يكتب الشعر عن المرأة فيقدم نموذجه الخاص، فإذا كتبته المرأة قدمت شعريتها الخاصة القائمة على نموذجها الخاص عبر تواصلها مع اللغة وسياقات تشكيلها، كاشفة عن تفاصيل شعريتها.
شيرين أحمد على العدوى من مواليد المنصورة (عاصمة محافظة الدقهلية في دلتا مصر شمالي القاهرة)، تخرجت في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وحصلت على ماجستير التاريخ الإسلامي في الكلية نفسها، تعد أطروحة الدكتوراه في الآداب قسم التاريخ الإسلامي جامعة عين شمس، صدر لها:
دهاليز الجراح ـ دار سما للنشر القاهرة 1998.
فوهة باتجاهي – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2002.
بنات الكرخ – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2014.
الحياة الاجتماعية في كتاب الأغاني للأصفهاني، دراسة تاريخية نقدية- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2012.
حازت عددا من الجوائز: جائزة أحمد شوقي 1998 – جائزة المجلس الأعلى للثقافة 1998- جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة 1999 – جائزة الشباب والرياضة 2002 – جائزة دار الأدباء 2004 .
في تجربتها الشعرية تتعدد دوائر العمل تعبيرا عن الرؤية وكشفا لمنظورها الشعري الجمالي وفق دوائر تنطلق مفردات النص اللغوية من شأنها تشكيل اللغة تشكيلا يهتم بالجمالي لصالح الشعري، وبالشعري لصالح الإنساني وللجميع لصالح الفن.
العنوان
بنات الكرخ، تمثل عتبة أساسية لمقاربة عالم الشاعرة عتبة تقوم على مفردتين تكتسب أولاهما حيويتها من ثانيتهما التي تزيل إبهامها وتخرجها من دائرة المطلق غير المحدد إلى المحدد المتعين ، فيما تعمل المفردة الثانية (الكرخ ) بوصفها رابطا تفاعليا يأخذ المتلقي ذهنيا إلى مساحة إشكالية ، مساحة تقوم على فض مغاليق المعنى القائم في مفردة يقف المتلقي إزاءها موقفين لا ثالث لهما :
موقف العارف بالمعنى: وهو ما يجعله يتحرك بين مكانه (المحتضن عملية التلقي )إلى مكان المعنى البعيد (المحتضن كل ما تطرحه المفردة من دلالات) متعمقا فيما يقصده النص وما تتغياه الشاعرة من إنتاج لدلالتها ، عبر مجموعة من الأسئلة المنبنية على ما يعرف أولا وعلى ما تمنحه الصورة من طاقات ترميزية لها حضورها في السياق الذي يبرر حضورها .
موقف غير العارف : وهو ما يحرك المتلقي لمنطقة سابقة لإدراك الدلالة تتمثل في معرفة الأساس في إنتاجها ، منطقة المعرفة بما يكون الكرخ وطبيعة الاسم ، وهو ما يعني مساحة من الحركة في المصادر الفاتحة آفاق المعرفة لإدراك طبيعة الاسم قبل التوصل أو محاولة التوصل لما ينتجه في سياق النص .
وفي الحالتين يكون لحركة المتلقي دورها في استجلاء الصورة الكلية للنص وما يطرحه من تفاصيل يبدأ في تجميعها منذ العتبة الأولى للديوان مرورا بالعتبات المتوالية في سياق النصوص في تواليها ، مع احتفاظ العتبة الأولى بتفردها على مستوى الجانب المعرفي لها خلافا للعتبات النصية المتتالية فليس ثمة عتبة أخرى تحيل متلقي الديوان إلى مفردة تنتمي إلى واقع محدد كما تحققه مفردة (الكرخ) ([1]).
سبيكة المضاف والمضاف إليه
تتعدد وظائف السبيكة بالقدر المنتج لدلالاتها القائمة على مواقعها التنويرية (تنوير المتلقي بما هو قائم في النص ) وتنوير النص بما هو قائم في اللغة من مقومات التشكيل الشعري ، والسبيكة الشعرية (من المضاف والمضاف إليه ) تمثل أحد مقومات النسق الشعري في ديوان الشاعرة شيرين العدوي .
تستهل السبيكة حضورها من العنوان “بنات الكرخ ” بوصفه الصيغة الأبرز (واجهة التلقي )عبر تصدره الديوان (أول ما يواجه المتلقي ) ثم تصدره قصيدتين متتاليتين هما الأبرز في الديوان ، وقد فرض عنوانهما نفسه على عتبة الديوان الأولى (عنوانه ) ، ثم تصدر الصيغة نفسها عنوان خمسة قصائد (يابنات الكرخ – يابنات الكرخ – بلورة الرحلة – قمع الحرير – سرير المسافة – من أصل أحد عشر عنوانا (مجموع قصائد الديوان ) ، والصيغة تفرض نفسها على مفتتح الومضات القصيرة التي تختتم الشاعرة بها ديوانها تلك التي تضم خمسا وعشرين (25) ومضة ، خمس عشرة ومضة منها يتضمن مفتتحها (البديل عن العنوان أو الصيغة التي تحل محل العنوان بوصفها واجهة الومضة ) .
وعلى مستوى المتن (متن النصوص أولا ومتن الومضات ثانيا ) تكاد سبيكة المضاف والمضاف إليه تمثل العمود الفقري للنص ، وهو ما يمكن اختباره عبر نموذجها الدال الذي يطرح نفسه منذ مفتتح القصيدة الأولى من الديوان (يا بنات الكرخ ) :
“من قِبْلَةِ التَّطْوَافِ
حولَ سفائن الحلمِ المُعاندْ
أعلو لدىَّ ــ ومِلءُ رُوحِى ــ
كبرياءُ قَطِيفتى
فإذا تخلَّصتِ البحارُ من البسيطة
والبسيطةُ من ثيابِ البحر
ذاكرةٌ تعودْ
هذا نهارٌ لا يضاهى نُورهُ شفقَ النهايةِ “([2]).
المضاف : أفق مفتوح ، مطلق لا يستقر على دلالة واضحة ، يحيل إلى متعدد ، وتتعدد احتمالات فعله.
المضاف إليه : أفق محدد يستقر على نقطة التقاء توجه ذهن المتلقي إلى معلم محدد من معالم العالم (الكرخ مثلا) وهو ما يجعل المتلقي يروح في رحلة أخرى من استشراف المعلم عبر حركة ممتدة مستقيمة إلى نقطة الوصول المؤقت حيث يروح يستعد للانتقال إلى مجال حيوي آخر تنتجه سبيكة أخرى ، حيث السبيكة في كل مرة نقطة للحلول غير الدائم ، تجديدا لنشاط الصورة وحيوية التلقي ، وهو ما يتكشف عند رصد الصيغ المختلفة في تواليها : يا بنات الكرخ : صوت يمثل علاقة تطابق بين الشاعر بوصفه المنتج الأول للصوت ، وبين متلقيه بوصفه المستخدم الأول للصوت ، وفي دوام الاستخدام دوام للإنتاج ففي كل مرة يستعير المتلقي صوت الشاعر مطلقا الصوت الموجه لعملية التلقي جميعها إلى مكان محدد (الكرخ ) ذلك المكان التاريخي الذي يجد المتلقي نفسه متحركا بين قطبيه الزمنيين (الماضي زمن إنتاج المكان والحاضر زمن إنتاج الدلالة ) وهو ما يعني بقاء المكان في حالة من الاستاتيكية حتى تمنحه الشاعرة ديناميكيته عبر إنتاجه الدلالة المنصوص عليها في صوت الشاعرة والتي تعمد إلى تسليمها للمتلقي عبر عملية ممتدة بامتداد عملية التلقي ، مما يجعل التلقي مأخوذا إلى الكرخ وبناته بوصفه قبلة التطواف: تلك القبلة التي لا تكتسب قدسيتها (كونها قبلة ) من مجرد كونها ذات تاريخ قديم وإنما لأنها نموذج للالتقاء بين الشاعر والمتلقي أولا ولكونها دعوة للحركة الدائرية (المتكررة ) حيث مرورها على نقطة واحدة أكثر من مرة وهو ما تفرضه طبيعة التطواف تلك الطبيعة التي تجعل المتلقي يطوف حول الأشياء دون محاولة سبر أغوارها ودون محاولة خدش قدسيتها وذلك كله يجعل من الصورة محاولة لاعتماد سفائن الحلم : بوصفها حركة تتراوح بين المتاح (التطواف ) وغير المتاح (المعاند) وهو ما يتطلب حركة أقوى ونظاما أشد قوة من التطواف المتاح أو الحلم ليكون متاحا وهو ما يتطلب بدوره حركة روحية الطابع تتجاوز مادية الرؤية لروحانيتها تلك الروحانية التي تتعارض مع المادية (لاحظ السبيكة في وضعيتها بين علامتي الجملة الاعتراضية )– ملء روحي – حيث تنسب الروح لصوت الشاعر تعبيرا عن رغبته في الانتقال وتمهيدا لنقل الرغبة إلى متلقيه الذي يكون مؤهلا بدوره للانتقال للحالة نفسها تلك التي تحقق حالة أعلى تتبلور في السبيكة التالية “كبرياء قطيفتي” : بوصفها سبيكة تحقق ثلاث نتائج : تأكيد حضور المتكلم (عبر الياء ) ، الجمع بين المعنوي والمادي (الكبرياء – القطيفة ) ، الصورة المغايرة (كون الكبرياء منسوب للقطيفة ) ، ظهور المفردة اللونية الأولى في النص منذ بدايته ، وهو لون قد يبدو متعدد الدلالات لكونه غير محدد نظرا لتعدد ألوانها ([3])، تلك الألوان الممهدة للمعنى المحتمل في ثياب البحر: بوصفها التعبير المؤكد لمعنى القماش في القطيفة، والسبيكة هنا تعمل على توسيع دائرة التلقي عبر توسيع دائرة الفضاء الذي يتحرك فيه وعي متلقيه منطلقا من قبلة التطواف إلى البحر المطروح على وعي الصورة في رسوخها في ذهن المتلقي مانحته بعض النور المتدفق من النهار بوصفه النور الأقوى ، حيث نوره (فعله المستمد من طاقته والمؤسس عليها )ليس بمقدوره أن ينافس شفق النهاية وهو تركيب يمثل سبيكة النهاية الكاشفة عن فعل السبيكة النصية في تعددها الدال ، وفي قول الشاعرة (الومضة التاسعة ):
“ للفقراء صناعتهم إتقان الأحلام
وصيد الغدِ من بحر الدمع
وللأغنياء
سرقة ما صنع الفقراء
وحلب البقرات السبع ” ([4])
ترسم الومضة صورة كلية تعتمد على عنصرين أساسيين يقومان على معنى طبقي : الفقراء – الأغنياء ، والشاعر يقسم العنصرين بالتساوي حيث يجعل لكل فريق فعلين في الظاهر ، للفقراء صناعتهم وصيد الغد ، وللأغنياء المساحة نفسها غير أن الفئة الثانية تستولي في النهاية على كل شيئ .
والفئتان يقوم تصويرهما على تكرار السبيكة ست مرات : صناعتهم – إتقان الأحلام – صيد الغد – بحر الدمع – سرقة ما صنع – حلب البقرات ، منوعا بين وسائل تشكيلها (المضاف إلى اسم معرفة – المضاف إلى ضمير ) جامعا بين هو معنوي وماهو مادي ، ومفصلا القول في عدد من الوحدات النصية التي تنسج حولها عددا من الصور المشكلة للتجربة على مستوى القصيدة الواحدة أولا ثم على مستوى ديوان الشاعر بوصفه قصيدة واحدة ثانيا .
هنا تكون السبائك المتعددة أعمدة لبناء الصورة بوصفها وحدة بناء المتن ، ومن ثم بناء المتن بوصفه وحدة بناء النص ، ومن ثم النص بوصفه وحدة بناء الديوان في تشكله من مجموعة من النصوص ذات الطبيعة الفاعلة في تشغيل عملية التلقي ، يضاف إلى ذلك ماهو أهم أن السبيكة في معناها الأعمق تحيل إلى النص الشعري نفسه ، وهو ما تؤكده الإشارة الصريحة للشاعرة في قصيدتها الأخيرة ” ومضات “:
“ بسبائك من ذهب” ([5]) في الومضة الحادية والعشرين تحديدا في إشارة واضحة إلى معنى ميلاد القصيدة بوصفها سبيكة من ذهب .
الماء
يتشكل معجم الشاعرة وفق عدد من المفردات ذات الطبيعة الخاصة لكونها تتواشج مع غيرها من المفردات المشكلة للمعجم الشعري ومن هذه المفردات ذات التأثير ، الماء بوصفه موضوعا شعريا أولا ، وعلامة نصية ثانيا تكشف طريقة تشكيله النصي عن تقنية حضوره حيث يتفوق حضور العلامة على حضور الموضوع (تتكرر العلامة إحدى عشرة مرة ، الماء ثماني مرات والمياه ثلاث مرات ) تستهل بحضور السبيكة المائية الأولى :
“يا أيها الملكُ الموكلُ
إنني أتلو تعاويذَ النجاهْ
أتلو تعاويذ المياهْ” ([6])
وتتدرج إلى انفراد العلامة بحضورها عبر تصدرها في صورة يغلب عليها طابع المجاز :
“الماءُ زادٌ للسفر ْ
الماءُ دوَّارُ القمرْ
الماءُ جذوةُ عاشقين” ([7])
ليكتسب الماء شعريته من خلال موقعه التعبيري في قصائد الديوان عبر جمعها لمفردات حضورها على مدار مواضعها الشعرية .
الحرير
الحرير مفردة تفرض وجودها في نص متميز بخطابه المتفرد (ضمير المخاطب ) المطروح منذ المفتتح :
“سَتَظَلُّ تَحْمِلُ مَا تَحَمَّلْتَ
انْخَفَضْتَ أَو ارتَفَعتَ
إِلَى جِبَالٍ مِنْ مَعَانٍ لِلكَلامْ” ” ([8])
يطرح المفتتح صوتا يمكن للمتلقي بسهولة إسناده إلى صوت الشاعر بالأساس غير أن الأمر يأخذنا إلى محاولة استكشاف المخاطب (بالفتح ) لإدراك كنه من يتوجه إليه الخطاب دون تقديم إشارة تحدد طبيعة المخاطب ، فاتحا آفاق التوقع على أقصى اتساعه وفق حركة المتلقي مع حركة النص على مدار الأرض عبر عدد من المحطات المكانية التي يوظفها النص بوصفها علامات شعرية تبدأ من فضاء ” الطور ” في إحالته إلى موسى عليه السلام في استدعاء واضح للمجال الحيوي لأحداث قصته :
” إِذْ أَينَ كَانَ “الطُّورُ” يَنْتَظِرُ الضِّيَاءْ ” ([9])
وهو ضياء لا ينتظره الطور وإنما ينتظره النص أيضا لإضاءة الطريق أمام رحلة صوفية لها ظاهرها (رحلة الإنسان على الأرض ، تلك التي تبدأ بجرح جنب قتل ) ، ولها باطنها (رحلة الروح في معراجها السماوي ) حيث تبدأ الرحلة :
” ثُمَّ مِن قُمعِ الحَرِيرِ خَرَجْتَ
تَبْدَأُ رِحْلَةً كُبرَى تَصِيرُ مُعَقَّدًا كَفَراشَةٍ
سَهْلًا كَماءٍ فِى فَلَكْ
مَا أَسْكَرَكْ ! ” ([10])
الأنا
بوصفها الكاشف المعبر عن رؤية العالم تتحرك الأنا على مدار القصائد قائمة بعدد من الوظائف التعبيرية والجمالية في آن ، تتحرك بين نطاقين : نطاق غير مباشر يعبر عن نفسه من خلال:
ضمير المتكلم (تاء الفاعل ) المتصل بالأفعال بوصفها تعبيرا عن نشاط الذات الإنسانية في حضورها الشعري (داخل القصيدة ) ذلك الذي لا ينفصل عن حضورها الشعري (خارج القصيدة ) مطروحا على وعي المتلقي ، والضمير هنا يحيل إلى ذات تعلن عن نفسها في سياق الآخرين بما يمنحه إياها من مساحة حركة لا تستقل فيها عن غيرها وتكون مشاركة لغيرها من الفواعل المختلفة التي يتضمنها فضاء القصائد في تنوعها ، فالضمير المتصل يحيل إلى ذات يكون فعلها في الغالب رد فعل عن أفعال الآخرين أو تاليا للآخرين تراها في أفعال كاشفة عن هذا الجانب : جبت – وجدت – أرسلت – أتيت – أطلقت … وغيرها من أفعال تدخل الصورة نطاقها السردي بوصفها رد فعل ينبني عليه ردود أفعال أيضا مما يجعله مؤثرا ومتأثرا بنشاط الآخرين ، ثم يكون للأفعال في تواليها .
الضمير (أنا) المنفصل مستقلا عن غيره من الضمائر ، ومبتدئا حركة سردية مغايرة لرد الفعل في الضمير السابق ، والضمير يتكرر ثماني مرات تتعدد دلالاتها لتكون بداية فعل يخص الذات حين تؤثر في الآخرين ويجعل من الصور المتضمنة بمثابة الصور المنفصلة المتصلة حيث يمكنك قراءة الصورة في انفصالها عن سياقها الجمعي أولا وفي اتصالها بهذا السياق ثانيا لتكون في حال البداية بمثابة :
“أنا يا حبيبى
قُمقمٌ مختوم ْ
عينٌ مغلقةٌ
ويَنبوعٌ من السِّحْرِ المُطَلْسَمْ “([11]).
ويكون علينا حين نرصد حركة الضمير ألا نقف عند استقلال الضمير فقط وإنما إلى المفردات التي تنفرد بها الصورة المتضمنة ، تلك التي تتضمن مفردات لا تتكرر خارجها :
“أنا زيتُ القناديلِ المُصَاحِبُ دمعةً تجري“([12])
“يا أهليَ الشهداءَ
تائهةٌ أنَا
أتنفسُ الصحراءَ منْ قلبي“([13])
“ها أنا بين الجموعِ
كنسمةٍ وسْطَ الرياحِ تُجابهُ الأفقَ العَنِيدْ
بمساحةٍ بيضاءَ تذكرني هنا“([14])
” أَنَا الحَدِيدُ
رَفَعْتُ أَعْمِدةَ البُيوتِ “([15])
“ لا تبكِ
كن بي مفردا
كن أمنياتي المرجأة
أنت الذي أخرجتني
من ضعف ضلعك
كي نصير اثنين
أنت إذن أنا
أنا أنت
أنت الخاطئة “([16])
“ أنا سر هذا الكون
ورْدتُه البتولُ الهادئة
هل فكَّ من طِلَّسمها
ذكرى عبير الآزفة “([17])
و القاسم المشترك بين الصور جميعها كون الضمير مبتدأ لأخبار لا يقف دورها عند الكشف عن المقصود من المبتدأ المتكرر في سياق تعدد الأخبار بما يوحي بتعدد الصفات ومعها تعدد نشاط الذات حين تخبر عن أدوارها المتعددة الكاشفة بدورها عن مساحات العطاء (لاحظ ما تطرحه الأخبار المتعددة في الصورة من دلالات ) ، كما نلاحظ أيضا اعتماد النسق المعهود في تقدم المبتدأ على خبره ، وهو ما يمثل أسلوبا متكررا في الصور المنبنية على هذا النسق جميعها باستثناء الصورة الثامنة حيث يتقدم الخبر (والدة ) على الضمير المنفصل (المبتدأ ) تعظيما للمتقدم و تبجيلا لدور الأم من خلال العلامة الدالة عليها (الوالدة ) على دور الذات الحريصة على تأخير الإعلان عن نفسها من حيث هي معنى له استقلاليته ، يضاف إلى ذلك تقديم الوالدة حسب دلالتها التاريخية في إحالتها لمريم العذراء اعتمادا على عدد من العلامات النصية (غلام – اهتزاز النخيل – الرطب):
” على كبرٍ
هب لقلبي غلام القصائد
بشرها بسبائك من ذهب
فصكت بتنهيدةٍ وجهها
ثم قالت:
أو الدةٌ أنا دون اهتزاز النخيل
ودون الرطب “([18])
و الدلالة هنا تنبني على الجمع بين صورتين : مولد القصيدة – مولد المسيح ، والجامع بينهما تلك القيمة الكامنة في المولود أولا وفي وظيفته ثانيا وفي حركة المتلقي الذهنية بين الصورتين استكشافا للروابط بينهما و إنتاجا لمساحات النقاء والطهارة بينهما ، والبشارة في كليهما (المسيح مولود لأم بلا أب و قصائد الشاعرة مولود لأم بلا أب أيضا ) وهو ما يمنح القصيدة قدرا من قيمتها ويمنح الشعر قدرا من قدسيته .
والومضة في مجملها تجمع بين الشعري (في صياغته وقدرته على إنتاج إيقاعه النصي ) والسردي ممثلا في تناصه مع حدث ميلاد المسيح ذلك الحدث المتماثل مع ميلاد القصيدة وإذا كان الحدث الأول(ميلاد المسيح ) قد شغل الخليقة بعده فإن الحدث الثاني (ميلاد القصيدة ) قد شغل الشعراء أولا ([19]) ، وشغل المهتمين بالشعر ثانيا .
لقد أدارت الشاعرة تجربتها وفق نظام من اللغة الخاصة بها ، وعبر أنساق أسلوبية كانت قادرة على طرح جمالياتها المنتجة خصوصية نصها .
………
هوامش وإشارات
[1] – أحد أهم أحياء بغداد التاريخية يقع الجانب الغربي لنهر دجلة. ويضم عددا من المناطق ذات الأهمية لبغداد : المنصور والكاظمية والصالحية وشارع حيفا والعامرية.
وورد في معجم البلدان :” الكرخ بالفتح ثم السكون وخاء معجمة وما أظنها عربية إنما هي نبطية وهم يقولون كرخت الماء وغيره من البقر والغنم إلى موضع كذا أي جمعته فيه في كل موضع وكلها بالعراق (انظر : ياقوت الحموي : معجم البلدان – عني بتصحيحه و ترتيب وضعه محمد أمين الخانجي – مطبعة السعادة – القاهرة 1906، ص 231.
[2] – بنات الكرخ ص 39.
[3] – القطيفة اسم لشيئين أولهما: نبات حولي واسع الانتشار من الفصيلة المركبة اسمه العلمي تاجيتس نورته صفراء برتقالية أو ذهبية وله نوعان أفريقي كبير النورة وفرنسي صغير النورة ، وثانيهما : القماش المعروف بالمخمل (قماش ذو وبرة قصيرة ناعمة سميكة من الحرير ). الموسوعة العربية الميسرة ص 2575، وانظر مادة مخمل ص 3072.
والسياق في القصيدة يحتمل المعنيين فإذا تحكم سياق الطبيعة تصدر معنى النبات وإذا تحكم معنى الأنوثة تصدر معنى القماش (يؤيد هذا المعنى السبيكة التالية ثياب البحر ) وفي الحالتين ينتمي المعنى لصوت الشاعرة ويحيل إليها بوصفها داخلة في تركيب السبيكة بحلول ضمير المتكلم في نهاية التركيب ذلك الضمير الذي يمثل علامة حضور الذات .
[4] – بنات الكرخ ص 100.
[5] – بنات الكرخ ص 104.
[6] – بنات الكرخ ص 61.
[7] – شيرين العدوي : بنات الكرخ – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2014، ص
[8] – بنات الكرخ ص 71.
[9] – بنات الكرخ ص 71.
[10] – بنات الكرخ ص 72.
[11] – بنات الكرخ ص 44.
[12] – بنات الكرخ ص 58.
[13] – بنات الكرخ ص 62.
[14] – بنات الكرخ ص 63.
[15] – بنات الكرخ ص 76.
[16] – بنات الكرخ ص 97.
[17] – بنات الكرخ ص 99.
[18] – بنات الكرخ ص 99.
[19] – تجلى هذا في نتاج كثير من الشعراء الذين انشغلوا بكتابة اللحظة أو وصفوها ، ومن هؤلاء علي محمود طه في قصيدته “ميلاد شاعر ” .
د. مصطفى الضبع
شيرين أحمد على العدوى من مواليد المنصورة (عاصمة محافظة الدقهلية في دلتا مصر شمالي القاهرة)، تخرجت في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وحصلت على ماجستير التاريخ الإسلامي في الكلية نفسها، تعد أطروحة الدكتوراه في الآداب قسم التاريخ الإسلامي جامعة عين شمس، صدر لها:
دهاليز الجراح ـ دار سما للنشر القاهرة 1998.
فوهة باتجاهي – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2002.
بنات الكرخ – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2014.
الحياة الاجتماعية في كتاب الأغاني للأصفهاني، دراسة تاريخية نقدية- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2012.
حازت عددا من الجوائز: جائزة أحمد شوقي 1998 – جائزة المجلس الأعلى للثقافة 1998- جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة 1999 – جائزة الشباب والرياضة 2002 – جائزة دار الأدباء 2004 .
في تجربتها الشعرية تتعدد دوائر العمل تعبيرا عن الرؤية وكشفا لمنظورها الشعري الجمالي وفق دوائر تنطلق مفردات النص اللغوية من شأنها تشكيل اللغة تشكيلا يهتم بالجمالي لصالح الشعري، وبالشعري لصالح الإنساني وللجميع لصالح الفن.
العنوان
بنات الكرخ، تمثل عتبة أساسية لمقاربة عالم الشاعرة عتبة تقوم على مفردتين تكتسب أولاهما حيويتها من ثانيتهما التي تزيل إبهامها وتخرجها من دائرة المطلق غير المحدد إلى المحدد المتعين ، فيما تعمل المفردة الثانية (الكرخ ) بوصفها رابطا تفاعليا يأخذ المتلقي ذهنيا إلى مساحة إشكالية ، مساحة تقوم على فض مغاليق المعنى القائم في مفردة يقف المتلقي إزاءها موقفين لا ثالث لهما :
موقف العارف بالمعنى: وهو ما يجعله يتحرك بين مكانه (المحتضن عملية التلقي )إلى مكان المعنى البعيد (المحتضن كل ما تطرحه المفردة من دلالات) متعمقا فيما يقصده النص وما تتغياه الشاعرة من إنتاج لدلالتها ، عبر مجموعة من الأسئلة المنبنية على ما يعرف أولا وعلى ما تمنحه الصورة من طاقات ترميزية لها حضورها في السياق الذي يبرر حضورها .
موقف غير العارف : وهو ما يحرك المتلقي لمنطقة سابقة لإدراك الدلالة تتمثل في معرفة الأساس في إنتاجها ، منطقة المعرفة بما يكون الكرخ وطبيعة الاسم ، وهو ما يعني مساحة من الحركة في المصادر الفاتحة آفاق المعرفة لإدراك طبيعة الاسم قبل التوصل أو محاولة التوصل لما ينتجه في سياق النص .
وفي الحالتين يكون لحركة المتلقي دورها في استجلاء الصورة الكلية للنص وما يطرحه من تفاصيل يبدأ في تجميعها منذ العتبة الأولى للديوان مرورا بالعتبات المتوالية في سياق النصوص في تواليها ، مع احتفاظ العتبة الأولى بتفردها على مستوى الجانب المعرفي لها خلافا للعتبات النصية المتتالية فليس ثمة عتبة أخرى تحيل متلقي الديوان إلى مفردة تنتمي إلى واقع محدد كما تحققه مفردة (الكرخ) ([1]).
سبيكة المضاف والمضاف إليه
تتعدد وظائف السبيكة بالقدر المنتج لدلالاتها القائمة على مواقعها التنويرية (تنوير المتلقي بما هو قائم في النص ) وتنوير النص بما هو قائم في اللغة من مقومات التشكيل الشعري ، والسبيكة الشعرية (من المضاف والمضاف إليه ) تمثل أحد مقومات النسق الشعري في ديوان الشاعرة شيرين العدوي .
تستهل السبيكة حضورها من العنوان “بنات الكرخ ” بوصفه الصيغة الأبرز (واجهة التلقي )عبر تصدره الديوان (أول ما يواجه المتلقي ) ثم تصدره قصيدتين متتاليتين هما الأبرز في الديوان ، وقد فرض عنوانهما نفسه على عتبة الديوان الأولى (عنوانه ) ، ثم تصدر الصيغة نفسها عنوان خمسة قصائد (يابنات الكرخ – يابنات الكرخ – بلورة الرحلة – قمع الحرير – سرير المسافة – من أصل أحد عشر عنوانا (مجموع قصائد الديوان ) ، والصيغة تفرض نفسها على مفتتح الومضات القصيرة التي تختتم الشاعرة بها ديوانها تلك التي تضم خمسا وعشرين (25) ومضة ، خمس عشرة ومضة منها يتضمن مفتتحها (البديل عن العنوان أو الصيغة التي تحل محل العنوان بوصفها واجهة الومضة ) .
وعلى مستوى المتن (متن النصوص أولا ومتن الومضات ثانيا ) تكاد سبيكة المضاف والمضاف إليه تمثل العمود الفقري للنص ، وهو ما يمكن اختباره عبر نموذجها الدال الذي يطرح نفسه منذ مفتتح القصيدة الأولى من الديوان (يا بنات الكرخ ) :
“من قِبْلَةِ التَّطْوَافِ
حولَ سفائن الحلمِ المُعاندْ
أعلو لدىَّ ــ ومِلءُ رُوحِى ــ
كبرياءُ قَطِيفتى
فإذا تخلَّصتِ البحارُ من البسيطة
والبسيطةُ من ثيابِ البحر
ذاكرةٌ تعودْ
هذا نهارٌ لا يضاهى نُورهُ شفقَ النهايةِ “([2]).
المضاف : أفق مفتوح ، مطلق لا يستقر على دلالة واضحة ، يحيل إلى متعدد ، وتتعدد احتمالات فعله.
المضاف إليه : أفق محدد يستقر على نقطة التقاء توجه ذهن المتلقي إلى معلم محدد من معالم العالم (الكرخ مثلا) وهو ما يجعل المتلقي يروح في رحلة أخرى من استشراف المعلم عبر حركة ممتدة مستقيمة إلى نقطة الوصول المؤقت حيث يروح يستعد للانتقال إلى مجال حيوي آخر تنتجه سبيكة أخرى ، حيث السبيكة في كل مرة نقطة للحلول غير الدائم ، تجديدا لنشاط الصورة وحيوية التلقي ، وهو ما يتكشف عند رصد الصيغ المختلفة في تواليها : يا بنات الكرخ : صوت يمثل علاقة تطابق بين الشاعر بوصفه المنتج الأول للصوت ، وبين متلقيه بوصفه المستخدم الأول للصوت ، وفي دوام الاستخدام دوام للإنتاج ففي كل مرة يستعير المتلقي صوت الشاعر مطلقا الصوت الموجه لعملية التلقي جميعها إلى مكان محدد (الكرخ ) ذلك المكان التاريخي الذي يجد المتلقي نفسه متحركا بين قطبيه الزمنيين (الماضي زمن إنتاج المكان والحاضر زمن إنتاج الدلالة ) وهو ما يعني بقاء المكان في حالة من الاستاتيكية حتى تمنحه الشاعرة ديناميكيته عبر إنتاجه الدلالة المنصوص عليها في صوت الشاعرة والتي تعمد إلى تسليمها للمتلقي عبر عملية ممتدة بامتداد عملية التلقي ، مما يجعل التلقي مأخوذا إلى الكرخ وبناته بوصفه قبلة التطواف: تلك القبلة التي لا تكتسب قدسيتها (كونها قبلة ) من مجرد كونها ذات تاريخ قديم وإنما لأنها نموذج للالتقاء بين الشاعر والمتلقي أولا ولكونها دعوة للحركة الدائرية (المتكررة ) حيث مرورها على نقطة واحدة أكثر من مرة وهو ما تفرضه طبيعة التطواف تلك الطبيعة التي تجعل المتلقي يطوف حول الأشياء دون محاولة سبر أغوارها ودون محاولة خدش قدسيتها وذلك كله يجعل من الصورة محاولة لاعتماد سفائن الحلم : بوصفها حركة تتراوح بين المتاح (التطواف ) وغير المتاح (المعاند) وهو ما يتطلب حركة أقوى ونظاما أشد قوة من التطواف المتاح أو الحلم ليكون متاحا وهو ما يتطلب بدوره حركة روحية الطابع تتجاوز مادية الرؤية لروحانيتها تلك الروحانية التي تتعارض مع المادية (لاحظ السبيكة في وضعيتها بين علامتي الجملة الاعتراضية )– ملء روحي – حيث تنسب الروح لصوت الشاعر تعبيرا عن رغبته في الانتقال وتمهيدا لنقل الرغبة إلى متلقيه الذي يكون مؤهلا بدوره للانتقال للحالة نفسها تلك التي تحقق حالة أعلى تتبلور في السبيكة التالية “كبرياء قطيفتي” : بوصفها سبيكة تحقق ثلاث نتائج : تأكيد حضور المتكلم (عبر الياء ) ، الجمع بين المعنوي والمادي (الكبرياء – القطيفة ) ، الصورة المغايرة (كون الكبرياء منسوب للقطيفة ) ، ظهور المفردة اللونية الأولى في النص منذ بدايته ، وهو لون قد يبدو متعدد الدلالات لكونه غير محدد نظرا لتعدد ألوانها ([3])، تلك الألوان الممهدة للمعنى المحتمل في ثياب البحر: بوصفها التعبير المؤكد لمعنى القماش في القطيفة، والسبيكة هنا تعمل على توسيع دائرة التلقي عبر توسيع دائرة الفضاء الذي يتحرك فيه وعي متلقيه منطلقا من قبلة التطواف إلى البحر المطروح على وعي الصورة في رسوخها في ذهن المتلقي مانحته بعض النور المتدفق من النهار بوصفه النور الأقوى ، حيث نوره (فعله المستمد من طاقته والمؤسس عليها )ليس بمقدوره أن ينافس شفق النهاية وهو تركيب يمثل سبيكة النهاية الكاشفة عن فعل السبيكة النصية في تعددها الدال ، وفي قول الشاعرة (الومضة التاسعة ):
“ للفقراء صناعتهم إتقان الأحلام
وصيد الغدِ من بحر الدمع
وللأغنياء
سرقة ما صنع الفقراء
وحلب البقرات السبع ” ([4])
ترسم الومضة صورة كلية تعتمد على عنصرين أساسيين يقومان على معنى طبقي : الفقراء – الأغنياء ، والشاعر يقسم العنصرين بالتساوي حيث يجعل لكل فريق فعلين في الظاهر ، للفقراء صناعتهم وصيد الغد ، وللأغنياء المساحة نفسها غير أن الفئة الثانية تستولي في النهاية على كل شيئ .
والفئتان يقوم تصويرهما على تكرار السبيكة ست مرات : صناعتهم – إتقان الأحلام – صيد الغد – بحر الدمع – سرقة ما صنع – حلب البقرات ، منوعا بين وسائل تشكيلها (المضاف إلى اسم معرفة – المضاف إلى ضمير ) جامعا بين هو معنوي وماهو مادي ، ومفصلا القول في عدد من الوحدات النصية التي تنسج حولها عددا من الصور المشكلة للتجربة على مستوى القصيدة الواحدة أولا ثم على مستوى ديوان الشاعر بوصفه قصيدة واحدة ثانيا .
هنا تكون السبائك المتعددة أعمدة لبناء الصورة بوصفها وحدة بناء المتن ، ومن ثم بناء المتن بوصفه وحدة بناء النص ، ومن ثم النص بوصفه وحدة بناء الديوان في تشكله من مجموعة من النصوص ذات الطبيعة الفاعلة في تشغيل عملية التلقي ، يضاف إلى ذلك ماهو أهم أن السبيكة في معناها الأعمق تحيل إلى النص الشعري نفسه ، وهو ما تؤكده الإشارة الصريحة للشاعرة في قصيدتها الأخيرة ” ومضات “:
“ بسبائك من ذهب” ([5]) في الومضة الحادية والعشرين تحديدا في إشارة واضحة إلى معنى ميلاد القصيدة بوصفها سبيكة من ذهب .
الماء
يتشكل معجم الشاعرة وفق عدد من المفردات ذات الطبيعة الخاصة لكونها تتواشج مع غيرها من المفردات المشكلة للمعجم الشعري ومن هذه المفردات ذات التأثير ، الماء بوصفه موضوعا شعريا أولا ، وعلامة نصية ثانيا تكشف طريقة تشكيله النصي عن تقنية حضوره حيث يتفوق حضور العلامة على حضور الموضوع (تتكرر العلامة إحدى عشرة مرة ، الماء ثماني مرات والمياه ثلاث مرات ) تستهل بحضور السبيكة المائية الأولى :
“يا أيها الملكُ الموكلُ
إنني أتلو تعاويذَ النجاهْ
أتلو تعاويذ المياهْ” ([6])
وتتدرج إلى انفراد العلامة بحضورها عبر تصدرها في صورة يغلب عليها طابع المجاز :
“الماءُ زادٌ للسفر ْ
الماءُ دوَّارُ القمرْ
الماءُ جذوةُ عاشقين” ([7])
ليكتسب الماء شعريته من خلال موقعه التعبيري في قصائد الديوان عبر جمعها لمفردات حضورها على مدار مواضعها الشعرية .
الحرير
الحرير مفردة تفرض وجودها في نص متميز بخطابه المتفرد (ضمير المخاطب ) المطروح منذ المفتتح :
“سَتَظَلُّ تَحْمِلُ مَا تَحَمَّلْتَ
انْخَفَضْتَ أَو ارتَفَعتَ
إِلَى جِبَالٍ مِنْ مَعَانٍ لِلكَلامْ” ” ([8])
يطرح المفتتح صوتا يمكن للمتلقي بسهولة إسناده إلى صوت الشاعر بالأساس غير أن الأمر يأخذنا إلى محاولة استكشاف المخاطب (بالفتح ) لإدراك كنه من يتوجه إليه الخطاب دون تقديم إشارة تحدد طبيعة المخاطب ، فاتحا آفاق التوقع على أقصى اتساعه وفق حركة المتلقي مع حركة النص على مدار الأرض عبر عدد من المحطات المكانية التي يوظفها النص بوصفها علامات شعرية تبدأ من فضاء ” الطور ” في إحالته إلى موسى عليه السلام في استدعاء واضح للمجال الحيوي لأحداث قصته :
” إِذْ أَينَ كَانَ “الطُّورُ” يَنْتَظِرُ الضِّيَاءْ ” ([9])
وهو ضياء لا ينتظره الطور وإنما ينتظره النص أيضا لإضاءة الطريق أمام رحلة صوفية لها ظاهرها (رحلة الإنسان على الأرض ، تلك التي تبدأ بجرح جنب قتل ) ، ولها باطنها (رحلة الروح في معراجها السماوي ) حيث تبدأ الرحلة :
” ثُمَّ مِن قُمعِ الحَرِيرِ خَرَجْتَ
تَبْدَأُ رِحْلَةً كُبرَى تَصِيرُ مُعَقَّدًا كَفَراشَةٍ
سَهْلًا كَماءٍ فِى فَلَكْ
مَا أَسْكَرَكْ ! ” ([10])
الأنا
بوصفها الكاشف المعبر عن رؤية العالم تتحرك الأنا على مدار القصائد قائمة بعدد من الوظائف التعبيرية والجمالية في آن ، تتحرك بين نطاقين : نطاق غير مباشر يعبر عن نفسه من خلال:
ضمير المتكلم (تاء الفاعل ) المتصل بالأفعال بوصفها تعبيرا عن نشاط الذات الإنسانية في حضورها الشعري (داخل القصيدة ) ذلك الذي لا ينفصل عن حضورها الشعري (خارج القصيدة ) مطروحا على وعي المتلقي ، والضمير هنا يحيل إلى ذات تعلن عن نفسها في سياق الآخرين بما يمنحه إياها من مساحة حركة لا تستقل فيها عن غيرها وتكون مشاركة لغيرها من الفواعل المختلفة التي يتضمنها فضاء القصائد في تنوعها ، فالضمير المتصل يحيل إلى ذات يكون فعلها في الغالب رد فعل عن أفعال الآخرين أو تاليا للآخرين تراها في أفعال كاشفة عن هذا الجانب : جبت – وجدت – أرسلت – أتيت – أطلقت … وغيرها من أفعال تدخل الصورة نطاقها السردي بوصفها رد فعل ينبني عليه ردود أفعال أيضا مما يجعله مؤثرا ومتأثرا بنشاط الآخرين ، ثم يكون للأفعال في تواليها .
الضمير (أنا) المنفصل مستقلا عن غيره من الضمائر ، ومبتدئا حركة سردية مغايرة لرد الفعل في الضمير السابق ، والضمير يتكرر ثماني مرات تتعدد دلالاتها لتكون بداية فعل يخص الذات حين تؤثر في الآخرين ويجعل من الصور المتضمنة بمثابة الصور المنفصلة المتصلة حيث يمكنك قراءة الصورة في انفصالها عن سياقها الجمعي أولا وفي اتصالها بهذا السياق ثانيا لتكون في حال البداية بمثابة :
“أنا يا حبيبى
قُمقمٌ مختوم ْ
عينٌ مغلقةٌ
ويَنبوعٌ من السِّحْرِ المُطَلْسَمْ “([11]).
ويكون علينا حين نرصد حركة الضمير ألا نقف عند استقلال الضمير فقط وإنما إلى المفردات التي تنفرد بها الصورة المتضمنة ، تلك التي تتضمن مفردات لا تتكرر خارجها :
“أنا زيتُ القناديلِ المُصَاحِبُ دمعةً تجري“([12])
“يا أهليَ الشهداءَ
تائهةٌ أنَا
أتنفسُ الصحراءَ منْ قلبي“([13])
“ها أنا بين الجموعِ
كنسمةٍ وسْطَ الرياحِ تُجابهُ الأفقَ العَنِيدْ
بمساحةٍ بيضاءَ تذكرني هنا“([14])
” أَنَا الحَدِيدُ
رَفَعْتُ أَعْمِدةَ البُيوتِ “([15])
“ لا تبكِ
كن بي مفردا
كن أمنياتي المرجأة
أنت الذي أخرجتني
من ضعف ضلعك
كي نصير اثنين
أنت إذن أنا
أنا أنت
أنت الخاطئة “([16])
“ أنا سر هذا الكون
ورْدتُه البتولُ الهادئة
هل فكَّ من طِلَّسمها
ذكرى عبير الآزفة “([17])
و القاسم المشترك بين الصور جميعها كون الضمير مبتدأ لأخبار لا يقف دورها عند الكشف عن المقصود من المبتدأ المتكرر في سياق تعدد الأخبار بما يوحي بتعدد الصفات ومعها تعدد نشاط الذات حين تخبر عن أدوارها المتعددة الكاشفة بدورها عن مساحات العطاء (لاحظ ما تطرحه الأخبار المتعددة في الصورة من دلالات ) ، كما نلاحظ أيضا اعتماد النسق المعهود في تقدم المبتدأ على خبره ، وهو ما يمثل أسلوبا متكررا في الصور المنبنية على هذا النسق جميعها باستثناء الصورة الثامنة حيث يتقدم الخبر (والدة ) على الضمير المنفصل (المبتدأ ) تعظيما للمتقدم و تبجيلا لدور الأم من خلال العلامة الدالة عليها (الوالدة ) على دور الذات الحريصة على تأخير الإعلان عن نفسها من حيث هي معنى له استقلاليته ، يضاف إلى ذلك تقديم الوالدة حسب دلالتها التاريخية في إحالتها لمريم العذراء اعتمادا على عدد من العلامات النصية (غلام – اهتزاز النخيل – الرطب):
” على كبرٍ
هب لقلبي غلام القصائد
بشرها بسبائك من ذهب
فصكت بتنهيدةٍ وجهها
ثم قالت:
أو الدةٌ أنا دون اهتزاز النخيل
ودون الرطب “([18])
و الدلالة هنا تنبني على الجمع بين صورتين : مولد القصيدة – مولد المسيح ، والجامع بينهما تلك القيمة الكامنة في المولود أولا وفي وظيفته ثانيا وفي حركة المتلقي الذهنية بين الصورتين استكشافا للروابط بينهما و إنتاجا لمساحات النقاء والطهارة بينهما ، والبشارة في كليهما (المسيح مولود لأم بلا أب و قصائد الشاعرة مولود لأم بلا أب أيضا ) وهو ما يمنح القصيدة قدرا من قيمتها ويمنح الشعر قدرا من قدسيته .
والومضة في مجملها تجمع بين الشعري (في صياغته وقدرته على إنتاج إيقاعه النصي ) والسردي ممثلا في تناصه مع حدث ميلاد المسيح ذلك الحدث المتماثل مع ميلاد القصيدة وإذا كان الحدث الأول(ميلاد المسيح ) قد شغل الخليقة بعده فإن الحدث الثاني (ميلاد القصيدة ) قد شغل الشعراء أولا ([19]) ، وشغل المهتمين بالشعر ثانيا .
لقد أدارت الشاعرة تجربتها وفق نظام من اللغة الخاصة بها ، وعبر أنساق أسلوبية كانت قادرة على طرح جمالياتها المنتجة خصوصية نصها .
………
هوامش وإشارات
[1] – أحد أهم أحياء بغداد التاريخية يقع الجانب الغربي لنهر دجلة. ويضم عددا من المناطق ذات الأهمية لبغداد : المنصور والكاظمية والصالحية وشارع حيفا والعامرية.
وورد في معجم البلدان :” الكرخ بالفتح ثم السكون وخاء معجمة وما أظنها عربية إنما هي نبطية وهم يقولون كرخت الماء وغيره من البقر والغنم إلى موضع كذا أي جمعته فيه في كل موضع وكلها بالعراق (انظر : ياقوت الحموي : معجم البلدان – عني بتصحيحه و ترتيب وضعه محمد أمين الخانجي – مطبعة السعادة – القاهرة 1906، ص 231.
[2] – بنات الكرخ ص 39.
[3] – القطيفة اسم لشيئين أولهما: نبات حولي واسع الانتشار من الفصيلة المركبة اسمه العلمي تاجيتس نورته صفراء برتقالية أو ذهبية وله نوعان أفريقي كبير النورة وفرنسي صغير النورة ، وثانيهما : القماش المعروف بالمخمل (قماش ذو وبرة قصيرة ناعمة سميكة من الحرير ). الموسوعة العربية الميسرة ص 2575، وانظر مادة مخمل ص 3072.
والسياق في القصيدة يحتمل المعنيين فإذا تحكم سياق الطبيعة تصدر معنى النبات وإذا تحكم معنى الأنوثة تصدر معنى القماش (يؤيد هذا المعنى السبيكة التالية ثياب البحر ) وفي الحالتين ينتمي المعنى لصوت الشاعرة ويحيل إليها بوصفها داخلة في تركيب السبيكة بحلول ضمير المتكلم في نهاية التركيب ذلك الضمير الذي يمثل علامة حضور الذات .
[4] – بنات الكرخ ص 100.
[5] – بنات الكرخ ص 104.
[6] – بنات الكرخ ص 61.
[7] – شيرين العدوي : بنات الكرخ – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2014، ص
[8] – بنات الكرخ ص 71.
[9] – بنات الكرخ ص 71.
[10] – بنات الكرخ ص 72.
[11] – بنات الكرخ ص 44.
[12] – بنات الكرخ ص 58.
[13] – بنات الكرخ ص 62.
[14] – بنات الكرخ ص 63.
[15] – بنات الكرخ ص 76.
[16] – بنات الكرخ ص 97.
[17] – بنات الكرخ ص 99.
[18] – بنات الكرخ ص 99.
[19] – تجلى هذا في نتاج كثير من الشعراء الذين انشغلوا بكتابة اللحظة أو وصفوها ، ومن هؤلاء علي محمود طه في قصيدته “ميلاد شاعر ” .
د. مصطفى الضبع