في الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً من يوم الاثنين الرابع من كانون الثاني عام 1960 ، اصطدمت سيارة مسرعة بإحدى أشجار البلوط الضخمة في الطريق المؤدي الى جنوب العاصمة الفرنسية باريس ، وعندما هرعت الشرطة الى مكان الحادث وجدت السيارة محطمة وبداخلها امرأتين في حالة إغماء مصابتين بجروح طفيفة ، فيما السائق يعاني من إصابات خطيرة وسيلفظ أنفاسه بعد أربعة أيام في المستشفى .الشخص الرابع كان مصاب بجرح في رقبته ويبدو إنه مات بعد الحادث مباشرة ، تبدو على وجهه علامات السؤال والدهشة وحين فتّشت الشرطة في جيب معطفة وجدت بطاقته الشخصية مكتوب فيها : ألبير لوسيان كامو .. مواليد 7 تشرين الثاني عام 1913 في موندوفي – الجزائر ، مع تذكرة قطار كان كامو قد قطعها للسفر بالقطار ، لكنه في اللحظة الأخيرة قرر أن يترك القطار ويسافر بالسيارة مع صديقه الناشر ميشيل غاليمار ، ولم يكن ضابط الشرطة الذي أعلن خبر حادث السير يتصور أن محطات الإذاعة والتلفزيون في العالم ستقطع أخبارها لتذيع خبر وفاة الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب ، وإن الرئيس الفرنسي شارل ديغول سيسارع بإرسال برقية تعزية الى عائلة الراحل يكتب فيها : " لقد فقدت فرنسا الكاتب الذي كان شديد التعلق ببلده . فرنسا ، وناضل من أجل أن تحظى بمكانتها الحقيقية بين الأمم".
في "أسطورة سيزيف" ، يبحث ألبير كامو عن إجابته على السؤال الموروث من كيركيجارد ودوستوفيسكي ونيتشه ، وهو: هل يستطيع المرء أن يعيش بدون الله ، وبدون أمل في الخلاص في وجه الموت؟ سيجد كامو الجواب في إجابة العجوز سنتياغو في الشيخ والبحر لأرنست همنغواي :" من الممكن تدمير الإنسان ، ولكن ليس من الممكن قهره " ، كان كامو قد قرأ الشيخ والبحر وأذهله إصرار العجوز على مواجهة المستحيل .. يكتب في رسالة الى همنغواي :" هل يمكننا أن ندرس الإنسان من دون أن يزداد إيماننا وأملنا في الخلاص ، تلك الأشياء يحتاجها كل واحد منا في سفره خلال مصاعب الحياة ؟ دعنا نرى إذن أي إلهام يمكننا أن نستوحيه من الموت " ..يقتبس كامو من نيتشه: "ما يهم ليس الحياة الأبدية ، إنه الحيوية الأبدية. يتعلق الأمر بمصير الإنسان المتمرد في محاولة استخراج شيء من لا شيء ، لإنقاذ حياته من خلال الموت نفسه " .
عاش طفولة فقيرة جداً ، ولِد في مدينة القسطنطينية بالجزائر ، أبوه لوسيان كامو من أصول فرنسية ، يعمل أجيراً في إحدى المزارع ، لم يمضِ عام على مولده حتى تندلع الحرب العالمية الأولى ، وسيسافر والده الى فرنسا لتأدية الخدمة العسكرية ، لكنه يقتل في الأشهر الأولى من الحرب ، والدته " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية ، نصف صمّاء لا تعرف القراءة والكتابة حيث ستنشأ بينهما علاقة خاصة يصفها لنا في روايته الطاعون ::" كان يعرف ما تفكر فيه أمّه ، وبأنها في هذه اللحظة ، تحبه .ولكنه كان يعرف أيضاً ، بأن حب شخص ما ليس شيئاً مهماً ، أو على الأقل بأن الحب ليس قوياً بما يكفي ليجد تعبيره الخاص . وهكذا فإنه وأمّه سيحبان بعضهما في صمت وستموت بدورها ، أو سيموت هو ، دون أن يكونا قد تمكنا طيلة حياتهما ، من الذهاب بعيداً في التعبير عن حنانهما " ..، لم ينسَ كامو عالمه الفقير هذا ، وقرر أن يجعل من أبطاله يتمردون على واقعهم :" ثمة وحشة في الفقر ، لكنها وحشة تعطي لكل شيء ثمنه الحقيقي " ..وظل كامو يؤمن بأن الفقر يعمل على تكوين الإنسان ، وفي مقدمة أول كتبه الخطً والصواب الذي نشر عام 1937 يكتب :" الفقر حال بيني وبين الإيمان بأن كل شيء يسير على ما يرام تحت الشمس وفي التاريخ ، والشمس علمتني بأن التاريخ ليس كل شيء . نعم علينا أن نغير الحياة ، لكن ، ليس علينا أن نغير العالم الذي أقدسه"
بعد وفاة الأب تقررالعائلة أن تغادر مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو الى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة ، الام وشقيقه الأكبر وجدته قاسية الطبع ، وعمه الذي يعاني من شلل في الأطراف . وسيكتب كامو في كتابه لعبة الأوراق والنور عن حياته هذه :" لقد نشأت في البحر ، وبدا الفقر لي شيئاً رائعاً ، وفيما بعد ، عندما أضعت البحر ، بدت لي ضروب الترف كلها شهباء كالحة . وبؤساً لايطاق . " سيشغله الفقر والحرمان في البحث عن معنى العدالة الاجتماعية ، يكتب فيما بعد : " لا مراء في أن ما يبدو لي إنه معنى الحياة الحقيقي ، إنما لمسته في حياة الفقر هذه ، بين هؤلاء الأناس المتواضعين منهم أو المزهوّين".
التحق بالمدرسة الابتدائية سنة 1919 ، ليحصل عام 1924 على شهادة الابتدائية ، في تلك السن كان الخيار أن يترك المدرسة للمساعدة في إعالة عائلته ، إلا أن مدرِّسه " لوسيان جرمان " يُقنع الأم أن مستقبل ابنها في الدراسة ، وبسبب تفوقه يحصل على منحة دراسية في مدرسة " الليسيه" ، التي كانت الدراسة تقتصر فيها على أبناء الأثرياء .. في المكتبة المدرسية يعثر على كتب ستترك تأثيرها الكبير عليه ، سيقرأ بلزاك وفاليري وبروست ، بعدها يلتحق بجامعة الجزائر طالباً للفلسفة ..حيث يقدم بحثاً عن تأثير أفلوطين على القديس أوغسطين للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة ، وسيتعرف على فلسفة أبيقور وتشغله تساؤلات كيركجارد عن الوجود ..وقد وجد أن حقيقة الوجود في نظر هذا الفيلسوف الدنماركي تكمن في اصطدامها بالتناقضات والألم ، والقلق الناجم عن الحرية وأخطاء الإنسان ، فالعبث يحدّد المسافة التي تفصل بين الشخص باعتباره ذاتاً وبين المنطق الذي يعتبر بمثابة محاولة لخلق نظام عقلاني.
في تلك السنوات يجد كامو نفسه في مواجهة سؤال عن مغزى رحلة الإنسان في هذا العالم ، وهو السؤال الذي كان يشغل معظم شباب أوروبا دون أن يجدوا له أجوبة ، لكن كامو ومعه بعض المهتمين بفلسفة الوجود أصروا على أهمية العثور على جواب لسؤال : ما الغاية من الحياة ؟ .. لقد كان معظم الذين يطرحون هذه الأسئلة متأثرين بفلسفة نيتشه وبأعمال الروائي الروسي دوستويفسكي ، وقد تلقفوا كتاب أوسفالد شبينغلر " تدهور الحضارة الغربية " بإعجاب شديد ..وقد كان السؤال الذي يشغل كامو الشاب كيف يمكن الوقوف بوجه العدمية هذه ؟ .. ولهذا نجده عام 1934 يلتحق بالحزب الشيوعي الفرنسي إلا أن إقامته في الحزب لم تكن طويلة فبعد عامين وبالضبط في آذار عام 1936 يقدم استقالته بسبب موقف الحزب من الجزائريين العرب ، فقد اعترض كامو على هذا الموقف الذي يؤيد الاستعمار الفرنسي للجزائر يكتب في دفتر يومياته : " إن السؤال بجملته هو هذا : من أجل عدالة مثالية ، أيجوز لنا أن نؤمن بالسخافات" ... وسيظل كامو على موقفه المخلص للجزائريين العرب ، الذين كان يعتبر نفسه واحداً منهم .
بعد التخرج من الجامعة اتّجه للمسرح ، فأنشأ عام 1935 مسرح العمل وقد أعدّ للمسرح عدداً من الأعمال كان أبرزها قراءة لبروميثوس وأسخيلوس ومقاطع من الإخوة كارامازوف لدستويفسكي . وما ان نشبت الحرب حتى تطوّع للخدمة العسكرية ، لكنه أعفي من الخدمة لأسباب تتعلق بحالته الصحية . عام 1940 سافر للسكن في باريس ، عام 1942 ينضم للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني ويتولّى إدارة تحرير جريدة المقاومة " كومبا" والتي استمر العمل بها بعد نهاية الحرب ، في تلك الفترة نشر كتابه الشهير " أسطورة سيزيف" ، والذي قدّم فيه للمرّة الأولى مفهوماً فلسفياً للعبث ، بعدها أصدر أعماله الكبرى: الغريب والطاعون ومسرحيته الشهيرة " سوء تفاهم" ، ثم السقطة والمنفى والملكوت وكتابه الشهير "الإنسان المتمرد" ، في أواخر عام 1957 منح جائزة نوبل للآداب وكان في الرابعة والأربعين من عمره ، ويعد أصغر الحاصلين على الجائزة.
عام 1943 ينشر كامو كل كتاب اسماه " أسطورة سيزيف" وفي الكتاب يركز على مشكلة الحياة اليومية حيث : " سيتم وصف لعبة الحياة بدقة وتحديد أصولها وقواعدها " ، وهو يخبرنا بمقدمة الكتاب إن موضوعه يدور حول مرض معين أصيب به العصر ، معتبراً أن الحياة الإنسانية لايفهمها الإنسان : " الاعتراف بأن الحياة لامعقولة وإنها ، لكل واحد منا ، ذات قيمة لاتقدر ويزيد من قيمتها وعينا الحاد لرفضها أن تخضع للفهم الإنساني" . يستمر كامو بعد ذلك ليوضح معنى لفظة " العبث" من خلال تتبع سريع لأوضاع الناس اليومية فيقدم أمثلة من العبث شائعة الاستعمال : " يتفق أن يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام الرتابة : الاستيقاظ ، وسائط النقل ، أربع ساعات في المكتب أو المصنع ، وجبة أكل ، أربع ساعات أخرى من العمل ، الاثنين ، الثلاثاء ، الاربعاء ، الخميس ، الجمعة ، السبت، كلها في نفس الإيقاع ، والطريق يسهل لنا السير في معظم الوقت ، ولكن كلمة ( لماذا) تظهر ذات يوم ، وإذا كل شيء يبدو متعباً ملوناً بالوحشة" . أوجه العبث هذه كلها تنتهي ليس بالموت بل باحتضارنا، وما من جهود يمكن تبريريها مسبقاً إزاء الرياضيات الدموية التي تنظم حالتنا " .. وسبل النجاة كلها مسدودة لأنها جميعاً وهمية ، فالأمل الذي تقدمه الأديان أو اللجوء الى تفسير ما عن طريق الفلسفة ، إن هو إلا إسقاط الانسان في عبثية الوجود ، ولعل خط الحياة السريع ، إننا نموت ونحن نعلم إننا نموت ، وهذا كل ما نعرف عن نصيبنا في الدنيا ، لكننا مرغمون على التفكير بلغة الحياة ، لأن الموت بالنسبة إلينا لامعنى له ، يقيننا الوحيد هو حياتنا ، فالمنطق يقتضي بأن نرفض رفضاً عنيفاً فكرة مهادنة الموت ، لأن حياتنا لامعنى لها فيما وراء ذاتها ، إن التمرد على الموت هو الموقف الوحيد الممكن للإنسان.
سيتذكر ألبير كامو عام 1951 أستاذه في قسم الفلسفة " جان جرينيه" فيهدي له كتابه " الإنسان المتمرد " مشيداً بدروسه التي تعلمها منه عن قيمة الحياة . يكتب في مقدمة الكتاب قد يكون من الخطأ أن نظن أن الحياة هي اختيار مستمر ، مؤكدا أن التمرد له مكانة في حياة الانسان تعادل مكانة العقل التي أكد عليها ديكارتفي مقولته الشهيرة : " أنا افكر إذن أنا موجود" ، ولهذا فأنا اليوم متمرد إذن أنا موجود ..كان كامو في تلك الفترة يحاول مهاجمة فكرتين ترسختا في اليسار السياسي ، الأولى تتمثل في العقيدة المأخوذة عن هيغل القائلة بحتمية التاريخ والثانية تتمثل في طبيعة المواقف السياسية في فرنسا والتي تقول : كل شيء أو لاشيء ..كان كامو يريد تفحص فكرة التمرد ، كما تفحص من قبل فكرة العبث .. يبدأ كامو في المتمرد بدراسة الصراع الإنساني بين السيد والعبد ، تلك المشكلة التي تناولها من قبل ماركس وهيغل ، وقد نظر هيغل الى هذه المشكلة من حيث استلاب السيد لحقوق العبد ، السيد هو الذي ينفي ذات العبد ، وينظر اليه كشيء من الأشياء ، فالسيد يعي ذاته كذات ، بينما هو يعي العبد كشيء حي ، إن السيد بواسطة العبد يمكن أن يستمتع بالعالم والأشياء ، وهو يحقق ذاته على نحو أفضل . أما العبد ، فهو ذلك الإنسان الذي لا يعرف إلا مقاومة الأشياء لرغباته ، وتكون مهمة العبد هي شغل المادة وتطويعها ، ووظيفته خدمة السيد ، الذي يمتلك المادة ويستهلكها من خلال العبد ، وقيمة العالم ، بالنسبة للعبد ، هي في عملية الإنتاج التي يقوم بها من أجل السيد .. فيما ذكر ماركس أن الصراع بين السيد والعبد ، هو صراع اقتصادي على أساس الثورة والعمل ، وهو أيضاً صراع اجتماعي بين الطبقات ، السادة الأغنياء ، الذين يمتلكون رأس المال ، أما الفقراء " العبيد" فهم لا يملكون شيئاً
أما ألبير كامو ، فإنه يطرح هذه المشكلة على مستوى الوجود ، وبالتحديد على مستوى الوجود الإنساني ، العبد حين يتمرد ، إنما يطالب بأن يكون كل شيء أو لاشيء ، أي إنه إما يحقق حريته ، أو يموت مقهوراً بقوة الأسياد ولهذا يكتب : " خير للإنسان أن يموت واقفاً ، من أن يحيا خاضعاً ، جاثياً على ركبتيه" ، وفي تجربة التمرد يكتشف العبد معنى القيمة في الوجود ، لأن القيمة هي ما ينبغي أن يرغب فيه الإنسان ، والحرية هي القيمة الإنسانية العليا ، ولذلك ، فالإنسان يثور على الكذب ، كما يثور على القهر والعبودية ، وكامو يؤكد إن التمرد لا يعبر عن أنانية فردية ، وإنما عن مشاركة طبيعية للآخرين ، وبعبارة أخرى الانسان في تجربة التمرد يتجاوز ذاته في الآخرين ، وبالتالي فإن هذه المشاركة الإنسانية هي مشاركة وجودية ، وفي التمرد تكون مشاركة للذين فقدوا حريتهم ، والمكبلين في الأغلال.
وقد وجد كامو ان حياة الانسان تصطدم كل يوم بتناقضات العالم وعذابات الحياة ، حتى اعتقد ان الانسان قد حكم عليه ظلما ان يعيش وهو الكائن العاقل في عالم لا معقول ، وهو مضطر ان ينشد الوحدة في عالم يعج بالتناقضات والاضطرابات .. ولهذا فهو مطالب منه ان يتمرد ، ، ويقسم كامو التمرد الى نوعين ، تمرد ميتافيزيقي وهو تمرد الانسان على حاله من حيث هو انسان وتمرد تاريخي وهو تمرد الانسان من حيث هو عبد ، النوع الاول هو الذي يؤكد فيه الانسان على عبثية الوجود ، وقد يؤدي الى الوقوف في وجه جميع القيم السائدة ، والنوع الثاني من التمرد قد يتحول الى ثورات جماعية .. والانسان عند كامو لايملك ازاء ظلم العالم سوى ان يقابله بالتمرد الذي يمكنه من الصمود لعبثية العالم والتمرد حتى النهاية ، مثلما فعل بطل رواية الطاعون الدكتور " ريو " الذي ظل يتحدى المرض ، ويحاول ان ينتزع من مخالب الطاعون اكبر عدد من الاحياء ، مع علمه ان كفاحه في مواجهة هذا المرض هو كفاح عقيم ، ونضال بلا جدوى ، لان الطاعون سينتصر في النهاية ، لكنه يواصل النضال ، مثله مثل سيزيف الذي كان تمرده تعبيرا عن سخطه على الموت واصراره على مواصلة الحياة رغم عبثيتها.
في "أسطورة سيزيف" ، يبحث ألبير كامو عن إجابته على السؤال الموروث من كيركيجارد ودوستوفيسكي ونيتشه ، وهو: هل يستطيع المرء أن يعيش بدون الله ، وبدون أمل في الخلاص في وجه الموت؟ سيجد كامو الجواب في إجابة العجوز سنتياغو في الشيخ والبحر لأرنست همنغواي :" من الممكن تدمير الإنسان ، ولكن ليس من الممكن قهره " ، كان كامو قد قرأ الشيخ والبحر وأذهله إصرار العجوز على مواجهة المستحيل .. يكتب في رسالة الى همنغواي :" هل يمكننا أن ندرس الإنسان من دون أن يزداد إيماننا وأملنا في الخلاص ، تلك الأشياء يحتاجها كل واحد منا في سفره خلال مصاعب الحياة ؟ دعنا نرى إذن أي إلهام يمكننا أن نستوحيه من الموت " ..يقتبس كامو من نيتشه: "ما يهم ليس الحياة الأبدية ، إنه الحيوية الأبدية. يتعلق الأمر بمصير الإنسان المتمرد في محاولة استخراج شيء من لا شيء ، لإنقاذ حياته من خلال الموت نفسه " .
عاش طفولة فقيرة جداً ، ولِد في مدينة القسطنطينية بالجزائر ، أبوه لوسيان كامو من أصول فرنسية ، يعمل أجيراً في إحدى المزارع ، لم يمضِ عام على مولده حتى تندلع الحرب العالمية الأولى ، وسيسافر والده الى فرنسا لتأدية الخدمة العسكرية ، لكنه يقتل في الأشهر الأولى من الحرب ، والدته " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية ، نصف صمّاء لا تعرف القراءة والكتابة حيث ستنشأ بينهما علاقة خاصة يصفها لنا في روايته الطاعون ::" كان يعرف ما تفكر فيه أمّه ، وبأنها في هذه اللحظة ، تحبه .ولكنه كان يعرف أيضاً ، بأن حب شخص ما ليس شيئاً مهماً ، أو على الأقل بأن الحب ليس قوياً بما يكفي ليجد تعبيره الخاص . وهكذا فإنه وأمّه سيحبان بعضهما في صمت وستموت بدورها ، أو سيموت هو ، دون أن يكونا قد تمكنا طيلة حياتهما ، من الذهاب بعيداً في التعبير عن حنانهما " ..، لم ينسَ كامو عالمه الفقير هذا ، وقرر أن يجعل من أبطاله يتمردون على واقعهم :" ثمة وحشة في الفقر ، لكنها وحشة تعطي لكل شيء ثمنه الحقيقي " ..وظل كامو يؤمن بأن الفقر يعمل على تكوين الإنسان ، وفي مقدمة أول كتبه الخطً والصواب الذي نشر عام 1937 يكتب :" الفقر حال بيني وبين الإيمان بأن كل شيء يسير على ما يرام تحت الشمس وفي التاريخ ، والشمس علمتني بأن التاريخ ليس كل شيء . نعم علينا أن نغير الحياة ، لكن ، ليس علينا أن نغير العالم الذي أقدسه"
بعد وفاة الأب تقررالعائلة أن تغادر مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو الى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة ، الام وشقيقه الأكبر وجدته قاسية الطبع ، وعمه الذي يعاني من شلل في الأطراف . وسيكتب كامو في كتابه لعبة الأوراق والنور عن حياته هذه :" لقد نشأت في البحر ، وبدا الفقر لي شيئاً رائعاً ، وفيما بعد ، عندما أضعت البحر ، بدت لي ضروب الترف كلها شهباء كالحة . وبؤساً لايطاق . " سيشغله الفقر والحرمان في البحث عن معنى العدالة الاجتماعية ، يكتب فيما بعد : " لا مراء في أن ما يبدو لي إنه معنى الحياة الحقيقي ، إنما لمسته في حياة الفقر هذه ، بين هؤلاء الأناس المتواضعين منهم أو المزهوّين".
التحق بالمدرسة الابتدائية سنة 1919 ، ليحصل عام 1924 على شهادة الابتدائية ، في تلك السن كان الخيار أن يترك المدرسة للمساعدة في إعالة عائلته ، إلا أن مدرِّسه " لوسيان جرمان " يُقنع الأم أن مستقبل ابنها في الدراسة ، وبسبب تفوقه يحصل على منحة دراسية في مدرسة " الليسيه" ، التي كانت الدراسة تقتصر فيها على أبناء الأثرياء .. في المكتبة المدرسية يعثر على كتب ستترك تأثيرها الكبير عليه ، سيقرأ بلزاك وفاليري وبروست ، بعدها يلتحق بجامعة الجزائر طالباً للفلسفة ..حيث يقدم بحثاً عن تأثير أفلوطين على القديس أوغسطين للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة ، وسيتعرف على فلسفة أبيقور وتشغله تساؤلات كيركجارد عن الوجود ..وقد وجد أن حقيقة الوجود في نظر هذا الفيلسوف الدنماركي تكمن في اصطدامها بالتناقضات والألم ، والقلق الناجم عن الحرية وأخطاء الإنسان ، فالعبث يحدّد المسافة التي تفصل بين الشخص باعتباره ذاتاً وبين المنطق الذي يعتبر بمثابة محاولة لخلق نظام عقلاني.
في تلك السنوات يجد كامو نفسه في مواجهة سؤال عن مغزى رحلة الإنسان في هذا العالم ، وهو السؤال الذي كان يشغل معظم شباب أوروبا دون أن يجدوا له أجوبة ، لكن كامو ومعه بعض المهتمين بفلسفة الوجود أصروا على أهمية العثور على جواب لسؤال : ما الغاية من الحياة ؟ .. لقد كان معظم الذين يطرحون هذه الأسئلة متأثرين بفلسفة نيتشه وبأعمال الروائي الروسي دوستويفسكي ، وقد تلقفوا كتاب أوسفالد شبينغلر " تدهور الحضارة الغربية " بإعجاب شديد ..وقد كان السؤال الذي يشغل كامو الشاب كيف يمكن الوقوف بوجه العدمية هذه ؟ .. ولهذا نجده عام 1934 يلتحق بالحزب الشيوعي الفرنسي إلا أن إقامته في الحزب لم تكن طويلة فبعد عامين وبالضبط في آذار عام 1936 يقدم استقالته بسبب موقف الحزب من الجزائريين العرب ، فقد اعترض كامو على هذا الموقف الذي يؤيد الاستعمار الفرنسي للجزائر يكتب في دفتر يومياته : " إن السؤال بجملته هو هذا : من أجل عدالة مثالية ، أيجوز لنا أن نؤمن بالسخافات" ... وسيظل كامو على موقفه المخلص للجزائريين العرب ، الذين كان يعتبر نفسه واحداً منهم .
بعد التخرج من الجامعة اتّجه للمسرح ، فأنشأ عام 1935 مسرح العمل وقد أعدّ للمسرح عدداً من الأعمال كان أبرزها قراءة لبروميثوس وأسخيلوس ومقاطع من الإخوة كارامازوف لدستويفسكي . وما ان نشبت الحرب حتى تطوّع للخدمة العسكرية ، لكنه أعفي من الخدمة لأسباب تتعلق بحالته الصحية . عام 1940 سافر للسكن في باريس ، عام 1942 ينضم للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني ويتولّى إدارة تحرير جريدة المقاومة " كومبا" والتي استمر العمل بها بعد نهاية الحرب ، في تلك الفترة نشر كتابه الشهير " أسطورة سيزيف" ، والذي قدّم فيه للمرّة الأولى مفهوماً فلسفياً للعبث ، بعدها أصدر أعماله الكبرى: الغريب والطاعون ومسرحيته الشهيرة " سوء تفاهم" ، ثم السقطة والمنفى والملكوت وكتابه الشهير "الإنسان المتمرد" ، في أواخر عام 1957 منح جائزة نوبل للآداب وكان في الرابعة والأربعين من عمره ، ويعد أصغر الحاصلين على الجائزة.
عام 1943 ينشر كامو كل كتاب اسماه " أسطورة سيزيف" وفي الكتاب يركز على مشكلة الحياة اليومية حيث : " سيتم وصف لعبة الحياة بدقة وتحديد أصولها وقواعدها " ، وهو يخبرنا بمقدمة الكتاب إن موضوعه يدور حول مرض معين أصيب به العصر ، معتبراً أن الحياة الإنسانية لايفهمها الإنسان : " الاعتراف بأن الحياة لامعقولة وإنها ، لكل واحد منا ، ذات قيمة لاتقدر ويزيد من قيمتها وعينا الحاد لرفضها أن تخضع للفهم الإنساني" . يستمر كامو بعد ذلك ليوضح معنى لفظة " العبث" من خلال تتبع سريع لأوضاع الناس اليومية فيقدم أمثلة من العبث شائعة الاستعمال : " يتفق أن يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام الرتابة : الاستيقاظ ، وسائط النقل ، أربع ساعات في المكتب أو المصنع ، وجبة أكل ، أربع ساعات أخرى من العمل ، الاثنين ، الثلاثاء ، الاربعاء ، الخميس ، الجمعة ، السبت، كلها في نفس الإيقاع ، والطريق يسهل لنا السير في معظم الوقت ، ولكن كلمة ( لماذا) تظهر ذات يوم ، وإذا كل شيء يبدو متعباً ملوناً بالوحشة" . أوجه العبث هذه كلها تنتهي ليس بالموت بل باحتضارنا، وما من جهود يمكن تبريريها مسبقاً إزاء الرياضيات الدموية التي تنظم حالتنا " .. وسبل النجاة كلها مسدودة لأنها جميعاً وهمية ، فالأمل الذي تقدمه الأديان أو اللجوء الى تفسير ما عن طريق الفلسفة ، إن هو إلا إسقاط الانسان في عبثية الوجود ، ولعل خط الحياة السريع ، إننا نموت ونحن نعلم إننا نموت ، وهذا كل ما نعرف عن نصيبنا في الدنيا ، لكننا مرغمون على التفكير بلغة الحياة ، لأن الموت بالنسبة إلينا لامعنى له ، يقيننا الوحيد هو حياتنا ، فالمنطق يقتضي بأن نرفض رفضاً عنيفاً فكرة مهادنة الموت ، لأن حياتنا لامعنى لها فيما وراء ذاتها ، إن التمرد على الموت هو الموقف الوحيد الممكن للإنسان.
سيتذكر ألبير كامو عام 1951 أستاذه في قسم الفلسفة " جان جرينيه" فيهدي له كتابه " الإنسان المتمرد " مشيداً بدروسه التي تعلمها منه عن قيمة الحياة . يكتب في مقدمة الكتاب قد يكون من الخطأ أن نظن أن الحياة هي اختيار مستمر ، مؤكدا أن التمرد له مكانة في حياة الانسان تعادل مكانة العقل التي أكد عليها ديكارتفي مقولته الشهيرة : " أنا افكر إذن أنا موجود" ، ولهذا فأنا اليوم متمرد إذن أنا موجود ..كان كامو في تلك الفترة يحاول مهاجمة فكرتين ترسختا في اليسار السياسي ، الأولى تتمثل في العقيدة المأخوذة عن هيغل القائلة بحتمية التاريخ والثانية تتمثل في طبيعة المواقف السياسية في فرنسا والتي تقول : كل شيء أو لاشيء ..كان كامو يريد تفحص فكرة التمرد ، كما تفحص من قبل فكرة العبث .. يبدأ كامو في المتمرد بدراسة الصراع الإنساني بين السيد والعبد ، تلك المشكلة التي تناولها من قبل ماركس وهيغل ، وقد نظر هيغل الى هذه المشكلة من حيث استلاب السيد لحقوق العبد ، السيد هو الذي ينفي ذات العبد ، وينظر اليه كشيء من الأشياء ، فالسيد يعي ذاته كذات ، بينما هو يعي العبد كشيء حي ، إن السيد بواسطة العبد يمكن أن يستمتع بالعالم والأشياء ، وهو يحقق ذاته على نحو أفضل . أما العبد ، فهو ذلك الإنسان الذي لا يعرف إلا مقاومة الأشياء لرغباته ، وتكون مهمة العبد هي شغل المادة وتطويعها ، ووظيفته خدمة السيد ، الذي يمتلك المادة ويستهلكها من خلال العبد ، وقيمة العالم ، بالنسبة للعبد ، هي في عملية الإنتاج التي يقوم بها من أجل السيد .. فيما ذكر ماركس أن الصراع بين السيد والعبد ، هو صراع اقتصادي على أساس الثورة والعمل ، وهو أيضاً صراع اجتماعي بين الطبقات ، السادة الأغنياء ، الذين يمتلكون رأس المال ، أما الفقراء " العبيد" فهم لا يملكون شيئاً
أما ألبير كامو ، فإنه يطرح هذه المشكلة على مستوى الوجود ، وبالتحديد على مستوى الوجود الإنساني ، العبد حين يتمرد ، إنما يطالب بأن يكون كل شيء أو لاشيء ، أي إنه إما يحقق حريته ، أو يموت مقهوراً بقوة الأسياد ولهذا يكتب : " خير للإنسان أن يموت واقفاً ، من أن يحيا خاضعاً ، جاثياً على ركبتيه" ، وفي تجربة التمرد يكتشف العبد معنى القيمة في الوجود ، لأن القيمة هي ما ينبغي أن يرغب فيه الإنسان ، والحرية هي القيمة الإنسانية العليا ، ولذلك ، فالإنسان يثور على الكذب ، كما يثور على القهر والعبودية ، وكامو يؤكد إن التمرد لا يعبر عن أنانية فردية ، وإنما عن مشاركة طبيعية للآخرين ، وبعبارة أخرى الانسان في تجربة التمرد يتجاوز ذاته في الآخرين ، وبالتالي فإن هذه المشاركة الإنسانية هي مشاركة وجودية ، وفي التمرد تكون مشاركة للذين فقدوا حريتهم ، والمكبلين في الأغلال.
وقد وجد كامو ان حياة الانسان تصطدم كل يوم بتناقضات العالم وعذابات الحياة ، حتى اعتقد ان الانسان قد حكم عليه ظلما ان يعيش وهو الكائن العاقل في عالم لا معقول ، وهو مضطر ان ينشد الوحدة في عالم يعج بالتناقضات والاضطرابات .. ولهذا فهو مطالب منه ان يتمرد ، ، ويقسم كامو التمرد الى نوعين ، تمرد ميتافيزيقي وهو تمرد الانسان على حاله من حيث هو انسان وتمرد تاريخي وهو تمرد الانسان من حيث هو عبد ، النوع الاول هو الذي يؤكد فيه الانسان على عبثية الوجود ، وقد يؤدي الى الوقوف في وجه جميع القيم السائدة ، والنوع الثاني من التمرد قد يتحول الى ثورات جماعية .. والانسان عند كامو لايملك ازاء ظلم العالم سوى ان يقابله بالتمرد الذي يمكنه من الصمود لعبثية العالم والتمرد حتى النهاية ، مثلما فعل بطل رواية الطاعون الدكتور " ريو " الذي ظل يتحدى المرض ، ويحاول ان ينتزع من مخالب الطاعون اكبر عدد من الاحياء ، مع علمه ان كفاحه في مواجهة هذا المرض هو كفاح عقيم ، ونضال بلا جدوى ، لان الطاعون سينتصر في النهاية ، لكنه يواصل النضال ، مثله مثل سيزيف الذي كان تمرده تعبيرا عن سخطه على الموت واصراره على مواصلة الحياة رغم عبثيتها.