د. محمد وقيدي - المغامرة الفكرية للفيلسوف

-1-

ساهم الفلاسفة على مدى التاريخ الطويل للفكر الإنساني في إغناء هذا الفكر. هذا واقع يشهد به التاريخ العام للفكر الإنساني في مختلف مجالات إبداعه. ولا نسعى في مقامنا الحالي إلى الحديث عن مساهمات الفكر الفلسفي، بل نروم فقط البحث في مظهر أساسي للطريقة التي فكر بها الفلاسفة، ورأينا فيه سمة المغامرة الفكرية للفيلسوف في كل عصور الفلسفة.

لا ينطلق الفيلسوف من يقينات مطلقة، ولا يصل كذلك إلى مثل هذه اليقينات. فالفلسفة ليست عقيدة لكي تكون لها هذه السمة. ومن جهة أخرى، فإن الفيلسوف لا يعبر عن فكر جماعي مثلما هو الحال في الإيديولوجيات المختلفة أو التصورات العامة التي تكون شائعة في المجتمعات عن الكون والإنسان والحياة الإنسانية.

الفلسفة، بخلاف ما ذكرناه، أفكار منبثقة عن فكر فردي نذكرها في تاريخ الأفكار منسوبة إليه. وقد نشأت الفلسفة منذ ظهور ذوات فكرية فردية قدمت رؤيتها الخاصة عن الكون والإنسان. ونذكر في الحضارة اليونانية القديمة أسماء مثل طاليس وفيثاغور وبارمنيد وغيرهم ممن سموا في وقتهم بالحكماء، والذين تلاهم سقراط وأفلاطون وأرسطو. كما عرفت الحضارات التالية بعد ذلك أسماء أخرى نذكر منها في الحضارة الإسلامية الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وفي الحضارة الأوربية الحديثة أسماء ديكارت وكنط وهيغل وغيرهم.

نعلم عندما نهتم بتطور الأفكار الفلسفي أن نسبة هذه الأفكار تكون إلى الذوات الفردية التي عبرت عنها، وأن نسبتها إلى جماعة لا تكون إلا في الحالة التي توجد فيها قواسم مشتركة بين مجموعة من الفلاسفة ينتمون ضمن التصنيف الفلسفي إلى نفس المذهب. لكن صيغة التعبير الفردي عن الأفكار تظل هي السمة الغالبة على الفلسفة. ولا يخلو الأمر في هذه الحالة من مواجهة المتفلسفين لعدد من المشكلات في علاقتهم بمجتمعهم.

لا يمنع التمايز بين الأفكار الفلسفية وتلك التي ترجع إلى العقائد من تداخلها، وذلك في الحالات التي يعبر فيها الفلاسفة عن أفكار تتوافق مع العقائد وتكون داعمة لها، وهي حالات لا تحصى في تاريخ الفلسفة، لكن لتعبير الفلسفي عن الأفكار في هذه الحالة يكون تمثلا شخصيا أو فهما شخصيا يقترحه الفيلسوف من حيث هو ذات مفكرة فردي. وكذلك كان الأمر بالنسبة للإيديولوجيات، إذ لا يحول تمييزنا للفلسفة عنها من تقاطع طبيعي قد يأتي أحيانا من سيادة إيديولوجيا معينة في عصر محدد ومن اندراج الأفكار الفلسفية ضمن تلك الإيديولوجيا العامة أو من تفاعلها معها في أقل تقدير. وهناك في هذا المستوى أيضا حالات كثيرة من الفكر الفلسفي التي وقع فيها مثل هذا التداخل، بما له من إيجابيات وسلبيات هي في حاجة إلى تحليل خاص يبرز مظاهرها.

الطابع الفردي للتعبير عن الأفكار الفلسفية يفتحها على التعارض مع واقع المجتمع الذي يغلب عليه الطابع الجماعي للأفكار. بتعبير آخر، إن الفلسفة التي تستند في إنتاجها للأفكار على مبادرة فردية للعقل، تصبح في تعارض مع الفكر العام السائد الذي يعتمد على رصيد العقل الجماعي. للفكر الجماعي السائد في أي مجتمع، سواء كان صادرا عن عقائد أو عن إيديولوجيات، ميكانزمات اشتغاله التي يحافظ بها على ذاته، من جهة، ويراقب بها حركة العقل الفردي لتبين خروجه عن الثوابت وانحرافه عما هو سائد. لذلك كانت التهمة جاهزة في كثير من مراحل تطور الفكر الفلسفي لمواجهة الفلاسفة.

تعرض الفلاسفة لمضايقات وتهم بسبب الطابع الفردي لأفكارهم. فحين يضيق مجال حرية الفكر في أي مجتمع يشمل ذلك الفلسفة، فتظهر مظاهر غياب تعلينها وتداول أفكار الفلاسفة فيها بأثر من تهمة الدفع نحو مخالفة ثوابت المجتمع الفكرية. ولا يكون للفلسفة نصيب في الحضور إلا في المجتمعات التي يتسع فيها مجال حرية التفكير الجماعي والفردي على السواء. ولذلك نلاحظ أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ربطت في بحث أجرته حول وضعية الفلسفة في العالم، ونشر تحت عنوان الفلسفة والديمقراطية، أن الفلسفة تأخذ مكانتها الحق في البلدان التي يتطور فيها النظام الديمقراطي الذي يتيح مجالا للحريات. ولتلك الغاية أيضا لم يتوقف الفلاسفة عن الدفاع عن الحرية باعتبارها شرطا لممارستهن لنمط التفكير الذي اختاروه للتعبير عن أفكارهم.

-2-

نعتبر ما عرضناه حتى الآن عن شروط تفكير الفيلسوف مغامرة فكرية هو مظهر خارجي يهم علاقة الفيلسوف بالشرط الخارجي، المجتمعي والتاريخي، لكن المغامرة الفكرية للفيلسوف تكون من صميم الفكر الفلسفي ذاته، أي من طبيعة هذا النمط من التفكير. فالفيلسوف، كما قلنا لا ينطلق من يقين، ولكنه أيضا لا يقدم للناس يقينا مطلقا لأن ذلك من وظائف أنماط أخرى من التفكير ذات الطابع الجماعي.

الفلسفة تفكير نقدي، واليقينات القائمة في مختلف مجالات الفعل الإنساني من بين ما يتجه إليه نقدها، وليس من الغريب أن يثير الفيلسوف في هذه الحالة القلق عند متلقيه من حيث دعوته من يخاطبهم إلى إعادة النظر في يقيناتهم وإضفاء النسبية عليها والبداية في بناء ما يأخذون به من حقائق على أسس متينة. لكن الفيلسوف يعيش بدوره هذا القلق الذي ينقله إلى غيره. فليس قصد الفلسفة هو البلبلة الفكرية، بل هو بناء الفكر على أسس جديدة.

الأمثلة كثيرة على منهج الفيلسوف في التفكير كما أوضحناه. ونكتفي في مقامنا بالإشارة إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي طلب من كل إنسان يقصد بلوغ الحقيقة بصدد الموضوعات التي يفكر فيها إلى اتخاذ موقف الشك من كل أفكاره، لا بقصد الوقوف عند الشك ذاته، بل بقصد بيان تهافت الأسس التي تقوم عليها الأفكار في الحالة التي يتجه إليها البحث فيها للانتقال إلى وضوح أكبر بصددها.



يمضي الفيلسوف في تفكيره في غير الاتجاه الذي يسير فيه الفكر العام السائد في المجتمع. ففي الوقت الذي يستكين في الفكر العام إلى جملة من اليقينات، يرتبط بها بعلاقة ألفة فكرية تعوقه عن طرح سؤال يتعلق بها، يخرج الفيلسوف بأسئلته عن ذلك الموقف المستكين ويتجاوز عائق الألفة ، ليتجه نحو بناء جديد للأفكار في أي مجال يتعلق به تفكيره.ولا يستطيع إنسان الحياة العامة اليومية متابعة تساؤلات الفيلسوف، وقد ينتج عن ذلك نوع من التبرم من التساؤلات الفلسفية التي يراها بعيدة عن مشاغله اليومية. ولذلك صار من المعتاد أن نجد في كل المجتمعات، وفي كل العصور كذلك، نقدا لتفكير الفلاسفة من هذه الجهة. ننبه إضافة إلى ما ذكرناه إلى أن ما دعوناه الفكر العام يشمل عامة الناس في معنى أول له، ولكنه قد يشمل أيضا بعضا من النخبة العارفة التي تستكين بدورها لما يسود العاملين في ميادين اشتغالهم من الركون إلى ثبات الأفكار ورسوخها بالشكل الذي لا يقبل النقد أو التساؤل الذي يهدف إلى إعادة النظر في أسس المصداقية بالنسبة لما هو سائد من أفكار.

يواجه الفيلسوف في هذه الحالة التي تحدثنا عنها الواقع والأفكار التي ينتجها الناس في ذلك الواقع. وهذا ما دفعنا إلى وسم موقف الفيلسوف بالمغامرة الفكرية.

-3-

القدرة على الاستمرار في التفكير رغم وجود صعوبات تختلف من موضوع إلى آخر خاصية تميز فكر الفلاسفة الذين قدموا لحضاراتهم الخاصة وللإنسانية جمعاء. وليست هذه القدرة على الاستمرار في التفكير معطى متوفر للجميع. يواجه الفيلسوف مشكلات تدخل ضمن الموضوع العام الذي يدرسه، لكنه لا يتوقف عند تلك المشكلات. لقد نشأت المذاهب الفلسفية الكبرى عند مواجهة مثل تلك المشكلات.

الأفكار الفلسفية التي ظهرت بفضل جرأة الفلاسفة على توجيه التفكير في عصرهم على طرح القضايا موضوع البحث طرحا جديدا، كان لها الفضل في كثير من الحالات في افتتاح عصر فكري جديد أو في افتتاح ميدان فكري ودعوة الفكر الإنساني إلى السير في طريق لم يكن معتادا. وتلك ميزة المغامرة الفكرية للفيلسوف.


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...