كانت قطة هزيلة تموء وراء القمامة، وكانت أخرى تمُدُّ قائمتيها الأماميتين بكل قوة جسدها لالتقاط رأس سمكة نتنة يطنّ فوقها الذباب، في حين كانت قطة أخرى أو قط صغير وراء ذيل تلك القطة لتشمُّم الرائحة وانتظار الفتات. جاء كلب ففزعت القطط بحُكم الغريزة، لكنه لم يُبال بالقطط ويبدو أنه شبعان ولذلك لم يلتفت للقطط ولا للقمامة. إلا أن رجلا يدفع عربة صغيرة ركَل القطط السمينة والهزيلة وفتَّش في القمامة.
عثر في القمامة على علبة ورق مقوى وكيس بلاستيك مقوى وزجاجة فارغة. وضع هذه الأشياء في عربته الصغيرة، ومضى لينبش في قمامات أخرى بحثا عن علب أخرى وأكياس بلاستيكية أخرى وزجاجات أخرى. وأحياناً تصطدم يداه بزبل بني آدم. كأن بني آدم ليس لهم مراحيض، والحقيقة أن بعض البيوت ليس فيها مراحيض رغم أن فتيات أنيقات يخرجن من تلك البيوت. لسن جميلات ولكنهن أنيقات ويتحدثن بفرنسية متعثرة. وكلهنّ أو أغلبهنّ يتحدثن عن جدهن القائد في عهد الاستعمار، أو ينتظرن إرثاً وهمياً أو سفراً أبدياً إلى أوربا، فحتى الزواج لم يعد فيه خير. لكن النَّبّاش لم يهمه كل هذا. مضى في طريقه، وعادت القطط إلى القمامة، وتمكَّنَت القططُ من انتزاع سردينة نتنة بأكملها، بعد أن بعثَرَ النباشُ كلَّ محتويات القمامة. كانت حفلة حقيقية بالنسبة إلى القطط، لكن الصغير الهزيل لم يحظَ بأيّ شيء، بل ظلّ منزوياً يموء بين القمامة والجدار. غير أن قطة يبدو أنها انتبهَـت لاستعطافه، فعادت إلى القمامة، نطَّت بخفة شديدة وسط القمامة وأخرجت شيئاً ألقَت به إلى الصغير الهزيل، وعادت لتضرب رأس السردينة بإحدى قوائمها وتنهش الرأس الذي لم يكن في الغالب من دون عظم. عثر النبّاشُ في طريقه على صندوق قمامة كبير، وفكَّر أن يعثر فيه على كنز، لأنه كان أمام باب عمارة كبيرة، تتدلى من شرفاتها نباتات غريبة لم ير مثلَها، ويبدو أنها مستورَدة. وعندما أدخل المخطافَ في الصندوق وحرَّكه، مدَّ ذراعه الطويلة، وأخرج بعضَ الخرق يمكن أن تكون ثوبا داخلياً للنساء. لم يهتم لذلك، ولكنه وضع تلك الخرق في الكيس، سوف يتفقد ذلك فيما بعد. أحياناً يكتشف أن ما عَثَر عليه شيء له قيمة، وأحياناً يكتشف أنه كان محمَّلاً بأشياء غير ذات قيمة على الإطلاق، وأنه تصبب عرقاً وتورّمت قدماه طوال النهار من أجل لا شيء. ويمكن أن يكون بعضُ النبّاشين قد مروا قبله ولذلك يحرص على أن يستيقظ مبكرا، لكنه أحياناً عندما يفرط في شرب النبيذ الرديء لا يستيقظ إلا في الظهر وهو منهار تماماً، ومع ذلك فهو يكابر ويخرج لينبش ما تركه النبّاشون الذين سبقوه. أحياناً يلتقط حتى أجزاء الورق المقوى على الرصيف سواء كانت مبللة بالمطر إذا كان الفصل شتاء، أو جافة صفراء في فصول أخرى. فحتى الورق المقوى يباع وإن كان ذلك بثمن بخس. وعلى كل حال، فهو يعرف أنه يعيش في بلد يباع فيه كل شيء. فالناس في حاجة إلى أن يبيعوا كل شيء، وأصحاب المال يستطيعون أن يشتروا كل شيء، حتى أكياس قطع الخبز الجاف، يصنعون منه أي شيء لبني آدم أو يبيعونه لمربِّيي الأبقار والبهائم. ويعرف أن كل ما يلتقطه من القمامة يباع، سواء بثمن مرتفع أو بثمن بخس. لا يهم. لكنه يباع. والحقيقة أن هناك أشياء أخرى لا يشتريها منه أحد، ربما لأنها غير ذات فائدة. وعلى كل حال، فلا يمكن للإنسان أن يموت جوعا في المغرب.
وقد حكى له أحدُ النبّاشين القدماء أنه عندما كان صغيرا، كان هو وأصدقاؤه ينبطحون على الأرض لكي يلعقوا بألسنتهم فصة معسلة تتساقط من عربات تحمل تلك الفصة لأبقار المعمِّرين. وقال له إن تلك الفصة كانت حلوة المذاق، وكانت تُشبِعهم، ويكملون طعامهم اليومي عندما يذهبون إلى البحر لسرقة الذرة التركية التي يشوونها في الخلاء العاري. عربات الفصة المعسلة لم تعد موجودة الآن. ولكن بكل تأكيد إن حقول الذرة التركية لا تزال موجودة. فهو يراها كلما سافر إلى البادية. وفي نيَّتِه عندما يغتني أن يشتري بقعة أرض، وأن يزرع فيها الذرة التركية والدلاع والبطيخ والخيار والنعناع والطماطم وكذلك البطاطس عند الحدود الإسبانية. وإذن لا بأس، فلا داعي لزرع الطماطم والبطاطس، يمكن للمرء أن يكتفي بزرع الذرة التركية. هذا مجرد حلم لكنه يمكن أن يتحقق. فكَمْ من نبّاش أصبح غنياً، فقد يعثر على أشياء ثمينة أُلقيَت سهواً في القمامة. عندما فكر في هذا ضحك من نفسه، لأنه في بعض الأحيان لا يعثر إلا على زبل بني آدم. لكنه يعتقد بأن الحظ لم يسعفه، وقد يسعفه ذات يوم. من يدري؟! كل شيء ممكن.. وقد رأى في بعض الأفلام أن كثيراً من الناس كانوا فقراء ثم أصبحوا أغنياء. وكان منهم حتى النبّاشون أنفسهم، خصوصاً في الأفلام الأمريكية. غريبة هي الحياة. إذا ضحكت لك فهي امرأة، إذا ذهبت منك فهي زوجة إبليس والعياذ بالله!
أحلام النبّاش كثيرة بقدر القمامات التي نبش فيها. وهو يعرف أن كثيراً من النبّاشين أصبحوا الآن يملكون شركات ودكاكين يبيعون فيها السلع المستوردة ولهم علاقات مع رجال في الدولة يسهِّلون لهم بيعَ السلع المهرَّبة. وقد رأى بأمِّ عينه كيف أن أصحاب السيارات الفخمة يتهافتون في الجُّوطِية على شراء تلك السلع من آلات إلكترونية وألبسة إيطالية..إلخ. المهم أنه سوف يظل ينبش في القمامات حتى يصبح مثلهم ذات يوم. وفي اعتقاده أن كل من ينبش لا بدَّ أن يصل ذات يوم سواء إلى القمة أو إلى الهاوية التي لا يزال هو ساقطاً فيها الآن. ثم دفع عربته الخشبية وكان يشعر بتعب حقيقي. إنها جولة مضنية هذا اليوم. لكن لا بأس، فعلى الإنسان أن يتحمَّل كل شيء من أجل العيش. فالله سبحانه عزّ وجلّ خلقَنا لكي نعرف كيف نعيش وننبش في هذه الدنيا حتى لو تلطَّخَت أيدينا بزبل بني آدم. ثم حمدل وحوقَل، ورأى قمامة بعيدة منه بقليل. توقف عن دفع العربة، وذهب لينبش فيها والمخطاف في يده. أخذ يحرك ما في داخلها. كانت هناك بعض الأوراق وقشور البرتقال وعلبة مربّى. لكن المخطاف جذبَ كيساً أسودَ ملفوفاً في قعر القمامة. وضعه على الطوار ثم فتحه بأناة. كان يعتقد أن في داخله ديكاَ هندياً، لأن ما كان في داخله شيء طريّ، إلا أنه فوجئ عندما عثر داخل الكيس على صبي ميت. ذهل لفترة ثم أخذ يركض تاركاً عربتَه وراءه. كان يركض ويركض إلى أن سقط فوق عشب إحدى الحدائق وهو يلهث. ولم يكن له الوقت لكي يحمدل أو يحوقل.
عثر في القمامة على علبة ورق مقوى وكيس بلاستيك مقوى وزجاجة فارغة. وضع هذه الأشياء في عربته الصغيرة، ومضى لينبش في قمامات أخرى بحثا عن علب أخرى وأكياس بلاستيكية أخرى وزجاجات أخرى. وأحياناً تصطدم يداه بزبل بني آدم. كأن بني آدم ليس لهم مراحيض، والحقيقة أن بعض البيوت ليس فيها مراحيض رغم أن فتيات أنيقات يخرجن من تلك البيوت. لسن جميلات ولكنهن أنيقات ويتحدثن بفرنسية متعثرة. وكلهنّ أو أغلبهنّ يتحدثن عن جدهن القائد في عهد الاستعمار، أو ينتظرن إرثاً وهمياً أو سفراً أبدياً إلى أوربا، فحتى الزواج لم يعد فيه خير. لكن النَّبّاش لم يهمه كل هذا. مضى في طريقه، وعادت القطط إلى القمامة، وتمكَّنَت القططُ من انتزاع سردينة نتنة بأكملها، بعد أن بعثَرَ النباشُ كلَّ محتويات القمامة. كانت حفلة حقيقية بالنسبة إلى القطط، لكن الصغير الهزيل لم يحظَ بأيّ شيء، بل ظلّ منزوياً يموء بين القمامة والجدار. غير أن قطة يبدو أنها انتبهَـت لاستعطافه، فعادت إلى القمامة، نطَّت بخفة شديدة وسط القمامة وأخرجت شيئاً ألقَت به إلى الصغير الهزيل، وعادت لتضرب رأس السردينة بإحدى قوائمها وتنهش الرأس الذي لم يكن في الغالب من دون عظم. عثر النبّاشُ في طريقه على صندوق قمامة كبير، وفكَّر أن يعثر فيه على كنز، لأنه كان أمام باب عمارة كبيرة، تتدلى من شرفاتها نباتات غريبة لم ير مثلَها، ويبدو أنها مستورَدة. وعندما أدخل المخطافَ في الصندوق وحرَّكه، مدَّ ذراعه الطويلة، وأخرج بعضَ الخرق يمكن أن تكون ثوبا داخلياً للنساء. لم يهتم لذلك، ولكنه وضع تلك الخرق في الكيس، سوف يتفقد ذلك فيما بعد. أحياناً يكتشف أن ما عَثَر عليه شيء له قيمة، وأحياناً يكتشف أنه كان محمَّلاً بأشياء غير ذات قيمة على الإطلاق، وأنه تصبب عرقاً وتورّمت قدماه طوال النهار من أجل لا شيء. ويمكن أن يكون بعضُ النبّاشين قد مروا قبله ولذلك يحرص على أن يستيقظ مبكرا، لكنه أحياناً عندما يفرط في شرب النبيذ الرديء لا يستيقظ إلا في الظهر وهو منهار تماماً، ومع ذلك فهو يكابر ويخرج لينبش ما تركه النبّاشون الذين سبقوه. أحياناً يلتقط حتى أجزاء الورق المقوى على الرصيف سواء كانت مبللة بالمطر إذا كان الفصل شتاء، أو جافة صفراء في فصول أخرى. فحتى الورق المقوى يباع وإن كان ذلك بثمن بخس. وعلى كل حال، فهو يعرف أنه يعيش في بلد يباع فيه كل شيء. فالناس في حاجة إلى أن يبيعوا كل شيء، وأصحاب المال يستطيعون أن يشتروا كل شيء، حتى أكياس قطع الخبز الجاف، يصنعون منه أي شيء لبني آدم أو يبيعونه لمربِّيي الأبقار والبهائم. ويعرف أن كل ما يلتقطه من القمامة يباع، سواء بثمن مرتفع أو بثمن بخس. لا يهم. لكنه يباع. والحقيقة أن هناك أشياء أخرى لا يشتريها منه أحد، ربما لأنها غير ذات فائدة. وعلى كل حال، فلا يمكن للإنسان أن يموت جوعا في المغرب.
وقد حكى له أحدُ النبّاشين القدماء أنه عندما كان صغيرا، كان هو وأصدقاؤه ينبطحون على الأرض لكي يلعقوا بألسنتهم فصة معسلة تتساقط من عربات تحمل تلك الفصة لأبقار المعمِّرين. وقال له إن تلك الفصة كانت حلوة المذاق، وكانت تُشبِعهم، ويكملون طعامهم اليومي عندما يذهبون إلى البحر لسرقة الذرة التركية التي يشوونها في الخلاء العاري. عربات الفصة المعسلة لم تعد موجودة الآن. ولكن بكل تأكيد إن حقول الذرة التركية لا تزال موجودة. فهو يراها كلما سافر إلى البادية. وفي نيَّتِه عندما يغتني أن يشتري بقعة أرض، وأن يزرع فيها الذرة التركية والدلاع والبطيخ والخيار والنعناع والطماطم وكذلك البطاطس عند الحدود الإسبانية. وإذن لا بأس، فلا داعي لزرع الطماطم والبطاطس، يمكن للمرء أن يكتفي بزرع الذرة التركية. هذا مجرد حلم لكنه يمكن أن يتحقق. فكَمْ من نبّاش أصبح غنياً، فقد يعثر على أشياء ثمينة أُلقيَت سهواً في القمامة. عندما فكر في هذا ضحك من نفسه، لأنه في بعض الأحيان لا يعثر إلا على زبل بني آدم. لكنه يعتقد بأن الحظ لم يسعفه، وقد يسعفه ذات يوم. من يدري؟! كل شيء ممكن.. وقد رأى في بعض الأفلام أن كثيراً من الناس كانوا فقراء ثم أصبحوا أغنياء. وكان منهم حتى النبّاشون أنفسهم، خصوصاً في الأفلام الأمريكية. غريبة هي الحياة. إذا ضحكت لك فهي امرأة، إذا ذهبت منك فهي زوجة إبليس والعياذ بالله!
أحلام النبّاش كثيرة بقدر القمامات التي نبش فيها. وهو يعرف أن كثيراً من النبّاشين أصبحوا الآن يملكون شركات ودكاكين يبيعون فيها السلع المستوردة ولهم علاقات مع رجال في الدولة يسهِّلون لهم بيعَ السلع المهرَّبة. وقد رأى بأمِّ عينه كيف أن أصحاب السيارات الفخمة يتهافتون في الجُّوطِية على شراء تلك السلع من آلات إلكترونية وألبسة إيطالية..إلخ. المهم أنه سوف يظل ينبش في القمامات حتى يصبح مثلهم ذات يوم. وفي اعتقاده أن كل من ينبش لا بدَّ أن يصل ذات يوم سواء إلى القمة أو إلى الهاوية التي لا يزال هو ساقطاً فيها الآن. ثم دفع عربته الخشبية وكان يشعر بتعب حقيقي. إنها جولة مضنية هذا اليوم. لكن لا بأس، فعلى الإنسان أن يتحمَّل كل شيء من أجل العيش. فالله سبحانه عزّ وجلّ خلقَنا لكي نعرف كيف نعيش وننبش في هذه الدنيا حتى لو تلطَّخَت أيدينا بزبل بني آدم. ثم حمدل وحوقَل، ورأى قمامة بعيدة منه بقليل. توقف عن دفع العربة، وذهب لينبش فيها والمخطاف في يده. أخذ يحرك ما في داخلها. كانت هناك بعض الأوراق وقشور البرتقال وعلبة مربّى. لكن المخطاف جذبَ كيساً أسودَ ملفوفاً في قعر القمامة. وضعه على الطوار ثم فتحه بأناة. كان يعتقد أن في داخله ديكاَ هندياً، لأن ما كان في داخله شيء طريّ، إلا أنه فوجئ عندما عثر داخل الكيس على صبي ميت. ذهل لفترة ثم أخذ يركض تاركاً عربتَه وراءه. كان يركض ويركض إلى أن سقط فوق عشب إحدى الحدائق وهو يلهث. ولم يكن له الوقت لكي يحمدل أو يحوقل.