّ هذا الفارق لا وجود له أو هو غير مرئيّ للعقل الأرضي.
في هذا الموضع نعثر لدى كيركغارد على تصوّره لما يجب أن يكون عليه الفيلسوف؛ إنّه ذاك الذي يمتلك «الشجاعة لأن يذهب في فكرة ما إلى النهاية»، ولكن أيضاً أن يمتلك «الصراحة اللازمة كي يقول: هذا التفكير أنا أخشاه، فهو يثير في نفسي شعوراً بالمجهول، وأنا أرفض أن أفحص عنه» (ص37-38).
الشجاعة الفلسفية تتمثّل هنا في ألا نزيّف تجربة الإيمان طمعاً في التخلّص منها بالعقل الأرضي؛ هي تلك التي ترفض "السكوت" عن تجربة إبراهيم وكأنّها "فخّ للضعفاء" (نفسه). لكنّ كيركغارد لا ينكر في المقابل أنّه "بالإيمان وحده يمكننا أن نشبه إبراهيم، وليس بالقتل" (ص38). وهكذا، إنّ "الحديث" عن إبراهيم يعاني هو نفسه من توتّر مؤلم في منزلته الفلسفية. ومع ذلك يؤكّد كيركغارد قائلاً: «إنّ الأشياء العظيمة لا يمكنها أن تضرّ عندما نباشرها في جلالتها؛ إنّها مثل سلاح ذي حدّين، يقتل وينقذ» (ص39).
ما هو مطلوبٌ من أيّ قول فلسفي في الإيمان هو، إذاً، أن يباشره في جلالته، لا أن يفرض عليه نمط صلاحية مفهومية لا ينتمي إليه. وتتمثّل "الجلالة" (sublimité) هنا، على وجه الدقة، في أنّ إيمان إبراهيم ليس مجرّد "دوغما" لاهوتية متسلطة أو متحجرة؛ بل هو علامة ساطعة على "أزمة" (ص39)؛ بل حتى على "رعب" (horreur) نزل فجأة على قلب "أب" يؤمر بأن يحرق "ابنه" (ص40)، ومن ثم هو أوّلاً وأخيراً موضوع "انفعال (passion) جبّار" (ص41) غريب جدّاً ومفزع جدّاً لأيّ أب. وحده الألم الفظيع الذي يكتنف إيمان إبراهيم، وليس اليقين اللاهوتي، هو الذي يجعل الفلسفة لا تستطيع المرور مرور الكرام عليه.
كي يستجلي هذا المقطع المثير، يعقد كيركغارد مقارنة بين فهم هيغل وفهم إبراهيم. إنّ تجاوز هيغل يتطلّب -لا ريب- جهداً قاسياً، وقد يستعصي على الفهم. إلا أنّ كيركغارد يعلّل عدم القدرة على فهم هيغل بأنّ هيغل نفسه لم يكن واضحاً مع نفسه (ص41-42). أمّا في حالة إبراهيم فإنّ المشكل من طبيعة أخرى. قال: «حين آخذ في التفكّر في إبراهيم فأنا أشعر وكأنّني محطّم. في كل لحظة تقع عيناي على مفارقة لم يُسمع بها هي جوهر حياته... إنّ تفكيري لا يستطيع أن يلج إلى هذه المفارقة... أنا مثل مشلول» (ص 42). ولكن لماذا؟
ثمّة فرق مخيف بين الصعوبة والمفارقة. الصعوبة طينة البطل؛ ولذلك يمكن فهم الأبطال. لكنّ إبراهيم ليس بطلاً بالمعنى الذي اخترع التقليد التراجيدي. فما يتعرض له ليس صعوبة بل مفارقة. يقرّ كيركغارد بأنّ الفلسفة تذهب فيما هو أبعد من الإيمان (ص41)؛ لكنّ ما هو مثير في الإيمان أنّه ليس شيئاً يمكن السخرية منه؛ بل هو يحتوي على جلالة، فيكون «من غير اللائق بالفلسفة أن تستبدل به شيئاً آخر وأن تسخر منه. إنّ الفلسفة لا تستطيع ولا يجب عليها أن تمنح الإيمان؛ بل مهمّتها هي أن تفهم نفسها، أن تعرف ما تمنح؛ يجب عليها ألا تنتقص أيّ شيء، ولا يجب عليها خاصةً أن تواري شيئاً ما باعتباره لا شيء» (ص43).
هوامش:
[1]- Søren Kierkegaard, Crainte et Tremblement. Lyrique-dialectique par Johannès de Silentio. Traduit du danois par P.-H. Tisseau. Introduction de Jean Wahl (Paris: Aubier-Montaigne, 1952).
وهو مقتبسٌ من قولة مسيحية تقول: «إذن، يا أحبّائي، كما كنتم تطيعون دائماً، اسعوا لتحقيق خلاصكم بخوف وارتعاد، ليس فقط كما في حضوري، بل بالحريّ على نحو أكثر في غيابي». بولس، الرسالة إلى مؤمني فيلبي، 2، 12.
[2]- جميع الإحالات ترد في صلب النص.
[3]- أو إسماعيل في السردية الإسلامية.
إنّ العصر، في تقدير كيركغارد، يشبه أن يكون مقدماً على نوع من تصفية التركة الروحية للإنسانية التقليدية؛ وكلّ سؤال عن مغزى هذا المزاد سوف يبدو "مخالفاً للعصر" أو "لا راهناً"(ص1)[2]. لكنّ ما يزعج حقّاً في هذا المشهد أنّه «في أيّامنا لم يعد أحد يقف عند الإيمان؛ إنّ المرء يذهب فيما هو أبعد من ذلك.. لم يكن الأمر كذلك في الزمن السابق؛ كان الإيمان عندئذٍ مهمّة موكلة إلى الحياة بأكملها»(ص4). هذا الذهاب فيما هو أبعد من الإيمان يبدو، بحسب كيركغارد، خطوةً لا تعرف مقصدها. إنّها تشبه الخروج من المفهوم التقليدي للحياة نفسها. وكلّ من يريد أن يبدأ اليوم التفكيرَ في الإيمان عليه أن ينطلق من هذا المشهد.
ولكن أيّ نوع من التفكير؟
ينبّهنا كيركغارد بسرعة مثيرة إلى أنّ «المؤلف هنا أقلّ الناس ادّعاءً لصفة الفيلسوف؛ بل هو، poetice et eleganter)) بكلّ شاعريّة وأناقة، كاتبٌ هاوٍ، لا يكتب نسقاً ولا وعوداً بالنسق.. بل الكتابة عنده ترفٌ ما فتئ يزداد حسناً وبياناً بقدر ما يقلّ عدد الناس الذين يشترون أو يقرؤون إنتاجاته»(ص5). من الواضح أنّ المقصود هنا هو عدم التشبّه بهيغل في التفكير. كما أنّ إنكار صفة أو لقب الفيلسوف هو أدب لياقة منتشر بين الفلاسفة، وسوف يدّعيه هايدغر من بعده أو فوكو. لكنّ أهمّ سمة علينا الاحتفاظ بها هنا أنّ كيركغارد يدعونا إلى متابعة تفكير حرّ تخلّى حتى عن صفة الفلسفة من فرط تهيّبه من معركة السؤال عن معنى الإيمان. وهو مستعدّ لجرعة التشاؤم المناسبة لتهيّبٍ كهذا: «أن يمرّ مرور الكرام» دون أن يتفطّن له أحد من "المعاصرين"؛ أي من "المواربين النسقيين"؛ وبدلاً من الوعد الزائف بإقامة "برج" يكتفي كيركغارد بوعد متواضع حول التفكير؛ إنّه لا يعدو أن يكون مجرّد (omnibus) عربة عامة للإنسان الحديث. وكانت تلك أيضاً تهنئة "فلسفية" للدنماركيين بقدوم هذه العربات العامة إليهم منذ سنة (1840) (ص6).
ولكن هل كان من الضروري، لمن يستعدّ لخوض تفكير حقيقي حول الإيمان، أن ينتحر فلسفيّاً؟ ما يقصده كيركغارد أنّنا لا نفكّر في الإيمان لأسباب فلسفية أو لأغراض نسقية؛ بل إنّ "جوّاً عائليّاً" مخصوصاً هو الذي يقود أرواحاً معيّنة نحو الشعور بالحاجة الحادّة إلى طرح مسائل الإيمان. ولذلك كان عنوان المقطع الأوّل من الكتاب هو "جوّ عائلي"، "بيئة شخصية"، "محيط"، "سياق" (atmosphère)... (ص7). وهذا الجوّ العائلي سرديٌّ دوماً وليس مفهوميّاً.
قال: «كان ثمّة، في يوم من الأيام، إنسانٌ قد سمع في طفولته القصة الجميلة عن إبراهيم الذي وضعه الله في امتحان، والذي انتصر على الغواية، وحافظ على الإيمان، وحصل، على خلاف كلّ التوقعات، على ابنه للمرة الثانية» (نفسه). أمّا صيغتها الأصلية في سفر التكوين (22: 1-2) فهي: «وامتحن الله إبراهيم وقال له: "خذ ابنك وحيدك، إسحاق الذي تحبّه، وانطلق إلى أرض المُرِيّا وقدّمه مُحرقةً على أحد الجبال الذي أهديك إليه"» (ص8-9).
يقدّم كيركغارد هذه القصة في مقام محدّد: أنّ "نفس" هذا الإنسان «لم تكن لها أيّة رغبة إلا أن ترى إبراهيم، وليس لها من أسف سوى أنّها لم تكن شاهدة على هذا الحدث»(ص7). ولكن مع تأكيد أنّ «هذا الإنسان لم يكن مفكّراً؛ وهو لا يشعر بأيّ حاجة إلى أن يذهب أبعد من الإيمان... هذا الإنسان لم يكن عالماً مفسّراً، وهو لا يعرف العبرية؛ ولو أمكن له أن يقرأه لكان بلا ريب قد فهم قصة إبراهيم بكل يسر»(ص8).
يضع كيركغارد هوّة مثيرة هنا بين الإنسان الحديث وإبراهيم من جهة أنّه لم يعد ممكناً له أن "يراه"، أو أن يكون "شاهداً" على "الحدث"؛ ومن جهة أنّ "التفكير" أو المعرفة أو التفسير الصحيح لن يكون أمراً حاسماً هنا. هي هوّة بين القصة وبيننا لا يمكن أن يقطعها إلا نوع من الإيمان الذي لا يحتاج إلى التفكير أو إلى التفسير أو إلى معرفة اللغة الأصلية. وهكذا، إنّ "تقريض إبراهيم" الوحيد الممكن "بالنسبة إلينا" (أي المحدثين) هو إعادة تنزيل قصّة إبراهيم في أفق الإنسانية؛ إذ يفترض كيركغارد أنّ ما يبرّر اهتمامنا بإبراهيم ليس صحّة قصّته؛ بل "الوعي الأبدي" الذي يستمدّ منه الإنسان هويته. قال: «لو أنّ الإنسان لم يكن له وعيٌ أبدي، ... لو أنّ الإنسانية لم يكن لها رابط مقدّس، لو أنّ الأجيال كانت تتجدّد مثل أوراق الغابات، وتنطفئ الواحد بعد الآخر مثل تغريد العصافير فوق الشجر...فأيّ شيء باطل وأيّ خراب كانت لتكون الحياة!»(ص 15).
يقترح كيركغارد هنا مقاماً جديداً للقاء مع إبراهيم؛ إنّه مقام غير لاهوتي تماماً، فهو لا يحتاج إلى أيّ معرفة دينية. ما نحتاج إليه فقط هو إنسانيتنا. ولكن ليس الإنسانية "الحديثة"؛ بل الإنسانية في نواتها الأقدم عهداً، حين كان التقابل ناصعاً بين "الله" وبين "الشعراء"؛ الأوّل يخلق والثاني يتغنّى بذلك الخلق. إنّ المقام المناسب للقاء مع قصة إبراهيم إذاً ليس الدين بل الشعر. ولكن لماذا الشعراء؟
يقول: «إنّ الشاعر هو عبقريّة الذكرى؛ هو لا يستطيع شيئاً سوى أن يذكّر، هو لا يستطيع شيئاً سوى أن يحبّ ما تمّ خلقه؛ هو لا يستمدّ شيئاً من مخزونه، لكنّه غيور من الأمانة التي كُلّف بحراستها»(ص16).
يفترض كيركغارد أنّ الله خلق العالم، لكنّ هذا الخبر الذي تقادم في وعي الإنسانية صار يحتاج إلى "مذكّر"، والشاعر هو تحديداً من جعل ذكرى الخلق حرفته أو عبقريّته الخاصة. وإذا كان ثمّة من معنى للبطل فهو، بحسب كيركغارد، أن يكون أفضل ما في كينونة الشاعر. «الشاعر هو، بوجهٍ ما، أفضل كينونة ممكنة للبطل» (نفسه). ثمّة بطولة ما إذاً في أن نتذكّر منْ خلق العالم. وليس مثلَ الشعراء أبطالٌ في هذا المضمار. بيد أنّه لا يكفي أن نكتب الشعر حتى ندخل في أفق إبراهيم؛ أي حتى ندخل في عداد أولئك الذين لا تستطيع الإنسانية أن تنساهم من فرط "عظمتهم"؛ ثمّة عظمة معيّنة تؤهّل بعض البشر كي يبقوا طويلاً في ذاكرة الإنسانية، وفي تقدير كيركغارد، ليس ثمّة عظمة يمكنها أن تؤمّن هذا النوع من الخلود البشري سوى الإقدام على علاقة بطوليّة مع الله. ولكن ما هو مقياس البطولة عندئذ؟
يفترض كيركغارد أنّ البطولة تتأسس على نوع من "الرجاء"؛ كلّ عظمة إنسان تُقاس «بحسب ما كان يرجوه» من نفسه. قد يكون عظيماً من كان يرجو "الممكن"، وقد يكون عظيماً من كان يرجو "شيئاً أبدياً"؛ لكنّ الأعظم من كل واحد منهم، بحسب كيركغارد، هو «من كان أمله معقوداً على المستحيل»(ص17). ولذلك لا يخلو الرجاء من "جهاد" ما:
«إنّ العظام سوف يبقون في الذاكرة، لكنّ كلّ واحد منهم قد كان عظيماً بحسب جسامة ما كان يجاهده. فمن كان يصارع ضدّ العالم كان عظيماً بالانتصار على العالم، ومن كان يصارع ضدّ نفسه كان عظيماً بانتصاره على نفسه؛ أمّا من كان يصارع ضدّ الله فإنّه كان الأعظم من الجميع» (نفسه).
إنّ الرجاء يقتضي نوعاً خاصاً تماماً من الجهاد، ومن ثم نوعاً خاصاً تماماً من البطولة؛ والخصوصية تكمن تحديداً في كون المعركة لم تعد تدور على صعيد البشر؛ هي لم تعد معركة أفقية حول هذا العالم. ومن ثم هي معركة مستحيلة، أو حول نوع من المستحيل. ومن ثمّ هي تُقاس بأمرٍ يتجاوز أيّ انفعال بشري حول الممكن. إلا أنّ كيركغارد سرعان ما يفاجئنا بأنّ معارك المستحيل لا تعني بالضرورة أنّ الإنسان يمتلك القدرة على النصر. هو يعرف أنّ طبيعته غير مؤهّلة لهذا النوع من الادّعاء. ولذلك هو لا يرى، من مقياس آخر للتجربة، إلّا "الرجاء". كلّ ما يتخطّى الممكن يدخل في ميدان الرجاء. والمجال الوحيد لأيّ إيمان هو الرجاء؛ أي هذا النوع من الأمل الذي صار موضوعه يتعلق بالمستحيل. ولكن ما معنى أنّ الرجاء يفترض نوعاً معيّناً من الجهاد أو الصراع مع المستحيل؟ وما معنى عندئذٍ أن نصارع الله؟
يقدّم كيركغارد قصة إبراهيم بأنّها معركة مع الله بوسائل بشرية. وعلينا أن نقرأها كقصيدة من نوع عالٍ؛ قصيدة البطولة العليا والوحيدة لأيّ بشريٍّ يطرح مسألة الإيمان على نفسه. والعنوان المثير لقصيدة كهذه سوف يكون من هذا القبيل: كيف أنّ إبراهيم قد جاهد ما طلبه الله منه (أي ذبح ابنه الوحيد) بالاعتماد على ضعفه البشري فحسب:
«لقد كان إبراهيم أعظم الناس جميعاً؛ عظيماً بطاقته التي لم تكن لها من قوّة غير الضعف، وعظيماً بالحكمة التي لم يكن لها من سرّ سوى الجنون، وعظيماً بالأمل الذي لم يكن له من شكل سوى الحماقة، وعظيماً بالمحبة التي كانت كراهية لنفسه... إنّ الإيمان هو الذي دفع إبراهيم إلى ترك موطن آبائه وأن يصير غريباً في أرض موعودة. كان ترك شيئاً هو عقله الأرضي، وأخذ شيئاً آخر هو الإيمان...» (ص18).
ما وجده كيركغارد في قصة إبراهيم هو برادايم الإيمان عامةً؛ وجد رسماً رائعاً عن ذلك التقابل الحاد والناصع بين الحياة العادية وبين التحوّل إلى مؤمن. تجربة إبراهيم هي البنية المحضة أو القبلية لأيّ نوع من الإيمان؛ هي استعمال الضعف البشري (من جنون وحماقة وكراهية) باعتباره عدّة القتال الوحيدة والفريدة التي يمتلكها الفانون ضدّ حقل التعالي الذي يفتحه الرجاء كعلاقة استثنائية بالمستحيل. وكيركغارد جازم هنا: ليس هناك إيمان يمرّ عن طريق "العقل الأرضي"؛ وكلّ عقل عنده هو عقل "أرضي"؛ أي ملكة سببيّة. والحال أنّ الإيمان يقع على صعيد آخر من العلاقة بأنفسنا. رحيل إبراهيم عن موطن آبائه كان علامة على ترك العقل الأرضي والخروج من طريق السببية بلا رجعة. الإيمان يفترض عظمة مجنونة أو حمقاء أو كارهة لنفسها؛ أي عظمة ليس لها من أساس سوى قدرتها على "الوعد"، ومن ثمّة على "الغربة". كلّ أرض موعودة هي أرض غربة، حيث لا أحد في وطنه. وهذا يعني أنّ الإيمان هو تجربة غربة منذ أول أمره لأنّه وعدٌ بما لا يمكن لأيّ عقل أرضي (عقل غير مجنون وغير أحمق وغير كارهٍ لبشريته) أن يَعِدَ به.
كيف نَعِدَ أحدا بالغربة بوصفها وطناً؟ لا يفعل الإيمان غير ذلك. وُعِد إبراهيم بأرضٍ حيث يتحقق وعدٌ آخر: «الوعد بأنّ كلّ الأمم في الأرض سوف تحمل بركته من بعده» (ص19). الإيمان وعد بوعد، أو وعد مكرّر. وهذا ما يجعله علاقة مزعجة بالمستحيل. لكنّ فرادة إبراهيم أنّه صدّق بالوعد من دون أن يعوّل على العقل الأرضي كي ينبّهه إلى التناقض المرعب بين الأمر بحرق ابنه والوعد له بأن يكون من نسله أمم كثيرة.
لا يهتمّ كيركغارد بالمحتوى الديني لهذه القصة؛ بل إنّ ما يهمّه هو بنية الإشكال الذي يطرحه الإيمان باعتباره رجاءً موضوعُه المستحيل. ما يثيره خاصةً أنّ إبراهيم قد "آمن" بذلك الوعد، وتحوّل بشكل لا رجعة فيه إلى "وريث الوعد" (ص20). ولكن ما معنى أن يكون المرء وريثاً لوعد مستحيل؟
تكمن طرافة تخريج كيركغارد لتجربة إبراهيم في كونه يقدّم "تاريخ البطركية" الإبراهيمية بوصفه تاريخ ضربٍ مخصوصٍ واستثنائيٍّ من "القلق" (l’angoisse) (ص34). لا ينفصل الإيمان المستحيل عن تجربة القلق، حيث يلتقي ما هو "أخلاقي" وما هو "ديني" دون أن يرى أحدهما الآخر:
«فمن وجهة نظر أخلاقية، يعبّر سلوك إبراهيم عن نفسه بالقول إنّه أراد أن يقتل إسحاق[3]، ومن وجهة نظر دينية، أراد أن يضحّي به قرباناً؛ إنّه في صلب هذا التناقض إنّما يكمن القلق الذي يدفع على الأرق، والذي من دونه لن يكون إبراهيم الإنسان الذي كان» (ص37).
الفارق بين الأخلاق والدين هو ذاك الذي بين القتل والتضحية، بين الذبح والقربان. ومكمن القلق أنّ هذا الفارق لا وجود له أو هو غير مرئيّ للعقل الأرضي.
في هذا الموضع نعثر لدى كيركغارد على تصوّره لما يجب أن يكون عليه الفيلسوف؛ إنّه ذاك الذي يمتلك «الشجاعة لأن يذهب في فكرة ما إلى النهاية»، ولكن أيضاً أن يمتلك «الصراحة اللازمة كي يقول: هذا التفكير أنا أخشاه، فهو يثير في نفسي شعوراً بالمجهول، وأنا أرفض أن أفحص عنه» (ص37-38).
الشجاعة الفلسفية تتمثّل هنا في ألا نزيّف تجربة الإيمان طمعاً في التخلّص منها بالعقل الأرضي؛ هي تلك التي ترفض "السكوت" عن تجربة إبراهيم وكأنّها "فخّ للضعفاء" (نفسه). لكنّ كيركغارد لا ينكر في المقابل أنّه "بالإيمان وحده يمكننا أن نشبه إبراهيم، وليس بالقتل" (ص38). وهكذا، إنّ "الحديث" عن إبراهيم يعاني هو نفسه من توتّر مؤلم في منزلته الفلسفية. ومع ذلك يؤكّد كيركغارد قائلاً: «إنّ الأشياء العظيمة لا يمكنها أن تضرّ عندما نباشرها في جلالتها؛ إنّها مثل سلاح ذي حدّين، يقتل وينقذ» (ص39).
ما هو مطلوبٌ من أيّ قول فلسفي في الإيمان هو، إذاً، أن يباشره في جلالته، لا أن يفرض عليه نمط صلاحية مفهومية لا ينتمي إليه. وتتمثّل "الجلالة" (sublimité) هنا، على وجه الدقة، في أنّ إيمان إبراهيم ليس مجرّد "دوغما" لاهوتية متسلطة أو متحجرة؛ بل هو علامة ساطعة على "أزمة" (ص39)؛ بل حتى على "رعب" (horreur) نزل فجأة على قلب "أب" يؤمر بأن يحرق "ابنه" (ص40)، ومن ثم هو أوّلاً وأخيراً موضوع "انفعال (passion) جبّار" (ص41) غريب جدّاً ومفزع جدّاً لأيّ أب. وحده الألم الفظيع الذي يكتنف إيمان إبراهيم، وليس اليقين اللاهوتي، هو الذي يجعل الفلسفة لا تستطيع المرور مرور الكرام عليه.
كي يستجلي هذا المقطع المثير، يعقد كيركغارد مقارنة بين فهم هيغل وفهم إبراهيم. إنّ تجاوز هيغل يتطلّب -لا ريب- جهداً قاسياً، وقد يستعصي على الفهم. إلا أنّ كيركغارد يعلّل عدم القدرة على فهم هيغل بأنّ هيغل نفسه لم يكن واضحاً مع نفسه (ص41-42). أمّا في حالة إبراهيم فإنّ المشكل من طبيعة أخرى. قال: «حين آخذ في التفكّر في إبراهيم فأنا أشعر وكأنّني محطّم. في كل لحظة تقع عيناي على مفارقة لم يُسمع بها هي جوهر حياته... إنّ تفكيري لا يستطيع أن يلج إلى هذه المفارقة... أنا مثل مشلول» (ص 42). ولكن لماذا؟
ثمّة فرق مخيف بين الصعوبة والمفارقة. الصعوبة طينة البطل؛ ولذلك يمكن فهم الأبطال. لكنّ إبراهيم ليس بطلاً بالمعنى الذي اخترع التقليد التراجيدي. فما يتعرض له ليس صعوبة بل مفارقة. يقرّ كيركغارد بأنّ الفلسفة تذهب فيما هو أبعد من الإيمان (ص41)؛ لكنّ ما هو مثير في الإيمان أنّه ليس شيئاً يمكن السخرية منه؛ بل هو يحتوي على جلالة، فيكون «من غير اللائق بالفلسفة أن تستبدل به شيئاً آخر وأن تسخر منه. إنّ الفلسفة لا تستطيع ولا يجب عليها أن تمنح الإيمان؛ بل مهمّتها هي أن تفهم نفسها، أن تعرف ما تمنح؛ يجب عليها ألا تنتقص أيّ شيء، ولا يجب عليها خاصةً أن تواري شيئاً ما باعتباره لا شيء» (ص43).
هوامش:
[1]- Søren Kierkegaard, Crainte et Tremblement. Lyrique-dialectique par Johannès de Silentio. Traduit du danois par P.-H. Tisseau. Introduction de Jean Wahl (Paris: Aubier-Montaigne, 1952).
وهو مقتبسٌ من قولة مسيحية تقول: «إذن، يا أحبّائي، كما كنتم تطيعون دائماً، اسعوا لتحقيق خلاصكم بخوف وارتعاد، ليس فقط كما في حضوري، بل بالحريّ على نحو أكثر في غيابي». بولس، الرسالة إلى مؤمني فيلبي، 2، 12.
[2]- جميع الإحالات ترد في صلب النص.
[3]- أو إسماعيل في السردية الإسلامية.