كانت الساعة العاشرة صباحاً، وكعادتها وصلت في مواعيدها، دخلت من الباب الشرقي لحديقة الحيوان، لأن سيارات النقل لا تمر من الباب الغربي، فأضطرت لقطع كل تلك المسافة مشياً بخطواتها السريعة الواثقة. وهان تعبها عندما رأته جالساً أمام قفص النعام كما اعتاد. جلست قربه ومسحت بضع قطرات من العرق على جبينها بمنديل ورقي معطر، وحين استرخيا على المقعد الحجري مد يده وأمسك بكفها البضة، ثم نظر إليها وأطال النظر لها، همست:
- لماذا تحدق فيَّ هكذا؟
قال:
- لأنك زحمة من الجمال..
قالت:
- جيد أن حالتك النفسية طيبة هذا الصباح..
نظر إلى البعيد..ثم قال:
- كل شيء في هذا الوجود مدهش..تماماً كما غنى لويس آرمسترونج، حتى في موسيقى البلوز والجاز هناك حكايات، وروح الشباب في الهيب هوب، وعنفوان التمرد في الروك، وفي رومانسية الأغاني العربية القديمة، وحداثة الجديدة، فحتى التشوهات تحمل دهشة في باطن القبح.
ليست الزهور وحدها، بل حتى للشوك قيمة تاريخية عند الشعراء..والميلاد والموت، الإفلاس والسجون والعلامات التجارية، والدكتاتوريات، والحروب، والمقاصل والمشانق.. كل شيء، كل شيء في هذا الوجود مدهش.
ها أنا قد استجبت لك، وتفاءلت كما طلبتِ مني البارحة.. كيف؟ ببساطة: استخدمت اللغة، اللغة المدهشة..التي يكتشف الإنسان المزيد من أسرارها كل يوم حتى أضحى هناك ما يسمى بالتداوي باللغة، اللغة التي يلخص فيها الإنسان تقديسه للآلهة عبر ترتيل كتبها. عندما يكون للكلمة معنى مقدس، وآخر عاطفي (للحب، الكره، الخوف) ومعنى تجاري، كأسماء المحلات الكبرى والتفاوض مع العملاء، ها أنا أتفاءل، مستخدماً اللغة دون أن يتغير أي شيء في عالمك أو عالمي.
البارحة استمعت لمسرحية لويجي بيرانديلو، وقبلها مسرحيات عدة للكثير من الكتاب، والذين ظل أغلبهم مغموراً رغم أنهم أكثر إبداعاً ممن ذاع صيتهم، هناك معايير غير مفهومة، أو فلأقل غامضة في هذا العالم المدهش، فذلك الغموض هو بالفعل الذي يمنح عالمنا قيمته. كان بيراندلو يقول على لسان أحد شخصايته وهي عبارة عن روح فيلسوف ميت لروح رجل ميت آخر:
- هل تعرف يا عزيزي من الذي يسكن هذه المقابر؟
فيجيبه الرجل:
- نحن طبعاً.. نحن الموتى..
يضحك الفيلسوف ويقول:
- بل يسكنها الأحياء..
ثم يشرح:
- إنهم يبنون الشواهد، يشيدون المقابر، لأنها تمثل لهم عاطفة ما، ذكرى، خوف..الخ..
لقد صدق،..
إن قلوب الأحياء هي التي تسكن المقابر، ولولا ذلك، فما الداعي لها؟ لماذا ليست هناك مقابر للكائنات الأخرى؟
قد يكون ذلك جدلاً مترفاً، لكنه حقيقي، إذ يتمسك الأحياء بأعماقهم ويتشبثون بها. لقد تخيلت جثة بيرانديلو الآن تضحك على نفسها، ففي مسرحية أخرى، لموريس ماترلينك؛ وهي مسرحية شديدة الغرابة والإدهاش، فالمسرح فيها انقسم إلى قسمين، داخلي بعيد، وهو منزل أسرة صغيرة هانئة تظهر من خلف الحائط الزجاجي وهي مستكينة، والقسم الخارجي الآخر للمسرح هو حديقة ذلك المنزل، حيث يثور نقاش بين أهل الحي حول كيفية إخبار هذه الأسرة بوفاة أحدى قريباتهم. ينظرون للأسرة الهانئة، فيخشى كل شخص أن يبادر بإخبارهم، ثم يتبرع عجوز حكيم، ويذهب إليهم، فيراقبه أهل الحي من بعيد وهو يجلس إلى الأسرة، يتحدث إليهم أولاً حديثاً طويلاً ليمهد للخبر، ويبدأ ماترلينك في وصف، الانتقالات الشعورية لهذه الأسرة، من لحظة لأخرى، حتى لحظة إعلان الخبر.
إن الموت يهم الأحياء أكثر من الموتى أنفسهم. لا يتغير الكثير في هذا العالم، لكن الإنسان هو ما يهب العالم تغيرات شعورية في أعماقه. ولذلك، فقد استجبت لكِ وتفاءلت، وأنا أعلم أنه لا شيء سيتغير في هذا العالم. الشمس ستظل شمساً، والقمر، والطحالب، والصحراء، والميلاد والموت..فلِمَ نتشاءم؟ نعم لِمَ نتشاءم، وليس لِمَ نتفاءل. لِمَ نغرق في مشاعر مرهقة متعبة، ما دام لن يتغير شيء في عالمنا، سواء تفاءلنا أم تشاءمنا؟ فلنصنع كوننا الداخلي بقرميد التفاؤل، ونعبده بالأحلام الوردية، وأحلام اليقظة، ونضفي على زيفه أسرار اللغة، أن نكتب القصص والروايات والقصائد والمسرحيات، وأن نرقص ونغني وسط الجحيم.
كل ما أود قوله يا عسل الفؤاد، أنني كلما نظرت إلى عينيك الواسعتين، أشعر بالبؤس، كلما تأملت شفتيك الصغيرتين القرمزيتين لفتني الكآبة، وعندما يفوح من صدرك الناهد عطر حار، أعرف أنني لا يجب أن أتفاءل، لذلك عليَّ أن ابتعد عنك، أبتعد عنك قدر المستطاع، لأتمكن من التفاؤل. ذلك التفاؤل الذي لا تعيقه أي رغبات جادة في تجاوز الواقع. بل أظل في عمق الواقع، ولكن بعقل خارجه. أن أتجمد وأتسمر في مكاني، بلا أي شغف يجذبني للمواجهة. أن أسقط فقط، أسقط وأسقط وأسقط وأسقط وأسق...وأس..وأ..و.... .....
.......
...
..
.
(تمت)
- لماذا تحدق فيَّ هكذا؟
قال:
- لأنك زحمة من الجمال..
قالت:
- جيد أن حالتك النفسية طيبة هذا الصباح..
نظر إلى البعيد..ثم قال:
- كل شيء في هذا الوجود مدهش..تماماً كما غنى لويس آرمسترونج، حتى في موسيقى البلوز والجاز هناك حكايات، وروح الشباب في الهيب هوب، وعنفوان التمرد في الروك، وفي رومانسية الأغاني العربية القديمة، وحداثة الجديدة، فحتى التشوهات تحمل دهشة في باطن القبح.
ليست الزهور وحدها، بل حتى للشوك قيمة تاريخية عند الشعراء..والميلاد والموت، الإفلاس والسجون والعلامات التجارية، والدكتاتوريات، والحروب، والمقاصل والمشانق.. كل شيء، كل شيء في هذا الوجود مدهش.
ها أنا قد استجبت لك، وتفاءلت كما طلبتِ مني البارحة.. كيف؟ ببساطة: استخدمت اللغة، اللغة المدهشة..التي يكتشف الإنسان المزيد من أسرارها كل يوم حتى أضحى هناك ما يسمى بالتداوي باللغة، اللغة التي يلخص فيها الإنسان تقديسه للآلهة عبر ترتيل كتبها. عندما يكون للكلمة معنى مقدس، وآخر عاطفي (للحب، الكره، الخوف) ومعنى تجاري، كأسماء المحلات الكبرى والتفاوض مع العملاء، ها أنا أتفاءل، مستخدماً اللغة دون أن يتغير أي شيء في عالمك أو عالمي.
البارحة استمعت لمسرحية لويجي بيرانديلو، وقبلها مسرحيات عدة للكثير من الكتاب، والذين ظل أغلبهم مغموراً رغم أنهم أكثر إبداعاً ممن ذاع صيتهم، هناك معايير غير مفهومة، أو فلأقل غامضة في هذا العالم المدهش، فذلك الغموض هو بالفعل الذي يمنح عالمنا قيمته. كان بيراندلو يقول على لسان أحد شخصايته وهي عبارة عن روح فيلسوف ميت لروح رجل ميت آخر:
- هل تعرف يا عزيزي من الذي يسكن هذه المقابر؟
فيجيبه الرجل:
- نحن طبعاً.. نحن الموتى..
يضحك الفيلسوف ويقول:
- بل يسكنها الأحياء..
ثم يشرح:
- إنهم يبنون الشواهد، يشيدون المقابر، لأنها تمثل لهم عاطفة ما، ذكرى، خوف..الخ..
لقد صدق،..
إن قلوب الأحياء هي التي تسكن المقابر، ولولا ذلك، فما الداعي لها؟ لماذا ليست هناك مقابر للكائنات الأخرى؟
قد يكون ذلك جدلاً مترفاً، لكنه حقيقي، إذ يتمسك الأحياء بأعماقهم ويتشبثون بها. لقد تخيلت جثة بيرانديلو الآن تضحك على نفسها، ففي مسرحية أخرى، لموريس ماترلينك؛ وهي مسرحية شديدة الغرابة والإدهاش، فالمسرح فيها انقسم إلى قسمين، داخلي بعيد، وهو منزل أسرة صغيرة هانئة تظهر من خلف الحائط الزجاجي وهي مستكينة، والقسم الخارجي الآخر للمسرح هو حديقة ذلك المنزل، حيث يثور نقاش بين أهل الحي حول كيفية إخبار هذه الأسرة بوفاة أحدى قريباتهم. ينظرون للأسرة الهانئة، فيخشى كل شخص أن يبادر بإخبارهم، ثم يتبرع عجوز حكيم، ويذهب إليهم، فيراقبه أهل الحي من بعيد وهو يجلس إلى الأسرة، يتحدث إليهم أولاً حديثاً طويلاً ليمهد للخبر، ويبدأ ماترلينك في وصف، الانتقالات الشعورية لهذه الأسرة، من لحظة لأخرى، حتى لحظة إعلان الخبر.
إن الموت يهم الأحياء أكثر من الموتى أنفسهم. لا يتغير الكثير في هذا العالم، لكن الإنسان هو ما يهب العالم تغيرات شعورية في أعماقه. ولذلك، فقد استجبت لكِ وتفاءلت، وأنا أعلم أنه لا شيء سيتغير في هذا العالم. الشمس ستظل شمساً، والقمر، والطحالب، والصحراء، والميلاد والموت..فلِمَ نتشاءم؟ نعم لِمَ نتشاءم، وليس لِمَ نتفاءل. لِمَ نغرق في مشاعر مرهقة متعبة، ما دام لن يتغير شيء في عالمنا، سواء تفاءلنا أم تشاءمنا؟ فلنصنع كوننا الداخلي بقرميد التفاؤل، ونعبده بالأحلام الوردية، وأحلام اليقظة، ونضفي على زيفه أسرار اللغة، أن نكتب القصص والروايات والقصائد والمسرحيات، وأن نرقص ونغني وسط الجحيم.
كل ما أود قوله يا عسل الفؤاد، أنني كلما نظرت إلى عينيك الواسعتين، أشعر بالبؤس، كلما تأملت شفتيك الصغيرتين القرمزيتين لفتني الكآبة، وعندما يفوح من صدرك الناهد عطر حار، أعرف أنني لا يجب أن أتفاءل، لذلك عليَّ أن ابتعد عنك، أبتعد عنك قدر المستطاع، لأتمكن من التفاؤل. ذلك التفاؤل الذي لا تعيقه أي رغبات جادة في تجاوز الواقع. بل أظل في عمق الواقع، ولكن بعقل خارجه. أن أتجمد وأتسمر في مكاني، بلا أي شغف يجذبني للمواجهة. أن أسقط فقط، أسقط وأسقط وأسقط وأسقط وأسق...وأس..وأ..و.... .....
.......
...
..
.
(تمت)