وأنا أقرأ "غزليات حافظ شيرازي" انتبهت لنفسي أني في القراءة أقفز على تعابير مثل "سواد زلفك" و "دموعي التي فاضت كالطوفان" و "قوس حاجبك" و "نواسة الحبيب" أو "طرّته" و"الهجر" و "السهام" … الخ. أحاول تجاوزها كي لا تؤخرني عن المعنى الآخر الكامن بين العبارات، أو الومض الشعري الذي يتخاطف بين سطور الصفحات. ولأقف أمام تعابير مثل:
" أيها الغائب عن النظر"
و" لا تطلب منا غير طاعة المجانين"
و" شيخنا في المذهب اعتبر التعقلّ إثما"
و " أحزان العشق ليست إلا قصة واحدة"
و "وصالك يبعد الأجل عن رأسي"
و "عزمت الوردة على الرحيل قبل أن تتفتح من غلالتها"
و أخيراً أمام قول حافظ الذي جعل الأمير المتردد عن السير في جنازته يقطع تردّدَه ويشارك المشيعين
"ولكن لا تؤخر قدمك أو تتردد من جنازة حافظ
فهو غريــــــــق في الإثم ولكنـه ذاهب إلى الجنة"!
بين الأمثلة الأولى التي قدمت، وأمثلة الشعر الثانية فسحة للتوقف، وللقول: إن قشور الأزمنة، تعابيرها المتداولة، أو أزياءها التقليدية، تفقد قدرة الإبهاج أو الإثارة، إذا مرت عليها السنوات واختلفت عليها الحِقَب. لكنها، كأزياء الناس، وشكولهم، تَغَيّرُها لا يضرّ كثيرا بالجوهر. ومن يُرد الرؤية يَرَ، ومن يهمه الجمال والمعنى يجدهما، وعبر كل العصور.
حين يريد المتنطعون بالمعرفة جرّ النصوص إلى أغراضهم ، واهتماماتهم، يستطيعون الكلام في ذلك. لكن الشعر يبتسم غير راض عما يجري من عَنَتٍ. من ذلك، أن بعضهم، لكي يسحب حافظَ إلى الضجة، يفسر أن المحبوب المعشوق هم من كان يحبهم ويواليهم، وأن الرقيب والحسود واللاحي البغيض هم الأشخاص الذين يعاديهم. ويتوسع أمثال هؤلاء فيضعونه بين العدالة والظلم والظالمين … وهكذا يسحبون هذا الرجل من "خلوتِهِ" و "محبوبه" إلى رداءة أيامهم وأكوام قمامتهم .. لم أرَ تدميراً وَقِحاً للشعر مثل هذا! ألغى مدرسة شعرية كاملة ومدرسة فكرية كاملة و إشراقات فكر بشري في مكان وزمانٍ بعيدين عنا .. أين هذه الضحالة "الاجتماعية" من قول كوتيه في "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" : "إن من ينشغل بقراءة حافظ لا يفرغ منه …"؟
ستقول لي : أوردت أنموذجين من تعابير الشاعر وأوردت رأيين فيه، ماذا أردت أن تقول؟
بإيجاز ياسادتي أردت أن نحترم كل زمانٍ وأفكاره، ونصون أبدية المعاني التي انتبه الناس هناك إليها ولانحددها، أو نوظفها بلغة اليوم، لعلاج أو لزيادة أمراضنا.
وأردت أن أدين التقليد والكليشهات التي يتوارثها الشعراء، وأن أجد عذرا لابن زمنه أو القريب من المرحلة وهي لم تتقادم كثيرا بعد، وإن استنكرها على شعراء اليوم بعد أن تغيرت الدنيا وصارت فنون الأدب، سريعة التغير، لا تجد وقتا كافيا للرسوخ. وأن نأسف لعجَزَة خاملين يعيشون بيننا وينتمون لما قبل الكهرباء، أو قبل مدارس الشعر وعلوم اللغة، فلاهم استوعبوا القديم ورأوه، ولاهم ارتضوا الجديد أو في الأقل اقتربوا منه.
وبعيدا عن الرأي والتقويم، أقول: إن أكوام القش مما نقرأ لا تخفي الشعر القليل الذي فيها. هو بتأمل بسيط يلتمع أمام أعيننا خاطفا مثل قبّرةٍ ذهبية ..
قلت لصديق شاب يوما: كن لطيفا مع الشعر، هَبْهُ كلمةً حلوة مصطفاه، ولا تكوّم عليه الخِرَق، قصد الدفء، فقد يختنق هذا المخلوق الجميل!"
المسألة الثانية أن بعض الدارسين ذوي النزوع الاجتماعي ينسون "أن الشعر شعر"، فيشرحونه ويحللونه بقسرية تضر بالشعر، ولا أظنها تنفع كثيرا أغراضهم. الشعر ليس خطابا سياسيا ولا رياضيات وإن كانت فيه إشارات أو نتائج. السبب ببساطة أن منطقه مختلف وخطابه متعدد الاتجاهات ..
نعم، قد تجد في هذا البيت من غزليات حافظ حجة لبعض ادعائك.
" لقد انقضى ذلك العهد حينما كان ينزوي أهل النظر
وفي أفواههم آلاف من ألوان الحديث
وشفاههم تنتظر."
لكن لو انتبهنا للمسة التصوف فيه وتأملنا في القراءة، لشغَلَنا الشعر عن ذلك الكلام!
في قراءة النصوص القديمة نحتاج إلى دِرْبَةٍ ونباهةٍ لكي نلتقط اللؤلؤة المخفية في كوم الرماد، أو الحِلْيَة في القش. المقطع الشعري السابق ظل ساكناً حتى جاءت العبارة الأخيرة، عبارة من كلمتين، كشفت المعنى وأحدثت القفزة البارعة في النص. وإذا بنا أمام المكانة الحقيقية لذلك "الشعر" أو تلك "الرباعية" ، مثلما مدت فرحا بيننا وبين الشعر الذي بدأ أول مابدا اعتياديا. ماكانت السطور الثلاثة الأولى تحقق قيمتَها لولا عبارة.
" وشفاههم تنتظر"
لنعد الآن لقراءة الرباعية :
لقد انقضى ذلك العهد حينما كان ينزوي
أهل النظر
وفي أفواههم آلاف من ألوان الأحاديث
وشفاههم تنتظر
لاحظ التضاد العظيم في الشعر الخالد: ينزوي – أهل النظر و زحام الأحاديث- والشفاه صامته أو تنتظر.
وبالتدقيق في رسم الأبيات تتضح لنا براعة فنية أخرى للشاعر : بيت أو سطر طويل .. وراء جملة أمور، يليه إيجاز حاسم: "أهل النظر" ثم بيت أو سطر طويل وراءه جملة أمور أو أحاديث، يليه إيجاز حاسم "والشفاه تنتظر".
إذن نحن أمام معنى جيد وتقنية جيدة ويبقى مجد المقطوعة بضربتها الأخيرة التي كشفت كل ذلك، ولولاها لفاتتنا من الرباعية جملة مزايا ..
بقيتْ مسألة جديرةٌ باهتمام الجميع ممن تعنيهم القصيدة ويعنيهم قبل القصيدة الجمال. نبهني لهذا قولُ حافظ:
إن قلبي في شغفِهِ بطلعة "فرّخ"،
أضحى موزّعاً مبعثراً كشعر"فرّخ"
*****
فناولني أيها الساقي شرابك الأرغواني
على ذكـــــر النرجســــــة الساحرة لفـــــرح!
لقد كانت بهجته، فرحه بالشعر الفاحم وبالوجه السعيد لفرح. هو لم يتوقف، أمام ساقين مكورتين ولا أمام أرداف ولا أي "لحم" كما يتشهّى، الغزليون البائسون. لكنه وقف يتأمل بابتهاج بالشَعْر الأسود المتناثر حول الوجه المضيء!
هكذا يرتفع شاعر الحب بنفسه وبصاحبه وبموضوعه بدلاً من الهبوط بالثلاثة! هذا الكلام البسيط يحتفي بهدوء نقي يهيئ للروح طريقاً لتقترب من الجمال الذي نرى وتلامسه بإجلال ومحبة، هو ذلك ما نريده في شعر الحب!
آخر ما أقول :
لنقرأ النصوص القديمة بهدوء واحترام يليقان بها ولا نتعجل الأحكام، مادامت بيننا مسافة لابد من قطعها للوصول. والزمان لا يحتفظ بشيء دونما سبب…
" أيها الغائب عن النظر"
و" لا تطلب منا غير طاعة المجانين"
و" شيخنا في المذهب اعتبر التعقلّ إثما"
و " أحزان العشق ليست إلا قصة واحدة"
و "وصالك يبعد الأجل عن رأسي"
و "عزمت الوردة على الرحيل قبل أن تتفتح من غلالتها"
و أخيراً أمام قول حافظ الذي جعل الأمير المتردد عن السير في جنازته يقطع تردّدَه ويشارك المشيعين
"ولكن لا تؤخر قدمك أو تتردد من جنازة حافظ
فهو غريــــــــق في الإثم ولكنـه ذاهب إلى الجنة"!
بين الأمثلة الأولى التي قدمت، وأمثلة الشعر الثانية فسحة للتوقف، وللقول: إن قشور الأزمنة، تعابيرها المتداولة، أو أزياءها التقليدية، تفقد قدرة الإبهاج أو الإثارة، إذا مرت عليها السنوات واختلفت عليها الحِقَب. لكنها، كأزياء الناس، وشكولهم، تَغَيّرُها لا يضرّ كثيرا بالجوهر. ومن يُرد الرؤية يَرَ، ومن يهمه الجمال والمعنى يجدهما، وعبر كل العصور.
حين يريد المتنطعون بالمعرفة جرّ النصوص إلى أغراضهم ، واهتماماتهم، يستطيعون الكلام في ذلك. لكن الشعر يبتسم غير راض عما يجري من عَنَتٍ. من ذلك، أن بعضهم، لكي يسحب حافظَ إلى الضجة، يفسر أن المحبوب المعشوق هم من كان يحبهم ويواليهم، وأن الرقيب والحسود واللاحي البغيض هم الأشخاص الذين يعاديهم. ويتوسع أمثال هؤلاء فيضعونه بين العدالة والظلم والظالمين … وهكذا يسحبون هذا الرجل من "خلوتِهِ" و "محبوبه" إلى رداءة أيامهم وأكوام قمامتهم .. لم أرَ تدميراً وَقِحاً للشعر مثل هذا! ألغى مدرسة شعرية كاملة ومدرسة فكرية كاملة و إشراقات فكر بشري في مكان وزمانٍ بعيدين عنا .. أين هذه الضحالة "الاجتماعية" من قول كوتيه في "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" : "إن من ينشغل بقراءة حافظ لا يفرغ منه …"؟
ستقول لي : أوردت أنموذجين من تعابير الشاعر وأوردت رأيين فيه، ماذا أردت أن تقول؟
بإيجاز ياسادتي أردت أن نحترم كل زمانٍ وأفكاره، ونصون أبدية المعاني التي انتبه الناس هناك إليها ولانحددها، أو نوظفها بلغة اليوم، لعلاج أو لزيادة أمراضنا.
وأردت أن أدين التقليد والكليشهات التي يتوارثها الشعراء، وأن أجد عذرا لابن زمنه أو القريب من المرحلة وهي لم تتقادم كثيرا بعد، وإن استنكرها على شعراء اليوم بعد أن تغيرت الدنيا وصارت فنون الأدب، سريعة التغير، لا تجد وقتا كافيا للرسوخ. وأن نأسف لعجَزَة خاملين يعيشون بيننا وينتمون لما قبل الكهرباء، أو قبل مدارس الشعر وعلوم اللغة، فلاهم استوعبوا القديم ورأوه، ولاهم ارتضوا الجديد أو في الأقل اقتربوا منه.
وبعيدا عن الرأي والتقويم، أقول: إن أكوام القش مما نقرأ لا تخفي الشعر القليل الذي فيها. هو بتأمل بسيط يلتمع أمام أعيننا خاطفا مثل قبّرةٍ ذهبية ..
قلت لصديق شاب يوما: كن لطيفا مع الشعر، هَبْهُ كلمةً حلوة مصطفاه، ولا تكوّم عليه الخِرَق، قصد الدفء، فقد يختنق هذا المخلوق الجميل!"
المسألة الثانية أن بعض الدارسين ذوي النزوع الاجتماعي ينسون "أن الشعر شعر"، فيشرحونه ويحللونه بقسرية تضر بالشعر، ولا أظنها تنفع كثيرا أغراضهم. الشعر ليس خطابا سياسيا ولا رياضيات وإن كانت فيه إشارات أو نتائج. السبب ببساطة أن منطقه مختلف وخطابه متعدد الاتجاهات ..
نعم، قد تجد في هذا البيت من غزليات حافظ حجة لبعض ادعائك.
" لقد انقضى ذلك العهد حينما كان ينزوي أهل النظر
وفي أفواههم آلاف من ألوان الحديث
وشفاههم تنتظر."
لكن لو انتبهنا للمسة التصوف فيه وتأملنا في القراءة، لشغَلَنا الشعر عن ذلك الكلام!
في قراءة النصوص القديمة نحتاج إلى دِرْبَةٍ ونباهةٍ لكي نلتقط اللؤلؤة المخفية في كوم الرماد، أو الحِلْيَة في القش. المقطع الشعري السابق ظل ساكناً حتى جاءت العبارة الأخيرة، عبارة من كلمتين، كشفت المعنى وأحدثت القفزة البارعة في النص. وإذا بنا أمام المكانة الحقيقية لذلك "الشعر" أو تلك "الرباعية" ، مثلما مدت فرحا بيننا وبين الشعر الذي بدأ أول مابدا اعتياديا. ماكانت السطور الثلاثة الأولى تحقق قيمتَها لولا عبارة.
" وشفاههم تنتظر"
لنعد الآن لقراءة الرباعية :
لقد انقضى ذلك العهد حينما كان ينزوي
أهل النظر
وفي أفواههم آلاف من ألوان الأحاديث
وشفاههم تنتظر
لاحظ التضاد العظيم في الشعر الخالد: ينزوي – أهل النظر و زحام الأحاديث- والشفاه صامته أو تنتظر.
وبالتدقيق في رسم الأبيات تتضح لنا براعة فنية أخرى للشاعر : بيت أو سطر طويل .. وراء جملة أمور، يليه إيجاز حاسم: "أهل النظر" ثم بيت أو سطر طويل وراءه جملة أمور أو أحاديث، يليه إيجاز حاسم "والشفاه تنتظر".
إذن نحن أمام معنى جيد وتقنية جيدة ويبقى مجد المقطوعة بضربتها الأخيرة التي كشفت كل ذلك، ولولاها لفاتتنا من الرباعية جملة مزايا ..
بقيتْ مسألة جديرةٌ باهتمام الجميع ممن تعنيهم القصيدة ويعنيهم قبل القصيدة الجمال. نبهني لهذا قولُ حافظ:
إن قلبي في شغفِهِ بطلعة "فرّخ"،
أضحى موزّعاً مبعثراً كشعر"فرّخ"
*****
فناولني أيها الساقي شرابك الأرغواني
على ذكـــــر النرجســــــة الساحرة لفـــــرح!
لقد كانت بهجته، فرحه بالشعر الفاحم وبالوجه السعيد لفرح. هو لم يتوقف، أمام ساقين مكورتين ولا أمام أرداف ولا أي "لحم" كما يتشهّى، الغزليون البائسون. لكنه وقف يتأمل بابتهاج بالشَعْر الأسود المتناثر حول الوجه المضيء!
هكذا يرتفع شاعر الحب بنفسه وبصاحبه وبموضوعه بدلاً من الهبوط بالثلاثة! هذا الكلام البسيط يحتفي بهدوء نقي يهيئ للروح طريقاً لتقترب من الجمال الذي نرى وتلامسه بإجلال ومحبة، هو ذلك ما نريده في شعر الحب!
آخر ما أقول :
لنقرأ النصوص القديمة بهدوء واحترام يليقان بها ولا نتعجل الأحكام، مادامت بيننا مسافة لابد من قطعها للوصول. والزمان لا يحتفظ بشيء دونما سبب…